[فولوديمير إيشينكو باحث المشارك في معهد دراسات أوروبا الشرقية في جامعة Freie Universität برلين].
ركّزت أبحاثك على التحولات في الساحة السياسية الأوكرانية منذ انتفاضة "ميدان" في 2014. ما هو نوع القطيعة التي مثّلتها الانتفاضة؟ وما هي القوى الجديدة التي دخلت إلى الميدان، وماذا حدث للقوى القديمة؟
- لم تمثّل انتفاضة الميدان الأوروبي قطيعة بمفهوم الثورة الاجتماعية. وكما كتبنا أنا وزميلي أوليغ زورافليف، هي حملت سمات مشتركة مع انتفاضات أخرى تلت الحقبة السوفياتية، وأيضا مع انتفاضات الربيع العربي في 2011. ولم تكن تلك ثورات قادت إلى تغييرات اجتماعية جوهرية في التركيبة الطبقية-ولا حتى في البنية السياسية للسلطة. عوضا عن ذلك، كانت عمليات تعبئة ساعدت في استبدال النخب، إلّا أن النخب الجديدة كانت فعليا من فرقاء من الطبقة ذاتها. وكانت ثورات "ميدان" في أوكرانيا-وثورة "يورو ميدان" أو "الميدان الأوروبي" في 2014 هي الأخيرة من ثلاث- متشابهة. فهذه الثورات هي، بمعنى من المعاني، ثورات قاصرة: هي تنتج شرعية ثورية يمكن اختطافها من قبل وكلاء هم، فعليا، لا يمثلون مصالح المشاركين فيها. وقد استولى على اليورو ميدان وكلاء عديدون، شاركوا كلّهم في الانتفاضة وساهموا في نجاحها، إلّا إنهم كانوا بعيدين كل البعد عن تمثيل طيف القوى المشاركة كلّها، أو الدوافع التي قادت الأوكرانيين العاديين لتأييد اليورو ميدان. بهذا المعنى، وفيما كان تحرك الميدان الأوروبي يتصدى لأزمة التمثيل السياسي في الحقبة التي تلت السوفياتية، كان، في الوقت ذاته، يعيد انتاجها ويضاعفها.
وكان الأبرز من بين هذه الأطراف الوكيلة أحزاب المعارضة التقليدية، التي يمثلها، من بين آخرين، بترو بوروشينكو الذي أصبح رئيسا لأوكرانيا في 2014. وكان لهذه الأحزاب الأوليغاركية بنية تتمحور حول "رجل قوي"، وقائمة على المحسوبيات: في غياب أي نموذج آخر، أعادوا انتاج الجوانب الأسوأ في "الحزب الشيوعي السوفياتي"-أبوية صارمة وخمود شعبي- ولكنها مجرّدة من شرعيته المستمدة من "مشروع العصرنة". وكان هناك طرف آخر أصغر حجما، ولكنه في غاية الأهمية، وهو تكتل المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الإعلامية المتطلعة غربا، والتي كانت تعمل بطريقة أقرب إلى عمل الشركات المهنية منها إلى جهة مهمتها تعبئة المجتمع، فيما كانت حصة الأسد من ميزانياتها تأتي، عادة، من مانحين غربيين. خلال الانتفاضة، كانوا هم الأشخاص الذين خلقوا صورة الميدان الأوروبي التي عمّمت على المشاهدين حول العالم؛ وكانوا المسؤولين الأساسيين عن رواية الثورة الديموقراطية التي تجسّد الهوية المواطنية وتنوع الشعب الأوكراني في مواجهة حكومة سلطوية. واكتسبوا قوة بالمقارنة مع السلطة الأوكرانية الواهنة، التي هزّتها الانتفاضة أولا، ثم شهدت المزيد من التخبط بعد ضم روسيا للقرم والتمرد الانفصالي في الدونباس بدعم من موسكو-وأيضا، مع تزايد اعتماد أوكرانيا نفسها على الغرب.
ثم، هناك أحزاب اليمين المتطرف- "سفوبودا"، و"القطاع الأيمن"، وكتيبة "أزوف"-التي، على عكس المنظمات الأهلية، كان تنظيمها قائما على مناضلين سياسيين، لهم عقيدة واضحة المعالم، مبنية على تفسيرات راديكالية للقومية الأوكرانية، ولديهم خلايا حزبية محلية قويّة نسبيا، وقدرة على الحشد في الشوارع. وبفضل التشدد في الميدان الأوروبي، ولاحقا الحرب في الدونباس، تسلحت هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة وأصبحت تمثل تهديدا عنيفا للحكومة. حين ضعفت السلطة الأوكرانية وفقدت احتكارها للعنف، احتلت المجموعات اليمينية هذا الفضاء. وأيضا، بات للدول الغربية والمنظمات الدولية تأثير متزايد، إن كان غير مباشر-عبر تمويلها للمنظمات الأهلية- أو مباشر، لأنها كانت توفر، بالإضافة إلى الدعم السياسي، الاعتمادات والمساعدة العسكرية في مواجهة روسيا. هناك أربعة أطراف رئيسيّة أضحت أقوى بعد اليورو ميدان- المعارضة الأوليغاركية، المنظمات غير الحكومية، اليمين المتطرف، وواشنطن-بروكسل.
ومن خسر؟
- الذين خسروا السلطة هم، أولا، قطاعات النخب الأوكرانية-فلنسمهم الرأسماليين السياسيين، بالمعنى الذي قصده فيبر: يستغلون الفرص السياسية التي تتيحها مناصبهم لتحقيق الأرباح-ومنتمين إلى "حزب الأقاليم"، الذي كان يدعم فيكتور يانوكوفيتش. بعد اليورو ميدان، انهار الحزب. وأعيد تنظيم هؤلاء الأوليغاركيين، كما يطلق عليهم عادة، سياسيا؛ ولكنهم احتفظوا بالسيطرة على بعض القطاعات الحيوية من الاقتصاد الأوكراني، وبالتالي، بقيت قائمة مجلة "فوربس" لأغنى الشخصيات في أوكرانيا مستقرة بشكل مثير للدهشة. قبل ثورة اليورو ميدان وبعدها، كان الشخص الوحيد على قائمة العشرة الأوائل الذي أجرى تغييرا في مساره المهني هو بوروشينكو- وفي هذا دليل على مدى ضآلة التغيير في طريقة سير الاقتصاد.
