في ميزان النظرية: الإنسان ذو البُعد الواحد لهربرت ماركوزه

في ميزان النظرية: الإنسان ذو البُعد الواحد لهربرت ماركوزه

في ميزان النظرية: الإنسان ذو البُعد الواحد لهربرت ماركوزه

By : Arabic Editors

آندرو روبينسون*

كتب ماركوزه كتابه: (الإنسان ذو البعد الواحد)[1] في عام 1962، ولكنه في كثير مما جاء فيه كأنما قد كُتب اليوم: تسطيح الخطاب، والكبت المتفشي وراء ستار من "الإجماع"، وعدم الاعتراف بمنظورات وبدائل تتجاوز الإطار المسيطر، وانغلاق عالم المعنى[2] المسيطر، والتلاشي في الحريات المقرَرة ومنافذ الهرب، والتعبئة الكاملة ضد عدو دائم جُعِل من صميم النظام ليكون أساساً للانسجام المصطنع (conformity)، والجهد المبذول.. لقد كان الكتاب منتوج حقبة نكوص تفكك سابقة، شبيهة في كثير من جوانبها بما نعيشه الآن.

يكمن الاختلاف الأكبر، عن الوضع الحاضر، في أنه، على خلاف ثلاثين عاماً من النيوليبرالية والموجات الأخيرة من التراجع الاقتصادي، كان ماركوزه يكتب في وقت كانت فيه دولة الرفاه تنمو، ويصير فيه حال عامة الناس أكثر يساراً. هذا يعطي معنى مغايراً لعناصر الكبت في السياق. كان ماركوزه يعطي انطباعاً عن أناس قد ركنوا إلى السير مع التيار، لا مرغمين ولا مخدوعين.

"البعد الواحد" في العنوان، يحيل إلى تسطيح الخطاب، والمخيلة (imagination)، والثقافة والسياسة داخل مجال الفهم والرؤية الخاصة بالنظام المسيطر. يعقد ماركوزه مقابلة بين المجتمع المستهلك الموسر في الرأسمالية المنظمة، وبين وضعٍ سابق شهد وجود إنسان "ذي بُعدَين". وُجد هذان البُعدان في عدة مستويات، ولكنهما بالنسبة لماركوزه فإنهما يعبران عن جانب واحد: تعايش النظام الحالي مع ما ينقضه.

في الثقافة، عُيِّر عن هذا البعد الثاني بدور الثقافة بما هي نقد، بحيث تكون، حتى الجوانب المحافظة للثقافة، تتعارض مع النظام السائد، تقدّم شخصيات (من مِثْل: بطلات المآسي وأبطالها) على أنها مِن المحبطين في عالم اليوم، ويظهر أيضاً هذا البعد الثاني في وجود مجال حي لثقافة راديكالية. 

في الفكر، ظهرت الفجوة بسبب المسافة بين مفاهيم معينة واستعمالاتها المخصوصة، وبسبب احتمالية الفصلِ -على مستوى المفهوم- بين فاعلٍ (عامِل) أو شيء (موظف، شيء منتَج) عن سياقه الوظيفي أو النظامي (العمل، السلع)، وبسبب التعارض بين القيم الأخلاقية، والواقع المعيش.

الفجوة بين البعدين، فيما يرى ماركوزه، هي أمر جوهري في احتمالية التغيّر الاجتماعي. تفصل الفجوة ما هو ممكن عما هو واقع وحاضر، ما يجعل تصوَر أوضاع مختلفة جذرياً عن النظام الحالي أمراً ممكناً. القضاء على الفجوة يجعل التفكير فيما هو خارج عن إطار النظام أمراً مستحيلاً، وهذا يجعل التفكير في بدائل تتجاوز تكرار العلائق الاجتماعية القائمة أمراً مستحيلاً. ينتج البُعدان فسحة أو مسافة بين ما يمكن التفكير به وما هو موجود؛ فسحة يمكن للفكر النقدي أن يزهر فيها. كما أنهما يعتمدان على "ضمير تعيس"، منفصل عن الواقع الحاضر، وعلى وعي بمشكلاته في بعض مستوياتها.

