رياحٌ عاتية تهب على مسلمي فرنسا

[باريس، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2019. مظاهرة ضد رهاب الإسلام.] [باريس، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2019. مظاهرة ضد رهاب الإسلام.]

رياحٌ عاتية تهب على مسلمي فرنسا

By : Arabic Editors

رفيق شكات

تهبَ رياح عاتية على الحقوق والحريات في فرنسا، ويجد مسلمو البلد أنفسهم وسط هذه العاصفة القمعية. فمن سنة لأخرى، من خلال حلّ الجمعيات وسنّ قوانين، تعمل الأغلبية السياسية على جعل أفراد الأقلية المسلمة -وهي الأكبر في أوروبا- مواطنين من الدرجة الثانية.

في فرنسا تُوصف أي مبادرة نابعة عن المسلمين على أنها طائفية ومنافية لحرية التعبير أو العلمانية، أو على أنها مظهر من مظاهر الإسلام السياسي. وهكذا، تعرضت مساجد وجماعات إنسانية وجمعيات للدفاع عن الحقوق، ومدارس ودور نشر، ونوادي رياضية، بل وحتى مجرد محلات بيع الوجبات الخفيفة، إلى الحل أو الغلق -أو هي حاليّا موضوع هذه الإجراءات. سهّل هذا القمع الشامل اعتماد قانون مكافحة “الانفصالية” في أغسطس/آب 2021 والذي أعيدت تسميته آنذاك بقانون “تعزيز المبادئ الجمهورية”.

رُغم عدم تجانس المستهدفين بهذه العمليات والذرائع القانونية التي يُستنَد إليها لحلّ الجمعيات أو إغلاق بعض الأماكن، لم يبق أي مجال للشك في دوافع القمع الجاري، وهي ردع أي خطاب ناقد ينبع عن المسلمين، والرغبة المعلنة والدائمة في تحييد الفضاء العام. على سبيل المثال، أعرب وزير الداخلية جيرالد دارمانان عن ارتياحه لتجميد أصول حوالي 200 جمعية “قريبة من الحركة الانفصالية” دون أن يكلّف نفسه أن يفسّر المقصود بهذا “القرب”1. هكذا يتم إخماد الأصوات المسلمة باسم حماية حرية التعبير، بينما يتم تنظيم الانفصال وتسييس كل حدث مرتبط بالإسلام باسم مكافحة “الانفصالية” و“الإسلام السياسي”.

تكميم الأفواه

يحتل موضوع حرية التعبير مكانة مركزية في النظام الخطابي لرهاب الإسلام، إذ يتم تصوير المسلمين و“المتواطئين” معهم على أنهم يشكلون التهديد الرئيسي لهذه الحرية، ويُتهمون باستمرار بأنهم يعملون على منع أي نقاش حول دينهم. بل ويتم رفض مصطلح رهاب الاسلام (الإسلاموفوبيا) بشدة، ويُنظر إليه من بعض الأطراف على أنه محاولة لفرض الرقابة. أقل ما يمكننا قوله هو أن هذه الرقابة تعمل بشكل سيّء. وعلى العكس من ذلك، يكشف الحضور الدائم لموضوع الإسلام والمسلمين في النقاش العام، والحملة الرئاسية الحالية، التهميش السياسي لأولئك الذين يتم تقديمهم على أنهم تهديد للتعددية الديمقراطية. والمفارقة أنه يتم التحدث باستمرار عن المسلمين في وسائل الإعلام الرئيسية، وفي نفس الوقت تكرار بأنه لا يمكن التحدث عنهم أبدًا.

لوقت طويل شكّلت قضية الرسوم الكاريكاتورية و“التجديف” -أي سبّ أو الاستهزاء من رموز الإسلام- نقطة جوهرية لما وُصف بإرادة في تقييد النقاش العام. وإذا كان الجدال مطروحًا قبل ذلك، فإن مَذْبَحَة جريدة “شارلي إيبدو” واغتيال المعلم صامويل باتي جعلا تناول هذا الموضوع أكثر حساسية. ومع ذلك، فإن القول بأن تعبير المسلمات والمسلمين عن رفضهم لرسومات يعتبرونها مهينة يشكّل في حد ذاته مساسًا بحرية التعبير يُعدّ تناسيًا لكون التعبير السلمي لهذا الرفض يدخل ضمن حرية التعبير نفسها.

بينما ازداد التمييز الحكومي حدّة منذ خريف عام 2020، تبقى إدانة هذا القمع موصومة. فالحديث عن رُهاب الإسلام، وخاصة عن إسلاموفوبيا الدولة، لم يعد مسألة حرية تعبير، بل حالة من “الانفصالية الإسلامية” الذي يرتقي إلى مستوى التهديد الرئيسي للجمهورية. يلوم على الخصوص المرسوم القاضي بحلّ جمعية “التنسيق ضد العنصرية ورهاب الإسلام” الصادر في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021 هذا التنظيم بأنه “يعمل بنشاط، خاصة من خلال الشبكات الاجتماعية، لزرع الشك في وجود رهاب الإسلام في المجتمع الفرنسي”.