أما اللاعب البارز الآخر الذي خسر، فكان الحزب الشيوعي الأوكراني-واليسار عموما. ولكن الشيوعيين تحديدا حُظروا في 2015، بموجب قوانين اجتثاث الشيوعية. وكانت تلك هي المسوغات قانونية لتعليق نشاطات الحزب الشيوعي الأوكراني، وأيضا بعض الأحزاب الشيوعية الهامشية. في 2012، فاز الحزب الشيوعي الأوكراني بثلاثة عشر بالمئة من الأصوات، وبالتالي كان جزء أساسيا من السياسة الأوكرانيّة. في 2014، لم يتمكنوا من دخول البرلمان، بفضل خسارة القرم والدونباس، واللتين كانتا معقلين انتخابيين لهم. وفي العام الذي تلا، تم تعليق الحزب.
في مقابلة أجرتها معك "نيو ليفت ريفيو" في 2014، شرحت أنه خلال الصراعات السياسية بين 2004 و2014، سعت الأحزاب "البرتقالية" إلى سحب الدستور نحو نظام أكثر برلمانية، فيما كان "حزب الأقاليم" يسحبه مجددا نحو نظام رئاسي. ماذا حدث بعد 2014 للتوازن الدستوري، وأهمية البرلمان والرئيس نسبيا؟
- بعد 2014، تراجعوا باتجاه النموذج البرلماني- الرئاسي الذي كان قائما بعد "الثورة البرتقالية" ومن ثم ألغاه يانوكوفيتش في 2010 بعيد انتخابه رئيسا. رسميا، في 2014، ضعفت صلاحيات الرئيس وأصبح البرلمان أقوى نظريا. وأصبحت شخصية رئيس الوزراء، الذي يختاره نواب برلمانيون، أكثر أهمية. إلا أن ما لم يتغير كان النظام "الأبوي الجديد"، كما يسمى غالبا في أدبيات دراسات ما بعد السوفياتية: العلاقات الزبائنية غير الرسمية التي تهيمن على السياسة. وفي هذا السياق، فإنه من الطبيعي أن يتم التحدث عن عِصب-القول إن أحدهم هو في عصبة بوروشينكو، أو "عصبة يانوكوفيتش". هذه المجموعات المنظمة بشكل غير رسمي، وعلاقاتها المخفية عن العامة، لديها تأثير أكبر على طريقة سير السياسة الفعلية في بلادنا من الأحكام الرسمية للدستور. بالتالي، وعلى الرغم من أن موقع الرئاسة قد أُضعف رسميا، إلا أن بوروشينكو بقي السياسي الأكثر تأثيرا في البلاد، قادرا على الدفع بما يريده، بصورة أو بأخرى، عبر البرلمان.
كيف تغيرت تشكيلة البرلمان في 2014؟
- كان هناك تغيير جوهري في الانتخابات البرلمانية في تشرين الأول\اكتوبر 2014. شكلت خمسة من الأحزاب المؤيدة لميدان الائتلاف الحاكم- حزب بوروشينكو، "الجبهة الشعبية" لأرسيني ياتسينيوك، و"حزب كل الأوكرانيين" ("باتكيفشينا") ليوليا تيموشينكو وإثنين آخرين. في البداية، كانت لدى الائتلاف غالبية دستورية؛ ولكن من بعدها، بدأ يتداعى بسرعة. لم يكن بوروشينكو راغبا بالاعتراف بانهيار الائتلاف لأن ذلك سوف يعني ضرورة إجراء انتخابات جديدة ستكون نتائجها أسوأ على حزبه مما كانت في 2014. وهكذا، استمر كائتلاف عرضي على امتداد سنوات، حيث كان يتعين على من فيه التعامل مع مشكلة الحصول على أصوات الغالبية.
ماذا كان برنامج بوروشينكو؟
- حين انتخب في 2014، لم يكن ينظر إلى بوروشينكو على أنه ممثل عن الطرف الراديكالي في يورو ميدان. لكنه كان يتحرك ضمن إطار المركز الجديد لقوى ما بعد ميدان، وفيها، كما قلت في أماكن أخرى، فإن التفاعل بين التعددية الأوليغاركية ومجتمع مدني يفتقر إلى حدود سياسية أو عقائدية راسخة بينه وبين المنظمات غير الحكومية المدعومة من الغرب وبين اليمين المتطرف، وكل ذلك مجتمعا مع اليسار الغائب عمليا، أدى إلى عملية من التشدد القومي. واستغل الأوليغاركيون المتنافسون النزعة القومية من أجل التغطية على غياب التحولات "الثورية" بعد اليورو ميدان، في حين كان الذين في المجتمع المدني القومي-النيو ليبرالي يضغطون من أجل برامجهم التي لا تحظى بالشعبية، فقط بفضل تنامي نفوذهم في مواجهة الدولة التي أضعفت.
