على مدى عقود، لم يخطر ببال المواطن الأوروبي، ولا حتى في بال الساسة الأوروبيين، أن حرباً ستندلع في القارة العجوز، تكشف ما كان يستره عصر السلام الأوروبي، الذي وصل معه اطمئنان الأوروبيين بأن الحرب مستحيلة إلى إهمال الإنفاق الدفاعي، ومن بين ما كشفته الحرب الروسية الأوكرانية، هو وقوع السياسة الأوروبية وقرارات عواصمها تحت نفوذ روسيا (أو الابتزاز الروسي كما يصرح بعض الساسة الغربيين)، وذلك لاعتماد أوروبا بشكل أساسي على الغاز الروسي، مما دفع الأوروبيين إلى التفكير في بدائل تحفظ أمن الطاقة، وتحرر القرار السياسي من النفوذ الخارجي.
تعتمد أوروبا بنسبة تصل إلى نحو 40% على الغاز الروسي، وهي نسبة لا يمكن تعويضها من أي مصدر آخر خلال المدى المنظور، بسبب الصعوبات الفنية المصاحبة لعملية نقل الغاز الطبيعي واستخدامه، إذ تحتاج عملية النقل إلى بنية تحتية يستغرق تجهيزها فترة طويلة، ما أجبر الغرب الغاضب من الغزو الروسي لأوكرانيا إلى استثناء قطاع الطاقة من العقوبات، خوفاً من تداعيات الانقطاع المفاجئ لإمدادات الغاز، الذي يمثل عصباً مهماً للاقتصادات الأوروبية.
وجدت أوروبا نفسها في خضم الحرب مضطرة للحديث عن إمكانية انقطاع الغاز الروسي، واكتشف الأوروبيون أن هذا مفزع، فإما أن تغرق مدن أوروبا في ظلام دامس، أو أن تدفع ثمناً باهظاً على حساب نموها الاقتصادي ورفاه المواطن الأوروبي، فبدأت المفوضية الأوروبية، وغيرها من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وحكومات الدول، دراسة البدائل والخيارات والحلول لأزمتي الاعتماد على الغاز الروسي وضعف مناعة الاقتصادات الأوروبية.
بدراسة الخيارات المتاحة أمام الأوروبيين، كان خيار العودة إلى الفحم هو الأسرع والأكثر سهولة، والأقدر على تحقيق المقاصد الأوروبية سياسياً واقتصادياً على المدى القريب، من ناحية تقليل الحاجة إلى الغاز الروسي، والابتعاد بالقرار السياسي عن النفوذ المباشر أو غير المباشر للدول التي تمد أوروبا بالطاقة، لكن ورغم سهولة هذا الحل، إلا أنه كان خارج النقاشات السياسية إلى حد كبير، أو في حال حضوره فإنه حضر كحل مؤقت، فبسبب الوعي البيئي الذي بدا أنه يتزايد في أوروبا وصعود التيارات البيئية في دول أوروبية مهمة مثل ألمانيا التي يشارك في حكومتها تحالف الخضر\90، وإدراك صناع القرار في بروكسيل أن هذا الخيار غير مستدام، حضرت الحلول البيئية كرهان استراتيجي، وكان الاعتماد على التحول إلى الطاقة المتجددة أساساً مهماً للخطة التي أعلنها رئيس سياسة المناخ في المفوضية الأوروبية في حديثه أمام لجنة البيئة في البرلمان الأوروبي.
وضع الاتحاد الأوروبي ضمن استراتيجيته هدفين مهمين، الأول هو تقليل الاعتماد على روسيا في مجال الغاز، وذلك عبر التعاقد على استيراد الغاز من دول مختلفة، وأهم هذه الدول هي الولايات المتحدة ومصر وقطر والجزائر ونيجيريا وتركيا و"إسرائيل"، أما الهدف الثاني فهو تسريع الانتقال إلى الطاقة النظيفة، وضخ استثمارات كبيرة في قطاع الطاقة المتجددة لاستخدامها في توليد الكهرباء.
مثلت الحرب هذه المرة فرصة للاتحاد الأوروبي -الذي يسهم المواطن الواحد فيه بنفث 7 أطنان من ثاني أكسيد الكربون سنوياً- لتقليل انبعاثاتها من الكربون، ففي هذا السياق، أعلنت ألمانيا إطلاق برنامج ضخم للتحول إلى الطاقة المتجددة ستغطي نحو 2% من إجمالي مساحة البلاد، عبر بناء عدد كبير من التوربينات الهوائية، بالإضافة إلى نشر ألواح الطاقة الشمسية.