من جانبه، ينص ميثاق مبادئ الإسلام في فرنسا -وهو نص سياسي لا مثيل له في الديانات الأخرى، يتعين على المسؤولين عن المساجد توقيعه تحت طائلة إجراءات ردعية إدارية مختلفة- على ما يلي:

غالبًا ما يكون مسلمو فرنسا ورموز هذه العقيدة أهدافًا لأعمال عدائية. هذه الأفعال من صنع أقلية متطرفة لا ينبغي الخلط بينها وبين الدولة أو الشعب الفرنسي. لذلك، فإن شجب عنصرية مزعومة للدولة، وتقمّص موقف الضحية، يُعدّ تشهيرًا، ويغذّي ويؤجج في نفس الوقت الكراهية ضد المسلمين وضد فرنسا. (المادة 9)

فضلا عن حصر الخطاب الإسلامي من خلال تعريف غريب لما يميّز جريمة التشهير، يقوم النص بعكس العلاقة السببية بين ظاهرة رهاب الإسلام وبين نقدها. فمن خلال إدانتهم لرهاب الإسلام، يكون المسلمون مسؤولين عن الاستياء ضد فرنسا وعن العنصرية التي يتعرضون لها.

تنظيم الانفصال

يميل أيضا قانون “تعزيز المبادئ الجمهورية” -والمعروف أكثر بقانون “مكافحة الانفصال”- إلى إعاقة قدرة المسلمين على ممارسة حياتهم الاجتماعية على أكمل وجه. هذا النص ذو هدف قمعي أساسا (وقد أقرّ بذلك مجلس الدولة في رأيه الصادر في 9 ديسمبر/كانون الأول 2020)، ويُعتبر انتهاكًا واضحًا لحقوق وحريات الأقلية المسلمة في فرنسا -وهي الأكثر عددًا في أوروبا-، لا سيما تلك المتعلقة بتكوين الجمعيات وممارسة الشعائر الدينية.

يحتل موضوع حرية التعبير مكانة مركزية في النظام الخطابي لرهاب الإسلام، إذ يتم تصوير المسلمين و“المتواطئين” معهم على أنهم يشكلون التهديد الرئيسي لهذه الحرية، ويُتهمون باستمرار بأنهم يعملون على منع أي نقاش حول دينهم. بل ويتم رفض مصطلح رهاب الاسلام (الإسلاموفوبيا) بشدة، ويُنظر إليه من بعض الأطراف على أنه محاولة لفرض الرقابة.

ولكي نفهم روح هذا النص، يجب العودة إلى الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2020، حيث يقوم رئيس للجمهورية خلال فترة حكمه بالتدقيق في مظاهر الحياة الاجتماعية (العمل، أوقات الفراغ، التعليم، تنظيم وممارسة العبادة، الخ) لأقلية من النسيج الوطني.

يُؤوِّل الرئيس-السوسيولوجي الحالي كل مشاركة لأفراد الأقلية المسلمة في الحياة المحلية والجمعوية على أنها مظهر من مظاهر “الانزواء المجتمعي” (أو الانفصالية الإسلامية) ومشروع غزو ليسهّل دخول الإسلاموين في نسيج المجتمع:

وهناك في هذه الإسلاموية الراديكالية -بما أنها جوهر الموضوع فلنتناوله ونسميه- هناك إرادة مؤكدة ومعلنة، وتنظيم منهجي لمخالفة قوانين الجمهورية وخلق نظام مواز، وإقامة قيم أخرى، وتطوير تنظيم آخر للمجتمع، انفصالي في البداية، ولكن هدفه النهائي السيطرة، سيطرة كاملة هذه المرة.

“بين الإرهاب واللاشيء، ليس هناك لا شيء”، هذا ما قاله دارمانان في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 خلال ندوة حول “الانفصالية” بمقر وزارة الداخلية أمام أكثر من 450 من كبار مسئولي الدولة. ويمكن أن يستهدف هذا الـ“لا شيء” أنشطة عادية مثل ممارسة الرياضة، وإنشاء جمعية، وتنظيم دروس اللغة، وفتح مُصلّى، بل وحتى متجر لبيع المشروبات.

