أبدأ بقصة "الهاربان" أبهى القصص وأغناها في مجموعة "قبل أن تبرد القهوة" (إصدار دار الساقي 2016، للقاص والروائيّ رامي طويل)، وذلك لأسلوبها الحداثيّ الفنتازيّ المتفرّد بين القصص ذات الطابع التقليدي. وفيها، يهرب الروائيّ إلى قريته، رفقة بطل روايته، من المدينة الصاخبة، والضاجّة باللّا أمان بسبب أصوات الحرب، في الصراع على السلطة بين النظام والمعارضة. بالاقتراب من القرية، بدا بطل الرواية سعيداً مأخوذاً بسحر الطبيعة وجبالها المكسوّة بالثلوج، ومتصالحاً مع ذاته، فهو مصاب بالفصام، ولن يتسبّب بإزعاج الآخر الذي يسكنه/ قرينه خلال إقامته في القرية، كما تعهّد لكاتبه قبل السفر، "وأدرك الآن أنّ شخصيّتيه متفقتان في هذه اللحظة على أنّ ما تشاهدانه هو صورة مجسّدة للسلام الذي تنشدانه". ولاحقاً، سيتمنّى أن تطول الإقامة في القرية لتطول الهدنة بين شخصيّتيه المتناحرتين. بينما أحسّ الكاتب بالاستياء والخوف من الأخبار التي تبثّها الإذاعة المحليّة في الحافلة، فالمسلحون على بعد عشرة كيلومترات عن قريته، وهو الهارب إلى أمانها وهدوئها لإكمال روايته. وما زاد من خوفه، قبل دخول القرية، تحذير عنصر الحاجز له ولصاحبه/ بطل روايته بألّا يغادرا البيت لخطورة الوضع.
في القرية، يلازم القلق الكاتب، بينما ينعم بطل الرواية بالسلام الداخلي والسرور. وقد بات الكاتب خادماً له، يتركه على هواه، ويجهّز له طيّب الطعام الممنوع عليه هو الكاتب، لخضوعه لحمية طبيّة. يفعل ذلك، لأنّه يخشى استفزاز بطله فيغادره، ويتركه وحيداً وسط خوفه المتنامي. حتّى أنّه قال له: "أريدك أن تكون بمثابة درع لي إذا ما وصل المسلّحون إلى القرية، فتخرج إليهم ليتلهّوا بك ريثما ألوذ بالفرار". يضحك البطل لتخيّله سخرية المسلّحين منه قبل قتله، ولرؤيته قرينه صريعاً، فيرتاح منه. يلمّح رامي إلى أنّ الشخصيّة الروائيّة تسهم في تحديد سيرورتها ومصيرها، رغماً عن كاتبها.
بطل الرواية مولع بقراءة الكتب عامّة، والمعنيّة بعلم النفس وبمرضه بشكل خاص، فيفرح باكتشاف مكتبة الكاتب وينغمس في قراءة كتبها، وأهمّها لديه الخاصّة بالفصام. بينما ينجز الكاتب فصلاً كاملاً من روايته يخصّ التسعة أشهر التي قضاها بطله في المعتقل. يسأله الكاتب عن سبب تعريض نفسه للخطر بحماقة، فيجيبه أنّه ليس هو من كان يوزّع المنشورات السريّة علناً، بل الآخر الذي يكرهه، وحكى له عن آلام التعذيب التي تعرّض لها، وعن ضحكه وتلذّذه برؤية قرينه يتعذّب، وعن استفزاز جلّاده بشدّة! ذات يوم يصطحب الكاتب بطله في نزهة جبليّة يرافقهما فيها الكلب الأجرب، سالكاً الطرق الجنوبيّة لأنّها أكثر أماناً! وبعد قضاء نهار ممتع، ومسير لمسافات طويلة، يشعر الكاتب بالخوف، ويقرّر العودة. في الطريق، يباغته ظهور رجل عجوز، فيتوجّس منه، يطمئنه بطله لوجود الكلب الذي سيردع عنه أذى العجوز المحتمل. يتبيّن أنّ العجوز بائع لأوراق اليانصيب، فيُدهش البطل غير مقتنع لوجوده في هذا المكان القفر. يشتري الكاتب، بعناية وابتسام، ثلاث