اليسار الفرنسي ينقسم حول الأبارتايد الإسرائيلي

[من اليمين إلى اليسار: يانيك جادو، جان لوك ميلانشون، فابيان روسيل.] [من اليمين إلى اليسار: يانيك جادو، جان لوك ميلانشون، فابيان روسيل.]

اليسار الفرنسي ينقسم حول الأبارتايد الإسرائيلي

By : Arabic Editors

جان ستارن

تُعد قضايا الحرب في أوكرانيا والوضع الاقتصادي والبيئي مركز حملات المرشحين اليساريين الرئيسيين الثلاثة، وهم جان لوك ميلانشون (الاتحاد الشعبي) وفابيان روسيل (الحزب الشيوعي) ويانيك جادو (حزب الخضر). لكن التزام عدد من المنظمات غير الحكومية مؤخّرا بالحديث عن فصل عنصري (أبارتايد) في إسرائيل كما في الأراضي المحتلة أسفر عن إعادة تموقع في اليسار الفرنسي.

يعبّر كل من جان لوك ميلانشون، مرشح الاتحاد الشعبي، وفابيان روسيل، مرشح “الأيام السعيدة”، ويانيك جادو الذي يقول “لِنغيّر”، بإصرار عن دعمهم للشعب الفلسطيني وحلّ الدولتين، وهو الموقف الكلاسيكي لفرنسا منذ عقود. بمتابعتهم - أو بجعل الناس يتابعون - التطورات السياسية في إسرائيل وفلسطين، يتحدث هؤلاء المرشحون الثلاثة عن هذا الموضوع كلّما طُرح عليهم السؤال، وأحيانا بصفة علنية في وسائل الإعلام وخلال اللقاءات. وللإجابة على أسئلة “أوريان 21” كلّفوا -وبلباقة- مسؤولي المواضيع الدولية في حملاتهم بالرد. وحده يانيك جادو -من بين مرشّحي اليمين واليسار الذين تواصلنا معهم الذي أجاب على أسئلتنا المكتوبة (وهذا جدير بالثناء). ويمكن الاطلاع على إجاباته في المؤطر أدناه.

مَن الحاضر، ومَن الغائب، ومَن المشار إليه بأصابع الاتهام؟

على الرغم من هذا الإطار التاريخي المشترك، برزت فروق دقيقة بين المرشحين في أعقاب تقارير منظمة “بتسيلم” ومنظمة العفو الدولية التي تم فحصها عن كثب من قبل فرقهم، وأيضا تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” الذي يتحدث عن فصل عنصري في الأراضي المحتلة فقط. لم يفت ذلك على المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا -المعروف باسم “الكريف”- بمناسبة مأدبة العشاء السنوية التي نظمها في 24 فبراير/شباط 2022، بعد تعذر تنظيمها لمدة عامين بسبب الأزمة الصحية. تمت دعوة يانيك جادو الذي حضر المأدبة رفقة النائب السابق للحزب الحاكم “الجمهورية إلى الأمام” سيدريك فيلاني، والذي غيّر لونه السياسي بالانضمام إلى حماة البيئة. يوضّح أحد المقربين: “عندما نتحاور، نتحاور مع الجميع. كان يانيك جادو محقًا في الذهاب إلى هناك. لا يعني ذلك بالضرورة تبني طريقة قراءة مشتركة للواقع أو تأييد هذا الموقف أو ذاك للكريف”. وقد سبق أن أُدرج جادو من قبل الكريف على القائمة السوداء عام 2017، بسبب دعم حزب الخضر لحركة مقاطعة إسرائيل. حينها صرّح جوليان بايو -الذي أصبح فيما بعد رئيس حزب الخضر- قائلا: “لا يمكننا إخفاء قناعاتنا الحقيقية لكي تتم دعوتنا إلى عشاء فخم. المقاطعة أداة خيّرة وسلمية في متناول المواطنين”.

