عن الجسد والجندر والمخيم: اشتباكات بصرية وتقاطعات معرفية بين الأرض والسماء

[بعدسة كاتبة المقالة] [بعدسة كاتبة المقالة]

عن الجسد والجندر والمخيم: اشتباكات بصرية وتقاطعات معرفية بين الأرض والسماء

By : Namaa Qudah نماء القضاة

أحسست أن جسدي صغير وبأني أحتل مساحة أكبر مما يجب من فضاء الغرفة. رغبتُ بالاختباء، فكرت بالتواري تحت الطاولة الخشبية التي توسطت تلك القاعة الصغيرة وجميع من احتلها من أجساد وعيون تحدق بي.

أربع وعشرون عيناً بالتحديد، تراقبني وتتساءل ما الذي جئت من أجله. أربع وعشرون عيناً لاثني عشر ذكراً جلسوا أمامي على الطاولة المربعة منتظرين أن أباشر الكلام.

بحثت عن طرف الخيط لأبدأ الجلسة، عن بداية الجملة، كنت قد تدربت على ما أريد قوله ولكن الكلمات تناثرت في تلك المساحة الصغيرة التي وقفت بيني وبين رجال المخيم.

كنت هناك كباحثة أكاديمية في سنتي الثالثة من دراسة الدكتوراه في جامعة دلفت في هولندا، أقوم بجولتي الثالثة من من العمل الميداني الذي كنت أقوم فيه في مخيم الوحدات في عمّان/الأردن في صيف العام ٢٠٢١. انقسمت سنواتي الأكاديمية بين هولندا والأردن، حيث كنت أعود كل صيف إلى عمّان لأقوم بالعمل الميداني في مخيم الوحدات الذي تدور رسالة الدكتوراة في الهندسة المعمارية حوله.

تدرس رسالتي بالمجمل العلاقة الفراغية بين مخيم الوحدات ومدينة عمّان، والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت باتساع كل منهما باتجاه وداخل الآخر.

يتمحور البحث حول سؤال أين يقع المخيم؟ كوسيلة لفهم توسع المخيم وعمليات إنتاج فراغاته المختلفة وتطوره، من خلال دراسة حركة سكانه وطبيعة نشاطاتهم واختلاف تجاربهم اليومية باختلاف الجندر والعمر والجيل والتوجهات السياسية.

تاريخياً، تأسس مخيم الوحدات في العام ١٩٥٥ كرابع مخيم للاجئين الفلسطينيين في الأردن، بعد مخيم الزرقاء في العام ١٩٤٩ ومخيم إربد في العام ١٩٥٠ ومخيم جبل الحسين في العام ١٩٥٢. أسست وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) أربع مخيمات رسمية لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة ١٩٤٨ ومن بعدها ستة مخيمات للاجئين للفلسطينيين رسمية بعد نكسة ١٩٦٧، واستمرت الأونروا بالتعاون مع الحكومة الأردنية بتقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين من مؤن وخدمات صحية وتعليم منذ تأسيس هذه المخيمات إلى يومنا هذا، مع اختلاف طبيعة هذه الخدمات مع الوقت وتحولها من الإغاثة إلى التمكين، من خلال تقديم مشاريع الرعاية الاجتماعية والحماية والتمويل الصغير، مع الحفاظ على التعليم والرعاية الصحية، ووقف توزيع الحصص الغذائية في عام 1978.

بالعودة إلى تلك الغرفة، كنت في مخيم الوحدات في ذلك اليوم لعقد تلك الجلسة النقاشية مع أهالي المخيم، لأستمع إلى فئة الذكور من عمر ٢٠ وما فوق عن تجربة عيشهم في المخيم في شهر أغسطس/آب من العام ٢٠٢١.

أثناء تحضيري للجلسة، كنت أنا بموقع قوة، أسطّر ما شئت من أسئلة على تلك الورقة البيضاء التي احتوت ما يكفي من مساحة سمحت لي بأن أسأل وأتساءل. جئتهم كباحثة محملة بحقيبة أسئلة، جئت كباحثة، ولكن باحثة عن ماذا؟

ضاع مني الجواب في تلك اللحظات، حين انقلبت موازين القوى وشعرت بجسدي يهوي من السماء، بعد أن سُحبت العتبة الخشبية من تحت قدمي، وصرنا جميعاً واقفين على الأرض. أرض الواقع؟ أرض المخيم؟ 

تبادر إلى ذهني في تلك اللحظة مفهوم النظر من السماء بلا جسد، وهو مفهوم توسعت الأكاديمية دونا هاراوي بالكتابة عنه كجزء من انتقادها للموقع الذي يتقلده الباحثون أثناء دراستهم لظاهرة أو بيئة معينة. يموضع الباحث في تلك الحالة نفسه خارج الإطار الذي ينظر من خلاله، فيباعد بينه وبين موضوع بحثه كوسيلة للحفاظ على "موضوعيته" العلمية، بطريقة تنتج معرفة تدعي الحياد ولكنها في الواقع تثبت عكس ذلك.

