تبدو الإشكالية الأساسية في تناول شخصية سليمان ومملكته التي يعتبرها بعض المؤرخين محض وهم، هو الفهم لطبيعة العلاقة بين التاريخ كـ"رواية" من حيث هو علم قائم على الوثائق والأدلة الأركيولوجية، وبين القصص الديني كـ"باعث" خيالي إبداعي إنساني صرف، وكمحرض لفهم تاريخية الحدث باعتباره خيالاً تحول إلى تاريخ كما يصف المؤرخ أوتو إيسفلت.
ففيما يتعلق بأسفار وإصحاحات "الكتاب المقدس" الأولى، درجت العادة لدى كل من اليهود والمسيحيين والمسلمين من بعدهم "من خلال قرآنهم" أن يؤمنوا بالقصص إيماناً حرفياً، وكأنها روايات ذات مصداقية عن منشأ العالم وأحداث ما قبل التاريخ الحقيقية، ولا تخرج قصة سليمان ومملكته عن قصة خلق العالم في سبعة أيام، أو ما يسمى "بجنة عدن"، والأفعى التي تستطيع الكلام والتي أغوت المرأة الأولى حواء وغيرها كثير مما لا يخرج عن هذا السياق الأسطوري الذي يحمل في جوهره بعداً تاريخياً كبيراً كونه إنسانياً بالدرجة الأولى.
بالتالي يكون الهدف من هذه المحاولة لتفكيك القصة (قصة سليمان) لما في تماثيل وصور الميثولوجيا والدين من أثر إيجابي في تتبع درب التفكير الإنساني من منبعه، محاولين فهم هذه القوى الداخلية بوصفها "أحلاماً جماعية" كما يقول فرويد، وطاقاتنا المحركة لها باعتبارها مألوفة للروح البشرية، والتي تمثل حكمة النوع البشري.
سليمان "التوراتي":
يخبرنا التوراة في سفر الملوك الأول أن سليمان ورث السلطة عن أبيه داوود بعد أن ملك الأخير أربعين سنة، وكان أول عمل يقوم به مفتتحاً عهده الملكي، هو قتل أخيه أدونيا وساعده الأيمن يوآب قائد جيش داوود. ثم تزوج بابنة فرعون مصريم وأتى بها مدينة داوود (وهي مغارة صهيون) لأنه لم يك قد بنى بيتاً لنفسه بعد وملك سليمان على جميع إسرائيل.
ويذكر سفر الملوك أيضاً أنه "كان لسليمان اثنا عشر وكيلاً على جميع إسرائيل، وكانوا يمتازون للملك وبيته، كان على كل واحد أن يمتاز شهراً في السنة"، "وكان يهوذا وإسرائيل كثيرين كالرمل الذي على البحر في الكثرة، وكان سليمان متسلطاً على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين وإلى تخم مصر يحملون إلى سليمان الهدايا خاضعين له كل أيام حياته"، (الملوك الأول:3).
و"لأنه كان متسلطاً على كل ما عبر النهر من تفسح إلى غزة، على كل ملوك عبر النهر، وكان له صلح من جميع جوانبه حواليه، وسكن يهوذا وإسرائيل آمنين كل واحد تحت كرمته وكل واحد تحت تينته من دان إلى بئر السبع كل أيام سليمان، وكان لسليمان أربعون ألف مذود لخيل مركباته واثنا عشر ألف فارس"، (الملوك الأول:4).
وأرسل حيرام ملك صور الفينيقية رسلاً إلى سليمان يهنئه بعد أن سمع أنهم مسحوه ملكاً، فأرسل سليمان إلى حيرام طالباً منه تزويده بخشب الأرز من لبنان وبنجارين وبنائين، لأنه ليس مثل الصيدونيين من يعرف قطع الخشب. ووعده أن يرسل له مقابل ذلك حنطة وزيتاً، فوافق حيرام، وعقد الاثنان بينهما عهداً وصنعوا صلحاً. ولما ابتدأ سليمان باستلام شحنات الخشب، شرع ببناء هيكل الرب، وبناء قصور له ولزوجاته. وقد سخر سليمان في أعمال البناء آلافاً مؤلفة من الشعب.
