أحرار رغم العزل والقهر: زيارة محمود العارضة ومناضل نفيعات

[أسرى هروب سجن جلبوع] [أسرى هروب سجن جلبوع]

أحرار رغم العزل والقهر: زيارة محمود العارضة ومناضل نفيعات

By : Janan Abdu جنان عبده

[في الحادي والعشرين من تشرين الأول 21، وبعد مماطلة حوالي الشهر من قبل مصلحة السجون بالرد على طلبها بالزيارة، زارت المحامية جنان عبده الأسيرين محمود العارضة ومناضل نفيعات في سجن الرملة. وكان الأسيران، العارضة (المسؤول عن تخطيط وتنفيذ عملية الهرب من سجن الجلبوع)، ومناضل نفيعات في عزل تام منذ اليوم الأول لاعتقالهما. حيث بدأ التحقيق معهما مباشرة في معتقل الجلمة قرب حيفا ولم يلتق الأسرى الستة في السجن رغم سجنهم كلهم في معتقل الجلمة ولا في المحاكم. ومن ثم تم توزيعهم على عدد من السجون واستمرار سجنهم بظروف عزل فردي قاسية. حين زارتهم المحامية جنان لم تكن تعلم أنهم قرروا خوض الإضراب عن الطعام في اليوم ذاته، وذلك ضد التضييقات والعقوبات التي فرضتها مصلحة السجون على أسرى الجهاد الإسلامي بعد عملية الفرار. هذا النص عن تلك الزيارة].

من واجهة سيارتي بدأت تقترب معالم سجن؛ سور طويل مرتفع وطبقات من الشِباك والأسلاك الفولاذية المحدّدة تلفّ به وبرج مراقبة. عرفت أننّي وصلت سجن الرملة، لكن كان عليّ أن أدور حول السجن مسافة طويلة لأصل المدخل، وداخله كان عبارة عن مُجمّع سجون. لم يكن أول سجنٍ بلغته هو "أيالون" حيث يُحتجز في قسم العزل كل من محمود العارضة ومناضل نفيعات- أسرى النفق، بل كان عليّ أن أسير مسافة طويلة قبل أن أصل إلى قسم العزل وبرفقتي سجّان كما تتطلب الإجراءات، وذلك بعد أن أخذوا منيّ في قسم الاستقبال نسخة من أوراق تصريح الزيارة وبطاقة المحاماة، وزودوني بقلادة كتب عليها بالعبرية «محاميّة».

ومن حسن حظي أن اليوم لم يكن ماطرا حيث كان من النادر السير هذه المسافة دون أن أتبلل أنا وأوراقي التي أحملها كما يحدث في فصل الشتاء مع العديد من السجون حيث لا غرفة انتظار محترمة للمحامين وبغالبيتها لا يسمح بدخول مصف السجن المعدّ لطواقمه فقط. مما يعني السير مسافة لحين وصول باب الدخول وفي بعض السجون يطول الانتظار أحيانا تحت أشعة الشمس الحارقة وأخرى تحت زخات المطر رغم أن الزيارة منسقة مسبقاً.

لفتت نظري ضخامة وكبر المكان الذي تجتمع فيه عدة سجون ومستشفى الرملة المعروف برداءته، وكون السجن محطة عبور إلى بقية السجون باتجاهي الشمال والجنوب على السواء، إضافة الى أن قيادة مصلحة السجون تحتل أحد مبانيه الذي تتخذه مقرّاً مركزياً لها. اصطفت في الساحة الداخلية الواسعة حوالي عشر حافلات نقل أسرى من الحجم الكبير- المسماة بلغة الأسرى "بوسطة".

سرنا أنا والسجّان مسافة الى أن وصلنا في النهاية إلى المبنى الأخير وهو عبارة عن طابق واحد - للناظر على الأقل - وبمحاذاة أسوار السجن، كتب بلافتة واضحة "قسم العزل". كان القسم مُغلقاً من الخارج من جهة الزوار بجدران حديدية وكانت غرفة المحامين من الجهة اليسرى مفتوحة، وقد لمحت بداخلها شخصاً واحداً وأسيراً واحداً. طُلب مني الانتظار بضع دقائق إلى حين إحضار الأسيرين اللذين طلبتهما للزيارة. وهذا يعني فحصهما جسديا والتأكد أنهما لا يحملان على أجسادهم وداخل ملابسهم أي شيء.