ورقات يانصيب. ويظلّ البطلُ متوجّساً، ويتسمّر واقفاً ينظر إلى العجوز الذي تابع طريقه. وما هي إلّا لحظات، حتى انطلق رصاص أردى بالكاتب. وبعد حلول الصمت، يجرّؤ البطل على الزحف فوق الثلج مذعوراً، ليرى أوراقاً تتطاير من حوله، ثمّ جثّة الكاتب، وعلى طرف جيبه علقت أوراق اليانصيب الثلاثة محروقة ومصبوغة بالأحمر، ثمّ حقيبته وقد انفتحت وتطايرت منها أوراق الرواية. ويترك القاصّ التخمين للقارئ في أن يكون للعجوز دور في القتل. تخاتل هذه القصّة القارئ وتمتعه بما تبطنه في غورها، وبما تثيره من الأسئلة والاكتشافات الغنيّة الماتعة. يتساءل القارئ حول حقيقة شخصيّة بطل الرواية، إن كان فعلاً بطل الرواية وحسب؟ أم أنّه قرين الكاتب نفسه، والكاتب مصاب بالفصام هو الآخر؟ وإلّا لماذا جعل القاصّ عنصر الحاجز يرى بطل الرواية إلى جانب الكاتب، ويخاطبهما معاً؟ في حين أنّ البطل هو شخصيّة روائيّة تسكن مخيّلة الكاتب، أو هي وهميّة لا يراها غير المصاب بالفصام الذي يعتقد أن الآخرين يرونها مثله! كما أنّ الفصاميّ، في ارتكابه المحظورات ينسبها إلى قرينه، مثلما فعل بطل الرواية في توزيعه المنشورات السريّة على العلن، وأيضاً، مثل تحضير الكاتب طعاماً يضرّ بحميته الطبيّة، زاعماً أنّه يطبخه لبطل روايته! ثمّ أليس الكاتب هو نفسه من يقرأ الكتب، وبوجه خاص، الكتب المعنيّة بمرض شخصيّته الروائيّة، لإجادة بنائها؟ كما أنّ الفصاميّ ذو شخصيّتن متناقضتين، إحداهما تكون مسترخية تفعل ما تشاء وتتحكّم بالأخرى، مثل حالة بطل الرواية والكاتب خادمه! وتلك تتشاجر مع هذه، وتتمنى الموت لها للخلاص منها كما يشعر بطل الرواية تجاه قرينه! إنّما، في النهاية، يباغتنا القاصّ بمقتل الكاتب، وعلى مرأى من شخصيّة بطل روايته المذعور. فهل سنقتنع تماماً بأنّ لا فصام لدى الكاتب، لعدم ظهور نوايا سيّئة لدى البطل تجاه كاتبه/قرينه المحتمل؟ أم هو التماهي بين الكاتب وشخصيّته وحسب؟! ومن النافل ذكر ما يعنيه تركيز القصّة على الطبيعة بسحرها وهدوئها إزاء فظاعة الحرب المدمّرة! قصّة لا تسلّم نفسها بسهولة لقارئها، وتستفزّه لإعادة قراءتها راغباً، وفتح طيّاتها بالأسئلة، يغمره بالشكّ الذي سيطال حتّى أسلوب القصّة السرديّ! أهو الفنتازيّ فعلاً؟ أم الواقعي التقليديّ، لحكاية كاتب مصاب بالفصام يبحث عن ملاذ آمن ليكتب روايته، وسط فضاء الحرب المرعب! كما تدفعه للتأمّل بما تلمّح إليه، مثل، تلميحها لحال البلاد التي أطبقت عليها قاطبة شرور الحرب، فلا مكان آمن، ولا نجاة لأحد، أو لشيء، حتّى للمقدّس الرقم ثلاثة، في بعض المعتقدات الموروثة والميثولوجيا! المتمثّل هنا في عدد أوراق اليانصيب التي اشتراها الكاتب. ومثل، إشارتها إلى ما تعنيه الكتابة للكاتب بطل القصّة، فهي ملاذه وسط هذا الدمار والموت، وسنده الآمن والأمين؛ الدرع الواقي من الحرب؛ الخلق بمواجهة الموت، والخلود وسط الفناء، فقد مات الكاتب وبقي بطل روايته حيّاً! ليترك رامي طويل قارئه يتأرجح بين الشكّ والتأمّل الممتعين.