وبعد أن اكتمل بناء البيت وقف سليمان أمام المذبح وكل جماعة إسرائيل تنظر إليه وبسط يديه إلى السماء وقال: "أيها الرب إله إسرائيل، ليس مثلك إله في السماء من فوق ولا على الأرض من أسفل. حافظ العهد والرحمة لعبيدك السائرين أمامك بكل قلوبهم"، (الملوك:5-8). و"بنى سليمان سفناً على بحر سوف [الأحمر] واستخدم لتسييرها في البحر عمالاً فينيقيين من صور أرسلهم له حيرام. فأتوا بلاداً يدعوها النص أوفير، وأخذوا من هناك أربعمائة وعشرين وزنة ذهب أتوا بها الملك سليمان"، (الملوك الثاني:9).
وكان وزن الذهب الذي أتى لسليمان في سنة واحدة ست مئة وستاً وستين وزنة ذهب، وذلك عدا الذي أتاه من ضرائب التجار وتجارتهم ومن الولاة الذي عينهم في المقاطعات. وقد بلغ من ثراء المملكة في عهده أن الفضة في أورشليم كانت مثل الحجارة، وخشب الأرز مثل خشب الجميز الذي في السهل لكثرته. (الملوك الثاني 10: 14-29).
مدلول كلمة "ملك"، ورواية التوراة المتناقضة:
في كتابه "مملكة إسرائيل اسم موضوع وتاريخ مصنوع" يقول هشام محمد أبو حاكمة "لا يجب أن ننظر إلى كلمة (ملك) في العصور القديمة، والأقوام التي عاشت بها، ومن ضمنها "بنو إسرائيل"، على أنها كلمة ذات مدلول كبير، اللهم إلا في الإمبراطوريات التي ذكرها المؤرخون، ولها دلائل واضحة، ما زالت ماثلة للعيان. أما تلك الأقوام الصغيرة والتي كانت تعيش في مدن مسورة، ولا يتجاوز مدى سيطرتها حدود تلك المدن، فمثل هذه المدن إن أطلق على حكامها لقب (ملك) فهو وصف مضلل، إذا قيس بملك مصر، أو أشور مثلاً، ومن الأفضل أن نطلق على ملوك هذه المدن اسم شيخ قبيلة".
ويرى أحمد داوود في كتابه «تاريخ سورية القديم»: "أن كلمة "ملك" كانت تستخدم دونما حدود بحيث تشمل في مفهومها رئيس زمرة قد تبدأ بثلاثة أشخاص ثم لا يكون لها حدود في الاتساع، فتشمل رئيس الجماعة، والعصابة، والحارة، والمزرعة، والقرية، والبلدة، والمدينة، والدولة".
ويرد في القرآن أن الله قال لبني إسرائيل "وجعلكم ملوكاً" (المائدة 20) ويسوق ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" تفسير ابن عباس لهذه الآية حيث قال: "كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سُمي ملكاً".
أما محمود مناعة في كتابه "تاريخ اليهود" فيعلق على اسم ملك ومملكة بقوله: "ويستحسن أن لا يغيب عن بالنا لحظة الانطباع اسم مملكة وملك في التاريخ القديم لا يتعدى حجمه الواقعي، فالملك هو من يملك دون التقيد بمساحة ما يملك من مدن وأقاليم، وقد رأينا في العهد القديم هذا اللقب يطلق على حكام المدن مهما تصغر أو تكبر، ومهما يكن الوضع السياسي لأولئك الحكام من حيث الاستقلال والتبعية".
وتذكر التوراة (يشوع 1:10-4) أسماء عدد من الملوك كانوا يحكمون الممالك التي كانت قائمة في ذلك الوقت (عهد يشوع) ومنهم: "أدوني صادق ملك أورشليم، وهرهام ملك حبرون، وفرام ملك برموث، ويافيع ملك لخيش، ودبير ملك عجلون". ويورد هشام محمد أبو حاكمة في المرجع السابق "وفي رسائل تل العمارنة نجد رسائل من ملوك صور، وملك بيروت، وملك دمشق، وغير هؤلاء كثير وفي عصر داوود وسليمان عليهما السلام كان الفينيقيون في أوج عظمتهم، وكان لهم أكثر من ملك بالرغم من المساحة التي كانوا يسيطرون عليها صغيرة جداً نسبياً".