لقاء محمود العارضة

دخل محمود الغرفة والابتسامة تعلو وجهه وأسارير وجهه كلها تبتسم، فقد حظي بزيارة رغم أنه لا يعرف هوية الزائرة. والزيارة بالنسبة للأسرى كما أعرف هي مناسبة للاحتفال، فكيف إن كانت الزيارة لمن هو في العزل لا يرى سوى سجّانيه، وحتى زملاؤه في القسم لا يراهم.

بادرته التحيّة وكان بفمه سؤال عن اسمي الكامل، وحين عرّفته بنفسي كما تتطلب أصول الزيارة اسمي الكامل[1] وظيفتي، مكان عملي ومكان سكني، كاد يصرخ فرحا وضحكا، حتى تخيّلت أنّ السجّان سيحضر مُسرعاً ليرى ما يحدث، لكن السجّان كان قد غاب، أو على الأقل قد غاب عن ناظري.

سألني محمود إن كنت من مواليد حيفا فقلت من مواليد الناصرة وأسكن في حيفا. أخبرني كم يسعده كوني من الناصرة وحيفا البلدين الأحب إليه.

***

أخبرته أنّي حضرت للاطمئنان عليه وعلى صحته هو ومناضل ومعرفة ظروف الاعتقال في السجن الحالي خاصة كونه يخضع منذ الاعتقال للعزل والقلق أن يكون يتعرض للتعذيب أو المعاملة السيئة والمهينة واللاإنسانية. حيث أنّ إجراء العزل لوحده كاف لأن يكون جواباً لكل هذه الانتهاكات دون أي عقوبات إضافية. أخبرته أنيّ كنت قد طلبت زيارته وباقي أسرى النفق الآخرين في سجن الجلمة منذ بداية الاعتقال في شهر أيلول لكن المماطلة استمرت حتى آخر يوم في أيلول حيث قيل لي إنهم لم يعودوا في الجلمة. قدمت طلباً لمصلحة السجون لمعرفة السجون التي نُقلوا إليها، علمت أنه ومناضل نفيعات في قسم العزل في سجن بالرملة وقررت الزيارة.

كنت أريد أن أساله عن ظروف العزل الإنفرادي في سجنه الحالي وفي الجلمة، لكن كان به شغف للحديث، شغف أسير يخضع للعزل لا يرى إلا سجانه. بادرني الحديث حتى قبل أن أسال، حدثني عن لحظات الحريّة الأولى وما سبقها وأيام الحريّة خارج جدران السجن لخصها بقوله:

"كنا بفم التنين مثل الطائر الطنان يحرُسنا البقر ونحن بنعمة. هدفنا كان نطلع يوم واحد، نعتبر خروجنا من النفق دق للخزان. لنقول للعالم هذا الوحش اللي بتخافوا منه سهل وأيضا نحنا شعب برفض القهر بدنا حريّة. حتى قبل ما حفرنا النفق وطلعنا، قلنا اذا طلعنا يوم هذا انتصار كان علينا أن نطرق جدران الخزان وطرقناها".

وعن كل يوم حُريّة إضافي خارج السجن قال: "بقينا أسبوعين[2] هاي زيادة وانتصار كبير" وكان من المهم له التأكيد والتوضيح "ما كان فراغ تحت أرضية السجن، بل صنعنا الفراغ بأيدينا وحفرنا 100 متر عشان نعمل فراغ لـ 35 متر". وأكد أنهم قرروا تسمية العملية "الطريق الى القدس" وكل جزء منها من الغرفة للقسم للسجن على اسم أحد الأسرى والشهداء.

كان من المهم لمحمود كما لمناضل العودة والتأكيد عما حدث وقت الاعتقال والتأكيد على حُبه لأهل الناصرة وعن محاولات الدس ودق الأسافين وإطلاق الشائعات وأن كل ما نشر بوسائل الإعلام العبري حول تسليمهم من قبل عائلة نصراوية كان عارياً عن الصحة. 