يتكرّر موضوع الحرب السوريّة في القصص، وفيها يتنوّع التقاط الزوايا القصصيّة التي تتّسم بالجدّة في أغلبها. فمثلاً في القصّة المؤسية الجميلة "عيون مغمضة"، رجل أربعينيّ يتدرّب على الذهاب إلى عمله مغمض العينين، قبل أن تُفقده الحرب بصره فتطاله البطالة، فالحرب: "لا توفّر أحداً، ولم يعد ثمّة حقيقة في البلاد سوى مشاهد الموت ورائحته". ولتحقيق ذلك، يعتمد لعبة كان يمارسها في طفولته باستمتاع، وهي الذهاب إلى المدرسة مغمض العينين لاختصار ملل الطريق الطويلة. لكنْ، لا استمتاع في الحرب. في طفولته كان يحفظ الطريق برسم خارطة لها في مخيّلته بمعالم محدّدة تعنيه، واليوم، بينما يصغي إلى أخبار الاشتباكات المتواصلة وأعداد القتلى، يفكّر أنّه سيبدأ منذ الغد بالذهاب إلى عمله مغمضاً عينيه، رغم حاجته لركوب الحافلة، بعد رسمه خارطة للمكان في مخيّلته. في شروده لم ينتبه إلى ما تعلنه الإذاعة عن هجوم مسلّح تتعرّض له بلدته، تقاومه قوّات من الجيش. ثمّ سمع دويّ انفجار قريب، تلاه أزيز رصاص وعويل، ليهرع راكضاً إلى الشارع غير القريب. وحين أمسك شابّ بذراعه لمساعدته في الصعود إلى الشاحنة التي ستقلّ الأهالي إلى المدينة الآمنة، انتبه إلى أنّه مغمض العينين، لكنّه لم يفتحهما حتّى وصل المدينة، فرآها تضجّ بالحياة. تتوقف الشاحنة بهم أمام مدرسة، ستكون مأواهم ريثما يعودون إلى بيوتهم. ويوم أعلن عن ذلك، سارع للعودة. غير أنّه قبل خروجه من القاعة المحتشدة بالنازحين، يتسمّر أمام الشاشة التي تعرض آثار الدمار المطبق على بلدته وحيّه بأهاليهما، فيخرج إلى شوارع المدينة، مغمض عينيه، يمشي على غير هدى، غير آبه بما يدور حوله، أو بعدد النازحين المتزايد يوميّاً، كمصاب بالإنكار يتابع المشي، رفقة خريطة مخيّلته، وفيها يمكث مع من يهمّه من معالمها وناسها، وقد أبقاهم أحياء يتابعون حياتهم اليوميّة! إذاً، العمى أفضل من رؤية هذا الدمار الشنيع! تبعًا لما تريد القصّة قوله في سردها العفويّ السلس، سرد لافت سيقت به أغلب قصص المجموعة.
في "الطريق إلى البيت" أطول القصص، يطالب الطفل أباه بالعودة إلى البيت، في شاحنة تقلّ نازحين خارج منطقتهم المنكوبة. فاليوم ستقام حفلة لعيد ميلاده الثامن بحضور خاله، وقالب الحلوى الذي ستصنعه أمّه له. لم يعرف أنّهما قُتلا صباح هذا اليوم. في الشاحنة، يتفحّص الطفل الصغار والكبار، ويصغي إلى أحاديث الموت وفقدان الأحبّة، والبكاء. قصص محزنة عديدة يرويها الركّاب، إلى أن توقّفت الشاحنة لنشوب معركة قريبة، ستطالها وتقضي على الركّاب جميعاً. لولا افتقار القصّة للإيجاز والتكثيف، لكان تأثيرها أشدّ في نفس القارئ. إنّما يسجّل للكاتب في هذه القصّة، وفي قصصه عامّة، تصويره للمشاهد بعدسة فنيّة نقيّة ودقيقة، واقتياده السرد بعفويّة وبلغة قصصيّة بسيطة وأنيقة، فصيحة وسليمة.
في قصّة "اللثغة" نلقى معلّماً يلثغ بحرف الراء، ويعاني بشدّة من سخرية التلاميذ، واستخفافهم به. تصوّره القصّة على أنّه ضعيف الشخصيّة، تفشل محاولاته لتجاوز مشكلة اللثغة لديه، فيؤثر الهروب من المدرسة! في هذه القصّة، أهمل القاصّ التبرير الفنّيّ أو الموضوعيّ لكتابته هذا الموضوع! فتصوير الحدث سطحيّ، لا عمق فيه، مجرّد تصوير ساخر لمعلّم مدرسة يلثغ بحرف الراء! لتعجز القصّة عن الإقناع، وتستدعي الاستغراب للسخرية من مصاب باللثغ! ولا بدّ أنّ الكاتب يعرف أنّ اللثغ علّة خلْقيّة وليست أخلاقيّة! وفي قصّة "روماتيزم" خلل فنّيّ في خاتمتها، بدّد وحدة الانطباع والتأثير لدى القارئ وأبهت ضحكته في النهاية، بعد استمتاعه بالسرد الجميل لحكاية طريفة تحدث مع الجدّة وحفيدتها. لتأتي الخاتمة مباغتة ومفتعلة، أقحم فيها القاص ما لا يمتّ بصلة إلى موضوعها الأساسيّ، وسياقها السرديّ!