أما كيث وايتلام فيقول في المرجع السابق "إن أرض ريتينو العليا -فلسطين- كانت أرض فلاحين ورعاة، وأن أميرهم لم يكن ملك مدينة كبيرة، أو دولة، بل هو "شيخ" لا تتجاوز سلطته مساحة المدينة التي يحكمها، وبذلك يمكننا اعتبار أن مملكة داوود ومن بعده ولده سليمان كانت من هذا النوع من الممالك".
أما الدليل على ذلك فيوجد في التوراة ذاته، يذكر سفر (الملوك الأول 16:9) أن سليمان تزوج من ابنة فرعون لتضم إلى باقي زوجاته اللاتي بلغن سبعمائة زوجة، وثلاثمائة سرية، بل فرعون صعد جازر وأحرقها بالنار، وقتل الكنعانيين الساكنين بالمدينة وأعطاها لابنته زوجة سليمان. وجازر هي قلعة كنعانية قديمة قريبة من القدس، يأتي هذا التناقض من قبل محرر التوراة ليدحض قصة العصر الذهبي تقريباً فكيف يكون لسليمان كل هذا المجد، ولا تقع يده على قلعة لا تبعد سوى عدة كيلومترات عن عن أورشليم؟
هذا إن سلمنا بحقيقة الزواج المفترض التي يعتقد كثير من المؤرخين بأنها محض شطط وخيال روائي. دون نفي قصة غزو جازر الذي يعتقد أبراهام مالمات في كتابه "العبرانيون وبنو إسرائيل في العصور القديمة بين الرواية التوراتية والاكتشافات الأثرية" أن الفرعون شيشق الأول مؤسس الأسرة الثانية والعشرين هو من قام بغزوها دون أن تأتي المصادر المصرية على ذكر سليمان ومملكته نهائياً.
سليمان "التاريخي" وروايات التاريخ المتناقضة:
غالباً ما يوضع سليمان "التاريخي" موضع النقاش المحتدم بين شد وجذب وتوكيد ونفي، فيما بين المؤرخين. يقول وايتلام في المرجع السابق "والمثير للاهتمام حول تكوين دولة إسرائيل في العصر الحديدي هو وجود القليل من الآثار الواضحة المتعلقة بما يسمى فترة (المملكة الإسرائيلية) وهكذا فإن خطاب الدراسات التوراتية لم يخلق هذا الكيان إلا بناء على قراءة للتراث التوراتي أضيف إليها دلائل وثائقية خارج التوراة".
بينما يعتبر وليم فوكسويل ألبرايت في كتابه "آثار فلسطين" من أوائل المؤرخين الذي تتفق نظرتهم مع الخطاب التوراتي، فهو يعتبر البيئات الأثرية وسيلة لتأكيد تاريخانية المرويات التوراتية، ويرى وجوب تطبيق هذه المرويات حتى لو أدى ذلك إلى إبادة السكان الأصليين لهذه المنطقة.
وبينما لا يعدو أن يكون سليمان حاكم دولة مدينة كممالك المدن التي كانت قائمة في ذلك العصر وفقاً لوايتلام الذي يتابع قائلاً: "ربما كان سليمان حاكماً قوياً وثرياً جداً بمقاييس العصر الحديدي المبكر في فلسطين، لكن إذا نظرنا إلى ذلك من منظور أوسع في سياق الشرق الأوسط القديم، يمكننا اعتباره حاكماً محلياً في دولة مدنية، وليس إمبراطوراً على مستوى عالمي".
يرى ألبرشت آلت في كتابه "مقالات في العهد القديم التاريخ والدين" أن الإمبراطورية التي أنشأها داوود ومن بعده ولده سليمان بسرعة مذهلة كانت تتأرجح سياسياً بشدة، ويقول "إن الإسرائيليين أول من أوجد مبدأ الدولة القومية في المنطقة". أما جيوفاني غاربيني في كتابه "التاريخ والأيديولوجيا في إسرائيل، الذي يعتبر نقده من أكثر الدراسات تشكيكاً في التراث التوراتي، وفكرة وجود عصر ذهبي إسرائيلي وإمبراطورية عظمى، فقد بيّن أن ذلك ليس أكثر من إعادة صياغة للنص التوراتي نابعة من دوافع لاهوتية، وينتقد التصورات التقليدية حول فترة حكم داوود وسليمان ويقول: "إن الإطار التاريخي يعطي انطباعاً بأنه أقرب إلى النظرة الأسطورية عن وجود عصر ذهبي أصيل منه على أن يكون إعادة بناء مقنعة للماضي وللأعمال الإنسانية".
