رستم محمود
(دار المتوسط، إيطاليا، 2022)
[رستم محمود كاتب وباحث سوري من مواليد مدينة القامشلي 1982. مهتم بالتاريخ، وعلم الاجتماع السياسي لمنطقة الشرق الأوسط].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص؟ ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
رستم محمود (ر. م.): ليس من لحظة تأسيسية لولادة ما قد يُعتبر "فكرة الرواية"، أساساً ما يطلق عليه "فكرة الرواية" قد يكون شيئاً مؤذياً تماماً لأية رواية، الحديثة منها بالذات.
ما قد يكون جذر النص الروائي، هو أمر مركب للغاية، نفسي وحياتي وذاكراتي ومُعاش، فالرواية بجوهرها هي واحدة من محصلات تفكير وأحاسيس الروائي وعالمه الاجتماعي، المعاش والتاريخي المتخيل، وخلال فترة طويلة من سيرته الذاتية. حتى تلك الروايات التي تندرج في خانة العوالم المختلقة والخيالية تماماً، هي في المحصلة جزء من كامل ذلك التفاعل، الذي لا يستطيع التحرر منها.
بالنسبة لرواية "جنوب قلعة بدليس"، وبالإضافة إلى ذلكم التكوين الكلي، فإنها نتاج ثلاثة عوالم أساسية: الفضاء السياسي الذي خلق دولنا ومجتمعاتنا أثناء الحرب العالمية الأولى، مضاف إليه قسوة العيش المستمرة التي عانت منها مجتمعات الضحايا طوال قرن أعقب تلك الحرب، وانتهاء بإعادة اندلاع نفس الصراعات والحساسيات وأشكال العنف أثناء التحولات الحديثة منذ قرابة عشرة سنوات.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية، ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ر. م.): يأخذنا النص بالتحديد إلى عوالم الهوامش القصية للغاية، تلك التي يُظن أنها محمية من الفظائع السياسية والعسكرية الكبرى المحيطة بها، حيث يُعتقد أن الحروب تعفي هؤلاء من فظاعتها، وأن المجتمعات والجماعات الأهلية تدخلها ككتل صلبة، وهذا مجرد وهم.
ففي المحصلة ثمة حروب مركبة وجزئية تجري على الدوام، أساسها سعي الجهات والأطراف والتكوينات "الأكثر قوة" على تمريغ الأضعف ضمن عوالمها الداخلية، حيث يُعتقد أنه ثمة نوع من التضامن والتكاتف فيما بينهما أثناء مراحل العنف الكبرى، من حيث ارتفاع وتيرة التضامن الداخلي خلال تلك الحروب، لكن العكس تماماً هو الذي يجري فعلياً، إذ ثمة ما يمكن تسميته لحظة انتهاز انهيار السلطات التقليدية، وتلهف مختلف الجهات الأكثر طاقة على تمريغ من هم دونهم في المتن الاجتماعي، والسعي لأخذ مكانة من هم فوقهم في السلم الاجتماعي والسلطوي والمالي.
(ج): كتابُك الأخير رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ر. م.): شخصياً، كنت أكتب قصصاً قصيرة في بداية كتابتي الأدبية، في سنوات الصبا. من جهة أخرى عملت لسنوات كباحث في علم الاجتماع. الرواية بهذا المعنى هي محصلة جمع الأمرين، مع ما تمنحه الرواية من تسهيلات لتجاوز العقبات المنهجية والمؤسساتية التي كانت تعترض إنتاج أبحاث في علم الاجتماع عن سكان وتاريخ مجتمعاتنا.