كان لديه شغف واضح للحديث عن أيام الحرية وما تحمله بالنسبة له من معان، وكأن التجربة التي يمر بها اليوم من عزل تقزّمت أمام عظمة الحرية التي عاشها بعد أكثر من 25 عاماً في الأسر بشكل متواصل.

حدثني عن ظروف العزل بسجن الرملة وعن صغر الزنزانة وكونها غير مناسبة لمعيشة إنسان وأنها عبارة عن جدران بدون شبابيك وقال إنها "من العصر الحجري"، القسم غير مناسب لحياة إنسان.

إنه وحيد في زنزانة العزل أو ما يسمى العزل الانفرادي، كل شيء ممنوع: جهاز الراديو، وقلم الرصاص وقصاصة الورق. لا تلفاز ولا بلاطة كهربائية فكل الاجهزة الكهربائية محظورة. الكتب محظورة باستثناء نسخة من القرآن الكريم، الزيارات ممنوعة وكذلك إدخال أية ملابس، فلديه بلوزة كم قصير وملابس السجن البنية اللون. ينام على فرشة من فراش السجن الرديئة وحِرام يتبع للسجن ويبدو أنهم لم يغسلوه منذ زمن طويل. لا وسادة، ويقيم على الفرشة طوال النهار. لا يرى النور فلا نوافذ بالزنزانة. يتحدث مع خياله وفي وجدانه إذ لا يوجد مع من يتحدث إلا بالصراخ من داخل الزنزانة ليستعير خبراً من أسير لديه جهاز راديو صغير في زنزانة أخرى في ذات قسم العزل. كيف تقضي وقتك؟ أجاب: بالصلاة وقراءة القرآن والتأمل. كذلك كان شبيها الرد على السؤال: كيف تشعر؟ المعنويات عالية جداً. بل قررا يومها الانضمام إلى الإضراب عن الطعام والذي أعلنه أسرى الجهاد الإسلامي. والمطلب من وراء خطوة الإضراب هو إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل نفق الحريّة والتراجع عن كل الخطوات الانتقامية والعقابية تجاه الأسرى التي اتخذتها مصلحة السجون وأعلنت عنها، وحصرياً تجاه أسرى الجهاد الإسلامي.

حدثني مناضل عن شعور الحريّة الذي لا يوصف، وعن طيبة الناس الذين استقبلوهم وعن قرارهم بتسليم أنفسهم من منطلق المسؤولية ولحماية أهل الدار حيث كان البيت الذي نزلوا فيه في جنين محاصراً بقوات الجيش. أمور سمعناها من المحامين الذين التقوهم في الأيام الأولى بعد السماح باللقاء. لكن هذه المشاعر كانت زاده المستمر الذي يقويه في عزلته ويضيء زنزانته المعتمة، إنّه نور الحريّة. نور يضيء لمناضل ومحمود عتمة العزل القاسية.

لا تهوية في الزنزانة وللهواء المغلق رائحة النتانة ولكون القسم هو بالأساس لعزل السجناء الجنائيين والمتميز بكثافة التدخين سواء للسجائر أم المخدرات والحشيش، مما يزيد النتانة نتانةً. يضاف إليها الضوضاء والضجة التي يحدثها السجانون وكذلك السجناء الجنائيون في القسم.

زمن الفورة (التنزّه) هو ساعة يومياً. وحين زرته كان محمود محكوماً بالعقاب لمدة أسبوعين ويحظر عليه حتى هذه الفورة. حين نتحدث عن الفورة، فلا توجد ساحة يخرج إليها بل فورة في غرفة صغيرة سقفها مغطى بالصفائح ونصف مساحته مُغطّاة بالشبك الحديدي. الفورة أيضاً انفرادية، أي لا يخرج أكثر من أسير واحد في ذات الوقت. بعد الفورة يجري تفتيشه بكاشف المعادن على الرغم من أنه لم يلتق أحداً ولا مجال ليلتقي بأحد.