دافعت هارواي عن عمليات إنتاج المعرفة التي سمتها بـ"المعرفة المتموضعة" أو "Situated Knowledge" وهي عمليات إنتاج معرفية لا تسعى للتعميم أو الحياد المطلق، بل تقترن هذه المعرفة بالتجارب المعيشة في مواقع معينة بكل ما تحمله من تناقضات وتعقيد واختلاف. لا يمكن إنتاج هذه المعرفة من خلال تبني منظور علوي بلا جسد، بل تعتمد المعرفة المتموضعة على تبني منظور من الجسد، لجسد واقف على الأرض وقريب من أرض الواقع.

في تلك الغرفة، في هذه المساحة صار كل منا ينظر إلى الآخر، ولم أعد أحاور الورقة البيضاء، بل صار على أسئلتي أن تقطع المسافة الفاصلة بيننا. مسافة تقاس بالأمتار، وفرق العمر، والتجربة الحياتية، والفروقات الجندرية.

مهما تعمقت في البحث عن المخيم وبنائه على مدى الثلاث سنوات الماضية خلال إعدادي لرسالة الدكتوراة، لن أمتلك من المعرفة ما يخولني بأن أدعي معرفته أمام أشخاص عاشوا وترعرعوا في بيوته وبين أزقته وتحت سمائه.

نعيش تحت نفس السماء في نفس المدينة، ولكني أعرف بأن سماء المخيم أوسع وأكثر ارتفاعاً، خصوصاً عندما تعانقها عيون هاربة من اكتظاظ البناء والبشر، فتجد في فسحتها مهرباً وملاذاً يسمح لها بأن تبحر وتسافر، من دون جوازات سفر ولا قيود ولا نقاط تفتيش.

حاولت أن أتمالك نفسي وأن أتغاضى عن كل التحديات التي حوّلت المسافة التي تفصل بيني وبين رجال المخيم لحلبة قفز حواجز. يلا، واحد، اثنان، ثلاثة.. بدأت المسرحية الأكاديمية.

تمحورت الأسئلة حول موضوع الجندرة المكانية: كيف تختلف تجربة العيش في المخيم والتنقل بين فراغاته باختلاف الجندر؟ ما لفتني في تلك الجلسة مع فئة الذكور كان استغرابهم من أسئلتي عن الجندر، لأنهم اعتادوا الحديث عن مواضيع أخرى عند الحديث عن المخيم، مواضيع تتعلق بتاريخ المخيم ورمزيته، بالإضافة لمواضيع أكثر حساسية توقعوا أن أسأل عنها وجهزوا أجوبة محايدة لها تفي بالغرض ولكنها لا تثير الجدل ولا تتعدى أي خطوط حمراء كنا جميعاً قد فهمنا حدودها وتعلمنا التحرك حولها دون المساس بها.

من ضمن الجلسة، سيطر ثلاثة من مخاتير المخيم على النقاش، حيث التزم البقية الصمت وأفسحوا المجال "لكبارية" المخيم بالحديث والانخراط بما يشبه الأداء المسرحي، تقاسم المخاتير فيه الحوار وخشبة المسرح.

لم يكن علي أن أسأل في كثير من الأحيان، حيث تحرك المخاتير بين المواضيع المختلفة بحرية تامة بينما وقفت هناك أحاول السيطرة على دفة الحوار وتوجيه النقاش باتجاه المواضيع التي جئت من أجلها.

في منتصف الحوار، رفع رجل ثلاثيني يده ليتحدث، ومن ثم عرّف عن نفسه بأنه من المركز الأمني، جاء ليشاركنا اللقاء "ليتأكد أن الأمور على ما يرام".

صار لتلك الخطوط الحمراء جسد واسم ووجه، جاء اليوم ليتأكد أن لا نحيد في الحديث عن المسموح به. أومأت رأسي بالإيجاب متظاهرة بأن شيئاً لم يحدث، مع أن جزءاً مني كان قد هوى على الأرض في تلك الأثناء، كأني قُبض علي متلبسة بجرم لم أستوعب ما هو.

بعد شد وجذب، تمكنت من الحصول على مجموعة من الإجابات بما يتعلق بالجندرة المكانية من وجهة نظر الذكور.

