[خوليو كورتاثار (١٩١٤- ١٩٨٤) روائي وقاص وكاتب مقالات أرجنتيني أثرت كتاباته على جيل كامل من قراء وكتاب اللغة الأسبانية في أوروبا وأمريكا اللاتينية].
زهرة صفراء
نحن خالدون. أعرف أن هذا يبدو كمزحة لأنني التقيت بمن يشذُّ عن القاعدة وقد روى لي قصة في بارٍ في شارع كامبرون وهو سكران فلم يتضايق من قول الحقيقة، رغم أن الساقي وزبائن البار ضحكوا إلى أن خرجت الخمرة من أعينهم. ولعله رأى وميض اهتمام في وجهي دفعه نحوي فانتهى بنا الأمر إلى الجلوس في زاوية استطعنا أن نشرب ونتحدث بهدوء فيها. قال إنه موظفٌ متقاعد. هجرته زوجته وعادت إلى والديها. لم يكن طاعناً في السن ولا غبياً. وجهه جاف وعيناه مسلولتان. وصدقاً كان يشرب لينسى كما صرّح ونحن نبدأ الكأس الخامسة. لم يكن باريسياً لأنه يخلو من السمة الخاصة بهذه المدينة التي لا يقدر أحدٌ أن يلتقطها سوى الأجانب أمثالنا. كانت أظافره مقصوصة بأناقة ونظيفة.
قال إنه شاهد في الحافلة رقم 95 ولداً عمره ثلاثة عشر عاماً. وبعد أن حدَّق به ملياً أدهشه أن الولد يشبهه كثيراً على الأقل كما تذكر نفسه عندما كان في مثل سنه. وواصل إخباري بالتدريج أنه يشبهه في الوجه واليدين وكتلة الشعر المتدلية على الجبهة والعينين الواسعتين وفي خجله والطريقة التي يقرأ فيها قصة في مجلةٍ، وفي حركة رأسه وطريقة إرجاعه لشعره إلى الخلف وتردده في حركاته. كان التشابه دقيقاً ما جعله يضحك بصوت مرتفع. وعندما نزل الولد في شارع آرين نزل هو أيضاً تاركاً صديقاً له ينتظره في مونت باريس. وليعثر على سبب للتحدث مع الولد طلب منه أنه يدله على أحد الشوارع. ودون أن يستغرب الأمر سمع الجواب بصوت كان فيما مضى صوته. كان الولد متجهاً إلى الشارع نفسه. مشيا مع بعضهما بخجلٍ لعدة فراسخ. جاءه نوعٌ من الكشف يختلف عما يصبح عليه من تشوشٍ أثناء سرده من جديد.
ولجعل القصة الطويلة قصيرة. ابتكر طريقةً للعثور على مسكن الولد. وبما أنه اشتغل سابقاً رئيساً للكشافة تدبَّر أمره للدخول إلى قلعة القلاع: البيت الفرنسي.
وجد البؤس مخيِّماً، وأمَّاً تبدو أكثر شيخوخة مما ينبغي أن تكون عليه، وعماً متقاعداً وقطتين. بعد ذلك، لم يكن الأمر صعباً، ذلك أن شقيقه عهد إليه بابنه الذي يبلغ عمره أربعة عشر عاماً فأصبح الولدان صديقين. كان يذهب إلى بيت لوك كل أسبوع، وكانت الأم تقدم له القهوة الساخنة. تحدثوا عن الحرب والاحتلال وعن لوك، وما بدأ كشفاً واضحاً صريحاً تطور مثل نظرية في الهندسة آخذاً شكل ما اعتاد الناس على تسميته بالمصير. علاوة على ذلك، يمكن أن يقال بكلمات واضحة: إن لوك كان هو ثانية. لا وجود للموت. نحن جميعاً خالدون.
الجميع خالدون أيها العجوز. لم يكن هناك أحد قادرٌ على إثبات ذلك. وكان يجب أن يحصل الأمر معي وفي الباص رقم 95. كان هناك اختلاف في الآلية، ارتدادٌ مزدوجٌ للزمن، أعني تشابكاً، إعادة تجسيد، تناسخاً، بشكل متزامن بدلاً من كونه متعاقباً. كان يجب ألا يولد لوك حتى أموت أنا. لست متضايقاً من الحدث الخيالي ألا وهو الالتقاء به في حافلة. أظن أنني قلت لك هذا سابقاً. كان نوعاً من التأكيد المطلق ولم يحتج الأمر إلى كلام. كان هذا ما كان عليه وكان هذا نهاية الأمر. وبدأت الشكوك فيما بعد. لأنه في قضية كهذه إما أن تظن أنك معتوه وإما أن تتناول المهدئات. أما بالنسبة للشكوك فإنك تقتلها واحداً بعد الآخر، والبراهين التي تؤكد أنك لست مختلاً تظل تفرض حضورها. وما جعل أولئك المغفلين يضحكون بصخبٍ هو أنني أخبرتهم عن الأمر. حسناً! سأخبرك الآن.