تتكرر مداهمات التفتيش في الزنزانة الخالية من أية أغراض أسبوعياً، ويتم التفتيش ما بين الساعات الثانية بعد منتصف الليل والرابعة فجراً، ويُلزَم الأسير بالوقوف طوال التفتيش وهو مقيّد اليدين والرجلين الى أن يخرج السجانون، ليحاول لملمة ما بعثره المداهمون، وإن كان محظوظاً يعود ليواصل نومه بعد أن يصلي صلاة الفجر. والصلاة، إضافة الى التعبّد، هي وسيلة أيضاً لتمضية الوقت بالتأمّل.

منع الكانتين يعني أن الأسير لا يستطيع اقتناء أي شيء، من مأكل وقهوة وشاي ومواد تنظيف وملابس داخلية ولا ماء رغم رداءة مياه السجن التي يضطر إلى شربها.

تكاد تكون القصة ذاتها كما رواها لي اليوم الأسيران محمود العارضة ومناضل نفيعات، على الرغم من أنهما متجاوران لكن لا يلتقيان لا في القسم ولا في الفورة. هكذا هي رتابة الحياة غير الرتيبة في السجن وفي قسم العزل منه.

لقاء مناضل نفيعات

فاجأني صغر سنه كان من مواليد منتصف التسعينيات. كاد عمره يعادل العمر الاعتقالي لمحمود، كنت أعلم أنه صغير السجن، حين تابعت من خلال شاشات التلفزيون عملية إعادة اعتقاله من جنين بعد 11 يوماً من النجاح بالخروج مع رفاقه من نفق الحريّة الذي حفروه في سجن الجلبوع. صورة البطولة التي ارتسمت بمخيلة الناس جعلتني لا أصدق صغر سنه.

مناضل شاب في منتصف العشرينيات أسمر البشرة حاد الملامح، تبدو لمحة من الخجل في وجنته. رغم صغر سنه إلا أنه قضى في السجون ما يقارب نصف عمره، منذ العام 2011 أعيد سجنه واعتقاله أكثر من مرة بعضها إداري. وكان ما زال موقوفاً لعامين قبل مشاركته بالخروج من النفق.

بعد الاطمئنان على صحته وسؤاله عن الوضع الحالي في سجن الرملة وسماع تفاصيل العزل الانتقامي، حدثني عن الخروج من النفق. كان وجهه يمتلئ فرحاً وهو يصف تفاصيل الخروج من النفق، تلك التفاصيل التي تسمر العالم أمام شاشات التلفاز وأجهزة الراديو يتابعها وقلوب الناس تنبض فرحاً وقلقاً في آنٍ واحد.

حدثني مناضل عن شعور الحريّة الذي لا يوصف، وعن طيبة الناس الذين استقبلوهم وعن قرارهم بتسليم أنفسهم من منطلق المسؤولية ولحماية أهل الدار حيث كان البيت الذي نزلوا فيه في جنين محاصراً بقوات الجيش. أمور سمعناها من المحامين الذين التقوهم في الأيام الأولى بعد السماح باللقاء. لكن هذه المشاعر كانت زاده المستمر الذي يقويه في عزلته ويضيء زنزانته المعتمة، إنّه نور الحريّة. نور يضيء لمناضل ومحمود عتمة العزل القاسية.

من أكثر الأمور التي شغلته وبادرني بالسؤال عنها وتوضيحها من بداية الزيارة هي التأكيد مجدداً عن أن الحديث عن أهل الناصرة غير صحيح "إحنا اخوة وهذه إشاعات مغرضة" قال.

حدثني عن قراره خوض الإضراب عند خروجه من الزيارة وعن معنى الزيارة وأهميتها في ظروف العزل وخاصة قبيل الدخول بالإضراب، ففي طمأنة الأهل ومعرفة الناس بالإضراب إراحة للذات. وعن ظروف العزل سمعت وصفاً وواقعاً مشابهاً للذي حدثني عنه محمود.

تأخر السجان عن الحضور فامتدت الزيارة وامتد الحديث لربع ساعة إضافية. وعدته بالاتصال بالأهل وطمأنتهم عليه خاصة أن الزيارات ممنوعة لمدة ستة أشهر كجزء من الإجراءات العقابية. وفي طمأنة الأهل راحة نفسية للأسير.

