«مملكة بعمر برغشة»: هل هذا أصدق ما يُقال عن مملكة سليمان المتخيلة؟

[لوحة زيارة أميرة سبأ إلى الملك سليمان، إدوارد جون بوينتر (1890)] [لوحة زيارة أميرة سبأ إلى الملك سليمان، إدوارد جون بوينتر (1890)]

«مملكة بعمر برغشة»: هل هذا أصدق ما يُقال عن مملكة سليمان المتخيلة؟

By : Alaa Zarifa علاء زريفة

تبدو الإشكالية الأساسية في تناول شخصية سليمان ومملكته التي يعتبرها بعض المؤرخين محض وهم، هو الفهم لطبيعة العلاقة بين التاريخ كـ"رواية" من حيث هو علم قائم على الوثائق والأدلة الأركيولوجية، وبين القصص الديني كـ"باعث" خيالي إبداعي إنساني صرف، وكمحرض لفهم تاريخية الحدث باعتباره خيالاً تحول إلى تاريخ كما يصف المؤرخ أوتو إيسفلت.

ففيما يتعلق بأسفار وإصحاحات "الكتاب المقدس" الأولى، درجت العادة لدى كل من اليهود والمسيحيين والمسلمين من بعدهم "من خلال قرآنهم" أن يؤمنوا بالقصص إيماناً حرفياً، وكأنها روايات ذات مصداقية عن منشأ العالم وأحداث ما قبل التاريخ الحقيقية، ولا تخرج قصة سليمان ومملكته عن قصة خلق العالم في سبعة أيام، أو ما يسمى "بجنة عدن"، والأفعى التي تستطيع الكلام والتي أغوت المرأة الأولى حواء وغيرها كثير مما لا يخرج عن هذا السياق الأسطوري الذي يحمل في جوهره بعداً تاريخياً كبيراً كونه إنسانياً بالدرجة الأولى.

بالتالي يكون الهدف من هذه المحاولة لتفكيك القصة (قصة سليمان) لما في تماثيل وصور الميثولوجيا والدين من أثر إيجابي في تتبع درب التفكير الإنساني من منبعه، محاولين فهم هذه القوى الداخلية بوصفها "أحلاماً جماعية" كما يقول فرويد، وطاقاتنا المحركة لها باعتبارها مألوفة للروح البشرية، والتي تمثل حكمة النوع البشري.

سليمان "التوراتي":

يخبرنا التوراة في سفر الملوك الأول أن سليمان ورث السلطة عن أبيه داوود بعد أن ملك الأخير أربعين سنة، وكان أول عمل يقوم به مفتتحاً عهده الملكي، هو قتل أخيه أدونيا وساعده الأيمن يوآب قائد جيش داوود. ثم تزوج بابنة فرعون مصريم وأتى بها مدينة داوود (وهي مغارة صهيون) لأنه لم يك قد بنى بيتاً لنفسه بعد وملك سليمان على جميع إسرائيل.

ويذكر سفر الملوك أيضاً أنه "كان لسليمان اثنا عشر وكيلاً على جميع إسرائيل، وكانوا يمتازون للملك وبيته، كان على كل واحد أن يمتاز شهراً في السنة"، "وكان يهوذا وإسرائيل كثيرين كالرمل الذي على البحر في الكثرة، وكان سليمان متسلطاً على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين وإلى تخم مصر يحملون إلى سليمان الهدايا خاضعين له كل أيام حياته"، (الملوك الأول:3).

و"لأنه كان متسلطاً على كل ما عبر النهر من تفسح إلى غزة، على كل ملوك عبر النهر، وكان له صلح من جميع جوانبه حواليه، وسكن يهوذا وإسرائيل آمنين كل واحد تحت كرمته وكل واحد تحت تينته من دان إلى بئر السبع كل أيام سليمان، وكان لسليمان أربعون ألف مذود لخيل مركباته واثنا عشر ألف فارس"، (الملوك الأول:4).