"إذا بدنا نتسلى، ما بنضل بالمخيم، بناخد تاكسي على أي مكان بعمّان وبنجتمع هناك، شو في نشاطات تنعمل هون أساساً؟" (طالب جامعي في العشرينات من عمره).

"في نسبة منيحة من الشباب بتحب تجتمع جوا مبنى النادي، في طاولة بلياردو وألعاب. بس طبعاً ما في بنات بفوتوا".
(طالب جامعي في العشرينات من العمر).

"حتى بالنسبة لشاب، في حارات مش آمنة بالليل، وفي شوارع بنتفاداها لإنه بنعرف مين سكانها وما بدنا مشاكل".
(موظف حكومي في الثلاثينات من العمر).

قبل هذه الجلسة، كنت قد عقدتُ أولى الجلسات مع مجموعة من إناث المخيم لأستمع لتجاربهن، إذ قررت أن أبدأ معهن لأنهن الأغلبية وأردت أن أعطيهن الأسبقية، وأتبنى منظورهن كنقطة مرجعية أنظر من خلالها وأبني معرفتي.

أؤمن بأن علاقتنا مع مدننا تختلف باختلاف جندرنا، وتختلف كذلك تجربة حركة أجسادنا في فضاءاتها. تحتكم هذه الاختلافات لمعايير كثيرة أخرى بالتأكيد، مثل العمر ومكان السكن والقدرة الجسدية والخلفية الاجتماعية والعرق وغيرها، فلا بد من التفكير بهذه التقاطعات عند أي محاولة لفهم علاقة الجندر مع المكان، أيّاً كان.

ما يميز المخيم هو أنه يختزل المدينة كلها، فتصير الأشياء فيه أكثر تركيزاً وصخباً، حيث تطوى مناطق كاملة في حيزه، وتتراكم التجارب في قاعه وتحت أسطحه.

في وصفه لمخيم الوحدات وطفولته فيها، كتب الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله في روايته طيور الحذر: "مر زمنٌ طويل، مرّ قبل أن يعرف: أن ليس بإمكانك رؤية الشيء على حقيقته وأنت بعيد عنه، ثم تعلم أن رؤيته من الخارج غير كافية لمعرفته أبداً".

في المخيم، وجدت بعد عقدي لمجموعة من الجلسات مع سكانه من الإناث والذكور، بأن التجارب المكانية مختلفة لدرجة تكاد أن تجعل من المخيم مخيمين، ومن نفس الشوارع والأزقة عوالم مختلفة لا تتقاطع.

 

[صورة ١: أزقة وشوارع المخيم/ الصورة من تصوير كاتبة النص].

بالنسبة للساكنات من الإناث، جاء الجواب واضحاً: لا نذهب إلى مكان لا نعرفه.

خلال الجلسة النقاشية التي عقدتها مع الإناث في شهر أغسطس/آب من العام ٢٠٢١ لفئة الـ٢٠ وما فوق، استمعتُ إلى وجهات نظر مجموعة من الإناث.

"عند خروجنا من باب المنزل، نوجه أنظارنا إلى المكان الذي نرغب بالوصول إليه. يتحول المخيم إلى نفق نتحرك على طوله خطه، من النقطة أ إلى النقطة ب. لا مجال للكزدرة أو التسكع، لا مجال لأخذ طرق بديلة، نفس الطريق التي اعتدنا عليها وحفظنا معالمها وأَمِنّا سكّانها". (طالبة جامعية في العشرينات من العمر).

"بنعرف أنه لازم نتجنب الأزقة الضيقة والممرات المغطيّة وسوق الخضرة وأصحاب البسطات وأماكن التزاحم والنادي الرياضي وحارات الغجر وحارات المخدرات وولاد المدارس وغيرهم كتير". (أم وناشطة اجتماعية في الثلاثينات من العمر).

"لازم نرجع قبل العتمة، كتير من الشوارع السكنية ما فيها ضواو، إذا عتّمت مصيبة". (أم وربة منزل في العشرينات من العمر).

بعد الاستماع إليهن، شعرت بأن الأنثى في المخيم تتحرك في شوارعه كسوبر ماريو، تقفز فوق الحواجز وتتفادى الاصطدام بالأجسام الغريبة والأجساد المتسارعة باتجاهها التي تضمر الأذى في كثير من الأحيان.