بينما تبرز الفنيّة في بقيّة القصص. فمثلاً، في القصّة الشفيفة "قبل أن تبرد القهوة" سرد أنيق ورقيق لحكاية حبّ، يصوّر عاشقاً ينتظر وصول حبيبته لشرب القهوة معاً. فتعرض ذاكرته بعضاً من سيرة علاقته بفتاته، التي بدأت ساعة اكتشافها لخيانة حبيبها السابق لها. ويتساءل باستمرار إن كانت ستصل قبل برود القهوة؟ والقهوة تبرد شيئاً فشيئاً. فهي كثيراً ما تتأخر عن مواعيدها، لكنّها كانت تصل بتبريراتها المضحكة، قبل أن تبرد؟ ليتساءل القارئ، أهي لعوب؟ أتحبّ عاشقها هذا فعلاً؟ هل ستأتي؟ والعاشق يخشى أن تبرد القهوة قبل وصولها. لكنّ القهوة بردت، وما يزال بانتظارها!
أمّا قصّة "منشور سرّيّ" الطفوليّة البديعة، المصاغة بتأنٍّ، ونضج فنّيّ، وسرد جاذب يعجّ بما يستدعي الاكتشاف. وفيها رسم القاصّ شخصية الطفل بمهارة تبقيه طويلاً في ذاكرة القارئ. فيحكي بعذوبة سرديّة عن الطفل فريد، ولاسمه هذا دلالته. في البداية، سنعرف أنّ فريداً طفل حالم يحبّ اللون الأزرق، من خلال التقاطه لقصاصات ورقيّة ملوّنة تلقيها هيلوكبتر في سماء الحيّ، فأكثر ما اختاره من بينها الزرقاء. وأنّه قويّ مندفع وطموح، فهو الوحيد بين الأطفال الذي تسلّق عمود الكهرباء للحصول على أكبر صرّة حلوى علقت عليه، ألقتها الهيلوكبتر. وهو منظّم وأنيق، في البيت، يرتّب البطاقات ويقرأ عليها عبارات غامضة، مثل: (العيد الذهبيّ، كلّ عام وأنتم بخير)، (معاً نحو مزيد من التطوّر والتقدّم برعاية حزبنا المجيد). ليلمّح القاصّ إلى تلقين الأطفال ما لا يدركونه لأنّه بعيد كلّ البعد عن اهتماماتهم وتفكيرهم وهواجسهم! كما أنّه يقرن الحلم بالعلم والمعرفة، عبر دسّ فريد البطاقات الزرقاء المتضرّرة في كتاب القراءة السميك لاستعادة رونقها. كما أنّه يشير إلى تكبيت الأطفال جنسيّاً، في أمر والد فريد له بأن يدير وجهه عن الشاشة التي تعرض تمثيليّة السهرة بالمناسبة الوطنيّة، ليمنعه من رؤية مشهد لقاء الفتاة الخرساء بالبطل الذي أنقذها من ظلم الإقطاعي. وثمّة تلميحاً آخر إلى ما يزعمه الحزب الحاكم، في تصويره حال البلاد قبل استلامه الحكم وبعده، من خلال تغيّر ألوان الشاشة بداية عرض التمثيليّة إلى اللونين الأبيض والأسود، لتعود في نهايتها إلى ألوانها الزاهية! ينجذب فريد إلى بطل التمثيليّة الشهم معلّم أطفال القرية، الشجاع المحارب للإقطاع وظلمهم. وما سيؤثّر فيه عميقاً وطويلاً، تعرّض البطل للضرب الشنيع والإهانة بتهمة خيانة الوطن، من قبل رجال الاستخبارات الذين كسروا قفل حقيبته ليظهر عدد كبير من صحيفة (البعث - العدد الأوّل)! تلميحاً إلى أنّ المثقّف يشكّل خطراً دائماً على السلطة. فصار فريد يشتري الصحيفة يوميّاً من مكتبة الحيّ مرتبكاً، يقرأها خفية، ثمّ يخبّئها حتّى عن عائلته، خشية تعرّضه لما تعرّض له بطل التمثيليّة! وثمّة أيضاً إشارة للمساواة بين الجنسين في الفكر الثوريّ، حيث للأنثى ما للذكر، وعليها ما عليه، تتجسّد في علاقة فريد بصديقته الأثيرة، وإعطائها البطاقات الملوّنة كلّها، وعدداً من الزرقاء، ثمّ يتشاركان في تناول قطع الحلوى من الصرّة. لكنّ للقصّة ديدنها الرئيس الخطير المتواري، وهو أنّ داخل الطفل فريد يبزغ ثوريّ مستقبليّ، وسط حصار السلطتين السياسيّة والأبويّة البطريركيّة، وسعيهما لتشويهه!
عوالم رامي طويل القصصيّة غنيّة، تزخر بالفن وبروح القصّ، ولعلّي بهذه الإطلالة أظهرت بعض ما يؤكّد ذلك.