يؤكد مصدر في الكريف بأنه تمت دعوة فابيان روسيل أيضًا، لكنه لم يكن حاضرًا ولا ممثّلًا. “كان لديه شيء أفضل يقوم به، كان له تجمّع في الشمال”، تقول ضاحكة مسئولة من الحزب الشيوعي الفرنسي. لكن منذ عدة سنوات، لم يعد الكريف يدعو الحزب الشيوعي الفرنسي. قد نتساءل إن لم تكن لهجة حملة روسيل سبب هذا التحول، مع أنه لا يمكن ملاحظة أي تغيير ملحوظ في موقف الحزب الشيوعي الفرنسي من القضية الفلسطينية1. وقد تكون دعوة الصحفية كارولين فوريست -المعروفة بقربها من اليمين المتطرّف وبمناهضتها للإسلام- إلى اجتماع عام عُقد في مقر الحزب الشيوعي تكريماً لشارب، الرسّام الكاريكاتوري لصحيفة “شارلي إبدو” الذي قُتل خلال هجمة يناير/كانون الثاني 2015، كافية لتفسير دعوة الكريف. في خريف 2021 وبالجرأة التي تميزها، رأت فوريست، صديقة حركة “الربيع الجمهوري” العلمانية المتطرفة والموالية لإسرائيل (والتي تدعي بأنها يسارية)، في فابيان روسيل “نجم اليسار الجمهوري” الذي “سيسرق الأضواء من ميلانشون”. وهو نوع من الثناء قد يحبذ كثير من أعضاء الحزب الشيوعي الاستغناء عنه.

أما بالنسبة إلى جان لوك ميلانشون (أقصى اليسار)، فلم تتم دعوته لعشاء الكريف – شأنه في ذلك شأن مرشحة “التجمع القومي” مارين لوبان والمرشح إريك زيمور، وكلاهما من اليمين المتطرف- بدعوى رفض شائن لـ“جميع أشكال التطرف”. وقد صار قائد حركة “فرنسا الأبية” منذ عدة سنوات مستهدفًا من قبل هذه المنظمة، لكنه لا يكترث لذلك. يعلّق أحد المقربين منه قائلا: “هذا الموضوع لا يهمه. فالكريف بات بالنسبة إليه وكرًا لمتطرفي الهوية”.

قد يبدو إرسال هذه الدعوات من عدمه مسألة عرضية. لكنها ليست كذلك، لأن اليسار يبحث عن نفس جديد، عن شجاعة سياسية، خاصة فيما يتعلق بالاعتراف بدولة فلسطين، وهي شجاعة افتقرت إليها العديد من الحكومات التي يُفترض أنها يسارية، بدءًا من حكومات فرانسوا هولاند، التي شارك فيها وزراء حزب الخضر، وذلك على الرغم من تصويت البرلمان في 2 ديسمبر/كانون الأول 2014 لصالح الاعتراف بدولة فلسطين بأغلبية 339 صوتًا مقابل 151. لم يكن لهذا التصويت الواضح ولكن غير الملزم للحكومة تأثير. من يذكر اليوم أنه في عام 2012، تميز النقاش في الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي بخلاف حاد حول الالتزام من أجل دولة فلسطينية؟ وقد كانت فلسطين -مقابل دعم إسرائيل مع “تحفظات” كما يقال في الحزب الاشتراكي- خط تصدع أيضًا في اليسار الفرنسي الذي يعاني حاليا من الضعف والانقسام، حيث يمثل حوالي 25٪ من الناخبين. ونحن لا نحسب آن هيدالغو، رئيسة بلدية باريس، في هذه النسبة، لكننا نعرف أن هذه المؤيدة المتحمسة لإسرائيل في أدنى مستويات الشعبية.

بالنسبة لميلانشون، الجحيم في غزة

يلخص ميلانشون في سطرين من برنامجه الموقف التقليدي لفرنسا: “الاعتراف بدولة فلسطينية لها الحق في استمرارية أراضيها، على أساس حل الدولتين ومن خلال التطبيق الكامل والكلي لقرارات الأمم المتحدة”. لكن أرنو لوغال، مستشار ميلانشون الذي شارك في كتابة الجزء الذي يعنى بالقضايا الدولية من المشروع المذكور يوضح: “لكننا لا نقول كل شيء في البرنامج، إنها خطوة أولى. إنه دليل توجيهي ومبدئي، لكن الجانب الآخر من العملة هو أنه يبقى عملاً غير مكتمل فيما يخص بعض المواضيع”.