إلى جانب ذلك، ثمة إحساس ضمني بأن الرواية تملك قدرة على الوصول إلى مختلف الطبقات التي لا تبالي بالدراسات المنهجية، وتشكل أداة لتأريخ سيرة هذه المجتمعات وذاكرتها الجمعية. هذا غير الشعور بالقدرة على التعبير الروائي/القصصي أكثر من الأجناس الأدبية الأخرى.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ر. م.): على الأقل ثمة ثلاثة تحديات تواجه أي روائي، في كامل الكتابة العربية، ومنها السورية تحديداً، واجهتها مثل غير من الذين يخوضون هذه التجربة: إذ ليس من "سوق" أو "فضاء" عمومي لكتابة الرواية، كمهنة أو هواية، من الآباء المؤسسين إلى المؤسسات الراعية، وليس انتهاء بمجالات اللقاء وتبادل الأفكار. هذا الأمر يدفع العمل لأن يكون مجرد فاعلية وتجربة فردية فحسب، لا يُسمح له بأن يتطور وتأخذ مسارات تصحيحية وتجديدية أثناء الكتابة.
الأمر الآخر يتعلق بعدم توفر الوثائق والشهادات بسهولة، خصوصاً وأن نصي الروائي ينتمي إلى عوالم قديمة، مرّ عليها قرابة قرن من الزمن، فالمتوفر من تلك الأدوات شحيح نسبياً، ولم يكن ثمة قدرة كبيرة على السفر وتوثيق الأماكن والآثار بما فيه الكفاية، لعوائق تتعلق بأوراقي وجنسيتي السورية، حيث تقريباً ممنوع علي السفر إلى أي مكان في العالم.
أخيراً ثمة ضغوط العمل التقليدية، ففي المحصلة ليس من المتاح التفرغ للكتابة والإنتاج الأدبي كمهنة حصرية، فجميع المنتجين لهذه الأعمال مندرجون في أعمالهم ونشاطاتهم المهنية واليومية التي لا يمكنهم الاستغناء عنا.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ر. م.): قبل هذا العمل، أنتجت كتاباً روائياً/توثيقياً عن السيرة المدرسية لعدد من الروائيين والكتاب السوريين: "صفحات من دفتر قديم"، وكان النص الطويل الذي كتبته بمثابة تجربة عملية أولى على كتابة النص الروائي.
قبله شاركت في إنتاج ثلاثة كتبٍ مشتركة، كانت كلها توثيقية/اجتماعية، عن قضايا تتعلق بالمنفيين والنساء وفاعلية الذاكرة في إنتاج الفعل السياسي في مرحلة "الربيع العربي".
الرواية التي كتبتها، كانت خطوة لـ"تطوير" تلك التجارب لو صح التعبير.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ر. م.): لا يمكن ذكر نصوص بعينها تشكل "المعلم" في إنتاج النص الخاص بي، لأن الكتابة في المحصلة هي اختلاق لنوعية جديدة من الكتابة والمعالجة، وإن كان ثمة تأثر بمختلف النصوص التي قرأتها طوال حياتي، من الطفولة وحتى الآن.
لكني أجد نفسي مشدوداً لتلك النصوص المركبة، التي تعالج العوالم النفسية والمجتمعية المركبة والقلقة، التي لا تندرج تحت أية نزعة لرسم عوالم أو شخصيات أو قضايا واضحة وصلبة. فهذه الأخيرة لا تستهويني، وأعتبرها نتيجة لضعف قدرة الروائي على التوغل في التفاصيل الأكثر هامشية وفاعلية في الأماكن والاحداث والأشخاص، وهي عموماً سمة حاضرة في النصوص الروائية السورية، بحكم الظرف السياسي والتجربة الكتابة السورية "الخطابية"، المتأتية من ضمور الرواية في تاريخها الحديث.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ر. م.): ليس من قراء بذاتهم، لكن ثمة حرص على أن يكون النص متاحاً لأوسع قاعدة من القراء، من حيث بساطة العرض والابتعاد عن الغنائية والتراكيب اللغوية والزمانية "المعقدة".