وأرسل حيرام ملك صور الفينيقية رسلاً إلى سليمان يهنئه بعد أن سمع أنهم مسحوه ملكاً، فأرسل سليمان إلى حيرام طالباً منه تزويده بخشب الأرز من لبنان وبنجارين وبنائين، لأنه ليس مثل الصيدونيين من يعرف قطع الخشب. ووعده أن يرسل له مقابل ذلك حنطة وزيتاً، فوافق حيرام، وعقد الاثنان بينهما عهداً وصنعوا صلحاً. ولما ابتدأ سليمان باستلام شحنات الخشب، شرع ببناء هيكل الرب، وبناء قصور له ولزوجاته. وقد سخر سليمان في أعمال البناء آلافاً مؤلفة من الشعب.

وبعد أن اكتمل بناء البيت وقف سليمان أمام المذبح وكل جماعة إسرائيل تنظر إليه وبسط يديه إلى السماء وقال: "أيها الرب إله إسرائيل، ليس مثلك إله في السماء من فوق ولا على الأرض من أسفل. حافظ العهد والرحمة لعبيدك السائرين أمامك بكل قلوبهم"، (الملوك:5-8). و"بنى سليمان سفناً على بحر سوف [الأحمر] واستخدم لتسييرها في البحر عمالاً فينيقيين من صور أرسلهم له حيرام. فأتوا بلاداً يدعوها النص أوفير، وأخذوا من هناك أربعمائة وعشرين وزنة ذهب أتوا بها الملك سليمان"، (الملوك الثاني:9).

وكان وزن الذهب الذي أتى لسليمان في سنة واحدة ست مئة وستاً وستين وزنة ذهب، وذلك عدا الذي أتاه من ضرائب التجار وتجارتهم ومن الولاة الذي عينهم في المقاطعات. وقد بلغ من ثراء المملكة في عهده أن الفضة في أورشليم كانت مثل الحجارة، وخشب الأرز مثل خشب الجميز الذي في السهل لكثرته. (الملوك الثاني 10: 14-29).

مدلول كلمة "ملك"، ورواية التوراة المتناقضة:

في كتابه "مملكة إسرائيل اسم موضوع وتاريخ مصنوع" يقول هشام محمد أبو حاكمة "لا يجب أن ننظر إلى كلمة (ملك) في العصور القديمة، والأقوام التي عاشت بها، ومن ضمنها "بنو إسرائيل"، على أنها كلمة ذات مدلول كبير، اللهم إلا في الإمبراطوريات التي ذكرها المؤرخون، ولها دلائل واضحة، ما زالت ماثلة للعيان. أما تلك الأقوام الصغيرة والتي كانت تعيش في مدن مسورة، ولا يتجاوز مدى سيطرتها حدود تلك المدن، فمثل هذه المدن إن أطلق على حكامها لقب (ملك) فهو وصف مضلل، إذا قيس بملك مصر، أو أشور مثلاً، ومن الأفضل أن نطلق على ملوك هذه المدن اسم شيخ قبيلة".

ويرى أحمد داوود في كتابه «تاريخ سورية القديم»: "أن كلمة "ملك" كانت تستخدم دونما حدود بحيث تشمل في مفهومها رئيس زمرة قد تبدأ بثلاثة أشخاص ثم لا يكون لها حدود في الاتساع، فتشمل رئيس الجماعة، والعصابة، والحارة، والمزرعة، والقرية، والبلدة، والمدينة، والدولة".

ويرد في القرآن أن الله قال لبني إسرائيل "وجعلكم ملوكاً" (المائدة 20) ويسوق ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" تفسير ابن عباس لهذه الآية حيث قال: "كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سُمي ملكاً".

أما محمود مناعة في كتابه "تاريخ اليهود" فيعلق على اسم ملك ومملكة بقوله: "ويستحسن أن لا يغيب عن بالنا لحظة الانطباع اسم مملكة وملك في التاريخ القديم لا يتعدى حجمه الواقعي، فالملك هو من يملك دون التقيد بمساحة ما يملك من مدن وأقاليم، وقد رأينا في العهد القديم هذا اللقب يطلق على حكام المدن مهما تصغر أو تكبر، ومهما يكن الوضع السياسي لأولئك الحكام من حيث الاستقلال والتبعية".