"إنتاو عم بتبالغوا.. المخيم مش هالقد سيئ، هينا عايشين هون من زمان ومربيين ولادنا أحسن ترباية، ما عمرهم أجو بحدا ولا تحرشوا ببنت. عندهم أخوات بنات بخافوا عليهم وما بقبلوا يغلطوا ببنات الناس". (أم وربة منزل في الخمسينات من العمر).

"أنتو متأكدات إنكن عايشات بالمخيم؟ كإنكن بتحكوا عن مكان تاني.. من وين جايبين هالحكي؟" (أم وربة منزل في الأربعينات من العمر).

 

[صورة ٢: الحواجز البشرية والأجساد المتسارعة في المخيم/ الصورة من تصوير كاتبة النص].

تقلدت مجموعة من السيدات دور شرطة الفضيلة أثناء انعقاد الجلسة، بطريقة كانت تشبه الطريقة التي سيطر فيها المخاتير على الحوار أثناء جلسة الذكور، ممارساتٍ سلطتهن التي اكتسبنها بحكم العمر على الفتيات الأصغر عمراً اللاتي كنّ الأكثر استياء وتضايقاً من التحرش اللفظي والجسدي الذي كن يتعرضن له بشكل مستمر.

شعرت بأن أياد كثيرة امتدت إلى الكاميرا (المجازية) في تلك الغرفة وحاولت أن تتحكم بزاوية التصوير، فحاولت فئة من الإناث أن تظهر واقعها الذي قلمّا أُعطيت الفرصة لكشف تفاصيله، بينما انشغلت مجموعة أخرى بمحاولة تسليط الكاميرا على واقع وردي أقنعن أنفسهن به وأردنني أن أراه.

من واقع تجربتي الشخصية كأنثى زارت المخيم بشكل مكثف على مدى ثلاث سنوات، كنت قد أدركت بأن محاولة التحرك في المخيم كانت بالفعل تشبه تجربة سوبر ماريو، الذي ربما كان سيتمتّع بالأفضلية في المخيم لأنه ماريو.

تدخلت بالحديث بعد الاستماع للنقاش الدائر بينهن، مستعينة بسلطتي كمُنظمة للقاء لأعطي مساحة أوسع للفتيات ليتوسعن بمشاركة تجاربهن. ثبّتُّ الكاميرا باتجاههن ومنعت الأيدي المتسلطة من محاولة لف الكاميرا أو تغطيتها.

اختلفت التجربة المكانية تماماً في وصف كل من الجندرين، فظهر المخيم كحيز ضيق مزدحم ومكتظ بالباعة والبيوت الخرسانية والأجساد المتحركة من منظور الإناث ومن ثم ظهر كميدان متسع ومفتوح ومتصل ببقية المدينة من منظور الذكور. تباين الوصف كذلك بين مسارات حركة متقطعة وحادة تتفادى نقاط التصادم.. وأخرى مستقيمة تخترق الأحياء والشوارع بشكل مباشر دونما قلق، بين وتيرة حركة سريعة ومتذبذبة للوصول بين نقطتين وأخرى معتدلة ومرتاحة بين عدد من النقاط المتنوعة والمتناثرة.

ما الذي كان سيختلف لو درست المخيم عن بعد، ونظرت إليه من السماء، من دون أن أموضع نفسي في وسط ناسه وأبنيته؟ لو حلقت فوقه كطيف بلا جسد وادعيت معرفته من الأعلى، دون الوقوف على الأرض ولا الاشتباك بالنظر والحوار؟

بسبب هذا التباين في التجربة المكانية، لا بد بأن الخرائط الذهنية التي ارتسمت في أذهان كل من الفئتين مختلفة تماماً، ومعرفتهم لمحيطهم وعلاقتهم به مختلفة كذلك.

"ما بعرف شكل المخيم بالليل، ما عمري طلعت مشيت فيه بعد ما تعتم". (طالبة جامعية في العشرينات من العمر).

"حارات المخيم كتير بتختلف عن بعض. إذا غمّقتِ لجوّا بصير الوضع أصعب والممرات أخطر. وجود السيارت الرايحة والجاي بكشف المنطقة وما بسمح للزعران يتجمعوا". (ربة منزل في العشرينات من العمر).

"لا تمشي في حارة الغجر، ممكن تطلع عليكي سمعة سيئة ويفكروكي وحدة منهم، ما بدك هيك مسموعيات".
( معلمة مدرسة في الثلاثينات من العمر).