وحسبما يرى ماركوزه، سُدّت هذه الفجوة بإجراءٍ يكاد أن يكون إدماجاً اجتماعياً شمولياً، من خلال تنسيق الوظائف الاجتماعية وظهور النزعة الاستهلاكية والفكر الإداري (الحكومي). صوّر ماركوزه هذا الإجراء بأنه يجري بعدة سبل، أحدها أن ثقافة الاستهلاك تتسلل إلى حيوات الناس وعوالمهم المعيشة، وأن الرأي العام يتدخل في المجال الخاص: رؤية النظام تدخل إلى البيت عن طريق التلفزيون، والراديو، والبضائع المستهلَكة؛ كما تدخل إلى المجتمعات من خلال عناوين أخبار ليس منها مناص، تُنشَر خارج نطاق الصحف، وهيمنة "الرأي العام"، وتدخلات موظفي الدولة.

أظن أن ماركوزه محق في أن إبقاء مسافة تحفظنا من التسليم الاجتماعي ضروري من أجل أن تتشكل تصورات ورؤى مهمة وذات قيمة، ولطالما كان عدم الوعي بهذا البعد يدفن محاولات يسارية لتشكيل السياسة.

انظر، على سبيل المثال، في اللوحات (البوسترات) المنتشرة في كل مكان في نوتنجهام -المملكة المتحدة- تروج لإجراءات فرض النظام المستحدثة، وتزود بأرقام مخصصة لـ "الدعم" المقدم من بلدية المدينة، للتعامل مع المشاكل المحلية بأساليب قمعية (بلِّغ عن "لص"، بلّغ عن "سلوك معادٍ للمجتمع"، كاميرا المراقبة موجودة هنا "من أجل سلامتك"، هذا وذاك من أعداء الشعب قد منعوا من دخول هذه المنطقة بسبب تسولهم، أو بسبب سرقة زهيدة، أو لكونهم فقراء عموماً...إلخ). لا يكاد المرء أن يسير في الطرقات اليوم دون أن يقر بصمتٍ أو أن تخيفه رسائل كهذه. هل تختلف حقاً حملات التدمير هذه عن حملات دعاية الحروب الصليبية في شموليتها الكلاسيكية؟ وهل من مصادفة في أن تدخلاً موغِلاً كهذا يتزامن مع حملات على البوسترات التي تُعلّق في الشوارع خفية من الشرطة أو بلا ترخيص، ومع حملات الكتابة على الجدران، وبل وحتى مع فرض حظر يمنع ملصقات الانتخابات على أعمدة الإنارة.

علاوة على ذلك، فإن الناس أنفسهم قد "أُخضِعوا "للانسجام مع النظام والإقرار به. الموافقة تتولد من التكرار والعادة، مع أناس، راكنين إلى حالة من التنويم المغناطيسي بوتيرة مطرّدة من العمل في المصانع، والاستهلاك الجماهيري. هذا يذكّرنا بمناقشة باثس عن الموضة: يخلق النظام نوعاً من النشوة في تكراره للتنوع ضمن نطاق مغلق. الحاجات قد اصطُنِعَت ووُجِّهَت على نحو يُمكِّن من إرضائها بوسائل وُضِعَت بطريقة ممنهجة (هذه الدعوى قد شكلت فيما بعد الأساس لتحليل إيفان إليتش للتعليم المدرسي).

إن الإدماج المنهجي أو السيطرة الاجتماعية مؤسَّسة اليوم على تلبية الحاجات، بدلاً من إحباطها، الخدعة هنا كامنة في أن الحاجة التي تُلبّى هي ذاتها التي تُختَلق. كان بوسع ماركوزه أن يذكر أيضاً الطرق التي أدت بالعمل والعائلة والاستهلاك إلى أن يلتهموا ما تبقى من ساعات اليوم، حتى لا يبقى للناس وقت للنظر في أحوالهم، أو لأنشطتهم الإبداعية، أو للتنويع في أساليبهم في الحياة، أو لتواصل اجتماعي "خالص"، وهو، ببساطة -كما عبر عنه حاكم باي[3]-: إيجاد الوقت لمجموعة ما لتجتمع، دونما ارتباط بعمل، إذ الاستهلاك، أو العائلة، هي أصلاً مهمة صعبة، وفعلُ مقاوَمة.

وحسبما يرى ماركوزه، فإن آليات الإدماج المختلفة تؤدي إلى نوع جديد من انغلاق اجتماعي يحجب حتى أي منافذ هرب أو انعتاقات متخيَلة. فقدان الفجوة المهمة ينتج "ضميراً سعيداً" يقبل بمعايير النظام، غير أن هذه السعادة ليست إلا سطحية. 