وتذكر التوراة (يشوع 1:10-4) أسماء عدد من الملوك كانوا يحكمون الممالك التي كانت قائمة في ذلك الوقت (عهد يشوع) ومنهم: "أدوني صادق ملك أورشليم، وهرهام ملك حبرون، وفرام ملك برموث، ويافيع ملك لخيش، ودبير ملك عجلون". ويورد هشام محمد أبو حاكمة في المرجع السابق "وفي رسائل تل العمارنة نجد رسائل من ملوك صور، وملك بيروت، وملك دمشق، وغير هؤلاء كثير وفي عصر داوود وسليمان عليهما السلام كان الفينيقيون في أوج عظمتهم، وكان لهم أكثر من ملك بالرغم من المساحة التي كانوا يسيطرون عليها صغيرة جداً نسبياً".

لا يتوافر لدينا دليل واحد على وجود ملكية متحدة، ولا دليل على وجود عاصمة في أورشليم ولا يوجد دليل على وجود ملوك في أورشليم في تلك الفترة المبكرة

أما كيث وايتلام فيقول في المرجع السابق "إن أرض ريتينو العليا -فلسطين- كانت أرض فلاحين ورعاة، وأن أميرهم لم يكن ملك مدينة كبيرة، أو دولة، بل هو "شيخ" لا تتجاوز سلطته مساحة المدينة التي يحكمها، وبذلك يمكننا اعتبار أن مملكة داوود ومن بعده ولده سليمان كانت من هذا النوع من الممالك".

أما الدليل على ذلك فيوجد في التوراة ذاته، يذكر سفر (الملوك الأول 16:9) أن سليمان تزوج من ابنة فرعون لتضم إلى باقي زوجاته اللاتي بلغن سبعمائة زوجة، وثلاثمائة سرية، بل فرعون صعد جازر وأحرقها بالنار، وقتل الكنعانيين الساكنين بالمدينة وأعطاها لابنته زوجة سليمان. وجازر هي قلعة كنعانية قديمة قريبة من القدس، يأتي هذا التناقض من قبل محرر التوراة ليدحض قصة العصر الذهبي تقريباً فكيف يكون لسليمان كل هذا المجد، ولا تقع يده على قلعة لا تبعد سوى عدة كيلومترات عن عن أورشليم؟

هذا إن سلمنا بحقيقة الزواج المفترض التي يعتقد كثير من المؤرخين بأنها محض شطط وخيال روائي. دون نفي قصة غزو جازر الذي يعتقد أبراهام مالمات في كتابه "العبرانيون وبنو إسرائيل في العصور القديمة بين الرواية التوراتية والاكتشافات الأثرية" أن الفرعون شيشق الأول مؤسس الأسرة الثانية والعشرين هو من قام بغزوها دون أن تأتي المصادر المصرية على ذكر سليمان ومملكته نهائياً.

سليمان "التاريخي" وروايات التاريخ المتناقضة:

غالباً ما يوضع سليمان "التاريخي" موضع النقاش المحتدم بين شد وجذب وتوكيد ونفي، فيما بين المؤرخين. يقول وايتلام في المرجع السابق "والمثير للاهتمام حول تكوين دولة إسرائيل في العصر الحديدي هو وجود القليل من الآثار الواضحة المتعلقة بما يسمى فترة (المملكة الإسرائيلية) وهكذا فإن خطاب الدراسات التوراتية لم يخلق هذا الكيان إلا بناء على قراءة للتراث التوراتي أضيف إليها دلائل وثائقية خارج التوراة".

بينما يعتبر وليم فوكسويل ألبرايت في كتابه "آثار فلسطين" من أوائل المؤرخين الذي تتفق نظرتهم مع الخطاب التوراتي، فهو يعتبر البيئات الأثرية وسيلة لتأكيد تاريخانية المرويات التوراتية، ويرى وجوب تطبيق هذه المرويات حتى لو أدى ذلك إلى إبادة السكان الأصليين لهذه المنطقة.

وبينما لا يعدو أن يكون سليمان حاكم دولة مدينة كممالك المدن التي كانت قائمة في ذلك العصر وفقاً لوايتلام الذي يتابع قائلاً: "ربما كان سليمان حاكماً قوياً وثرياً جداً بمقاييس العصر الحديدي المبكر في فلسطين، لكن إذا نظرنا إلى ذلك من منظور أوسع في سياق الشرق الأوسط القديم، يمكننا اعتباره حاكماً محلياً في دولة مدنية، وليس إمبراطوراً على مستوى عالمي".