قبل الانتخابات وعد بوروشينكو أنّه سوف يرسي السلام في دونباس بسرعة، وربما انتخبه البعض من أجل ذلك السبب. ولكن في خلال أسابيع قليلة، تراجع عن ذلك: عوضا عن البدء بالمفاوضات مع الانفصاليين، كثف "عملية مكافحة الإرهاب" ضدهم. وكان المقصود هو محاولة استعادة دونباس عسكريا. إلا أن تلك الاستراتيجية هزمت أمام التدخل السري للجيش الروسي في آب/أغسطس 2014، وهكذا بدأت عملية مينسك، أولا في أيلول/سبتمبر، ومن ثم في شباط\فبراير 2015، بعد تصعيد تلته هزيمة القوات الأوكرانية. وحددت اتفاقيات مينسك وقفا لإطلاق النار، واعترافا أوكرانيا بالانتخابات المحلية في المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون، ونقل السيطرة على الحدود إلى الحكومة الأوكرانية، ووضع خاص من الحكم الذاتي لدونباس ضمن أوكرانيا، يشمل إمكانية مأسسة القوات المسلحة الانفصالية.
من هي الأطراف التي كانت تؤيد اتفاقيات مينسك، ومن كان ضدها؟ وإذا كانت تلك الاتفاقيات هي الفرصة الوحيدة لتسوية سلمية، لماذا لم تطبق أبدا؟
- المؤيدون بوضوح كانوا من المعارضة، أساسا، الأحزاب التي خلفت "حزب الأقاليم"، التي كانت تتوجه للناخبين في الشرق وفي الجنوب، وخاصة مواطني المناطق الواقعة تحت سيطرة كييف في دونباس، والذين كان تطبيق اتفاقيات مينسك بالنسبة إليهم هو إيذان بنهاية الحرب. بالنسبة لأحزاب كثيرة أخرى، كانت مينسك، بأفضل الأحوال، أمرا فرضته روسيا بالقوة على أوكرانيا. وكانت الفكرة هي أنّه: يتعين علينا الالتزام بمينسك، لأنه إذا انسحبت أوكرانيا من الاتفاقيات، يمكن أن يقوم الغرب برفع العقوبات التي فرضها على روسيا بعد 2014. ولكن، في الوقت ذاته، كانت هذه الأحزاب تقول علنا أنها لن تطبق البنود السياسية في اتفاقيات مينسك. وحاجج كثيرون أن دمج دونباس سياسيا يمكن أن يعرقل قدرة كييف على تطبيق مسار اندماج أوروبي-أطلسي في المستقبل، على الرغم من غياب أي ذكر لفيتو من هذا النوع في الاتفاقيات. والنفوذ الوحيد الذي سوف تحصل عليه دونباس هو القدرة على ابتزاز أوكرانيا بالتهديد بالانفصال، والذي سيكون بالإمكان استخدامه بسهولة أكبر مما كان عليه الأمر في 2014. لم تتم مناقشة كيف يمكن منع ذلك عمليا. وكان يتعين على حكومة كييف أيضا مناقشة تفاصيل الحكم الذاتي مع قادة جمهوريات دونباس، التي لم تكن تشير إليهم إلا بتعبير "إرهابيين"، أو "دمى الكرملين". وكان المنطق العام لاتفاقيات مينسك يطالب بالاعتراف بقدر أكبر بكثير من التنوع السياسي في أوكرانيا، يتجاوز بكثير حدود ما كان مقبولا بعد اليورو ميدان. بالتالي، اتهمت روسيا أوكرانيا بالافتقار لأي رغبة في تطبيق البنود السياسية من الاتفاقيات. واتهمت أوكرانيا روسيا والانفصاليين بانتهاك الاتفاقيات عبر قيامهم تنظيم انتخابات محلية وتوزيع جوازات سفر روسيّة على سكان دونباس. في غضون ذلك، كانت حصيلة القتلى في دونباس ترتفع.
وعلى الرغم من أنّه في النهاية بدا وكأن بوتين هو من قضى على اتفاقيات مينسك من خلال الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك و لوغانسك الشعبيتين في شباط\فبراير 2022، إلّا أن تصريحات متعددة صدرت عن مسؤولين أوكرانيين كبار، وساسة بارزين، ومنتمين لـ "المجتمع المدني" المهني تقول أن تطبيق مينسك سيكون كارثة بالنسبة لأوكرانيا، وأن المجتمع الأوكراني لن يوافق أبدا على "الاستسلام"، وأنّ الاتفاق سوف يعني حربا أهلية. والعنصر المهم الآخر كان اليمين المتطرف، الذي هدد الحكومة صراحة باللجوء إلى العنف إذا حاولت تطبيق الاتفاقيات. في 2015، حيت صوّت البرلمان على الوضع الخاص لدونيتسك ولوغانسك، كما تنص اتفاقيات مينسك، قام ناشط من حزب "سفوبودا" بإلقاء قنبلة يدوية على أفراد من الشرطة، قاتلا أربعة ضباط وجرحا، على ما أظن، نحو مئة شخص. كانوا يريدون أن يظهروا أنهم جاهزين لاستخدام القوّة.
إلى أي قدر هيمن القتال في دونباس على سياسات تلك الفترة برمتها؟ في الغرب، تم تصوير الأمر حينها أنه مجرد نزاع مجمد، على الرغم من العدد المرتفع للخسائر البشرية- مقتل نحو ثلاثة آلاف مدني. هل كان يعرض على الأخبار التلفزيونية كل مساء؟
كانت قضية في غاية الأهميّة، بالطبع. لم يسجل أي وقف للنار مستقر قبل 2020، وبالتالي، عمليا، كان هناك قصف أو تبادل لإطلاق النار كل يوم، ويُقتل شخص عند الجانب الأوكراني أو من جانب الانفصاليين. وكانت التقارير عن الخسائر البشرية والقصف موادا إخبارية دائمة. ولكن الحرب لم تؤثر بشكل مباشر إلا على أقليّة من الأوكرانيين، إلى جانب سكان دونباس واللاجئين.