ومن جانب آخر يرى ماركوزه أنه، بينما تُلبّى حاجات الناس الأساسية، ثمَّة خوف كامن، وقلق، وعدائية ليست عن السطح ببعيدة، وهذه ذاتها توظَف و تستخدم من قِبَل النظام.

في الثقافة، حُيّد البعد الثاني من خلال سلب ما للثقافة "الرفيعة" من قَدر، وذلك بتحويلها إلى ثقافة "جماهير". الواقع الحاصل في أن الموسيقا صارت تشغّل لتُسمع في ضجيج محلات السوبرماركت، وأن كلاسيكيات الأدب العالمي، تشترى بثمن زهيد في محلات الزوايا. هذا الاختزال المُركَّب يقلل من المسافة بين ما هو ثقافي وما هو من الواقع المعيش، بجعلها مادة تستخدمها الدعايات والنزعة الاستهلاكية.

في الآونة الأخيرة، قد نفكر، على سبيل المثال، كيف أن موسيقا الاحتجاج، بما فيها: البانك، الراب، وغيرهما، ترِدُ، في نسخة منقحة تنقيحاً مناسباً، في قائمة الأغاني الأكثر رواجاً، وفي البرنامج العام للإذاعة الرئيسة، مختَزَلة قيمتها بما تحققه من مبيعاتٍ كسلعة. أو لعل أحدنا يفكر فيما قد لحق النصوص "الكلاسيكية" القيّمة من خسارة، كنصوص ماركس، أو دولوز، أو سارتر (أو، حتى، ماركوزه نفسه)، نتيجةً لمعاملتها كمادة تعليم في الفصول الدراسية، أو مادة للتقييم بالاختبارات: بدلاً من أن تكون على صلة بحياة المرء، أو حتى بدلاً من أن تعتبر بأنها غير ذات صلة بحياة المرء لأسباب وجيهة، فإن هذه النصوص قد نُئِيَ بها وحُصِرت في مجال مركّب تركيباً بينيوياً يظهرها بأنها لا علاقة لها بحياة الفرد.

وفي الوقت نفسه، فإن أولئك الذين ليسوا بطلبة ولا أكاديميين، لا يقرؤون هذه الأمور، إما لأن قراءتها نوع من الدراسة، وبالتالي فهي عمل، يجدر تجنبه إن كان لا يجدي نفعاً من الناحية المالية، أو لأن هذه النصوص قد عُرِّفت بأنها "نظرية"، بمعنى "صعبة"، ولذلك فهي للطلبة والدارسين وحدهم. أولئك الذين كانت لهم قراءات في مثل هذه الأمور، قد ينصرف الناس عنهم لكونهم يعيدون إنتاج ما ليس بذي صلة بحياة معظم الناس، لأنهم قد صُرِفوا إلى مجال من الدراسة قد اعتبر سلفاً بأنه غير ذي صلة بحياة الناس. وعلى هذه الحال، فهذه النصوص في العموم لا تصل إلى من يقرؤها من الطلبة، ولا إلى من لا يقرؤها من عموم الناس، وتضيع أهميتها (الكامنة في قوة تأثيرها)، على الرغم من أن هذه النصوص مسموح بها، ومتاحة على نطاق واسع، وفي كثير من الأحيان متاحة على شبكة الإنترنت مجاناً.

أما في الفكر، فإن ظهور تحليلات متنوعة: وضعية، ووظيفية، وإجرائية يقيد الفكر ويحصره فيما هو واقع. وحده ما يمكن أن يُرى على أنه موجود يتمتع بحقه في أن يكون له وجود في اللغة، ونتيجة لهذا، فالماضي والمستقبل أزمنة مستبعدة في اللغة، بينما يراد للأسماء أن تكون هي السائدة على الأفعال، وصيغ الوصف على صيغ الفعل (على سبيل المثال: تفضيل صيغة "العولمة" كحدث مجرد من الزمان، على الصيغة المعبرة عن ممارسات معينة في "الفضاءات المتعولمة" أو التي تتعولَم). كما أن الأسماء مرتبطة بوظائف مخصوصة، وعليه فإن تصور شيء (مسمّى) مجرداً من وظيفته المرتبطة باسمه يصبح أمراً غير ممكن (على سبيل المثال: كلمة "الديمقراطية" تُفهَم على أنها كلمة تحيل إلى ممارسات قائمة في أنظمة الحكم الغربية، بدلاً من إحالتها إلى نموذج منشود للحكم الذاتي، الذي تدّعي هذه الأنظمة تحقيقه في واقعها).