فالوصول إلى البنية الجمالية والمعرفية والحسية المتضمنة في الرواية هو حق لجميع المقبلين عليها، بأوسع قدر ممكن، وأبداً ليس على حساب قدرة الرواية على صناعة شرطها كنص روائي.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ر. م.): أمارس الآن نوعاً من البحث التاريخي والمجتمعي عما كانت عليه منطقتنا في الربع الثاني من القرن التاسع عشر، حينما قدمت الحداثة لأول مرة إلى مجتمعات وجغرافيات هذه المنطقة.
لا أعرف إن كان ذلك سيتوج في النهاية كنص روائي، وإن كان ثمة ملامح للحكاية والشخصيات التي ستحمل ذلك النص. لكني أفضل التريث، لأني أولاً أتطلع لمعرفة انعكاس روايتي الحالية/الأولى في عيون القراء والنقاد والمتابعين.
مقتطف من الرواية
غفوت في مكاني بالقُرب من رمضان، الذي يبدو أنّه قد غادر الغرفة بينما كنت غافية قُربه، بينما ظلّ أنين أمي يصدر بين حينٍ وآخر، وهي تمّسد جديلتيّ المقطوعتين، وكأنّهما توأمين حديثي الولادة. فالأمهات تملكن شعوراً استثنائياًّ تجاه جدائل بناتهن، تحسّهن جزء منهن، من سلالة أنوثتهن التي ذوت.
فُتح باب غرفة والدتي فجراً، كان والدي يُريد أن يقول لها شيئاً ما، رأى جديلتي المرميتين وسط الغرفة، في اللحظة التي كُنت أرفع فيها بصري، كانت المرّة الأخيرة التي أرى فيها عينا أبي، اللتان كانت تجمعان المهابة مع الانكسار، فيهما وحدهما كان ذلك الطفل الذي كانه، يفضح نفسه في كلّ حين، بالذات أمامي، أنا مدلّلته الصغيرة، التي كانت تغفو في حِجره وهو يجلس وحيداً في تلك التلال القصيّة، ترى بريق الدموع في تلك العيون وتجاسرها على الانهمار متمرّدة على كلّ محاولات السيطرة عليها.
كانت المرّة الأولى التي يغضّ فيها والدي بصره حينما تلتقي نظراتنا، لأنّ العكس هو ما كان يجري عادة، ولأجل ذلك بالضبط كانت المرّة الأولى والأخيرة التي خسر فيها أبي مهابته، وحدثت بعدها قطيعة ضمنيّة وصامتة ومتفق عليها فيما بيننا.
كان يعتبرني ابنته الأعزّ التي غدرت به، حين صارت تذكّره بأفظع ما يمكن أن يمسّه، ابنته التي حمل لها خلخالاً فضيّا من مدينة وآن، نقش عليها صائغ يهودي اسمها، التي عرفت ذلك السّحر بعدما تعلمت القراءة والكِتابة من أخيها رمضان. ابنته التي صار يلومها بنظرة عين واحدة، لأنّها لم تحمل شيئاً عصيباً عنه في هذه الدوحة القاسية من الألم، لرجل فقد ولدين من أولاده، وثالثهما على طريق الهلاك، وعائلة من زوجتين وعشرة أبناء، لا يعرف أين سيذهب بهم فيما لو ساءت الأحوال، وكيف له أن يترك قبر كوليزار وحيداً فيما لو حانت ساعة الفرار، كوليزار التي قالت له في آخر لحظات سُكرها "لا تتركني وحيدة يا محمود، كما لم أتركك وحيداً في أيّ يوم أبداً".
كصقرٍ جريح، كان والدي يخرج مع الفجر إلى التخوم، يجول فيها وحيداً، هائماً على وجهه، ضامّاً يديه إلى خلف جذعه، وهو يُدخن بشراهة، كان يأتي مع الظهيرة يُعاين أحوال أخي شمدين، ثمّ يأخذ الزوادة ويعود لطوفان دائم حول تخوم القرية. طوال ذلك الوقت لم يكن والدي ليحوّل نظراته عن القرية، يبقى متطلّعاً إليها من حيث استدار وسار، بالضبط كما كُنّا نفعل بثيابنا الجديدة التي يأتني بها والدي من بدليس ليلة العيد، نعلّقها بخيط مُتدلي وسط الغُرفة، ونبقى ندور حولها، نُكلّمها ونضمُّها، وفي مرّات غير قليلة قد نُعاتبها.