يواصل لو غال بأنه على الرغم من “شعاع معاداة السامية المشل”، و“تحرش اليمين المتطرف الموالي لإسرائيل”، و“العزلة الكاملة” داخل الطبقة السياسية، لم يغيّر ميلانشون طوال 15 عامًا من انتقاده للسياسات التي تنفذها إسرائيل: “يتعين عليك في مرحلة ما أن تضرب بقبضتك على الطاولة وتقول للحكومة الإسرائيلية أن ما تفعله خطأ، وأن ذلك لا يتوافق مع أي من القرارات التي نصوّت عليها في الأمم المتحدة!”. كما لم يتغير ميلانشون في دعمه لأهل غزة، إذ أجاب على طالب خلال برنامج تلفزي في يناير/كانون الثاني 2022 على إحدى القنوات العمومية الفرنسية: “لا أخفي عنكم أن حساسيتي تذهب بالأحرى لسكان غزة الشهداء، الذين يعانون من سجن وجحيم لا يمكن إلا أن يثيرا شعورًا بالتمرد”. شاب آخر يهتم بفلسطين، وهذه علامة جيدة.

وفي رده على استبيان من شبكة المنظمات لفرنسية من أجل فلسطين، قال المرشّح إن:

الحصار الشامل، المخالف لحقوق الإنسان والذي أدانته الأمم المتحدة مرارًا وتكرارًا، أدى إلى تدهور رهيب في الوضع الإنساني لسكان غزة، وزادت من تفاقمه المجازر والتدمير الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي على فترات منتظمة، بذريعة الدفاع عن إسرائيل، أحياناً ضد أطفال “مسلّحين” بالحجارة.. وقد وصفت عدة تقارير للأمم المتحدة الوضع في غزة بأنه “غير قابل للعيش”، بالمعنى الحرفي للكلمة. لا شيء يمكن أن يبرر قبول فرنسا بهذا الوضع المروع.

مرارًا وتكرارًا، في أعوام 2009 و2014 و2018 و2021، رفض ميلانشون قطعيا اتهامات معاداة السامية التي يوجهها إليه أنصار إسرائيل. وقد كتب على مدونته في عام 2009:

إن المعادين الحقيقيين للسامية هم أولئك الذين يجمعون بين الاحتجاج ضد جرائم ومعاداة السامية، بذريعة أن هذه الجرائم تُرتكب من أجل قضية إسرائيل. إن أسوأ أعداء إسرائيل هم أولئك الذين يتظاهرون ليقولوا إنه من الطبيعي ذبح السكان العزل لمجرد أن حكومة إسرائيل هي التي تقوم بذلك. لقد قام هؤلاء بتدمير سنوات من الجهد للحفاظ على العقلانية في تحليل الوضع. لقد أبعدوا عنهم آلاف الأصدقاء الذين صار ينتابهم الغثيان.

“يشير المصطلح إلى حقيقة لا جدال فيها”

وكدلالة على أن ميلانشون يتابع الموضوع عن كثب، فهو أول سياسي فرنسي مهم التزم باستخدام عبارة الفصل العنصري في رده على شبكة المنظمات غير الحكومية الفرنسية من أجل فلسطين.

إن استخدام مصطلح الفصل العنصري في تقارير الأمم المتحدة، ومن قبل المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية ومن ثم منظمات غير حكومية مثل منظمة العفو الدولية، يشير إلى حقيقة لا جدال فيها. ويعد الاعتراف الرسمي بوجود نظام فصل عنصري خطوة إضافية. كمنظمة سياسية من المرجح أن يشغل مرشحها أعلى المناصب في الدولة، فإن السؤال المركزي هنا هو: هل سيسمح أم لا مثل هذا الإجراء الذي قد تتخذه فرنسا، في التحرك نحو تنفيذ الحل السلمي على أساس قرارات الأمم المتحدة؟ يعتمد الجواب على هذا السؤال على السياق الدقيق الذي يتعين علينا اتخاذ هذا الإجراء فيه.