ولهذا، فالاستعمال اللغوي يصبح كمنوِّم مغناطيسي، أو أنه يُختزَل ليُحوّل إلى مجرد فعل أمر لا يمكن رده (انظر، على سبيل المثال، إلى العبارات الترويجية والمقولات السياسية المروّجة في الدعايات). وبينما مصطلحات مثل "وظيفي"، و"إجرائي" تعتبر موضة قديمة، فإن طريقة التفكير هذه، التي تعبر عنها هذه المصطلحات، ما تزال مهيمنة في الاتجاهات السائدة في العلوم الاجتماعية وفي لغة الخطابة في السياسة وفي الأعمال التجارية.

وقد يصح لنا اليوم أن نأخذ مثالاً كـ"العلاج المعرفي السلوكي"، والذي يسعى إلى التقليل من حالة عدم الرضا عن أنماط الفكر التفكيكية، والتي يُشجّع "المريض" أو يدرَّب على تجنبها، لأن أفكار الناس إنما تعني بأنهم عاجزون عن تحقيق أهداف حياتهم. وبدلاً من يستخدم واقع: أن الناس تعساء، كاتهام للنظام، فإن اللائمة، في تعاسة الناس، تُلقى على مقدرتهم الذاتية على التفكير التفكيكي، ويُستهدَف استبعاد أنماط التفكير هذه؛ المنهجُ الذي يستدعي في ذاكرتنا الطريقة الأورويلية في غسيل الدماغ.

إضافة إلى ذلك، قُيِّد ما هو عقلاني وما هو واقعي في الطبيعة الأداتية المحضة للعقلانية التقنية، بما هي عملية حساب محضة، حيث الوسيلة، مقيّدة في حدود ما يقبل الملاحظة والرصد. وبهذا يكون من المستحيل نفي النظام -أي القول بخطئه أو بأنه غير عقلاني- في لغة معترف بها على نطاق واسع. ذلك لأن لغة الحياة اليومية قد نُقِّحَت على نحو دائماً ما يجعلها تحيل إلى الوظائف داخل النظام. حاول أن تجادل من يدعم رأياً وسيطاً يقول بأن بريطانيا ليست حرة أو ديمقراطية، وسيواجهك هذا التأثير: إما أن تكون الديمقراطية كمّية (تقاس بالكم)، وبذلك فهي تقاس بالرتبة التي حققتها بريطانيا في بعض المؤشرات القياسية، التي هي أفضل، قل مثلاً، من رتبة زيمبابوي. أو أنها تُحدد منهجياً باعتبار الاعتراف الرسمي بحقوق معينة، أو بغيرهما من المعايير ما يعتبر بأنه مستحيل أو لم يوجد أبداً، ومع ذلك، لا يمكن إدانة بريطانيا بعدم وجود هذه المفاهيم والتي لا تحمل معنى أو تشير إلى مدلول.

هذا يسكت أصوات "العقلانيات الأخرى"؛ فالحقيقة الواقعية، على سبيل المثال، هي أن الناس لا يستطيعون أن يحتجوا بدون أن تقمعهم الشرطة؛ وأن طالبي اللجوء السياسي، و"المشتبه بهم" خطأً في تهم الإرهاب، هم عرضة لمداهمات الفجر المرعبة، وأن جميع أنواع الممارسات التي لا تسبب ضرراً لأحد (اعتمار قبعة أو ارتداء سروال فضفاض، الاجتماع بأصدقاء، توزيع منشورات، قيادة دراجة...إلخ) يمكن منعها تعسفياً بأوامر صادرة تحت بند تفويض الدولة باتخاذ ما تراه مناسبا من إجراءات. هذه كلها تصبح أموراً غير ذات صلة بمسألة ما إذا كانت بريطانيا "حرة" أو "ديمقراطية". ومن يبني استنتاجات منطقية لما تؤدي إليه هذه الانتهاكات، يُعتبر أنه يعيش في عالم خيالي. ولذا، فالمرء يتعامل مع إجراءات مفرَّغة من معناها، يُبرّرها النظامُ بأنها نتيجة لواقع موجود يلزم التعامل معه بهذه الإجراءات، وتقتصر هذه الإجراءات على المعايير التي يمكن ملاحظتها، وحدها، ثم تنجح بهذه المعايير.