عند تحركي في المخيم، لطالما شعرت بأني مراقبة. كل الأعين تنظر إليّ، متوزعة بين الطوابق.. أعين في الشارع، أعين في البلكونات، أعين خلف النوافذ، أعين أمام الدكاكين. تعجبت من حساسية أهالي المخيم العالية لمحيطهم وقدرتهم على استشعار أي حركة أو وجود غريب في أحيائهم. عيون تنظر وتراقب، شعرتُ بها في كل مكان، رسمت شبكات معقدة من خطوط النظر التي أحاطت بجسدي كشبكة صيد نجحتُ بالتملص منها مرة بعد أخرى.

ربما كان للكاميرا التي كنت أحملها حول عنقي دور في لفت الأنظار إليّ بشكل أسرع، وحقيقة بأنني أمشي برفقة شاب في وضح النهار دورٌ في تسليط الضوء عليّ كذلك. كان الشاب هو مساعدي في البحث، وهو شاب من المخيم كنت قد استعنت به (واختبأت خلفه أحياناً) لمساعدتي في إتمام البحث وترتيب اللقاءات مع السكان.

 

[صورة ٣: أبراج المراقبة المنتصبة في حارات المخيم/ الصورة من تصوير كاتبة النص].

عرفه معظم من رآه بالشارع أو لعلهم أدركوا أنه ابن المنطقة بينما لم أكن كذلك.

"شو بتصوري؟ طيب صورينا!
أنتِ مين؟ صحافية؟ شو بتسوي؟" صرخت مجموعة من الشباب عندما مررت بجانبهم.

ربما كان من العدل أن أقف أنا على الجهة الأخرى من الكاميرا من باب التغيير، فأصير أنا محط الأنظار واقفة تحت بقعة الضوء.

كمجتمع أكاديمي، اعتدنا أن ننظر، نسأل، نلتقط الصور، نشاهد، نلاحظ، نسجل، نراقب. ربما كان من العدل أن تنقلب الأدوار ولو قليلاً لأدرك بأن هناك نوعاً من العنف يعتري عملية النظر والمراقبة، ونوعاً من سطوة النظر على الجسد، سواء نظرة العيون أو الكاميرا، حين نحشر أحدهم داخل إطار ونسلط الضوء على وجهه لنسأل.

تذكرت تلك السيدة الخمسينية التي قالت لي مرة: "يلا صوري صوري، صورينا وإحنا قاعدين بهالمخيم، لمي شو ما بدك معلومات وروّحي وما ترجعي، متلك متل غيرك".

حملت كلماتها الكثير من الغضب والمساءلة. تحتم علينا نحن، من جئنا ونظرنا ورأينا وسألنا، أن نفعل شيئاً. هل يقبل أي إنسان رأى كل هذا البؤس بهذا الحال؟ هل يجعلنا موقفنا الحيادي، متواطئين في استمرارية هذا الوضع؟

بطريقة ما، غفلت عن حقيقة بأن رغبتي بالبحث لم تعن بالضرورة رغبة من يحمل الجواب بالمشاركة في هذا الاشتباك المعرفي، خصوصاً إن لم يكن هذا الاشتباك متبوعاً بحلول مباشرة ولا مساعٍ عملية لتحسين الواقع.

أسئلتنا تدق الأبواب، ولكن هذا لا يحتم على صاحب الدار أن يجيب أو يرحب بنا.

وبعد هذا يظل السؤال.. ما الذي كان سيختلف في تجربتي لو كنت ذكراً، وما انعكساته على بحثي، على جلساتي النقاشية، على رحلاتي حول المخيم؟ لو كنت أصغر سناً؟ أكبر سناً؟ من بلد مختلف؟ غير محجبة؟ من ديانة مختلفة؟

ما الذي كان سيختلف لو درست المخيم عن بعد، ونظرت إليه من السماء، من دون أن أموضع نفسي في وسط ناسه وأبنيته؟ لو حلقت فوقه كطيف بلا جسد وادعيت معرفته من الأعلى، دون الوقوف على الأرض ولا الاشتباك بالنظر والحوار؟

كانت العملية ستكون أسهل كثيراً، فلا اختباء تحت الطاولات ولا شد أيدي على زاوية تصوير ولا محاولات هروب من شباك صيد. لا تبادل أدوار ومواقع قوة بين سائل ومجيب، بين باحث ومشارك، بين عيون وصورة، بين ذكر وأنثى، بين عقل وجسد.

ولكنها بالتأكيد عملية لم تكن ستسمح لي بأن أعرف المخيم كما عرفته الآن، بكل ما فيه من تناقضات وتقاطعات واختلاقات، ولم أكن سأجد جواباً لما جئت باحثة عنه متجسداً بداخلي، كمعرفة تراكمية معاشة عن الجسد والجندر والمخيم.

 

[صورة ٤: المخيم من الأعلى/ الصورة من تصوير كاتبة النص].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