في ذلك الوقت أيضاً، كانت زوجة أبي قد فقدت الكثير من قُدراتها العقليّة والجسديّة، صارت نحيلة للغاية، ولا تنام الليل تقريباً، تضجّ بالعويل فجأة، وتنادي ولديها اللذين أكلتهما الحرب، وتركض فجأة نحو الباب الكبير، وكأنّها تُريد أن تستقبل أحداً ما، وحينما لا تجد أحداً، خصوصاً في أواخر الليل، تعود لتصرخ بنا "لماذا أغلقتم الباب، رُبما يأتيان ليلاً، ولا نسمع صوت طرقاتِهِما".
غيّرت حالة زوجة أبي من علاقة والدتي بها، ومن شكل علاقاتنا مع أخوتنا غير الأشقاء. صرت أهتمّ بجروح أخي شمدين، فسواد الغرغرينا غدا يُغطي كامل قدمه اليُمنى. وحسب استشارات ونصائح جبري خوجة، كُنت أغلي له التين المُجفف بالحليب أكثر من مرّة في اليوم، وأضع الحبات المغليّة بعد تبريدها على مكان جروحه، وبعدها أرطبها بالزيت، وأنثر عليها حبات مطحونة من أغصان شجرة الزيزفون.
أخي شمدين صار يطمئنّ إليّ يوماً بعد آخر، وغدا يقصّ عليّ فظائع أفعال فرقة "قصاب طابوري" التي كان عضواً فيها. هؤلاء الذين كانوا بأغلبيتهم من المحكومين بالجرائم الجنائيّة الفظيعة، أطلقت السُلطات سراحهم ليرافقوا الجيش وينفذوا ما لم يكن يُريد الجيش العثمانيّ أن يتحمّل مسؤوليته القانونيّة، وحتى الأخلاقيّة، خصوصاً بحقّ المدنيين في المناطق التي يُسيطر عليها الجيش.
كان شمدين يُحدثني عن الجرائم التي ارتكبها هو بذاته، بمزيج رهيب من الفخر والخُزيّ والندم، كانت روحهُ مُبعثرة. يبدأ بسرد إحدى حكاياته مُتفاخراً بشجاعته واستثنائيّة إقدامه، ومع استطراده في سرد الحكاية، ومع الوجع الوجداني الذي كان يُلاحظه في نظراتي، وأنا أُمسّد قدمه التي ستأخذه إلى الموت، كانت علامات الندم تبدأ بالظهور في تفاصيل الرواية، ثمّ ورويداً رويداً يبدأ بتحوير نظراته ووجهه عني، يطلب مني أن أقرأ عليه سورة مريم، فهي السّورة القرآنيّة الأكثر كثافة بذكر كلمة "الرحمن"، كما كان مُلا الجامع قد أخبرهم حينما كانوا في الكتاتيب.
طوال ثلاثة أسابيع كُنت قد تركت الأمور لحالها. كُنت أهتمّ بأخي شمدين صباح مساء، وأتقصّد عدم النظر إلى والدي، كُنت أريده أن يراني، دون أن يحظى بنظرة واحدة مني، غفورة أو قاسية على حدّ سواء، فأنا أيضاً كأبي، كان لي شيء واحد فحسب، هو أبي، ولا أريد أن أخسره، سواء بالقطيعة أو الغُفران، ففي مرّات غير قليلة نخسر بعض أحبّتنا حينما نغفر لهم دون لومٍ كافي، أو غفران يسمح لهم بالاعتقاد، وهماً، بأنّ ما فعلوه كان شيئاً عادياً. كُنت أريد لأبي أن يبقى فحسب. أن يبقى، لأبقى.