ما هو الشّعر؟ أفشل من جديد في التوصل إلى جواب يتجاوز اللغز ويبدده.
محاولة للاقتراب من الشعر:
الشعر ليس ندى الحلم، ليس رفرفة لأجنحة الروح، ليس فرحاً يداهمنا فجأة، ليس حزناً يسيل ويجرفنا بهدوء ونحن ندخّن أوجاعنا، ليس يأساً يلوك شظايا لحلم تبعثر، ليس تزجية الوقت في رفو مُزق من، ليس ارتجافة قلب إذا ضحكت أي ليلى، ليس وليس وليس وليس.. إلخ.
الشعر، يرافق أولئك كلهم ــ ويرافق غيرهم ــ ليكون، حين يكون، نسيجاً لهم ونسيجاً لذاته.
***
تنظير:
قد يكون الشعر الذي «نعيش» أهم بكثير من الشعر الذي «نكتب أو نقرأ أو نسمع».
(قد) التي تصدرت الجملة السابقة تخبئ وراءها تظاهراً «ضرورياً» بأن الموضوع مفتوح للنقاش والبحث. و(قد) وكواحدة من عاداتها، جعلت الموقف ملتبساً.
لو أعدنا صياغة الموقف على النحو التالي:
ليس الشعر الذي نكتب أو نقرأ في أفضل أحواله إلا صورة تذكارية حسنة، للشعر الذي نعيش. وإذا أغرانا هذا الموقف بالقبول، سنواجه أسئلة عديدة، من بينها سؤال عن (الصنعة الشعرية)؛ فالقصيدة المعاشة، ليست بالضرورة أحرفاً وكلمات، وليست أصواتاً، إنها ليست صيغة. يمكنها أن تكون مراحاً أو اختناقاً داخلياً، يمكنها أن تكون دموعاً مالحة تسّاقط في الروح وتتحول إلى أقمار صغيرة تضيء عتمة ما هناك. يمكنها أن تكون ما تكون، أما القصيدة (المكتوبة أو المقروءة) فهي لغة تَشي بالقصيدة (المعاشة) دون أن تقدر على أن تكونها تماماً.
عندما نعيش القصيدة ولا نكتبها، تتحول إلى «شيء ما» في متحف داخلي منسي، لا يزوره أحد، حتى بُناته، متحف مفتوح على مصراعيه، يزوره النسيان، ويصبح سادنُه؛ سادنٌ موحش كالموت، يلوك محتويات هكذا متحف بهدوء بطون المقابر.
مثال 1:
لنقل إنك مسكون ببحر! البحر ليس باءً وحاءً وراء. تتالى تلك الأصوات في الهواء، أو تتالى تلك الحروف على الورق، لا يعني أن اللون المراوغ لذلك الكائن المائي الفسيح، سيتدفق من بين شفتيك. وكتابة تلك الأحرف لا تعني أن رائحة اليود والبساطة والغموض ستشغل حيزاً من دفترك، لا تستطيع أن تقطف الزبد من بين ركام الكلمات، ولا أن تصغي إلى زعيق النوارس، أو إلى همس الحشائش والكائنات البحرية الأخرى، أو إلى الحوار العبثي الذي يبدو أزلياً بين الأمواج وصخور الشاطئ.
ولكن لدى شاعر ما، طريقته، ليحبس بحراً على دفترٍ، ويجعله هائجاً، هادئاً، مرغياً، مزبداً.
شاعر لست أعرفه، ولكني لا أعجز عن تخيله، سيضفي على البحر شيئاً، سينسج من زبد البحر عند شواطيْ القصيدة، غلالة نومٍ، لحوريةٍ، أستطيع تصورها. سيمنح للبحر ألواناً أخرى، وروائح أخرى، وبين يديه يرتدي البحر أثواباً أخرى، ويصبح باءً وحاءً وراء.
مثال 2:
تستطيع الحرية أن تجعل الصوت أخضر، يهتز له القلب، ويرتجف خائفاً عليه لشدة حسنه. أما إذا يبس الصوت، ستبقى الأناشيد محبوسة خلف ذاك اليباس. وخلف ذاك اليباس فقط، ستحضر كرنفالاً لجثث القصائد، التي لا لغة فيها. وسترى بعينيك جثثاً تحمل توابيتها بأيديها، كي تتهاوى إليها، بجلال يخلع القلب. يجعل المشهد خلاياك تصرخ بملء ما تملك من حياة، أما من حرية تنفض الغبار واليباس والصدأ عن الحناجر، وتفتح درب الأناشيد صوب الضوء؟ في المدى الحيّ منك، في حال كهذا، تصبح القصيدة قابلة لأن تُرى، خارج وداخل أقفاص اللغة، تصبح القصيدة عكازاً للحرية، وعكازاً للغة، وتصبح اللغة درباً للقصيدة يفضي إلى ساحة تخلصت من أسوارها فصارت حضناً فسيحاً لحريةٍ، مثلاً، أو ملعباً للحب لا نهاية لحدوده، مثلاً.
مثال 3:
بعيداً عن الشعر، قريباً من اليوميات، أو قريباً من الشعر، في منتصف شارع اليوميات وفي عز الظهيرة:
يقول أبٌ:
لا تستطيع القصائد أن تدفئ أولادنا في الشتاء. يستطيع الإسمنت أن يدرأهم من المطر، ويستطيع البترول أن يبعد عنهم البرد. لا نريد لأبنائنا أن يكونوا امتداداً للإسمنت والمازوت، نرغب في أن يكونوا امتداداً لقصائد لا تطال المقاييس جمالها. بل نريد أكثر من ذلك: نريدهم جداول تتجدد فيها تلك القصائد. ونريد لهم الساحات التي يحدها المدى، ويلعب على أرضها الحب والعدل، وينبت منها وينيخ عليها الجمال.
لا نريد لأنفسنا أن نكون آباءً صالحين إلى درجة نستطيع فيها أن نكون امتداداً للإسمنت والمازوت لنؤمن شتاءً دافئاً لأولادنا، دون أن نملك ما يكفي من الوقت والروح لرؤيتهم يتفتحون كأنهم قصائد قالها أجمل إله عرفه تاريخ الديانات، أو تاريخ تخيلات البشر لله. لا نريد أن ننسى أرواحنا على أبواب الدكاكين لنحضر لهم الحلوى، ولا نريد أن نتحول إلى حاضنات آلية مدفّأة بالوشائع الكهربائية. نريد أن نكون وإياهم آباءً وأبناءً من لحم ودم وقصائد، تُعاش وتُقال وتُكتب. ولكن قسوة ما يجري تنسينا ما يجب أن نكون عليه، فنصبح فرائس العوز.