يستخدم ماركوزه مثال إجراءات الرد على تظلمات العمال في المصانع: في ردها على الشكوى، تؤكد الإدارة على أن الشكاوى المقدمة يجب أن تكون أكثر تحديداً، فشكوى مثل "الأجور منخفضة جداً"، تقدم في صيغة أكثر تحديداً في صورة شكوى فردية، مثل أن عاملاً معيناً لا يستطيع دفع نفقات الرعاية الصحية. ومتى ما حُددت هذه المطالبات، صار من الممكن الاستجابة لها مجتمعةً من خلال إصلاحات صغيرة.

يعتقد ماركوزه بأن هذا يستر المنازعات الأساسية الكامنة، ذلك أن الشكوى من أن "الأجور منخفضة جداً"، هي في الواقع شكوى تجمع بين مكوّنين: الوضع الخاص للعامل، وتظلم عام ضد نظام الأجور الذي يحيل ضمنياً إلى حال العمال كلهم و لا يمكن تعديله إلا من خلال تغيير كلي للنظام القائم.

وبتجزئة المكوّن الأول، وتلبيته، وحصر مجمل التظلمات في هذا المكوّن، يُسكِت النظام المطالبات بالمكوّن الثاني، ويجعلها تبدو مطالبات غير منطقية وغير معقولة.

ثمة جانب نفسي أيضاً، يحيل ماركوزه إلى الوضع القائم بـوصفه "الاتضاع/التفكك المنظم" (repressive desublimation). وهو مصطلح في التحليل النفسي يشير إلى حالة دفاعية، تستخدم للتعامل من الرغبات التي كُبِحَت، ولذا فهي حالة لاواعية. غالباً ما تعود للتجلي في أشكال "متعالية"، تتيح منطلقاً لإبداع ثقافي. في منهج فرويد، هذا قد يعني، على سبيل المثال، أن شخصاً لديه حالة عقدة فموية (oral fixation) قد يصبح خطيباً مفوهاً أو مغنياً ماهراً.

عند ماركوزه، كبحٌ كهذا يمكن أيضاً أن يؤثر على الرغبات السياسية: رغبة التحرر التي لا يتاح لها التعبير بشكل واع (سواء باعتبارها محظوراً اجتماعياً، أو لعدم وجود لغة مناسبة)، يمكنها أن تجد سبيلاً لتعبير غير مباشر في مجالات مثل الفن.

يحاجج ماركوزه في أن السيرورة المعاصرة، بطبيعتها المخصوصة -سيرورة تلبية حاجات مخصوصة في مجتمع استهلاكي-، من خلال وسائل ممنهجة هي سيرورة تؤدي إلى القضاء على التسامي: الرغبات "تُسَيَّل"، يتأتى لها تعبير في السياق الاجتماعي، غير أنه تعبير اتضاعي، يسلب ما في المطالبة من معنى يتجاوز خصوصيتها: التطلع الأوسع إلى الحرية.

يراودني شك، هنا، في أن ماركوزه يبالغ. الكبح النفسي في بعض المجالات، وخصوصاً فيما له صلة بصور التعبير عن الغضب، ما يزال شائعاً جداً، والأسرة التقليدية لا زالت حية وفي عافية، بشكلها المباشر، وفي صورتها "الليبرالية" المخففة.

إضافة إلى ذلك، ثمة طرق كثيرة يمارس بها النظام إحباط الرغبات، حتى على مستوى الحاجات الأولية الأساسية ، مثل العجز عن توفير سكن يحقق الكفاية. 

غير أن ماركوزه قد قدّم تنظيراً، لجانب من الوضع القائم، قد يصح أحياناً :اللوائح التنظيمية اليوم تنحو إلى تفكيك الرغبات، تاركة مساحة مصمتة أقل للاوعي ليعمل بها.