يتبنى هنا المرشح الذي يقول عنه أحد المقربين بأنه “لا يحب إطلاقا أن يقول أشياء لا يعرف إن كان سيفعلها لو كان رئيساً”، التزاما جديدا، دون التلاعب بالكلمات. كما أثبت تضامنه مع المتضامنين. فقد تم اعتقال رئيس جمعية التضامن الفرنسية الفلسطينية في 12 مايو/أيار 2021 وهو يغادر اجتماعًا في وزارة الخارجية الفرنسية مع العديد من البرلمانيين، وتم تقييده بالأصفاد أمام الوزارة تحت أعين منتخبين مذهولين، كما ظل تحت نظر الشرطة بضع ساعات. وقد امتعض ميلانشون من هذا المشهد وعلّق عليه في تغريدة على تويتر قائلًا: “هذه هي فرنسا ماكرون”. ويعتبر الاتحاد الشعبي أن “التراجع العام في الحريات المدنية يمس أيضًا الدفاع عن حقوق الفلسطينيين. نعارض هذا الانحراف ونحن في المعارضة، وسنجد له حلا عندما نكون في السلطة”.

الحزب الشيوعي الفرنسي يرى “فصلا عنصريا قيد التطبيق”

مثل جان لوك ميلانشون، أدان فابيان روسيل بشدة في مايو/أيار 2021

الاستعمار المتسارع للقدس الشرقية والضفة الغربية، الذي يحرم الفلسطينيين من حقهم في دولة مستقلة ومستدامة، والحملات العقابية ومظاهرات الكراهية التي أطلقها اليمين المتطرف في باحة المسجد الأقصى، واقتحام الشرطة للمسجد الأقصى. هناك عدة مدن إسرائيلية تلتهب. هناك عمليات إعدام دون محاكمة بحق مواطنين عرب أو يهود.

كما أدان أيضا مرشح الحزب الشيوعي بـ“الغارات الإجرامية على غزة”، وشارك في تظاهرة بمدينة ليل (بشمال فرنسا) “للمطالبة بموقف واضح من فرنسا لحماية الشعب الفلسطيني، من أجل سلام عادل ودائم بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي”.

تطرح ليديا سامربخش، عضوة اللجنة التنفيذية الوطنية للحزب الشيوعي الفرنسي والمسؤولة عن القسم الدولي، مثلها مثل فريق ميلانشون، مسألة طبيعة دولة إسرائيل:

إن تقرير منظمة العفو الدولية مهم للغاية، فهو يستند إلى حقائق وممارسات وإلى الأهداف السياسية للحكومة الإسرائيلية. فالهدف هو حبس الفلسطينيين في قطع أراض صغيرة حيث يكونون مواطنين من الدرجة الثانية. إنه نمط البانتوستان2: الفلسطينيون محكوم عليهم بالإقصاء والبؤس والإذلال. السلوك التمييزي ضد الفلسطينيين آخذ في التوسع، إنها سياسة فصل عنصري قيد التطبيق.

بالنسبة للحزب الشيوعي الفرنسي ومرشحه، “لا مجال لإعادة النظر في وجود دولة إسرائيل” ويجب الاستمرار في الدفاع عن “حل الدولتين”. تواصل ليديا سامربخش:“نحن ملتزمون بالقانون الدولي من حيث المبدأ وبناء على تحليل سياسي. إذا توجه الشعب الفلسطيني نحو خيار آخر، فهذا سيفتح آفاقا جديدة. هناك الكثير من الأمل في الشباب الفلسطيني الذين يناضل ضد التمييز والفصل العنصري، ضمن حركة بدأت تجتاح المجتمع الإسرائيلي”.