حضر السجان، أعاد وضع القيود على معصميه للخلف، وكانت القيود الحديدية موضوعة على رجليه طيلة وقت الزيارة، الأمر الذي علمت به حين وقف للخروج فلم يكن بمقدوري رؤيته حين دخوله الغرفة.

خرج مناضل بعد أن مرر السجان جهاز الماغنومتر، ودخل السجان للغرفة من الجهة التي جلس بها مناضل وتفصل بيني وبينها جدران زجاجية. دخل وتفقد الغرفة تحت الكرسي وتحت الرف الذي يتكئ عليه الأسير بيديه.

قلت لنفسي يبدو أن الإجراءات الصارمة هي جزء من سياسة "تحسين" صورة السجن والسجان، بعد أن قام أسرى الحريّة بتشويهها. كان من الواضح أنه لم يكن بالإمكان تخبئة أي شيء أو نقل أي شيء بالغرفة كون الغرفة مقسومة لجزئيين بحائط نصفي اسمنتي يمتد نصفه الأعلى بحاجز زجاجي مقوّى يفصل بين جهة المحامين وجهة الأسرى. وهناك سماعة هاتف تتوسط الحاجز من كلا الطرفين. واحدة يستعملها الأسير والأخرى من جهة المحامين. لكنها التعليمات المشددة لنزلاء قسم العزل ويبلغ عددهم العشرين، كلٌّ بزنزانة منفردة غالبيتهم من الجنائيين إضافة لثلاثة أسرى مصنفين أمنيين بينهم محمود ومناضل.

الخروج من السجن

خرجت من السجن، كنت مفعمة بالمشاعر، اعتقدت أني أطمئن عليهم وأني سأرفع من معنوياتهم، لكنّي وجدتهم يشحنونني بالطاقة والأمل. لم اشعر بمرور المسافة من سجن الرملة لحيفا ولم أشعر بطول الطريق رغم اكتظاظ حركة السير عصر يوم الخميس التي استغرقت أكثر من ساعتين ونصف كما أشارت ساعتي.

خرجت وأنا أعلم أني سأفعل ما بوسعي كمحامية وإنسانة لإيصال هذا الصوت ومحاولة وقف وفضح الانتهاكات القاسية التي يتعرضون لها في زنازين العزل تحت مسمى «عقوبات» في ظروف لا إنسانية ومهينة وقاسية بل تعتبر نوعاً من التعذيب النفسي الذي يهدف إلى كسر روح الأسير وإحباطه من خلال استمرار عزله في قفص من الحيطان ومن منعه من كافة وسائل الرائحة والتضييق عليه لأقصى الحدود وإلى قتل إنسانية الإنسان الأسير وتحويله إلى لا شيء.. وفي العزل انتهاك صارخ للمواثيق الدولية التي تطلب حماية الأسرى، ومعاملة السجناء معاملة حسنة ومنها "قوانين منديلا" الخاصة بالسجناء وفيها انتهاك لاتفاقية جنيف الثالثة والرابعة فيما يتعلق بأسرى الحرب والأشخاص الموجودين تحت الاحتلال. بل إن اتفاقية جنيف الثالثة تمنع معاقبة من يفرون من السجن من أسرى الحرب[3].

لكنني، رغم قسوة الظروف التي يعيشونها، شعرت بنوع من السعادة مع تزامن زيارتي لساعات قبل دخولهم الإضراب[4] وإعلانهم لي أن هذه الزيارة تشحنهم بالقوة والامل. وهو أقل واجب إنساني أخلاقي أقوم به كمحامية وإنسانة.

من رسالة محمود العارضة للمحامية جنان:

"بسم الله الرحمن الرحيم لقد بدأنا اليوم 21/10 اليوم الأول بالإضراب، كانت المفاجأة لي أن زائرتي بنت أحب البلدان، بلد مريم البتول، بنت الناصرة وقد اختلطت المشاعر وكان القلب يكاد يطير فرحاً فقد جمعت بين الناصرة وحيفا بظل أحمد دحبور يقاسمه الأمل أمير مخول الرجل الهمام الذي عرَفتُه مثل جبل الكرمل في السجون، لا ينحني إلاّ كشجر ونخل بيسان عندما تهب العاصفة، لكن جذوره ثابتة بالأرض كشجرة طيبة تؤتي الوطن أكلها كل حين.