يرى ألبرشت آلت في كتابه "مقالات في العهد القديم التاريخ والدين" أن الإمبراطورية التي أنشأها داوود ومن بعده ولده سليمان بسرعة مذهلة كانت تتأرجح سياسياً بشدة، ويقول "إن الإسرائيليين أول من أوجد مبدأ الدولة القومية في المنطقة". أما جيوفاني غاربيني في كتابه "التاريخ والأيديولوجيا في إسرائيل، الذي يعتبر نقده من أكثر الدراسات تشكيكاً في التراث التوراتي، وفكرة وجود عصر ذهبي إسرائيلي وإمبراطورية عظمى، فقد بيّن أن ذلك ليس أكثر من إعادة صياغة للنص التوراتي نابعة من دوافع لاهوتية، وينتقد التصورات التقليدية حول فترة حكم داوود وسليمان ويقول: "إن الإطار التاريخي يعطي انطباعاً بأنه أقرب إلى النظرة الأسطورية عن وجود عصر ذهبي أصيل منه على أن يكون إعادة بناء مقنعة للماضي وللأعمال الإنسانية".

وعلى الخلاف منه يرى مارتن نوت في كتابه "تاريخ إسرائيل" أن "اللحظة الحاسمة في فترة حكم داوود وسليمان التي سارت فيها إسرائيل نحو الهيمنة السياسية ودخلت مرحلة جديدة تماماً ويصرح بأن جدة ذلك الوضع يؤكدها إدخال تقاليد تاريخية جديدة في العهد القديم الذي هو سجل تاريخي وعمل علمي" واصفاً المملكة الإسرائيلية بأنها كانت أول قوة عظمى مستقلة في الأرض السورية الفلسطينية. وسارت كارول مايزر على خطى نوت واصفة سليمان بـ"الإمبراطور الثاني" والأخير الذي حافظ على الأجزاء المتفرقة لأقاليمه لفترة غير مسبوقة، والذي أسس عاصمة عالمية رائعة، وبنى سلسلة من المدن الملكية في البلاد.

وبينما يبين بول كينيدي في كتابه "صعود القوى العظمى وسقوطها" زيف الادعاء بترويج ماض متخيل لقوة عظمى حكمها داوود وسليمان في العصر القديم، وأظهر الظروف الاقتصادية والتجارية في ذلك الوقت، لذلك لم تنشأ قوة إقليمية أبداً، والبحث يقودنا إلى الشك في كل ما يُروى عن مملكة كبرى في فلسطين في العصر الحديدي".

وفي كتابه "الماضي الخرافي في التاريخ والتوراة"، يؤكد توماس طومسون "تلك الصور لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخي الواقعي، إننا نعرفها كقصة وما نعرفه حول القصص لا يشجعنا على معاملتها كما لو أنها تاريخية"، ويتابع قائلاً: "لا يتوافر لدينا دليل واحد على وجود ملكية متحدة، ولا دليل على وجود عاصمة في أورشليم ولا يوجد دليل على وجود ملوك في أورشليم في تلك الفترة المبكرة".

وعلى العكس من موقف توماس طومسون، ترى كارين أرمسترونغ في كتابها "القدس مدينة واحدة ثلاث عقائد" أنه "ولما كانت المملكة لا يرد ذكرها في نصوص الشرق القديم التي ترجع إلى الفترة نفسها، فقد ظن البعض أنها محض خيال وأنها تفتقر إلى الأساس التاريخي الثابت مثل قصص بعض الآباء. ولكنّ آراء الباحثين تتفق على أن هذه المملكة وُجدت فعلاً، فالواقع أن عدداً من التفاصيل السياسية والاقتصادية والتجارية الواردة في الكتاب المقدس والتي تتفق مع معلوماتنا المؤكدة عن مجتمع الشرق الأدنى القديم في تلك الآونة بشكل كبير بحيث ينفي أن تكون إمبراطورية داوود محض تلفيق".

أما ج.م.ن. جفريز في كتابه "فلسطين إليكم الحقيقة" فيصف المملكة قائلاً: "إن دولة سليمان بلغت في أوج اتساعها مائة وعشرين ميلاً في أطول أطوالها وستين ميلاً في أعرض عروضها، إن امتلاك اليهود لفلسطين كان من القصر بحيث لا يُذكر إذا ما قيس بامتلاك الكنعانيين لفلسطين في حين أن الدولة اليهودية قد قامت وتألقت وطنطنت بمقدار عمر برغشة ثم تلاشت".