صحيح أن فابيان روسيل، على عكس نواب شيوعيين آخرين منتهية ولايتهم، لم يكن مقداما تماما في مسألة فلسطين وإسرائيل. فهو لم يقل أي كلمة عن الموضوع عند استضافته في 13 مارس/آذار 2022 على موجات “راديو جي” -وهي إذاعة طائفية يهودية-، حيث تركزت الأسئلة على أوكرانيا وجان لوك ميلانشون. غير أن الالتزام الثابت لحزبه وليومية “لومانيتي” بالاعتراف بدولة فلسطين، ولقاءه الأخير مع السفير الفلسطيني في باريس، كل هذا يجعله متماشيا مع هذا الخط السياسي، حتى وإن أصر في الحملة الانتخابية على مواضيع أخرى يخالها أكثر نجاعة. في جميع الأحوال، وبالنسبة للمكافحة ليديا سامربخش،

لا أعرف ما إذا كان الالتزام بالسلام العادل يمكن أن يُربح أصواتًا أو يُخسرها. لكن التمتع برؤية دولية يدخل ضمن معركتنا في مواجهة العولمة الليبرالية التي يقودها إيمانويل ماكرون والانشغالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية الخطيرة في عصرنا.

جادو لا يقبل المصطلح

يشرح لي مسؤول من القسم الدولي لحملة جادو قائلا: “الطريق إلى السلام تمرّ أيضا بأن نعمل معاً على مشروع ملائم للبيئة. ويُعد نموذج الافتراس الاقتصادي في المستعمرات أيضا طريقا مسدودا من الناحية البيئية”. وتضيف إستير بنباسا قائلة: “قواعد حزب الخضر تدعم فلسطين. ولكن زوايا المعالجة غالبا ما تدور حول مسائل نمط التنمية، ونهب المورد المائي نتيجة ممارسة المستوطنين للزراعة المكثفة في الضفة الغربية”. جزء هام من الخضر هم منتخَبون محليون ساهمت مجموعات بمدنهم في توعيتهم بالقضية الفلسطينية. ولكن ليس هذا جوهر عملهم، بل تدور انشغالاتهم في الميدان حول التخطيط والتنمية الحضرية وسياق الاحترار المناخي والأزمات الاجتماعية. وكثيرا ما كانوا يعملون في منظمات غير حكومية قبل الدخول في معترك السياسة.

تشرح منتخَبة باريسية من الخضر مقربة منه: “جادو بيئي في الأساس. لقد عمل لدى منظمة السلام الأخضر(غرينبيس)، ويمكن أن تكون لديه راديكالية حقيقية. ولكنه لا يعرف إلا القليل عن هذا الموضوع الذي قد يخلق المتاعب، وهو يرتاب من القضايا الجيوسياسية”.

يختلف جادو عن ميلانشون في العديد من النقاط، كما يعارض استعمال مصطلح الفصل العنصري. وكما وضّح لـ“راديو جي” في 13 فبراير/شباط 2022، فهو يريد “إيقاف الاستعمار” كما يدافع عن “حل الدولتين”. لكن لا مجال للحديث عن الفصل العنصري: “أنا لا أستخدم مصطلح الفصل العنصري على الرغم من أن قانون الدولة القومية لعام 2018 يشكّل سابقة خطيرة بالنسبة لإسرائيل. لكن الفصل العنصري كلمة عنيفة، لا أريد تطبيقها على إسرائيل، على الرغم من أن بعض ممارسات دولة إسرائيل تمييزية”. هذا والحال أن حزب الخضر قد دعا إلى جامعته الصيفية لعام 2021 هاغاي إلعاد، مدير منظمة “بتسيلم”، وهي المنظمة غير الحكومية الإسرائيلية التي كانت الأولى في التحدث عن فصل عنصري في جميع أنحاء إسرائيل.

يشرح إطار من حملة جادو:

إننا نولي اهتماما لهذا العمل منذ البداية، وهذه الورشة لم تكن وليدة الصدفة. فمنذ نشر تقرير منظمة العفو الدولية، يتم تسليط الضوء على التمييز ضد الفلسطينيين. ولكن ما هو المصطلح الصحيح؟ الموضوع الحقيقي هو المساواة في الحقوق بين مختلف السكان. فهناك ما قبل وما بعد التصويت على قانون الدولة القومية، وهو قانون يرمز إلى ترسيخ نظام إثنوقراطي، وهذا يؤثر على نظرة الدول، ومكانة القومية وحتى مكانة الشتات. كانت هناك مظاهرات غير مسبوقة للدروز ضد هذا القانون، وهذا يبرز أن هناك أزمة هوية في المجتمع الإسرائيلي.

