برغم مشاركتها في الموسم الثاني من البرنامج الشهير سوبر ستار، إلا أننا لم نلتفت إلى عبير نعمة كحالة فريدة، سوى عند تعاونها مع الموسيقار اللبناني شربل روحانا، يبدو أن روحانا تمكن حينها من قراءة صوت عبير بدقة مكنته من صناعة أغنية تحمل توقيع الفنانة الصاعدة حينئذ، بالمعنى العميق، فمنحها لحنُ أغنية "قهوة" آذاناً واعية، هذه الشراكة التي أطرتها كلمات الأغنية المختلفة التي كتبها جاد الحاج، كانت في تصوري أول خطوة في الطريق الصحيح لفتاة تمتلك صوتاً مختلفاً، فيه من القوة ما فيه من الوهن اللذيذ، الذي ينبئ الأذن بإحساس الغناء الحقيقي، الذي يجيء من مسافة عميقة، ويشعرك بأنه آت من زمن بعيد أيضاً، الترانيم التي منحتها عبير صوتَها سابقاً، ظلت ساكنة في حلياتها برغم اختلاف الألوان الغنائية التي ستذهب إليها لاحقاً.
القاعدة الصلبة
تنتمي عبير نعمة لعائلة فنية، تتكون من تسعة أفراد، يمتلكون أصواتاً جميلة ويغنّون، لكن يبدو أن اثنين من هؤلاء التسعة فقط اختارا طريق الاحتراف وهما عبير وجورج، لكن كلا منهما ذهب في اتجاه مختلف، أما عبير فقد أفلحت في تقديم ذاتها بادئ الأمر كمغنية نخبوية، وربما جاء ذلك التوجه من كونها باحثة موسيقية ومتخصصة، وربما أسهم عملها في المسرح الغنائي مع فرقة إلياس الرحباني وكراكلا وغيرهما في توجيه صوتها نحو صفوة المستمعين، عوض أن يذهب جهدها الحسي جُفاءً كالزبد.
الإصرار على كسب الصفوة
آتية من برنامج "موسيقى الشعوب" الذي بثته قناة الميادين وأعدته وقدمته عبير نعمة، وقد انطوى على جهد بحثي وفير، عكس ثقافة نعمة وفضولها تجاه الموسيقي، وما تؤسس له من ثقافات قبل أن تكون مجرد انعكاس لتلك الثقافات، أطلقت ألبوماً يمكن وصفه بالمفاجأة، فبعد غياب طويل، ظهر الموسيقار الكبير مارسيل خليفة شريكاً متيناً في ألبوم حمل عنوان "غنّي قليلاً" ملحناً ومشاركاً في أغنية "الموسيقى"، غير أن الأغنية التي حمل الألبوم عنوانها، هي أغنية مستعادة من أغنيات مارسيل السابقة، وقد تضمنها الألبوم هذه المرة بصوت عبير نعمة.
هذا الألبوم شكّل عتبة جديدة لعبير نعمة، ممسكة بيد مؤلف موسيقي عملاق مؤمن بها، تمكن من تقديم صوتها بأزياء فنية مختلفة، إن جازت استعارة هذا التعبير، فطوّف بصوتها في التاريخ البعيد وفي الجغرافيا المتنوعة، عبر ألحان متمايزة لكن يجمعها عقال واحد، هو سعيها لآذان الصفوة فقط، وقد كتب كلمات الألبوم عدة شعراء، منهم قاسم حداد صاحب قصيدة "الموسيقى" ومريم حيدري صاحبة قصيدة "مزمار"، وطلال حيدر "راجع"، ومحمود درويش "فكر بغيرك"، وزاهي وهبي "ما أجمل الحب"، وجوزيف حرب "غني قليلاً"، التي استعادها الألبوم مع أغنيات أخرى هي "يا حنة" و"شمس الشموسة" و"مريم البكر"، في قائمة احتوت 14 أغنية، اكتست بتوزيعات موسيقية سحرية، تشم فيها رائحة البخور والأنوثة والطفولة في آن معاً.
نباهة وانتباه للجيل الجديد
يبدو أن الذكاء جزء أصيل من الإبداع، فلتكون مبدعاً مؤثراً عليك أن تكون مشهوراً، ذا بقعة ضوء واسعة، تمنحك منبراً مسموعاً لتبث إبداعك عنه فيصل ويلقى رجع صدى حقيقياً، قادراً على إحداث فرق، فقد لا يختلف اثنان على غيرة نعمة على الأغنية المتزنة الآخذة بالانحسار لصالح الأعمال التجارية التي كثيراً ما تساور الهبوط سعياً للحاق بـ"السوق" مما يعلي من شأن التجارة على حساب الفن، وهذه بالمناسبة حالة عالمية، لا يستطيع فك شيفرتها فنان عادي، إذ تصبح النباهة هنا شرطاً للنجاح دون التنازل عن مبدأ الصنعة البليغة، التي تمتلكها عبير نعمة كمغنية وملحنة وخبيرة موسيقية، لم تشأ التفريط بهذا الوعي الفني لصالح الشهرة، لذلك خلقت جسراً غير مرئي إنما مسموعاً بين "ما يطلبه المستمعون" وما جاءت لتقدمه، تجلى في أول تجلياته بالتعاون مع الفنان مروان خوري عام 2019 – والذي يشاطرها النباهة ذاتها والحرص ذاته على المواءمة بين الشهرة والإبداع – وقد أنتج هذا التعاون أغنية "وينك" التي أعدها انعطافة في مسيرة عبير نعمة، الأغنية التي حققت استماعات عالية تحلّت بانسياب لحني خدمته كلمات بسيطة لكن عميقة وناضجة، دأب خوري على تقديمها في تجاربه الفنية الخاصة، أو في تعاوناته مع فنانين آخرين. ألبوم "حكاية" الذي ضم أغنية "وينك" ضم إلى جانبها ألواناً غنائياً أخرى توزعت على 8 أغنيات، تشاركت فيها الصدارة أغنيتا "وينك" و"تلفنتلك"، التي كتبها جرمانوس جرمانوس ولحنها إيلي نعمة شقيق عبير.
