مجموعة شعرية جديدة للشاعر والمترجم والفوتوغرافي أسامة إسبر.
عن دار "خطوط وظلال" في الأردن صدر ديوان جديد للشاعر والمترجم والفوتوغرافي السوري أسامة إسبر بعنوان "وقال لي جسدي"، وهو ثالث ديوان يصدر له عن الدار نفسها، فقد سبق أن صدر له "على طرقي البحرية" (٢٠٢٠) و"على ضفة نهر الأشياء" (٢٠٢١). ينقسم ديوان "وقال لي جسدي" الذي صدر في قطع متوسط من ٢١٩ صفحة وبغلاف للفنان الأردني محمد العامري إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول وهو المتن، يندرج تحت عنوان "وقال لي جسدي"، حيث يستخدم الشاعر العبارة النفّريّة "وقال لي"، والتي يبدأ فيها المتصوف الكبير محمد بن عبد الجبار النفري نصوصه الصوفية في "كتاب المواقف والمخاطبات"، غير أن هذا العبارة تُوظف في ديوان "وقال لي جسدي" كي تحيل إلى الجسد في بعده الأرضي، كمصدر للقول وللإشارة إلى السياق الأوسع الذي يعيش فيه، وكذلك الإكراهات والقيود والضغوط والقمع بكافة أشكاله، ما يعني أن هذا القول هو إلقاء للضوء على واقع نعيشه، ونحاول أن نغيره. أما القسم الثاني والذي يندرج تحت عنوان "ما قاله آخرون" فهو إصغاء إلى ما يقوله آخرون كالمهاجر والسجين السياسي والدرويش الجوال، والعاجز والمريض والضحية، والعاشق، وغيرهم، وفي القسم الثالث الذي جاء بعنوان "ما قالته الأشياء" إصغاء إلى ما تقوله أشياء كالشمعة والنافذة والمطر والشجرة. ورغم أن القصائد موزعة على ثلاثة أقسام وبعناوين مختلفة إلا أن هناك خيطاً يربطها، وهو خيط القول والإصغاء، ما يحول الديوان إلى قصيدة واحدة رغم تفرقها وتناثرها تحت عناوين مختلفة.
ثمة محاولة في الديوان لربط الجسد شعرياً ببعده الأرضي وفتح اللغة الصوفية على التفاصيل اليومية وعلى ما يمليه الواقع، الذي تحيل إليه القصائد، أي أن المرجعية هي مرجعية في الآن وهنا، حيث الذات في كل تقلباتها وطبقاتها التي تشكل ما يسمى الجسد كبنية ثقافية وشعورية ومادية، أي الجسد كأفق لوجودنا الأرضي.
هذا وقد صدر للشاعر عن الدار نفسها بالإضافة إلى هذه الدواوين مجموعة من الكتب المترجمة عن الإنجليزية، ومنها "سلطة اللسان"، لشيموس هيني، "الحرية الأولى والأخيرة" لجودو كريشنا مورتي، رواية "كندا" للروائي الأمريكي ريتشارد فورد، وديوان "قصائد شيكاغو" للشاعر الأمريكي كارل ساندبرغ، ويصدر قريباً "على شاطئ النار"، وهو أنطولوجيا شاملة من ٤٠٠ صفحة تضم منتخبات شعرية لشعراء ينحدرون من الأمم الأصلية للولايات المتحدة الأمريكية، وهي تهدف للتعريف بشعرهم في مختلف تياراته وتوجهاته.
مختارات من ديوان "وقال لي جسدي"
هجر
وقال لي:
اهجرْ طاولتك،
ارمِ أوراقك وأقلامك،
وأصْغ إلى قدميك
وهما تجتازان العتبة.
وقال لي:
لا جهةَ لك،
هذا هو المعنى.
وقال لي:
سرْ لمجرد السير،
لا تفكّر بالمحطات،
المحطات للآلة
وجسدك ليس آلةً.
وقال لي:
يا سهماً مندفعاً في الفراغ،
يا إيقاعاً ضائعاً لا تعثر عليه الموسيقى،
يا جناحاً يخفق في النبض،
ما أجملك منطلقاً دون هدف.
المنفى
وقال لي:
لا حياةَ إلا في المنفى.