أما المؤرخ جيرارد فون راد في كتابه "مقدمات وتعليقات مختصرة على العهد القديم" فيعتبر عصر سليمان "ذهبياً" للمملكة الإسرائيلية، وأن الحضارة الإسرائيلية لا وجود لمثلها في الشرق الأدنى فيقول: "أنتجَ العصر الذهبي للملكة العبرية أعمالاً تاريخية أصيلة، لم يكن بمقدور أي حضارة في الشرق الأدنى القديم الإتيان بها. حتى الإغريق لم يتمكنوا من الوصول إلى مثلها إلا في ذروة تقدمهم في القرن الخامس قبل الميلاد، ولكنهم انهاروا بسرعة بعد ذلك"، ويتابع قائلاً: "فإن حضارة إسرائيل يجب أن تقف في صف الحضارة الإغريقية الأغنى والأكثر عمقاً في القرون اللاحقة". 

أخطاء النخبة وفن التسامح: من يحزر أين أور؟

كم تبعد أور عن مركز مدينة الناصرية الواقعة في جنوب العراق؟ أور التي زارها قداسة البابا حاجَّاً في شهر آذار من العام الماضي، وجعل العراقيون من تلك الزيارة يوماً للتسامح، وها هي ذكراه الأولى تطل علينا هذه الأيام. سؤال قد لا يعني شيئاً بالنسبة لكثيرين، فضلاً عن أن معرفة الجواب تبدو أمراً سهلاً للغاية. فبإمكان أي واحد منا أن يجد الإجابة في بضع ثوانٍ فقط. ولن يكلفه ذلك سوى الرجوع لخرائط غوغل، بوساطة هواتفنا الذكية التي لا تفارق أيدينا ليل نهار. لكن يبدو أن الأمور لا تمضي بالاتجاه الصحيح دائماً، وأنّ من يعتمدون الخطوات العلمية الكفيلة بالوصول للمعلومة الصحيحة أصبحوا نادرين حقاً، وليس أكثر ندرة منهم سوى أولئك الذين يوفرونها لنا بموثوقية وتثبُّت. إننا في الحقيقة نعوم من غير أن نعلم في بحر من أخطاء ليس لها نهاية.

لا تتحدث هذه السطور عن أور، المدينة التاريخية التي عرفت بزقورتها الشهيرة، وكانت أكبر عاصمة في العالم القديم، أيام ملكها العظيم أور نمو مؤسس سلالة أور الثالثة (2112 – 2004 ق.م)، ولا ترغب بتكرار تفاصيل زيارة البابا فرنسيس إلى العراق، برغم من أنها مثَّلت حدثاً تاريخياً بامتياز، وقد سبق لي أن كتبت مقالاً عن ذلك. ولأضف أيضاً أن ما يهدف له المقال هو أبعد من تحديد مسافة بين مدينة وأخرى. في الواقع، إن جوهر ما أريد قوله -مستفيداً من روح المناسبة- له صلة بنا جميعاً، بسبلنا المستعجلة في تحصيل المعلومة، بتعصبنا لها، والوثوق بها أياً كان مصدرها، بأخطائنا التي نجهلها تماماً، وبغرورنا المعرفي الذي يطيب له أن يدعي امتلاك بيانات وخبرات لا وجود لها، بل لا نفكر في أن نبذل جهداً لتحصيلها. وإليكم الحكاية الغريبة التي عشت تفاصيلها، وقررت الكتابة عنها قبل عام، ثم تركت الأمر لأسباب سأذكر بعضها لاحقاً.