التأثيرات السياسية للرؤية التي يقدمها ماركوزه (أي لدور هذه العناصر وعلاقاتها معاً)، تشير إلى الحاجة لصور من المقاومة التي ترفض مبدئياً النظام المسيطر، فيما تظل متشائمة حول إمكانية هذه الاحتمالات. يؤكد ماركوزه على أن الديمقراطيات الغربية ليست ديمقراطية في الواقع، لأن الناس قد مُنعوا بهدوءٍ من ممارسة التفكير النقدي، وقد وُجِّهوا إلى ما تبقى من الخيارات، على كل حال، داخل دائرة النظام. وهذا، إذاً هو نتاج التلاعب الهادئ، وبما أنه من صميم نظام اجتماعي سلطوي في بنيته الأساسية ، فهو لا يؤسس لأي مطالب بشرعية قانونية.

وعلى مستوىً أكثر تنظيراً، يحاجج ماركوزه أيضاً بأن الحاجات السائدة لا يمكن أن توفر أساساً متعالياً للشرعية، إذ أن الناقد للنظام، ينتقد أيضاً ما ينتجه النظام من حاجات في السياق الاجتماعي، يملك هذا النظام وسائل مختلفة لإدارة المعارضة بحيث يمكنه الإبقاء على إحكام سلطويّ. "الاتضاع بالقبول"[4] (repressive tolerance)، على سبيل المثال، هو ممارسة إنما يُسمح من خلالها للرؤى والتوجهات المعارضة بعد تحويلها إلى "آراء"، تعتنق كما لو أنها ممتلكات (أو أمتعة) شخصية للأفراد، "آراء" تحق للفرد، لكن ليس لها قوة التأثير على الآخرين، وليس على أحد إلزامٌ بأن يأخذها بعين الاعتبار، أي بوصفها معتقدات صادقة (حقيقية)، لا يحق للمعارضة أن تأخذها إلى حيز العمل.

إن اختزال ما يمكن إثبات صدقه من المعتقدات التي يُجزم بصدقها، وذلك بتحويلها إلى "آراء"، يذهب بكل ما يدفع لإيلاء عناية خاصة بتلك الأفكار أوالمعتقدات، أو الاعتراف بمقولات معينة كمعتقدات (ليس بالضرورة بالمعنى الديني) لها قوة الإقرار وتمثل عقيدة سائدة في المجتمع، وبذا؛ يمكن تجاوز هذه المعتقدات وأن لا يُلقي لها بالاً كأنما هي شؤون شخصية، وإن ارتُكبت أي محاولة لأخذ هذه المعتقدات إلى حيز الممارسة، كأنما هي إلزامات غير معقلنة لوجهات نظر شخصية. وبينما يستخدم هذا النوع من الحجج لنقض فكرة ماركوزه باعتباره سلطوياً ناشئاً، فإنه يحسن فهمها على أنها تكشف حدود "الديمقراطية" في السياق السلطوي، كما تكشف الحاجة إلى مشاركة متواصلة فاعلة، تكون أساساً لممارسات اجتماعية تستوعب شتى الجوانب والاختلافات.

أحد جوانب محدودية رؤية ماركوزه واضح جلي؛ (الإنسان ذو البعد الواحد) قد كُتِب قبيل موجة النضال والاحتجاجات الراديكالية في الستينيات، والتي كادت أن تهز أركان النظام السائد، وقد يكون هذا حدٌّ قد جعل هذا العمل (الكتاب) يخفق في التنبؤ بهذه القطيعة، على أن أحداثاً كهذه دائماً ما تأتي على غير تَنبُّؤ، ومن مصادر غير متوقَعة. من وجهة نظري، قد أخطأ ماركوزه في هذا لأنه لم يُوْلِ اهتماماً كافياً للجماعات المهمشة، في أمريكا كما في جميع أنحاء العالم.

إن الدمج (incorporation) الذي ناقَشه ماركوزه قد أثّر بشكل أساسي على الطبقة العاملة المنظمة، التي ينظر إليها ماركوزه، بوصفه ماركسياً، بوصفها العامل الأساس في التغيير الاجتماعي. ولعله لو أنه قد أولى عناية أكبر، على سبيل المثال، للنضالات الناشئة، في معظم أنحاء العالم، لإنهاء الاستعمار، ولظهور الحركات الاحتجاجية بين الأمريكيين الأفارقة، لبدت قيود الانغلاق المنهجي أكثر وضوحاً. وقد يكون ماركوزه قد بالغ أيضاً في تقديره للمدى الذي يمكن به لعالم المعنى التابع للنظام أن يمنع انعتاقاً متخَيلاً أو حركات راديكالية.