لوك لم يكن مثلي في وقت آخر، كان في طريقه ليصبح مثلي، مثل ابن العاهرة البائس الذي يتحدث إليك. كان عليك فقط أن تراقبه وهو يلعب. راقبه فقط. كان دائماً يسقط ويؤذي نفسه، يلوي رجله أو يخلع ترقوته ويصاب بطفح جلدي، وعندما يطلب شيئاً يتعلق بلوك الذي يجلس هناك مستاءً: حكايات لا تصدق. . . عن ضرسه الأول. الرسومات التي رسمها عندما كان في الثامنة من عمره. . الأمراض. . كانت السيدة الجليلة تحب الثرثرة. لم تشك بأي شيء وهذا مؤكد. كان العم يلعب معي الشطرنج. كنت وكأنني أحد أفراد الأسرة، أقرضهم المال حتى يصمدوا إلى نهاية الشهر. لا! كان سهلاً معرفة سيرة لوك عن طريق طرح الأسئلة أثناء المناقشات التي كانت مثار اهتمام الكبار في البيت كمرض العم بالروماتيزم والسياسة وفساد البواب، وهلمجرا.
وهكذا، بين تعرض شاهي للخطر من قبل فيله والأحاديث الجادة عن أسعار اللحوم عرفت ما أريده عن طفولة لوك. واجتمعت الأدلة في برهان لا يدحض. أريدك أن تفهمني. دعنا نطلب كأساً أخرى. لوك كان أنا، ما كنت عليه وأنا طفلٌ. لكن لا تفكر به كنسخة كاملة، كان يشبهني وحسب. أفهمت؟
عندما كنت في السابعة انخلع رسغي أما لوك فقد انخلعت ترقوته، في سن العاشرة أصبت بالحصبة الجرمانية أما هو فأصيب بالحصبة القرمزية. استمرت الحالة معي أسبوعين. تحسنت صحة لوك خلال خمسة أيام. حسناً! والسبب كما تعلم راجع إلى تقدم العلم. . إلخ.
كان الأمر كله تكراراً. ولأعطيك مثلاً يوضح الأمر: إن الخباز الموجود في الزاوية هو إعادة تجسيد لنابليون، فقد انتقلت روح نابليون إلى بدنه. لكنه يجهل ذلك لأن النموذج لم يتغير. أعني أنه لن يتمكن أبداً من مقابلة المادة الحقيقية في حافلة. لكنه إذا فهم الحقيقة، بطريقة أو بأخرى، سيكون قادراً أن يفهم أنه تكرار له، وما زال يكرر نابليون، وأن الانتقال من كونه غاسل صحون إلى صاحب مخبز لا بأس به في مونت باريس هو كالقفز من كورسيكا إلى عرش فرنسا، وأنه إذا نقب بانتباه في قصة حياته سيكتشف لحظات تتشابه مع الحملة على مصر، ومع حكومة القناصل، ومع معركة أوسترليتز، ويمكن حتى أن يحدس أن شيئاً ما سيحصل لمخبزه بعد عدة سنوات، وسوف ينتهي به الأمر إلى جزيرة القديسة هيلانة، أو قل إلى غرفة مؤثثة، في مبنى من ستة طوابق، هزيمة كبيرة، لا؟ ومحاطاً بحياة العزلة أيضاً ما يزال فخوراً بمخبزه الذي كان (مثل طيران النسور). أعتقد أنك فهمت؟
- حسناً! فهمت! إلا أنني خمنت أننا جميعاً نصاب بأمراض الطفولة في الوقت نفسه تقريباً ونكسر جميعاً عضواً من أعضائنا أثناء لعب الكرة.