المصادفة

كنت أتابع باهتمام تفاصيل اليوم الثاني لزيارة الحبر الأعظم، متنقّلاً بين الفضائيات العربية والأجنبية، مثلما هو حال غيري من العراقيين. لحظتها كان العراق يتصدر أخبار العالم، واسم المدينة القديمة التي تأسست قبل أكثر من أربعة آلاف وخمس مئة سنة لتصبح مهد الحضارة الإنسانية يتردد على كل الألسنة. فها هو البابا فرنسيس برغم كبر سنه قد أتى حاجَّاً إلى مدينة النبي ابراهيم، مع ما يشهده العالم من تمدد مرعب لوباء كورونا، وما يواجه العراق من تحديات أمنية. وجدت في أثناء متابعتي لإحدى الفضائيات الغربية التي تبثُّ برامجها باللغة العربية صحفية عربية معروفة تسهم بالتعليق على الزيارة. ذكرت تلك الصحفية في معرض حديثها أن أور تبعد عن الناصرية بمسافة بضعة كيلومترات فقط. هكذا، من غير تحديد أي رقم. ولا مشكلة في ذلك، إذ لم تكن المسافة تهمني بشيء. بدت لي مجرد تفصيل غير مؤثر عن المدينة التي أعرف عنها أشياء كثيرة، بحكم ولعي القديم بتاريخ العراق. انتقل لمتابعة قناة فضائية عربية تقدم برنامجاً حوارياً عن الحدث، وفيه ذكر أحد الضيوف أن المسافة بين المدينتين هي 40 كم. لا مشكلة حتى الآن أيضاً. لكن في تلك اللحظة بالضبط، صادف أن قمت بتحريك جهاز التحكم بسرعة، لينقلني لفضائية محلية لم أكن لأتابعها، لولا تغطيتها المباشرة لتفاصيل الزيارة، وإذا بإعلامي عراقي يجعل المسافة بين أور والناصرية 20 كم. حسناً. هنا علينا أن نتريث قليلاً. فحين يكون الخلاف في تحديد رقم ما هو الضعف فذلك يعني أننا أمام خطأ كبير. من هنا ولدت الخطوة الأولى لكتابة هذه السطور، وبالنسبة لي، لا أجمل من أن تلهمك المصادفة موضوعاً للكتابة، أنْ تمنحك فجأة فكرة طريفة ومثيرة للشغف، وكأنّ إحدى ربِّأت الجمال والإلهام التسع تهمس في إذنك بسرّ لن يكون في مقدورك أن تكتمه. لقد لعبت الصدفة أدواراً حاسمة في حركة التاريخ، فقررت مصير شعوب وأباطرة وممالك، فما بالنا بمقال بسيط.

بين الرقمي والورقي: أين الحقيقة؟

لم أكن أتخيل ما سألاقيه من عجائب لاحقاً. بدأ الأمر وأنا لا أزال أتابع كلمة قداسة البابا، حين لجأتُ عبر هاتفي المحمول إلى محرك البحث غوغل. كانت موسوعة ويكيبيديا تحتل صدارة النتائج كالعادة. وقد وجدتها تذكر – سأنقل الكلام بنصه - في مادة أور أنها (تقع حالياً على بعد بضعة كيلومترات عن مدينة الناصرية)، أي مثلما ذكرت الصحفية العربية. لكن محتويات أخرى كثيرة تمثلت بمقالات وتقارير صحفية مبثوثة في عالم الإنترنت ستقول لنا أيضاً أن أور تقع على بعد 40 كم إلى الغرب من مدينة الناصرية. وهنا نجد اتفاقاً مع ما ذهب إليه ضيف الفضائية العربية. وماذا بعد؟ المفارقة تتمثل في إني وجدت مواد أخرى يصعب حصرها تذكر أرقاماً مختلفة إلى حدود تدعو للعجب. منها -على سبيل المثال- مقال يتحدث عن 30 كم، ويجعل أور شرق الناصرية لا غربها، وثان يقول إنها 20 كم، وثالث يذكر 19 كم، ورابع يدعى إنها 18 كم، وخامس يقول إنها 17 كم. وحدث أن عثرت على بحث يقرر أن المسافة هي 15 كم فقط. لنلاحظ هنا أن الرقم قد أخذ بالتراجع، وأن الفرق بين الأرقام الأخيرة ليس كبيراً. فهل يعني ذلك أننا قد اقتربنا من معرفة الحقيقة؟ لا شيء مؤكد بالمرة. ومن يقول إن لعجائب ما يُنشر نهاية ما فعليه أن يفكر ملياً. فها هي المسافة تعود لتتراجع إلى 11 كم، ثم إلى 8 كم فحسب! 

 

[الصورتان لمنشورين في مواقع إلكترونية على شبكة الإنترنت].