ويزعم بوتين أن اليمين المتشدّد كان يسيطر على القوات الأوكرانية في دونباس. إلا أنهم لم يكونوا مسيطرين هناك أبدا، كلا. كانوا حكما أقلية من بين الوحدات. البعض يزعم أن "كتيبة أزوف" كانت واحدة من أكثر الوحدات جهوزية للقتال ضمن "الحرس الوطني"؛ ربما كان الأمر كذلك لفترة من الوقت بين 2014 و2015، ولكن ليس بالضرورة بعدها. أنا لم أدرس الوضع العسكري في دونباس عن قرب، لذلك يمكن لهذا التقييم أن يكون غير صحيح. إلّا أنّ ما أعرفه بشكل مؤكد هو أنّ "أزوف" كانت فعلا مميزة؛ لم يكن هناك ما يشبهها-كتيبة لديها برنامج سياسي، منتسبة إلى حزب سياسي، وإلى منظمة شبه عسكرية، وإلى مخيمات صيفية لتدريب الأطفال، شرعت في تطوير استراتيجية دولية، تدعو اليمين المتطرف الغربي إلى زيارة أوكرانيا-"فلنقاتل معا"- خالقة ما يشبه "براون الدولية". ونشرت أسبوعية "دي تسايت" الألمانية تحقيقا استقصائيا رئيسيا وضع أزوف في المركز من شبكات اليمين المتطرف الدولية. إلا أن أزوف لم تكن سوى كتيبة واحدة. فمعظم الأوكرانيين الذين كانوا يقاتلون في دونباس لم يكونوا منضمين إلى وحدات مسيسة.
ولكن، كانت هناك ظاهرة أخرى. كانت أزوف مندرجة في بنية "الحرس الوطني" التابع لوزارة الداخلية، التي كان على رأسها حينها أرسن أفاكو، وهو أوليغاركي آخر من الأوليغاركين المؤيدين ليورو ميدان. وكانت هناك فصائل مسلحة أخرى انبثقت عن "القطاع الأيمن"، الائتلاف القومي الراديكالي الذي اكتسب شهرة خلال اليورو ميدان، والتي لم تدمج [في الحرس الوطني]، بل نسّقت مع الجيش الأوكراني-ما يمكن أن نعتبره مجموعات جامحة قادرة على إنجاز ما تفضل قيادة الجيش عدم القيام به. ولكن حتى هذه المجموعات لم تكن تشكّل إلا جزء صغيرا من القوات الأوكرانية التي تقاتل في دونباس.
ما كان دور الدولة العميقة في تلك الفترة؟ هل ازدهرت الحريات المدنية أم تقلّصت خلال حكومة ما بعد ميدان؟
- إن واحدة من الروايات الرئيسية عن أوكرانيا بعد اليورو ميدان كانت تتحدث عن بروز أمة مواطنية دامجة للجميع، وحّدت أخيرا شرقي البلاد وغربها، وعن مجتمع مدني حيوي يدفع باتجاه إصلاحات ديموقراطيّة. أظهرت، أنا وأوليغ زورافليف، أن النزعات التوحيدية كان يواكبها نزعات استقطابية؛ وأن القومية المواطنية التي تلت اليورو ميدان لم تقوّض القومية العرقية بل مكّنتها؛ وأن الدمج وتوسيع الديموقراطية للبعض أديا إلى استبعاد آخرين وقمعهم. وفي خلال عملية إعادة تعريف أوكرانيا سياسيا، تم الدفع بشريحة واسعة من المواقف السياسية، التي يؤيدها الكثير من الأوكرانيين، خارج حدود المقبول وفقا للصياغة الجديدة للأمة الأوكرانية. وبالتالي، وإذا كان، قبل 2014، تعريف "مؤيد لروسيا" يدل على قطاع سياسي واسع يؤيد انضمام أوكرانيا إلى منظمات دولية بقيادة روسيا مثل الاتحاد الاقتصادي اليورو آسيوي- أو حتى الانضمام إلى "دولة الاتحاد" مع روسيا وروسيا البيضاء- فإنه بعد انهيار هذا المعسكر في 2014، تم تضخيم تعريف "المؤيد لروسيا" وبات يستخدم في أحيان كثيرة لوصم مواقف مثل تأييد وضع أوكرانيا بعدم الانحياز أوالتعاون الواقعي مع كل من الشرق والغرب، بالإضافة إلى التشكيك بنتائج اليورو ميدان، أو معارضة تفكيك الشيوعية أو حظر استخدام اللغة الروسية في الحياة العامة الأوكرانية.
وهكذا، مزجت مروحة واسعة من المواقف التي تؤيدها أقلية كبرى، وأحيانا حتى غالبية الأوكرانيين-السيادية، مناصرة الدولة التنموية، واللا ليبرالية، واليسار- كلها مزجت معا وصنفت "سرديات موالية لروسيا" لأنها كانت تشكل تحديا للخطابات الغالبة المؤيدة للغرب والنيو ليبرالية والقومية في المجتمع المدني الأوكراني. ولم تكن الوصمة، طبعا، رمزية فحسب، بل كانت بإمكانها أن تقود إلى حملات استهداف الكترونية، يطلقها في أحيان كثيرة مدونون "محبون للوطن" صنعوا لأنفسهم مسارات مهنية علنية عن طريق تحديد "أعداء الداخل" ومضايقتهم، الأمر الذي تولى المجتمع المدني أو بوتات الانترنت مدفوعة الأجر مهمة تضخيمه. في بعض المرات، كان تصل الأمور إلى عنف جسدي فعلي، عادة على أيدي أفراد مجموعات قومية راديكالية. في النهاية، ساهم ذلك في إضفاء شرعية على فرض عقوبات على وسائل الإعلام المعارضة وبعض الساسة في 2021.