- أعرف ذلك. لم أذكر أي شيءٍ عدا المصادفات الاعتيادية المعروفة جيداً. ليس مهماً أن لوك بدا مثلي. حتى لو خدعتك عملية الكشف في الحافلة. ما يهم هو تعاقب الأحداث التي يصعب شرحها. لأنه يتضمن الشخصية، وتذكراً غير دقيق، وأساطير الطفولة. في ذلك الوقت، عندما كنت في سن لوك، مررت في أوقات بالغة السوء بدأت بمرضٍ طويل الأمد، بعد ذلك، وفي منتصف فترة النقاهة كسرت ذراعي وأنا ألعب مع بعض الأصدقاء، وحالما شفيت من ذلك وقعت في غرام شقيقة زميلي في المدرسة. ويا إلهي! كان الأمر مؤلماً! مثلما لا تقدر على النظر في عيني فتاة وهي تسخر منك. أصيب لوك بالمرض أيضاً. وحالما بدأ يتحسن أخذوه إلى السيرك فسقط وانخلع كعبه. وكشخص كتب عليه أن يكون مؤيداً للشيطان لاحظت أن الحب الطفولي المغرور ملازمٌ للكدمات والأعضاء المكسورة وذات الجنب. غير أنه كان علي أن أعترف أن قضية الطائرة كانت مختلفة، إذ أهديت إليه طائرة مروحية بمناسبة عيد ميلاده. عندما أهديتها إليه تذكرت المنصب الذي أهدتني إياه أمي عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري. وما حدث بعدها: خرجت إلى الحديقة رغم أن عاصفة صيفية كانت على وشك الهبوب، وبدأ الرعد بالصهيل، وشرعت بنصب هيكل على المنصب تحت الشجرة قرب البوابة المؤدية إلى الشارع. ناداني أحدهم من المنزل فدخلت لمدة دقيقة. عندما رجعت كان المنصب والصندوق قد اختفيا والبوابة مفتوحة على آخرها. ركضت في الشارع وأنا أصرخ بيأس فلم ألمح أحداً، وفي اللحظة نفسها ضرب سهمٌ من البرق المنزل الواقع في الجانب الآخر من الشارع. حدث هذا بشكل مفاجئ وكنت أسترجعه عندما أحضر لوك طائرته وحدق بها بالسعادة نفسها التي كانت تغمرني عندما كنت أنظر إلى المنصب. قدمت لي الأم فنجان قهوة وكنا نتبادل الجمل ذاتها عندما سمعنا صراخاً. ركض لوك إلى النافذة وكأنه سيرمي نفسه منها. شرح لنا بوجهه الشاحب وعينيه الدامعتين أن الطائرة انحرفت عن مسارها وخرج من الفراغ الصغير للنافذة المفتوحة قليلاً. وراح يردد: لن نعثر عليها ثانيةً. كان ما يزال يبكي عندما سمعنا صيحةً من الأسفل، وكان عمه يركض ليخبرنا أن حريقاً شبَّ في بيتٍ يقع في الطرف الآخر من الشارع. أفهمت الآن؟ نعم! من الأفضل أن نطلب كأساً أخرى.
لم أقل شيئاً، تابع الرجل. كان قد بدأ يفكر بلوك، وتحديداً بمصيره، ذلك أن والدته قررت إرساله إلى مدرسةٍ مهنية بحيث ينفتح أمامه طريق الحياة، وهو لا يقدر على التفوه بكلمة واحدة فقد يظنوا أنه مجنون ويبعدونه عن لوك، يستطيع أن يخبر العم والأم أن لا فائدة من الأمر لأن النتيجة ستكون نفسها، ستكون إذلالاً وروتيناً قاتلاً وسنوات رتابة ومصائب فاجعة وسينتهي الأمر نهايةً مؤلمة في حانة رخيصة. إلا أن مصير لوك لم يكن أسوأ ما في الأمر، ما كان الأسوأ هو أن لوك سيموت بدوره ويعيش رجلٌ آخر نموذجه ونماذج لوك حتى يموت ويأتي رجل آخر ويدخل العجلة. وتقريباً أوضح أن لوك لم يكن مهماً بالنسبة إليه. إذ راح يفكر بمن سيأتي بعد ذلك اللوك الآخر، بآخرين ستكون أسماؤهم روبرت أو كلود أو ميخائيل بنظرية استمرار بلا نهاية من الشياطين المسكينة تكرر النماذج دون معرفتها مقتنعةً بحرية إرادتها وخيارها. كان الرجل يبكي فوق بيرته التي ستصبح نبيذاً في هذه الحالة، ماذا تستطيع أن تفعل حيال ذلك. لا شيء.