على المستوى الميداني المحلي، كثيرا ما ناضل المنتخبون الخضر ضد الخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية من خلال رفضهم التصويت على تعريف التحالف الدولي لذاكرة المحرقة. ولقد استلهم ناشطو الحزب من إعلان القدس حول معاداة السامية، الذي وضعه أكثر من 200 جامعي من جميع أنحاء العالم، وقد تم تبنيه في مارس/آذار 2021، والذي يدافع عنه جادو في تصريحه لـموقع “أوريان 21”:

يسمح إعلان القدس بشأن معاداة السامية بالتمييز بين الحالات التي يمكن فيها اعتبار العداء لإسرائيل من ضمن معاداة للسامية وبين الحالات التي ليست كذلك، بصفة أفضل من تلك التي يقدمها التحالف الدولي لذاكرة المحرقة، وذلك من خلال تقديم أمثلة واضحة لكلتا الحالتين. إنه تعريف يأخذ على محمل الجد في نفس الوقت مسألة مكافحة معاداة السامية وأهمية حرية التعبير.

فجادو مثل ميلانشون، حريص على حرية التعبير.

في الخلاصة، يحمل ميلانشون، ولا يخلو ذلك من اندفاع وحماسة، مشروعا شاملا لتغيير النظام، حتى وإن تهاطلت عليه الانتقادات من كل مكان، أحيانا عن باطل وأحيانا عن حق. فهو يجسّد تضامنا شاملا، كما أنه من القلائل الذين يتحدثون عن غزة وذلك يستحق الإشادة. يجسّد جادو من جهته تضامنات على مستوى قاعدي أكثر، ويطرح السؤال الوجيه لنمط التنمية الذي يفرضه الاستعمار، كما أن أنصاره يخوضون معركة مشروعة في الميدان حول تعريف معاداة السامية. أما روسل، فيبدو مهمِلا للموضوع بعض الشيء. يبقى أن حزبه منخرط في جميع النضالات، وقد تساعد الأفكار التي يتناولها، كما يفعل الإخوة الأعداء لميلانشون بخصوص موضوع الفصل العنصري، في تحريك الخطوط.

وفي الأخير، يجب الإشادة بموقفي ناتالي آرتو، مرشحة حزب “الكفاح العمالي”، وفيليب بوتو، مرشح حزب “الحزب الجديد المعادي للرأسمالية”، واللذان يُنتظر أن يحصلا على نسبة تصويت ضعيفة، إذ كان لهما دائما موقف واضح ومتضامن مع القضية الفلسطينية. نترك كلمة الختام لمرشح “الحزب الجديد المعادي للرأسمالية”:

لا وجود لسلام دون عدل، والطريق إلى العدل تمر عبر إنهاء جميع السياسات الاستعمارية والتمييزية الإسرائيلية، وعبر الاستجابة إلى جميع الحقوق القومية والديمقراطية للفلسطينيين والفلسطينيات.

كان بوتو من خلال هذه الجمل يجيب على أسئلة جمعية “فلسطين ستنتصر”، والتي قامت الحكومة بحلّها بكل وقاحة. ها هي حرية تعبير المدافعين عن حقوق الفلسطينيين مهددة مرة أخرى في فرنسا إيمانويل ماكرون.

يانيك جادو: “في فلسطين المحتلة التغير المناخي مضاعف للتهديدات”

أوريان 21: أمضيتم في يونيو/حزيران 2020 نداء لـ 1080 برلمانيا أوروبيا ضد ضم الضفة الغربية. مارأيكم مع مرور الوقت في اتفاقيات أبراهام؟