معجم حربي

يشكّل المسلمون -الذين يعود حضورهم بشكل ملحوظ في فرنسا إلى نهاية القرن التاسع عشر- أكبر أقلية دينية منذ نهاية السبعينيات. وقد اندمجوا في المجتمع، وأصبحوا في الغالب فرنسيين وظلوا مسلمين. هنا تكمن الفضيحة. فعندما لا تنجح الهياكل الاجتماعية وحدها في ضبط الانتماء الإسلامي، عندما يصعب التمييز بين أولئك الذين لا يمكثون في مكانهم ويتصرفون كأنهم يشبهون الآخرين، يُحتمى بالقانون لإعادة فرض النظام وحقن الغيرية وتنظيم الانفصال. وتكمن المفارقة في أن النظام التأديبي المسخّر بأكمله ضد الأشخاص المسلمين يشهد على اندماجهم. فعمليات التفتيش وحلّ الجمعيات، وإغلاق المدارس والمساجد، وتشييد آلية تشريعية استثنائية ضد المسلمين، كل هذه التدابير تهدف إلى تنظيم الانفصال وفك العنصر الإسلامي من الجسم الاجتماعي. فرهاب الإسلام هو حقا ردّة فعل تجاه قدرة المسلمين على التحرّك.

يعجّ الخطاب الرئاسي لأكتوبر/تشرين الأول 2020 بالمفردات الحربية، ويتحدث عن “التعبئة الكبرى” و“الوطنية الجمهورية” ضد العدو الانفصالي. كما أن هناك حديث عن الميدان والمعركة وإعادة الغزو (هكذا). هنا تظهر فاعلية الخطاب عن الإسلام والمرأة المسلمة، فهو خطاب حزم وتصميم، يسمح لمن يلقيه بالارتقاء فوق الانقسامات الحزبية إلى مستوى الخطر الداهم الذي يواجه الأمة. ومن خلال تكرار الحديث عن مجال هذا التهديد، واستحضار “انعدام الأمن الثقافي”، ووصف المسألة بالـ“وجودية”، يدرك إيمانويل ماكرون جيدًا أن هذا الخطاب الدرامي يمنحه مكانة سيادية خاصة.

يجب تحليل العنصرية التآمرية المعادية للإسلام في هذا الإطار، وهي عنصرية تختلف عن الأشكال البيولوجية والثقافية للعنصرية. فهي تأخذ الشكل المخيف لمؤامرة إسلامية ضد الجمهورية وأوروبا وحتى الحضارة الغربية، وقيمها التي توصف بأنها أساسية: الحرية، والديمقراطية، والتسامح، والعلمانية، والمساواة بين الرجل والمرأة، إلخ. تهديد متعدد الأوجه يستدعي بدوره مهمة طويلة الأمد للدفاع عن الوطن والعناصر التي تشكله.

تعمل الحبكة الحكومية من الأعلى على تسييس تسلطي لصورة إسلام غازٍ يشن حربا شاملة ضدنا، وتقوم باستمرار بتجديد هذا الخطاب. هنا، كل حياد محظور. ويوصف المسلمون الذين يرفضون التنديد بهذه “المؤامرة” بـ “الإسلامويين”، أما الآخرون فيُنعتون بـ “الإسلامويين اليساريين”. وهكذا تحتل فزّاعة الإسلام السياسي، الذي يتم الخلط بينه وبين ما يُرى من الإسلام كظاهرة اجتماعية-، مكانة مركزية في هذه الرواية التآمرية. إذ يتم تفسير كل علامة تُعتبر إسلامية على أنها “إشارة ضعيفة” (عن تطرف ما)، أو مظهر مخادع مموه لمشروع غزو سياسي للفضاء العام، وبالتالي للبلد كله. هذا ما يفسر كيف وصف الوزير الأول -في ذروة الجدل حول “البوركيني” في صيف 2016- بدلة السباحة تلك على أنها “اختبار للجمهورية”. كما أصبح حجاب المرأة المسلمة (من الطالبات إلى الأمهات المصاحبات لأبنائهن في المدارس مرورا بلاعبات كرة القدم) مُسيَّسا باستمرار، ويتم ربطه بشكل من أشكال التفوق الإسلامي. ومن هنا تأتي هذه المفارقة الواضحة، حيث تخضع أي مسألة متعلقة بالإسلام في فرنسا إلى تسييس فوري بذريعة محاربة الإسلام السياسي.

تكتب فارين بارفيز في دراسة مقارنة لظاهرة رهاب الإسلام في فرنسا والهند2: “تشكّل مراقبة الإسلام وتسييسه خلفية الحياة الدينية اليومية للمسلمين في فرنسا”. وتنطلق سياسة المراقبة هذه من فرضية أن الورع الإسلامي ينطوي على مخاطر سياسية جسيمة على الدولة والمجتمع. وتُعتبر البيانات الحكومية إنجازية، بمعنى أنها تخلق التهديد الذي تقف ضده.

من خلال إلغاء عدد من الضمانات التي تحمي نوعا ما المسلمين من التعسف السياسي، وإجبارهم على اتخاذ موقف دفاعي، تولّد كل هذه الإجراءات التسلطية الغضب والإحباط. ونحن نعلم كيف يمكن أن يُستعمل هذا الغضب، الذي لا يجد مساحات ليُعبّر فيها ويُسمع، وكيف يتم توظيفه لأغراض رهيبة.

[ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي.] 

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع مجلة اورينت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