ضحكوا عليَّ عندما أخبرتهم أن لوك توفي منذ بضعة شهور. إنهم أغبياء جداً ولا يفهمون. . . آه. . والآن لا تنظر إليّ هكذا. . لقد توفي منذ بضعة شهور. بدأ الأمر بالتهاب شعبي وفي السن نفسها أصبت بالتهاب في الكبد. نقلوني إلى المستشفى. أصرت والدة لوك على إبقائه في المنزل لتتولى العناية به. كنت أذهب إليه كل يوم آخذاً معي ابن أخي ليلعب معه. كانت زيارتي نوعاً من العزاء لذلك المنزل البائس. كنت أشتري لهم السمك المجفف والفطائر الدمشقية. وعندما ذكرت أن هناك صيدلية تبيعني الأدوية بسعر مخفّض صرت أشتري الدواء. وانتهى الأمر بأن جعلوني ممرض لوك. يمكنك أن تتصور الأمر في حالة كهذه، حيث يأتي الطبيب ويذهب دون اهتمام خاص، ولا أحد ينتبه إذا كانت الأعراض الأخيرة لها علاقة بالتشخيص الأول. لماذا تنظر إليَّ بهذه الطريقة؟ هل قلت شيئاً مغلوطاً؟
لم يقل شيئاً مغلوطاً وهو تحت التأثير المدمّر للخمرة. بدا من موت لوك وكأنه يبرهن أن أي شخص يمتلك قليلاً من الخيال يمكنه أن يلفق حكاية خيالية تحدث في الحافلة رقم 95 وتنتهي في فراشٍ حيث يموت طفل بهدوء. قلت له كلا ليهدأ. وحدَّق في الفراغ برهة قبل أن يستأنف القصة.
حسناً كما تشاء. والحقيقة أنه في الأسابيع التي تلت الجنازة، وللمرة الأولى شعرت بشيء قد يؤدي إلى السعادة. بقيت أواظب على زيارة والدة لوك وتقديم الكعك المحلى، إلا أن المنزل وسكانه فقدا معناهما بالنسبة لي. قيدتني حقيقة أنني الفاني الأول، أن حياتي تندثر يوماً وراء يوم وكأساً بعد كأس، وأنها ستنتهي أخيراً في مكانٍ ما أو آخر وفي وقت ما أو آخر مكررة إلى النهاية مصير رجل ما مجهولٍ ميت. لا أحد يعرف من ومتى غيري، وأنني سأموت فعلاً، وما من لوك ليدخل العجلة ويكرر بغباء حياةً غبية. أفهمْتَ مغزى ذلك أيها العجوز؟ احسدني على هذه السعادة أثناء استمرارها.
وكما هو واضحٌ لم تستمر. هذا ما برهنت عليه الحانة والخمرة الرخيصة والعينان المشعتان بحمى ليست من الجسد. ورغم ذلك كله عاش عدة شهور يستمتع بكل لحظة من الطاقة اليومية لحياته، نهاية زواجه، تدمير خمسين سنة من عمره، متأكداً من فنائه غير القابل للتجنب. ف
في ظهر أحد الأيام، وفيما كان يعبر حدائق لوكسمبورغ شاهد وردةً. كانت وردة صفراء متألقة. توقفتُ لأشعل سيجارة. ونظرتُ إليها بذهول. كانت صغيرة. بدت وكأنها تنظر إلي أيضاً. أنت تعرف تلك الاتصالات التي تتم. . . تعرف ما أتحدث عنه. الجميع يشعرون بذلك، ما يدعونه بالجمال. هذا ما كان الأمر. كانت الوردة جميلة. جداً. وأنا، محكومٌ عليَّ بالهلاك الأبدي. يوما ما سأموت وإلى الأبد. كانت الوردة جميلة وسيكون هناك دائماً وردة للناس في المستقبل. لم أفهم شيئاً. أعني اللاشيء، لا شيء. ظننت أنه الهدوء. كان ذلك نهاية السلسلة. سأموت وسابقاً مات لوك. لن يكون هناك أبداً وردة لأي شخص مثلنا. لن يكون هناك أي شيء إطلاقاً. وهذا ما كان هو اللاشيء، لن تكون هناك وردة ثانية. أحرق عود الثقاب المشتعل أصابعي وآلمني. وفي الحي التالي قفزت إلى حافلة لا أعرف إلى أين تتجه ولم أسأل إلى أين. وبغباء رحت أحدق حولي، ناظراً إلى كل شيء، إلى أي شخصٍ أستطيع رؤيته في الشارع، إلى جميع من في الحافلة. وعندما وصلنا إلى نهاية الخط نزلت وصعدت إلى حافلة أخرى متوجهة إلى الضواحي. وطوال فترة بعد الظهر حتى حلول الليل كنت أبدّل الحافلات وأنا أفكر بالوردة وبلوك باحثاً بين المسافرين عن شخص يشبهني أو يشبهه، شخص ما يمكن أن يكونني ثانيةً، أقدر أن أرى فيه نفسي، أنه كان أنا، وبعد ذلك أدعه يذهب، يتصرف دون أن أقول أي شيء، أحميه بحيث يذهب ويعيش حياته الغبية المسكينة، حياته الناقصة المعتوهة، حتى تأتي حياة ناقصة معتوهة أخرى، حتى تأتي حياة ناقصة معتوهة أخرى. . حتى. . .
ودفعت الحساب.
[ترجمة أسامة إسبر عن، Great Short Stories of the World].