وعلى الرغم من أن الوعي البيئي كان دافعاً مهماً نظراً لوجود الخضر هذه المرة ضمن صناع القرار، إلا أن الحرب في أوكرانيا سرعت من اتخاذ هذه الخطوة، فالخضر وأنصار البيئة ليسوا وحدهم في الحكومة الألمانية، إذ يشاركهم الليبراليون المؤيدون لمجتمع الأعمال، ولكن هذه هي المرة الأولى في التاريخ الحديث التي تتلاقى فيها المصلحة الاقتصادية والجيوسياسية للدول الكبرى مع الدعوات لحماية البيئة والمناخ، فـ"التخلي عن إحراق الوقود الأحفوري على مراحل سيعزز أوروبا جيوسياسياً ويحمي المناخ" حسبما قال وزير الاقتصاد الألماني، ما يشكل فرصة حقيقية للبدء في بناء اقتصاد أخضر ومستدام.
بالإضافة إلى الخطوة الألمانية المهمة، تقترح خطة المفوضية الأوروبية إجراءات مهمة على صعيد التحول نحو الطاقة النظيفة، يعتمد جزء منها على تشجيع البيوت لاعتماد الطاقة الشمسية، والبدء بتجهيز البنى التحتية من أجل التشغيل التدريجي للغازات البديلة مثل الهيدروجين (البديل الأمثل) والميثان الحيوي، حيث تتضمن الخطة أيضاً التخلي التام عن الفحم بحلول 2030 وزيادة مساهمة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وتتقاطع هذه الخطة مع خطة ألمانيا (أكبر الاقتصادات الأوروبية) التي ستتخلى هي الأخرى عن الفحم بحلول 2030 وتخفض من حاجتها للغاز بنسبة الثلث، مما سينعكس بشكل ملموس على انبعاثات الكربون.
تعلن الدول الأوروبية هذه الأيام، تباعاً، خططاً طموحة للتخلي عن مصادر الطاقة الملوثة، وتضخ المليارات في سبيل التحول نحو طاقة نظيفة، تحقق لها قدراً أقل من الاعتماد على الخارج، وتمثل فرصة كبيرة للنمو الاقتصادي، حيث ستوفر هذه الخطط الآلاف من فرص العمل للمهندسين والعمال، وتقلل من فاتورة الطاقة على المدى المتوسط والبعيد، وستنعكس لاحقاً بشكل إيجابي على المناخ بشكل يثلج صدور المدافعين عن البيئة والمهمومين بسلامة كوكب الأرض، ومثلما كانت صدمة انقطاع إمدادات النفط كنتيجة لحرب 1973 نقطة محفزة لدعم البحوث والخطط المؤدية إلى تنويع مصادر الطاقة، ومن بينها الطاقة النووية والطاقة الشمسية، فإن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية ستمثل نقطة محفزة لتشييد البنية التحتية للاقتصاد الأخضر النظيف والمستدام.
لم يتوقف الأمر عند خطط الحكومات والمفوضية الأوروبية، فاستجابةً للتوجهات الجديدة المتسارعة نحو الطاقة النظيفة بعد الحرب في أوكرانيا، بدأت الشركات الكبرى السير بخطوات متسارعة، إذ أعلنت شركتا سوني وهوندا، العملاقتان اليابانيتان، بدء التعاون بينهما في مجال إنتاج السيارات الكهربائية، كما طرحت شركة السيارات الأمريكية "جيب" خططاً لإنتاج مجموعة متكاملة من السيارات الكهربائية، فيما أعادت شيفروليه الأمريكية إنتاج سيارتها الكهربائية من طراز بولت، وقررت فولكس فاجن الألمانية زيادة تمويل السيارات الكهربائية.
بالإعلان عن كل هذه الخطط من الحكومات والشركات، والأموال التي رصدت لغايات التحول نحو الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية، يكون العالم قد دخل عصراً جديداً بشكل عجيب، وذلك لمفارقة أن الحرب لعبت فيه دور الداعية الأكبر للحفاظ على البيئة والتحول نحو الاقتصاد البيئي والمستدام.