يعني أن هذا التحول العقائدي كان يمثل أساسا خطوة نحو برنامج عمل قومي، معادي لروسيا؟
- كانت هناك مجموعات أخرى مستهدفة بالتحديد أيضا من قبل اليمين المتطرف، مثل النسويين، ومجتمع الميم، والغجر، واليسار. في 2018-2019، كنت ما أزال في كييف وأشارك في تنظيم إعلام يساري ومشاريع مؤتمرات، وكان يتعين أن نعمل بطريقة شبه سرية، وألا ننشر أبدا المواقع الجغرافية لفعالياتنا "العلنية"، مع تفقد مبدئي دقيق جدا لكل من يسجّلون لحضور النشاطات لمعرفة إذا كان من الممكن أن يكونوا من الاستفزازيين، أشخاص من اليمين المتطرف يأتون لتعطيل النشاط.
ما الذي حققته حكومة بوروشينكو فعليا؟
- مع نهاية حكمه، انتقل بوروشينكو بشكل متزايد نحو البرنامج القومي. وكان الإنجاز الأكبر للحكومة التالية لميدان هو في المجال الإيديولوجي: تفكيك الشيوعية؛ تمكين سردية قومية تاريخية؛ الأكرنة؛ قيود على الانتاجات الثقافية الروسية؛ تأسيس كنيسة أوكرانيا الأرثوذوكسية المستقلة عن موسكو (ولكنها تابعة لبطريركية القسطنطينية). كانت تلك هي دعائم حملة اليمين المتشدد الأوكراني قبل انتفاضة اليورو ميدان؛ وعلى الرغم من أن ساسة اليمين المتطرف لم يكونوا موجودين بالاسم، بطريقة تذكر، في أي من الحكومات التالية لليورو ميدان، أصبح ذلك هو برنامج الحكم. ولكن في القول إن هذه المواقف هي مواقف اليمين المتطرف وحده تبسيطا، لأنها كانت قد اكتسبت شرعية ضمن الكتلة الأوسع المؤلفة من المجتمع المدني القومي-الليبرالي. وبعض المطالب التي كانت تعتبر قبل اليورو ميدان راديكالية للغاية، أصبحت فجأة معممة، على الأقل على مستوى ما يمكن أن نسميه الجمهور الناشط، على الرغم من أن غالبية المجتمع لم تكن تؤيدها فعليا في الغالب.
وكان هناك أيضا موضوع التماهي الرمزي مع الاندماج اليورو-أطلسي. ونص دستور أوكرانيا للعام 1996 على مبدأ عدم الانحياز. ولكن بدء من 2014، كان بوروشينكو وحلفاؤه يدفعون نحو تغيير ذلك، وتمكنوا من النجاح بفضل الغالبية الدستورية لأحزاب ما بعد يورو ميدان. وتم التصويت على التعديلات الدستورية في البرلمان في 2018، وتحولت إلى قوانين مع توقيع بوروشينكو عليها في مطلع 2019، كجزء من حملته الانتخابية. وهكذا، في دولة لن تصبح يوما ربما عضو في حلف الأطلسي، صار الدستور ينص على أن "المسار الاستراتيجي" للدولة هو العضوية الكاملة في حلف شمالي الأطلسي وفي الاتحاد الأوروبي.
وقبل انتخابات 2019، شن بوروشينكو أيضا حملة مكثّفة على مسألة اللغة، داعما قوانين تحظر إلى حد كبير استخدام اللغة الروسية في الحيز العام وفي التعليم. مع حلول موعد الانتخابات، كان يعتبر فعلا قائد القضية القومية. ولم تكن خسارته الهائلة في 2019 مفاجئة مع هذا البرنامج ، حين فاز زيلنسكي بنسبة 73 بالمئة من الأصوات مقابل 25 لبوروشينكو.
ما الذي دفع بوروشينكو إلى خوض حملة انتخابية مبنية على هذه القضايا إذا كانت لا تتمتع بالشعبية لهذه الدرجة؟
- يمكن لديناميكيات ثورة يورو ميدان القاصرة أن تكون خلف هذا الخيار السيء والمحير. بوروشينكو لم يكن يوما قوميا ملتزما أيديولوجيا. شارك في تأسيس "حزب الأقاليم" وكان وزيرا في حكومة يانوكوفيتش؛ وكانت هناك فضائح عن تحدث أفراد أسرته بالروسية في البيت، وعن إنه واصل أعماله التجارية في روسيا بعد 2014. بعد اليورو ميدان، وجد بوروشنكي نفسه عالقا بين فكي برنامجين متناقضين: من جهة، توقعات التغيير بعد الثورة، وشعبيتها المتنامية، على الرغم من أنّها غير منظّمة ومشوّشة؛ ومن جهة أخرى، المطالب الواضحة والقوية، على الرغم من عدم شعبيتها، للمجتمع المدني القومي-الليبرالي. وكان تحوّل المجال العقائدي باتجاه القومية الجذرية، بالنسبة لبوروشنكي، طريقة أكثر سهولة لتقديم بعض التغيير "الثوري"، مقارنة بالمضي في الإصلاحات التي كانت ستقوض المزايا التنافسية لفصيله بين الطبقة الرأسمالية السياسية. وكانت تبني القومية يخدم أيضا لإسكات انتقاده "بعدم الوطنية"، ويساهم في شق صفوف المعارضة. حين صوّت البرلمان الأوكراني لتغيير الدستور في ما يتعلق بحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، كان التأييد للحلف الأطلسي يقدر بأربعين بالمئة في المجتمع الأوكراني. وبالتالي، لم يحصل ذلك بدفع من غالبية الناخبين، كما أنه لم يكن يلبي منطق مفاده "علينا اتخاذ إجراء شعبي قبل الانتخابات". كان بوروشنكي يقدّم مشاريع شعبية بين المواطنين الناشطين-ولكن ليس بالنسبة لغالبية الناخبين.