وعلى الخلاف منه يرى مارتن نوت في كتابه "تاريخ إسرائيل" أن "اللحظة الحاسمة في فترة حكم داوود وسليمان التي سارت فيها إسرائيل نحو الهيمنة السياسية ودخلت مرحلة جديدة تماماً ويصرح بأن جدة ذلك الوضع يؤكدها إدخال تقاليد تاريخية جديدة في العهد القديم الذي هو سجل تاريخي وعمل علمي" واصفاً المملكة الإسرائيلية بأنها كانت أول قوة عظمى مستقلة في الأرض السورية الفلسطينية. وسارت كارول مايزر على خطى نوت واصفة سليمان بـ"الإمبراطور الثاني" والأخير الذي حافظ على الأجزاء المتفرقة لأقاليمه لفترة غير مسبوقة، والذي أسس عاصمة عالمية رائعة، وبنى سلسلة من المدن الملكية في البلاد.
وبينما يبين بول كينيدي في كتابه "صعود القوى العظمى وسقوطها" زيف الادعاء بترويج ماض متخيل لقوة عظمى حكمها داوود وسليمان في العصر القديم، وأظهر الظروف الاقتصادية والتجارية في ذلك الوقت، لذلك لم تنشأ قوة إقليمية أبداً، والبحث يقودنا إلى الشك في كل ما يُروى عن مملكة كبرى في فلسطين في العصر الحديدي".
وفي كتابه "الماضي الخرافي في التاريخ والتوراة"، يؤكد توماس طومسون "تلك الصور لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخي الواقعي، إننا نعرفها كقصة وما نعرفه حول القصص لا يشجعنا على معاملتها كما لو أنها تاريخية"، ويتابع قائلاً: "لا يتوافر لدينا دليل واحد على وجود ملكية متحدة، ولا دليل على وجود عاصمة في أورشليم ولا يوجد دليل على وجود ملوك في أورشليم في تلك الفترة المبكرة".
وعلى العكس من موقف توماس طومسون، ترى كارين أرمسترونغ في كتابها "القدس مدينة واحدة ثلاث عقائد" أنه "ولما كانت المملكة لا يرد ذكرها في نصوص الشرق القديم التي ترجع إلى الفترة نفسها، فقد ظن البعض أنها محض خيال وأنها تفتقر إلى الأساس التاريخي الثابت مثل قصص بعض الآباء. ولكنّ آراء الباحثين تتفق على أن هذه المملكة وُجدت فعلاً، فالواقع أن عدداً من التفاصيل السياسية والاقتصادية والتجارية الواردة في الكتاب المقدس والتي تتفق مع معلوماتنا المؤكدة عن مجتمع الشرق الأدنى القديم في تلك الآونة بشكل كبير بحيث ينفي أن تكون إمبراطورية داوود محض تلفيق".
أما ج.م.ن. جفريز في كتابه "فلسطين إليكم الحقيقة" فيصف المملكة قائلاً: "إن دولة سليمان بلغت في أوج اتساعها مائة وعشرين ميلاً في أطول أطوالها وستين ميلاً في أعرض عروضها، إن امتلاك اليهود لفلسطين كان من القصر بحيث لا يُذكر إذا ما قيس بامتلاك الكنعانيين لفلسطين في حين أن الدولة اليهودية قد قامت وتألقت وطنطنت بمقدار عمر برغشة ثم تلاشت".
أما المؤرخ جيرارد فون راد في كتابه "مقدمات وتعليقات مختصرة على العهد القديم" فيعتبر عصر سليمان "ذهبياً" للمملكة الإسرائيلية، وأن الحضارة الإسرائيلية لا وجود لمثلها في الشرق الأدنى فيقول: "أنتجَ العصر الذهبي للملكة العبرية أعمالاً تاريخية أصيلة، لم يكن بمقدور أي حضارة في الشرق الأدنى القديم الإتيان بها. حتى الإغريق لم يتمكنوا من الوصول إلى مثلها إلا في ذروة تقدمهم في القرن الخامس قبل الميلاد، ولكنهم انهاروا بسرعة بعد ذلك"، ويتابع قائلاً: "فإن حضارة إسرائيل يجب أن تقف في صف الحضارة الإغريقية الأغنى والأكثر عمقاً في القرون اللاحقة".