لقد شعرت في البدء بعجب كبير من فارق بلغ الضعف، وها هي الأرقام تتوالى والفارق يزداد وكأننا في متاهة. قلت في نفسي سأحسم هذه اللعبة التي طالت بلا مبرر بالرجوع لمن يؤخذ عنهم من أهل الاختصاص والخبرة. وحين تناولت من مكتبتي مصدراً من تأليف أحد أساتذة علم الآثار المشهورين في العراق، وجدت المسافة فيه 10 كم فحسب. وبرغم الفارق الكبير بين ما بدأنا به (40 كم)، وما انتهينا إليه (8 كم) وجدت نفسي تميل لتبني رأي مؤلف الكتاب، لا لأن الكتب المطبوعة ورقياً أكثر موثوقية مما ينشر في فضاء الإنترنت كما يتصور الكثيرون، فالخطأ هو الخطأ أينما ورد، بل لأننا أمام رأي لأكاديمي يحمل شهادة الدكتوراه، ودرجة الأستاذية (بروفيسور)، وله خبرة طويلة في العمل الأكاديمي وميدان البحث والتأليف، كما سبق له أن أدار مؤسسة كبيرة مهتمة بالآثار. إذن، فلأرجع لمتابعة تفاصيل الزيارة الاستثنائية على الفور. لكن مرة ثانية، ستقودني المصادفة لأقلب صفحات مصدر غربي، يرد فيه أن أور تبعد عن المجرى الحديث لنهر الفرات -أي عن مركز مدينة الناصرية- بحدود 10 أميال،. وهو ما يساوي 16 كم تقريباً.

 

[الصورة من كتاب: أور، مدينة إله القمر لهارييت كروفوورد، الصفحة رقم 4].

كان من الأنسب أن أعود مرة ثانية لكتاب الأكاديمي العراقي الذي لا زلت أحسن الظن بعلمه، فربما لم أنتبه إلى أن وحدة قياس الطول التي استخدمها هي الميل أيضاً، لكنني وجدته -في سائر صفحات الكتاب- يعتمد القياس المتري، مثلما يفضل العراقيون. ذلك يجعل الفارق بين المصدرين ستة كيلو مترات، وهي مسافة ليست بقليلة. لكن لماذا نميل لتصديق المصادر الغربية، فليس ثمة ما يضمن عدم وقوعها في أخطاء هي الأخرى؟ هذا ما تأكدت منه لاحقاً، حين قمت بالبحث في كثير من المواقع الإلكترونية الغربية، فوجدت بعضاً منها -وإن على نحو قليل- يكرر شيئاً مما تقدم. كان الحلُّ الأخير بالنسبة لي هو الرجوع للإنسكلوبيديا البريطانية، وتحت عنوان (Ur) كانت المسافة هي 10 أميال (16 كم) أيضاً.

روح التسامح

كنت قد بدأت بالكتابة في الموضوع الذي نطالعه الآن قبل عام، مباشرة إثر نشر مقالي المشار إليه على هامش زيارة البابا، لكني قررت التوقف بعد بضعة أسطر. ربما بسبب الكم الهائل من الأخطاء التي تمر بنا يومياً، أخطاء لا نهاية لها، تتناسل في الكتب والصحف والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، في الدراسات والأبحاث، في رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه التي ينجزها طلبة الدراسات العليا تحت إشراف أساتذة يتلقون أموالاً لقاء عملهم، ويفترض أن يكونوا قد تأكدوا من كل حرف فيها قبل أن يجيزوها. قلت في نفسي: ما الجدوى من الكتابة؟ وما الذي ستضيفه كلماتي في حال أكملت المقال؟ هي لن تكون قادرة على الوصول لأولئك الذين استقبلوا المعلومات الخاطئة، ومن المؤكد أن أكثرهم قد أخذوها بوصفها حقائق، فهي صادرة من صحفيين وباحثين ومحللين وأساتذة أكاديميين، أي عمن يفترض أنهم يمثلون نخبة نجحت بامتلاك رأس مال معرفي يميزها عن الآخرين. لكن أور هنا ليست سوى مثال عن ظاهرة كبيرة مثلما قلت، ونحن للأسف لا نلتفت إلى خطورة آثارها.

خطر المشكلة هو في الإصرار على الخطأ، وفي عدم التنبه إليه والاعتذار عن تبعاته. من بوسعه أن يمنحنا رقماً تقريبياً للأخطاء العلمية التي تم الاعتذار عنها، والمبادرة لتصحيحها؟ إن روح التعنت والمكابرة ستجعل المثقف عاملاً مساعداً على إشاعة الجهل، سواء أجاء ذلك بعلم منه أم لا.