وقال لي:
ليسَ المنفى دوماً أن تعبرَ الحدود.
وقال لي:
انظرْ إلى المنفيين
أبوابُهم مفتوحة،
نوافذهم مفتوحة،
قلوبُهم مفتوحة،
ولا يعيشون في ظلّ الأسوار.
وقال لي:
لا تولد الكلمة
إلا تحتَ قبّة المنفى.
وقال لي:
إذا لم تَكن منفياً
تموت في الحياة.
نمو
وقال لي:
لا تتوقّع أيَّ شيء،
لا ترسم صورةً في ذهنك.
وقال لي:
اترك الذرات تتشكّل
وتَعْبر على هواها،
فأنت منها وهي منك.
وقال لي:
ما ينمو يخترق،
لا يفرض نفسه،
يعلو غير مبالٍ بالسقوط.
وقال لي:
في السقوط علوٌّ.
وقال لي:
جسدكَ ذراتٌ ينفي بعضها بعضاً.
وقال لي:
صمتك على قتل الآخر،
اعترافٌ بأنك مقتول.
وقال لي:
صمتك على دم أخيك
استهتارٌ بدمك.
ألا ترى دمه ينزف
وحائطه يُهدَّم؟
وقال لي:
يحقنونك بإبر الشعارات والأكاذيب
كي يوهموك بأنك حيّ.
وقال لي:
دمك ليس لكَ،
دمك لهم،
اعملْ كي يكون دمك لك.
همس اللامرئي
وقال لي:
المسْ كلماتها
كما تلمس بشرتَها،
قَبِّلْ كلماتها
كما تُقَبِّل شفتيها،
ضمّ كلماتها
كما تضمّ جسدها،
ألا تسمع هَمْس اللامرئيّ
من فم العاشقة؟
كنْ
وقال لي:
كنْ شيئاً،
كن وجهاً،
أمامَ ممحاة الملامح،
عشْ لحظة تحدٍّ.
في هـذا الشرر تنهض حياتك،
وتعبرُ،
لا كشهابٍ،
بل كثمرةٍ.
كن شيئاً
كن وجهاً
أمام ممحاة الملامح.
هَيّىء نفسك
كي تولد دوماً
في قلمٍ مبريٍّ
في دواةٍ
في وردةٍ
في نسمةٍ
في لهب شمعةٍ
في قبلةٍ
في عناقٍ
في لحنٍ
في قصيدةٍ
في نفحة عطرٍ
في ضوء ثملٍ بنفسه
في موجة متكسّرةٍ
على شاطئ البدايات.
كن شيئاً
كن وجهاً
كن نفسك،
مُتحولِّاً،
ضمن نفسك،
ثقْ بأنك ستولد في مكانٍ ما
حتى وأنت تُطْبقُ جفنيكَ على ظلامٍ.
الوطن
وقال لي:
الوطن قبورٌ،
خيام عزاءٍ،
خيام لجوءٍ،
أسوارٌ تعلو
وأراك كالتائه.
وقال لي:
من كثرة ما دُفنتْ جثثٌ
ضجّ باطنُ الأرض.
وقال لي:
صوتُ الرصاص يظلّ أقوى الأصوات
ما دمتَ تصغي لمن لا يتكلمون.
لا شيء ينتهي
وقال لي:
كلا، ليس كل شيء زبداً.
وقال لي:
لا شيء ينتهي
كل شيء يبدأ
والعبرةُ في الموج.
وقال لي:
صمتكَ بيتُ الزبد
وكلامكَ بابهُ.
قمْ غادر هذا البيت
ولا تقم في نفسكَ
إلا حين تخرج منها.
وقال لي:
حين أرى جسدك يتموّج
مندفعاً إلى شواطىء نفسه
لن أكترثَ إذا رأيتك زبداً.
تفتّح
وقال لي:
افتح ذراعيكَ كالأفق
واجعل صدرك برحابة المحيط.
وقال لي:
لا تسْقِ حديقةَ كلماتك
بماء الكراهية.
وقال لي:
لا تصنع صورةً للآخر.
وقال لي:
أصْغ للآخر وانظر إليه
كأنه زهرة تتفتّح أمام عينيك.
وقال لي:
لا تكترث إلا بهذا التفتّح.