والأمر ذاته ينطبق على تفكيك الشيوعية. ما إن حدّدت الحكومة معنى ذلك فعليا، أظهرت الاستطلاعات أن الأوكرانيين غير مهتمين فعليا بتغيير أسماء الشوارع والمدن أو بحظر الحزب الشيوعي. وفي الوقت ذاته، لم يكونوا على استعداد للدفاع عن الحزب الشيوعي، لأنهم لم يعتبروه مجديا في الحياة السياسية. كما أنهم لم يكونوا مؤيدين لتفكيك الشيوعية؛ كانوا ضد الفكرة بشكل هامد، من دون مقاومتها بشكل ناشط. كانت شرعية هذا البرنامج بين جمهور ناشطي المجتمع المدني أكبر بكثير منها في صفوف المجتمع الأوكراني ككل.
كيف تطورت الانقسامات العقائدية والجغرافية الأوكرانية في مرحلة ما بعد 2014؟ ماذا حصل مثلا في مدينة مثل كاركوف، ذات توجه روسي تاريخيا؟
- حتى وقوع الغزو الروسي، لم تتغير كاركوف كثيرا. الغزو الروسي يغير اليوم بطريقة جذرية هويات الأوكرانيين ومفاهيمهم، ولكن ذلك مازال حديثا جدا. ما برز بعد 2014 في كاركوف، والمدن الكبرى الجنوبية الشرقية، كان طبقة وسطى أقوى نسبيا، وشريحة من المجتمع المدني، ومع مشهد يشبه كثيرا، فلنقل، السياسات الأوكرانية الغربية، ولكنه على النقيض من- ومجددا، كما شرحت سابقا، هذا تصنيف مضلل ويحمل وصمة- المواقف "الموالية لروسيا" للغالبية في هذه المدن. كان هناك انفصال بين المواطنين الناشطين، الذين يشاركون في التجمعات، ويكتبون في الصحف، ويدونون، ويستخدمون فايسبوك، وبين الناس الذين كانوا يحضرون إلى أكشاك الاقتراع وينتخبون رؤساء البلديات، وهي المجالس المحليّة. أصيب رئيس بلدية كاركوف، هينادي كيرنيس، برصاصة في ظهره أطلقها قناص ما في 2014 وكانت إصابته بالغة-أصبح مقعدا- إلا أنه أعيد انتخابه مرات حتى موته في 2020. مباشرة بعد اليورو ميدان، ذهب إلى روسيا، وبما تشاور مع أشخاص هناك. عاد واتخذ موقفا مواليا لأوكرانيا-لم يؤيد التمرد الانفصالي. كان يتمتع بشعبية كبيرة في كاركوف وحصل على دعم هام؛ ولم تكن تواجهه أي منافسة فعلية. وهناك واقع صاعق آخر: بحسب استطلاعات الرأي، وخارج المناطق الغربية، كان لتبني المواقف الموالية للقومية صلة شديدة الوضوح مع مستوى الرفاهية: كلما كانت مداخيل الناس مرتفعة، كلما كانت آراؤهم قومية وموالية للغرب. في المناطق الغربية، لم يكن هناك أي رابط من هذا النوع-كانت القومية قد أصبحت متجذرة بين شرائح المجتمع الواسعة. ولكن في مناطق الوسط، والشرق والجنوب، فكلما كنت من الطبقة الوسطى، كلما كان المرجح أن تكون قوميا ومواليا للغرب.
هل تربط ذلك بفروقات اجتماعية-اقتصادية أخرى بين غربي أوكرانيا وشرقيها؟
- هذا سؤال ما زال يحتاج للكثير من البحث، لأنه لا يتصل بكيفية بروز المجتمع المدني الأوكراني فحسب، بل أيضا بالمجتمعات المدنية بعد الحقبة السوفياتية بشكل عام. فبالنسبة للشرائح التي كانت تحتج على لوكاشينكو، على بوتين، على الرغم من عجزها عن حشد غالبية مجتمعاتها ضد حكامهم السلطويين، كان الأمر عائدا جزئيا لانقسام طبقي؛ ولكن في أوكرانيا، كان الأمر أيضا متداخلا مع الهوية الوطنية والانقسامات المناطقية. في المناطق الغربية، لا ترى هذا النوع من الفارق الطبقي، لأن ذلك النوع من القومية كان قد بات مألوفا على امتداد عقود. ولكن في أماكن أخرى، كانت القومية الأوكرانية أشبه بالظاهرة المتعلقة بالطبقة الوسطى- والتي هي طبعا مختلفة جدا عن القومية الأوروبية الغربية، والتي هي اليوم بين أبناء الطبقة العاملة خصوصا.
ما هو موقع الأوربة في هذه الصورة؟
- مجددا، في الدول السوفياتية سابقا، للأوربة معنى مختلف. الأشخاص المؤيدون للاتحاد الأوروبي في أوروبا الغربية يبقون حكما على مسافة من اليمين المتطرف. ولكن في الدول السوفياتية سابقا، هناك مزيج غير معهود، ولكنه متماسك، من القومية والنيو ليبرالية والتأييد للاتحاد الأوروبي، كعقيدة للجمهور الناشط.