إن زيارة جنان الأرض لي كانت بمثابة زيارة الأم لولدها والأخت لأخيها. قلبي كان دائما نحو الناصرة ونحو حيفا وعكا والجليل. إنني أرى بهؤلاء العظماء الذين ثبتوا في الأرض مثل عجولها يحرثونها من جديد ويقرأون قصة أحمد العربي بوجه أمير مخول. سلام إلى حيفا وسلام إلى الناصرة الحبيبة التي تتلفع بجبالها وشجرها مثل عباءة المسيح ومرة أخرى أقول لكل المغرضين الذين يحاولون تحطيم النسيج الاجتماعي بين فلسطيني الداخل، شجرة السنديان الملتف حول الكرمل، لن تنطلي علينا المؤامرة وإذا كانت مريم البتول خانت فإن نساء الناصرة خنّ العهد. وإن كان المسيح غدر فرجال الناصرة غدروا، وهذا مستحيل.

تحية إلى الناصرة وحيفا وإلى أكسال وسولم وكل البلدات العربية التي مررنا بها. ونحن نعرف الحب بعيون الناس. سلام لكم وعليكم، والسلام عليكم".

الهوامش:

[1]: فهمت منه أن محاميه الذي يترافع عنه من قبل هيئة شؤون الأسرى في قضية "الهرب والتخطيط للهرب من السجن" كان قد أخبره باحتمالية زيارتي.

[2]: والقصد آخر من تم اعتقالهم من مجموعة الستة.

[3]: المادة 91 من الاتفاقية تنص على ما يلي: یعتبر ھروب أسرى الحرب ناجحاً في الحالات التالیة:١. إذا لحق بالقوات المسلحة للدولة التي یتبعھا أو بقوات دولة متحالفة، ٢: إذا غادر الأراضي الواقعة تحت سلطة الدولة الحاجزة أو دولة حلیفة لھا، ٣: إذا انضم إلى سفینة ترفع علم الدولة التي یتبعھا، أو علم دولة حلیفة لھا في المیاه الإقلیمیة للدولة الحاجزة، شریطة ألا تكون السفینة المذكورة خاضعة لسلطة الدولة الحاجزة. أسرى الحرب الذین ینجحون في الھروب بمفھوم ھذه المادة ویقعون في الأسر مرة أخرى لا یعرضون لأیة عقوبة بسبب ھروبھم السابق".

[4]: الإضراب العام المذكور الذي يخوضه أسرى الجهاد الإسلامي والذي انضم إليه محمود ومناضل، تم تعليقه في اليوم الثاني كما أُعلن في وسائل الإعلام لاحقاً، بعد تراجع مصلحة السجون عن إجراءات انتقامية عقابية كانت فرضتها مؤخراً.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • ناريمان خورشيد وتنظيم زهرة الأقحوان

       ناريمان خورشيد وتنظيم زهرة الأقحوان
      [ هذه المادة هي جزء من ملف خاص بعنوان "كبرت النكبة". وهو ملف متنوّع حول نكبة فلسطين ستقوم "جدلية" بنشره على مدار الأسبوعين القادمين.]لم تكن عائلتي من الذين هُجِّروا عام النكبة، فأ
    • وتعطلت لغة الكلام

       وتعطلت لغة الكلام
      هذه ليست عبارة فارغة من المعنى. ذلك أن الكلام يمكن أن يتعطل ويفقد معناه وأن يتوقف نهائياً. يمكن أن تجدي نفسك في وضع تكونين فيه غير قادرة على الكلام، أو لا تجدين العبارات الملائمة والكلام المناسب. أما
    • الزمن الآخر\\اتصال هاتفي في ساعة متأخرة من الليل

      الزمن الآخر\\اتصال هاتفي في ساعة متأخرة من الليل
        - جنان- نعم- اتصلوا فيكي من السجن؟- لأ ليش؟- اتصلوا فينا وبلغونا أنه الزيارة بكرا ملغية- مين اتصل؟ وينتا؟!- من شوي حوالي الساعة 9:30 المسا اتصل واحد خبرني بكرا فش زيارة- مين اللي اتصل سألته عن

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