يانيك جادو: تؤكد اتفاقيات أبراهام المطبِّعة للعلاقات بين البحرين والإمارات والمغرب والسودان اختفاء القضية الفلسطينية من النقاش الدولي والإقليمي. فهي تمثل تغيرا نموذجيا مقلقا بخصوص حل النزاع الإسرائيلي-العربي. إنها نهاية صيغة “الأرض مقابل السلام”، حيث يتم توقيع معاهدات التطبيع هذه دون تنازلات على الأرض وذلك بسبب مصالح مختلفة: تحالفات ضد إيران وتركيا والإخوان المسلمين ولأسباب اقتصادية إلخ… وهي ترسخ قبول الدول الموقعة للوضع الراهن في الأراضي المحتلة. وتمثل إذا نهاية المبادرة العربية لعام 2002 والتي كانت تعد بالسلم مقابل العودة إلى حدود سنة 1967، وتزيد من إضعاف الموقف الفلسطيني. حتى وإن بدت إسرائيل على الفور أقل عزلة، وبالتالي أقل عرضة للتهديد بفضل هذه التقاربات، فإن استمرار سياسة الاستيطان التي تشجعها هذه الاتفاقيات بشكل غير مباشر ليست في مصلحة أحد. وطالما لم يتم حلها، ستبقى “القضية الفلسطينية” في قلب التوترات الإقليمية.

أوريان 21: يبدو صوت أوروبا خافتا منذ مدة طويلة على الأرض.

جادوت: للأسف، اختفى وضع الفلسطينيين من الأجندة الدولية، باستثناء خلال فترات اشتداد العنف والصراع المفتوح التي تقتحم المشهد الإعلامي. لقد انسحبت الولايات المتحدة، بينما يكتفي الاتحاد الأوروبي، وإن كان ذلك أفضل من لا شيء، بتقديم مساعدة اقتصادية ومالية وإنسانية مهمة للأراضي الفلسطينية. ولكن هذا لا يكفي، وفي إطار تدعيم السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، وهو أمر ضروري كل يوم أكثر، سأجعل على جدول الأعمال إعادة إطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

أوريان 21: كيف يفسر الصمت النسبي للرئيس ماكرون وحكومته بشأن الملف الفلسطيني الإسرائيلي خلال ولايته؟

يانيك جادو: أأسف لقلة استثمار الرئيس ماكرون وحكومته فيما يتعلق بالقضية الإسرائيلية الفلسطينية والتي تبقى موضوعا أساسيا لاستقرار المنطقة والدفاع عن القانون الدولي. وفضلا عن ذلك، فإن الوضع الحالي يؤثر على تماسك المجتمع الفرنسي، حيث يثير ردود فعل متأججة وأحيانا غير مقبولة من بعض مواطنينا. فكل مبادرة تهدف إلى استئناف مفاوضات السلام على أساس القانون الدولي من شأنها المساهمة في تهدئة الوضع في فرنسا وتجنب التوترات المرتبطة بالهوية والتي يدينها حماة البيئة. وبغض النظر عن مفاوضات السلام المحتملة، يجب التأكيد على احترام القانون الدولي والمساواة في الحقوق وإنهاء التمييز.

أوريان 21: تعد الرهانات البيئية مهمة بما في ذلك للأسباب المتعلقة بالاحتلال وعسكرة الضفة الغربية.

يانيك جادو: بالتأكيد. فالأرض التي يُفترض اليوم أن تكون للدولة الفلسطينية هي أرض مشوهة ومقطعة ومعرضة للتمييز ومقسمة إلى طبقات، وتقوم إسرائيل بصفة مباشرة وغير مباشرة بتحديد القواعد فيها. ففي وقت يدرك الجميع أن التغير المناخي هو عامل مضاعف للتهديدات، ليس هناك أماكن كثيرة في العالم توضح هذا التأثير أكثر من فلسطين المحتلة. فالاحتلال الإسرائيلي يفاقم من آثار التغير المناخي على الفلسطينيين من خلال مصادرة الأراضي والموارد الطبيعية، وخاصة المياه، وأيضا بسبب القيود المفروضة على حركة الأشخاص والسلع ورؤوس الأموال. فهم لا يمنعون الفلسطينيين من الوصول إلى الموارد الأساسية للتأقلم مع التغير المناخي فحسب، بل يمنعوهم أيضا من اتخاذ إجراءات طويلة الأمد. إن النضال من أجل الأرض والماء في صميم المطالب المشروعة للفلسطينيين من أجل العدالة.

تمت الإجابة على الأسئلة عبر البريد الإلكتروني في 1 مارس/آذار 2022.

 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