ما هو نوع البديل الذي قدّمه زيلينسكي في 2019، مقارنة ببوروشينكو؟
- كانت انتخابات 2019 غير مسبوقة. كانت نتائج الانتخابات في أوكرانيا عادة ما تكون متقاربة جدا: حين فاز يانوكوفيتش أمام تيموشنكو في 2010 مثلا، كان الفارق هو 49 مقابل 46 بالمئة. أما الفارق بين تيموشينكو ويانوكوفيتش في 2004 فكان ضئيلا جدا أيضا، مما سمح ليانوكوفيتش بسرقة الانتخابات- مطلقا بذلك الثورة البرتقالية. ولكن بحلول 2019، كان بوروشينكو يعاني من هبوط كبير في شعبيته. وكان نحو ستين بالمئة من الأوكرانيين يقولون إنهم لن ينتخبوه أبدا، على الإطلاق. وبالتالي، أصبح بإمكان زيلينسكي حشد غالبية ضخمة في مواجهة بوروشينكو؛ وما بدا باعثا أكثر بعد على التفاؤل كان أن زيلينسكي كان يفوز في كل المناطق الأوكرانية تقريبا، باستثناء مناطق غاليسيا الثلاث في الغرب، حيث كانت القومية أقوى، وحيث فاز بوروشينكو. وهكذا، كان هناك بعض الأمل بأن تتوحد أوكرانيا أخيرا. في اليسار، كان لدى الكثيرين آمال بأنه مع زيلينسكي ستكون هناك مساحة أوسع للتنفس. وأنا غير نادم على تأييدي له في 2019؛ مازلت أعتقد أن ذلك كان هو الصواب. ومهما كان ما حدث لاحقا، كان فوز زيلينسكي الكاسح وحده قادرا على تقويض حجم سلطوية بوروشينكو. وقد شكل أيضا ضربة هائلة لقوى المجتمع المدني القومي-الليبرالي التي احتشدت حول بوروشينكو، وبدت مشتتة حين ظهرت ضمن معسكر أقلية الـ "25 بالمئة"، بعدما زعمت لسنوات أن البلاد برمتها متحدة حول برنامجها. كما أن الفوز الساحق خلق زخما سياسيا للمطالبة بأن مصالح الغالبية الفعلية في أوكرانيا لا يمثلها الأشخاص الذين يتحدثون باسم الأمة، الأمر الذي حاولت المعارضة السابقة والجديدة الاستفادة منه.
وماذا حدث في فترة حكومة زيلينسكي؟
- بعد فوز زيلينسكي بالانتخابات الرئاسية في نيسان\ابريل 2019، دعا لانتخابات برلمانية مبكرة في تموز\يوليو. كانت خطوة ذكية لأن حزبه "خادم الشعب"، الذي صُنع من الصفر، فاز بغالبية كاسحة-ومجددا كان ذلك أمرا غير مسبوق في السياسة الأوكرانية في ما بعد الحقبة السوفياتية- وبالتالي بات قادرا على تركيز الحكم في السلطات المركزية. وكانت هناك نقاشات عما إذا كان يتعين إجراء انتخابات محلية مبكرة أيضا؛ ولرؤساء البلديات دور هام في السياسة الأوكرانية، وكانت الانتخابات ستؤمن لحزب زيلينسكي السيطرة الكاملة إذا سعى لاتخاذ بعض القرارات الحساسة، مثل، على سبيل المثال، تطبيق اتفاقيات مينسك. إلا أن تبرير إجراء انتخابات محلية مبكرة كان أكثر صعوبة من الناحية القانونية. وأدى نجاح التبادل الأول للسجناء بين كل من أوكرانيا وروسيا ودونباس في أيلول\سبتمبر 2019 إلى المساهمة في شعبيته، لأنّه تبين أنه يمكن للسياسات الأوكرانية أن تتخذ اتجاها مختلفا. حصل زيلينسكي على أكثر من سبعين بالمئة من الأصوات ومستوى عال من الثقة في الاستطلاعات. كانت هناك فرصة سانحة للمضي قدما في ما يتعلق باتفاقيات مينسك؛ كانت هناك نقاشات نشطة لما يُمّسى بـ "صيغة شتاينماير" التي كانت ستوفر منهاجا لكيفية تطبيق الاتفاقيات. تمكنوا من الموافقة على وقف مؤقت لإطلاق النار، على الأقل، استمر لمدة أطول بكثير من سابقاته.
ثم ما الذي حدث؟
- بات واضحا، باكرا جدا، أن حزب زيلينسكي ليس حزبا فعليا، وأن هذا القائد الشعبوي لم يكن مدعوما على الإطلاق من تيار شعبوي، ولكن أيضا أنه لم يكن لديه حتى فريق فعلي قادر على متابعة أي سياسات متماسكة. استمرت حكومته الأولى لنحو نصف عام. بعدها، طرد رئيس مكتبه وبدأت سلسلة تبدلات مستمرة في المناصب الوزارية. كان الافتقار إلى فريق جدي يعني أن زيلينسكي وقع بسرعة في الفخ ذاته الذي وقع فيه بوروشينكو، فريسة الأطراف الأقوى في الحياة السياسية الأوكرانية: العصب الأوليغاركية، القوميون الراديكاليون، المجتمع الدولي الليبرالي، والحكومات الغربية، وكل منها تدفع في سبيل أجنداتها الخاصة، بالإضافة إلى التوقعات الشعبية المضخمة بحدوث تغيرات جذرية بعد "ميدان الانتخابي" الذي حمل أخيرا "وجوها جديدة" إلى الحكومة. وضمن هذا الفخ، كان زيلينسكي يسعى إلى بناء "التقسيم الرأسي للسلطات"، وهو "تسلسل قيادي" غير رسمي" كان مألوفا في الحياة السياسية التالية للحقبة السوفياتية. إلا أنه لم ينجح في ذلك. ربما يمكننا تحليل ذلك على أنه نوع من البونابرتية أو القيصرية الضعيفة: قائد منتخب حاول تخطي هذه الانقسامات-اهجم على اليسار، اهجم على اليمين، اهجم على القوميين، اهجم على المؤيدين لروسيا- إلا أنه فعل ذلك بتهور كبير، ومن دون تدعيم نظامه، وانتهى به الأمر بخلق فوضى واستعداء الكثير من الشخصيات القوية في السياسة الأوكرانية مع بداية 2022.