ومن المؤكد أن ذلك يغيّر في البنية، فما كان ينظر إليها على أنها "جوانب خارجية" لم تعد تعتبر كذلك، لأنه لم يعد ممكناً أن يكون لها وجود داخل الإطار المهيمن، وللسبب ذاته، يكون خروجها عن النظام أكثر وضوحاً وحدّة بالضرورة. يغّير هذا شكل الرفض، لا احتمالية الرفض. وبهذا الاعتبار، كان يمكن لماركوزه أن يستفيد، مثلاً، من منهج كمثل نهج نغري في تنظير العلاقة الدورية (cyclical relationship) بين انتفاضات المقاومة والسيرورة الجديدة للسيطرة.

كان الدمج استجابة لنوع خاص من إنشاءات المقاومة؛ فهو لم يمنع احتمالية وجود مقاومة من هذا النوع، وعلينا أن نجعل هذا في اعتبارنا إذا ما نظرنا لحالة التراجع والنكوص التي نشهدها. أمر آخر، أرى أنه يحد من رؤية ماركوزه، هو موقفه الراسخ من التقدمية [باعتباره صاحب موقف ثابت وراسخ من دعم التقدمية]: على الرغم من نقده الرصين للعقلانية التكنولوجية، فهو ما انفك يراها في الأساس تقدمية، كما في تعبيره عن انتصار البشرية في نضالها في وجه "ضرورة" الطبيعة، وتلك وجهة نظر تبدو متهافتة في ضوء نقده الانتقادات، اللاحقة، المستندة على وجهات نظر بيئية.

تأكيد ماركوزه على الفردانية والخصوصية كأساس للفكر السلبي، هو، أيضاً، محل جدل، بلا شك. ذلك أنه مبنيٌ على وجهة النظر القائلة بأن فضاءات مخصوصة في حِقَبٍ سابقة في الرأسمالية قد وفّرت مجالاً يمكّن لإصدار أحكام ذاتية (انطباعية) مستقلة، وهي وجهة نظر قد تكون محل نظر عند غيره من المنظرين. هناك في النسوية، على سبيل المثال، من يناقش مسألة إذا ما كان البيت حقاً مكاناً خاصاً، جاعلاً حجته على ذلك في أن البيت يجسد ديناميكيات الجندر، (أي: سيرورة التدافع في العلاقة بين الذكر والأنثى)، التي تتجلى في البنية الاجتماعية الأوسع، وقد هيأ لهذه الديناميكات موقعاً -هو البيت- للعمل المنزلي، حتى قبل أن تأتي الثقافة الاستهلاكية زائدة على هذه الحال.

لقد كان ماركوزه مدركاً، وكثيراً ما يورد إثباتات، بأن "الفجوة" القديمة كانت محصورة في كونها منتوجاً للأفضلية. ومع إقراري بمشكلات كهذه، فإني أعتقد بأنه من الأهمية بمكان أن نحافظ على فكرة وجود مسافة لازمة، تكون أساساً للانعتاق من التسليم. أظن أن ماركوزه محق في أن إبقاء مسافة تحفظنا من التسليم الاجتماعي ضروري من أجل أن تتشكل تصورات ورؤى مهمة وذات قيمة، ولطالما كان عدم الوعي بهذا البعد يدفن محاولات يسارية لتشكيل السياسة.

وليس مدار القول هنا على أن ما هو خاص هو مساحة لا تُمَس، إذ إن اختلاق مساحات تتجاوز المجال الاجتماعي المسيطر، ضروري للانعتاق من ضغوط نفسية وجدالية يواجهها المرء إذ يراد دفعه إلى الموافقة (conformity). وللتأكيد، فإن مثل هذا الهروب لا يضمن بأن لا يكون المرء تحت وطأة قيود تفرضها قوى غائبة ولكن تأثيرها حاضر قوي، غير أنه أي هذا الهروب يخفف من قبضتها.

ومع أنه في المجتمعات التي يكون فيها ما هو "اجتماعي" محافظاً على فضاء للنفي منفصلٍ جزئياً عن قوى النزعة الاستهلاكية والامتثال، فإنه من الممكن أن يظهر مثل هذا البعد أول ما يظهر في الفضاءات الجماعية (المشتركة)، في مجتمعات كتلك التي وصفها ماركوزه، ومن الضروري أن يحدث هذا الانفصال، أول ما يحدث، على المستوى الشخصي، كتأكيدٍ على رفضٍ أو كمسافة لازمة تؤسس لانفكاك عن النظام، وبالتالي لانفكاك عن الأشكال الراسخة والمعمول بها التي تتشكل بها الجماعة في ظل هذا النظام.