النجاح الذي لاقاه ألبوم "حكاية" قاد إلى تجربة موازية عام 2021، تمثلت بألبوم "بيبقى ناس"، إذ تكرر فيه التعاون مع مروان خوري، وجرمانوس جرمانوس، وإيلي نعمة، وغسان مطر، كذلك قام على توزيع معظم أغنياته جورج قسيس وطارق سكيكر وقد سبق وتعاونت معهما في "حكاية".
الألبوم اشتمل على تنويعات لحنية بين الشرقي والغربي، تكفّل التوزيع بمنحها لمعاناً أفلح في كل مرة ببرهنة حذاقة الاختيار، من الأغنيات اللافتة في الألبوم طبعاً أغنية "قديش بحبك" التي اشتغلها مروان خوري كلاماً ولحناً، ووزعها قسيس، التوزيع احتمل هارموني عظيم يمكن احترامه بقوة في ميزان الموسيقى المتزنة، لكنه لم يتوافق مع الخط الموسيقي التجاري، وهذه مسألة جدلية يصعب البت في صوابيِّتها، لكن يُحفظ لقسيس انسجام التوزيع مع روح الكلمة قبل اللحن في الأغنية التي انطوت على ثيمة الحوار الداخلي التي تتطلب الهارموني بشدة.
كلمات الأغنية جاءت على سوية بلاغية لا تكاد تضاهى، كأغلب أعمال خوري بالمحكية اللبنانية:
"أنا لما بشوفك
بحلم فيك
لعم بتداوي جروحي
أنا ليش بحسك
إنك غاية أحلامي وطموحي
ولما فيي بتتطلع
بشعر هالقلب تشلع
وإيديك تلملم جسمي وروحي
لمّا فيي بتتطلع
بشعر هالقلب تشلع
وإيديك تلملم جسمي وروحي
يا حبيبي وروحي"
وبرغم انسياب الكلمات وفق قافية حائية معروفة مثل كلمة "روحي" إلا أنها استطاعت الوصول إلى قمم مذهلة مثل استدراج كلمة "طموحي"، هذه اللغة الواثقة والواعية، تمكنت في نهاية المقطع أن تصور القلب "بيتشلّع" في مبالغة محمودة، وصورة فنية مذهلة، عزز خوري هذا الاختراق الشعري الغنائي بلحن مذهل يراوح بين الحيرة والاندفاع ومشاعر الحب السخينة، والمراوحة على السوية ذاتها بين اللون الغربي في المذاهب والشرقي في الكوبليهات.
من هذا الألبوم خرجت نعمة إلى أغنية منفردة، بعنوان "بلا ما نحس" حققت نجاحاً آخر، من كلمات نبيل خوري وألحانه، وتوزيع سليمان داميان، وهو التعاون الأول بينها ونبيل، هذه الأغنية على خفتها حملت معاني النضج في الطرح والإحساس، إذ تسرد مشاعر حيرة امرأة تسللت إليها هواجس حب نحو صديق عزيز، ورطتها في خيارين أمرّين، البوح بمشاعر الحب مقابل احتمال خسارة الصداقة، أو الاكتواء بالحب سراً حفاظاً على الصداقة تلك:
" خَوفي قلّك شو بحِسّلك
ونبطّل أصحاب
وتُبرم فينا الدنيي فجأة
ونصَفّي أغراب
إحساس خايفة منّو
وسنين عم ببعُد عنّو
واليوم قلبي حاسس بدّو يقول بحبّك بس
معقول قلبي اتأخّر
واللي بيني وبَينَك نخسر
والصُّحبة يلي كانت حلوة
تخلص بلا مانحس"
اللحن جاء أيضاً منسجماً بطريقة لافتة، إذ اشتغل على إيقاع واحد يعبر عن القلق، إلا أن التوزيع على طريقة "التراب" أخذ الأغنية على جناحه مقتحماً جمهور الجيل الجديد بذكاء مطلق.
يمكن القول في المحصلة إذن، إن وعي عبير نعمة في الاختيار، تمكّن من موازاة براعتها في الغناء والتلحين، بما حقق أعمالاً استطاعت فك الشيفرة، واجتياح "السوق" دون التنازل عن شرط الجودة، وهذا طريق سلوكه أصعب بكثير من الاستسلام للالتزام بشروط الأغنية المتزنة، والتقوقع على مساحة ضيقة من مدرجات الجماهير "السمّيعة"، دعمته بوثبات ذكية نحو الجيل الجديد، ومراكمة رصيد ثقيل من الغناء "المحافظ" على قيم الأغنية العربية النخبوية.