بالأمس فقط، قبل يوم واحد من الذكرى السنوية الأولى لزيارة البابا فرنسيس، قررت العودة للكتابة. وجدت نفسي أفكر في دلالة الاحتفاء بالمناسبة، في التسامح الذي تحتاج إليه مجتمعاتنا العربية أيَّما احتياج. التسامح بين الأديان والطوائف والأعراق بالتأكيد، وقبل ذلك فيمن يمكنه فهم فن التسامح، ويحسن التبشير به، بعد أن يجعل منه سلوكاً يُحتذى لا كلاماً شعاراتياً فارغاً، باختصار فيما له صلة وثقى بسلوك النخب العالمة، تلك المؤهلة أكثر من سواها لإشاعة ثقافة السلام واحترام الآخر، والأهم نبذ التعصب، لأنه النقيض المباشر لمعنى التسامح. ليس الخطأ عيباً بذاته، فهذا هو شأن الإنسان، ينتابه السهو، وتأخذه العجلة أحياناً، كمثال الأستاذ الأكاديمي الذي فضَّلت عدم ذكر اسمه هنا، وتجنب الإشارة لأسماء سواه أيضاً. أو كما كدت أنا نفسي أن أقع فيه لولا المصادفة التي قادتني للتنقل بين الفضائيات، ثم في وجود المصدر الغربي المشار إليه في مكتبتي، وانتباهي إليه لحظتها، من غير ذلك ما كنت لأصل إلى الحقيقة، ولا كان هذا المقال. ألا يشير ذلك إلى احتمال أن تكون كثير من قناعاتنا الراسخة التي تمنعنا عن قبول فكرة التعددية وقبول الاختلاف والتعايش معه قابلة للمراجعة والتعديل؟

في الواقع إن خطر المشكلة هو في الإصرار على الخطأ، وفي عدم التنبه إليه والاعتذار عن تبعاته. من بوسعه أن يمنحنا رقماً تقريبياً للأخطاء العلمية التي تم الاعتذار عنها، والمبادرة لتصحيحها؟ إن روح التعنت والمكابرة ستجعل المثقف عاملاً مساعداً على إشاعة الجهل، سواء أجاء ذلك بعلم منه أم لا. ومن بين ما يعنيه ذلك أيضاً أن النخبة يمكن أن تنشر الزيف بين الناس وهي تظن أنها تمارس دوراً توعوياً. وإلا كيف نفهم هذا التراجع السافر في المستوى العلمي لغالبية الشباب العربي، وذلك الإصرار على قناعات آيديولوجية كُلِّيَانِية تجاوزها الزمن، بينما لا تزال تنشط في فضائنا العربي لتبث البغضاء والكراهية. إنها بطبيعتها رافضة لمنطق التسامح، مع الذات ومع الآخر. من أجل ذلك عدت لكتابة المقال، بأمل أن يكون في الأمثلة التي تضمنها درس لنا جميعاً، وأولهم كاتب السطور، درس يوضح لنا كيف أن أكثر الناس خبرة وصلة بالواقع الثقافي، وأصحاب أعلى الشهادات هم بشر في المحصلة، يؤخذ منهم ويُرَدُّ عليهم، فما بالنا بمن صاروا اليوم، بعد التراجع السافر لدور الدولة من أبرز المؤثرين في الرأي العام، بزعيم الحزب ورجل الدين وشيخ القبيلة، أولئك الذين نجحوا باستعادة نفوذهم القديم، بينما تراجع دور النخبة إلى أدنى مستوياته. إنه العجز الثقافي، والوهم الذي يجعلنا نفكر بمنطق كل شيء أو لا شيء. ولأنَّ تراكم الأخطاء البسيطة لن يجعلنا بقبال أخطاء كثيرة فحسب، وإنما أمام خطايا، ها أنا أعود لتدوين هذه السطور، لعلها تلهم شاباً واحداً، تعلمه أن متبنيات الآخرين مثل متبنياته، أفكار نسبية، لا سبيل أمامها غير التعايش بسلام ومحبة. وأن تصل إلى هدفك متأخراً خير من أن لا تصل إليه أبداً.