وإنما يصبح إعادة تكوين علاقات اجتماعية على أسس مختلفة ممكناً، بعد انفكاك كهذا، علاقات تتشكل بين أولئك الذين حدث فيهم هذا الانفكاك.

الهوامش:

[*]: أندرو روبيسون: منظّر وناشط سياسي، يعيش في بريطانيا، كتابه (Power, Resistance and Conflict in the Contemporary World: Social Movement Networks and Hierarchies)، (ألفه بالاشتراك مع Athina Karatzogianni)، نُشر في سبتمبر 2009 لدار النشر Routedge، وله عمود (In Theory) يكتب فيه جمعتين في الشهر.

[1]: ترجم الأستاذ جورج طرابيشي كتاب ماركوزه (الإنسان ذو البعد الواحد)، وبين يدي طبعة دار الآداب- بيروت (1988)، الطبعة الثالثة. ولذا فترجمة عنوان الكتاب، بهذه الصيغة، تُنسب لطرابيشي. كما أني استفدت في هذه المقالة من ترجمة طرابيشي لبعض المصطلحات الإنجليزية التي وردت في كتاب ماركوزه. وفيما يلي تلك المصطلحات:

المكافئ العربي (ترجمة طرابيشي)

المصطلح الإنجليزي (تعبير ماركوزه)

الاتضاع

Repressive

الضمير التعيس

unhappy consciousness 

الضمير السعيد

happy consciousness

العقلانية التكنولوجية

technical rationality

[2]: "عالم المعنى" (Universe of Meaning) كما عرَفه بريجر ولوكمان، مستمد من المجتمع، إنه معنى ينتجه المجتمع، ومن جهة أخرى ينتج المجتمعَ. عالم المعنى ليس محصوراً في أفكار الفلاسفة المرموقين عن المعنى والحياة، ولكن يشمل ما في المعرفة اليومية مما نأخذه على أنه من المسلمات. يتطلب عالم المعنى "شرعنة" مستمرة، يحتاج إلى تعزيز وتبرير متكرر. يلزم إخبارُ أعضاء المجتمع بأن عالم المعنى الخاص بهم واقع وحقيقي وصحيح، و"مشرعَن"، وبدون هذا الدعم "قد ينسحب عالم المعنى نحو الانهيار، وقد تكون الحياة بلا معنى، وقد يكون استقرار المجتمع مهدداً".

[3]: الاسم المستعار للمؤلف الأمريكي بيتر لامبورن ويلسون (كاتب سياسي، أناركي النزعة، ولد عام 1945).

[4]: نحت ماركوزه هذا المصطلح في مقالة عنوانها (Repressive Tolerance) في كتاب (Critique of Pure Tolerance: 1965)، الذي كتبه ماركوزه بالاشتراك مع Robert Wolff وBarrington Moore. ويشير هذا المصطلح إلى "القبول السلبي للممارسات والسياسات الاجتماعية والحكومية التي تقيد الحرية بمعناها المطلق".

"يجادل ماركوزه بأن الاتضاع بالقبول يظهر في صورتين أساسيتين: (1) القبول بلا تفكير بالمواقف والأفكار الراسخة، حتى وإن كان ذات ضرر بيّن على الآخرين، أو، مثلاً، على البيئة (الاستجابة البطيئة، على نحو مُشعِر بالمرارة، للتغير المناخي والتدهور البيئي قد قد يُرى على أنه مثال على ذلك)؛ (2) التأييد الصريح لإجراءات تتسم بعدوانية واضحة تجاه أناس آخرين (الدعم الشعبي في الولايات المتحدة وبريطانيا في أعقاب 11/9 و7/7 لمحاولات الحكومة المعنية لإيقاف أو الحد من استصدار أوامر المثول أمام القضاء مثال واضح على ذلك)". وضعتُ المقابل العربي لـ(repressive tolerance) مستفيدة من ترجمة طرابيشي لمصطلح (repressive desublimation)، انظر: هامش رقم (2)، ولعل الأول لم يرد في كتاب (الإنسان ذو البعد الواحد)، أو أنني لم أعثر عليه في الكتاب.

[ترجمة: حصة السنان، عن مجلة CEASEFIRE].

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