من هم الأشخاص الذين عيّنهم في المناصب الرئيسية: وزير الاقتصاد، وزير الدفاع، والخارجية وما إلى ذلك؟ هل هم أعضاء في حزبه أم من خارجه؟
- لقد تشكل حزبه بطريقة مختلفة، وبالتالي لم يكن مفيدا لملء المواقع الوزارية. في الحكومة الأولى، كان هناك كثيرون من المنظمات غير الحكومية المؤيدة للغرب. إلا أن زيلينسكي رأى سريعا أنهم لم يكونوا مؤهلين فعليا لإدارة الاقتصاد الأوكراني. وحصل أشخاص عملوا مع زيلينسكي في التلفزيون-منتجون، ممثلون، أصدقاؤه الشخصيون- على بعض المواقع المهمة. فمثلا، رئيس مكافحة التجسس هو شخص كانت لديه صلة شخصية بزيلينسكي. لاحقا، صار يعين أشخاصا بمواصفات أقل تأييدا للغرب من المنظمات الأهلية، إلا أنهم كانوا قادرين على تأمين الحد الأدنى من الكفاءة في الحكومة. في بعض الأحيان، كانوا يعتبرون مرتبطين بالمجموعات الأوليغاركية- مثلا، رئيس الوزراء شميهال، عمل لفترة من الوقت لحساب أخميتوف. وليس من المرجح أنه كان تحت تأثير أخميتوف؛ ولكن في ذلك الوقت اعتبر مؤشرا على عودة السياسة "العادية" إلى أوكرانيا: نحن نتخلص من هؤلاء الأشخاص غير الأكفاء من المنظمات غير الحكومية، ونبدأ بإحضار المزيد من الموظفين الحقيقيين إلى الحكومة.
كان زيلينسكي مازال في مرحلة تكوين فريق فعلي، يضم أشخاصا من مشارب مختلفة-أحيانا على صلة بالغرب، وأحيانا أخرى متصلة به، وأحيانا مرتبطين بمجموعات أوليغاركية. لدى بداية الحرب، لم يكن من الواضح بعد إذا كان قد نجح فعليا في بناء ذلك التسلسل العمودي للسلطة. كان الأمر يتحول أكثر فأكثر إلى فوضى؛ ويصبح خطيرا جدا. من وجهة نظر بوتين، إذا عمت الفوضى في أوكرانيا، ويقودها رئيس ضعيف لا يتمتع بالكفاءة، أليس هذا هو الوقت المناسب لتحقيق أهدافه؟
ماذا حدث لناحية التقدم في اتفاقيات مينسك؟
- كان بوروشينكو والقوميون قد بدأوا حملة مزعومة ضد الاستسلام في 2019، محتجين على تطبيق اتفاقيات مينسك، على الرغم من أنه لم يكن لديهم دعم كاف. بحسب الاستطلاعات، كان ربع الأوكرانيين فقط يؤيدون الحملة، وقال النصف تقريبا صراحة أنهم لا يؤيدونها. في الوقت ذاته، كان أزوف ومجموعات أخرى من اليمين المتطرف يعصون أوامر زيلينسكي، مخربين فض الاشتباك بين القوات الأوكرانية والانفصاليين في دونباس. اضطر زيلينسكي إلى الذهاب إلى قرية في دونباس والتفاوض معهم مباشرة، على الرغم من أنه رئيس الأركان. كان بإمكان المعارضين للاستسلام "المعتدلين" الاستفادة من احتجاجات اليمين المتشدد للقول أن تطبيق اتفاقيات مينسك سوف يعني نشوب حرب أهلية لأن الأوكرانيين لن يوافقوا على هذا "الاستسلام"، وبالتالي سيصبح هناك عنف "طبيعي".
قلتَ إن مجموعات اليمين المتشدد كانت في الواقع صغيرة جدا، في حين أن بوروشينكو كان قد تهاوى انتخابيا للتو. ما هو الشيء الآخر الذي منع زيلينسكي من تأدية مهام ولايته؟
- كان احتمال اندلاع أعمال عنف قومية حقيقيا. إلا أن السؤال يبقى: لماذا لم يقم زيلينسكي ببناء تحالف وطني ودولي لدعم اتفاقيات مينسك؟ كان يمكن لتأييد الدول الغربية العلني والفعال للتنفيذ الكامل للاتفاقيات أن يقدّم مؤشرا قويا إلى المجتمع المدني المؤيد للغرب. قد يقول البعض أنه بحلول 2019 فقدت الاتفاقيات شعبيتها-على الرغم من أنها كانت تحظى بتأييد الغالبية في 2015، حين تم التوقيع عليها وكان هناك أمل بإرساء السلام. ولكن في 2019 صار الناس يعتبرون أنها لن تكون فعالة في تغيير أي شيء في دونباس. مع ذلك، لم يقم بوروشينكو أو زيلينسكي بأي حملة جدية للرفع من شعبية الاتفاقيات بقدر ما قاما بحملات فعلية لدعم قانون إصلاح سوق الأراضي المثير للجدل والذي يفتقر إلى الشعبية بالقدر نفسه على الأقل، أو لأي مبادرات قومية متنوعة أخرى. وأخيرا، لم تقم أي من فرنسا وألمانيا بأي دور فعّال لدفع أوكرانيا للقيام بالمزيد من الجهود من أجل تنفيذ الاتفاقيات، وبالطبع، لم تدعم إدارتا أوباما وترامب الاتفاقيات بالقدر الكافي.
إذا فكرنا بأثر رجعي، لدى استعراض الماضي، ما هي الفروقات السياسية الفعلية في بين رئاستي بوروشينكو وزيلينسكي؟ باستثناء تصفية الحسابات السياسية، هل من الصواب القول أنه كان هناك استمرارية ملموسة جوهرية بينهما؟
- نعم، هذا صحيح. كان هناك توقعات بإمكانية أن يقوم زيلينسكي بمراجعة قانون اللغة، للسماح بوجود أكبر للغة الروسية في الساحة الأوكرانية العامة؛ وكان يمكن لذلك أن يحرز تقدما فعليا في تطبيق مينسك. قبل الحرب، فشل زيلينسكي في كل شيء. في الواقع، كان بوروشينكو أقدر على مقاومة بعض مطالب المؤسسات الدولية-وتحديدا ضغط "صندوق النقد الدولي" لبيع الغاز بسعر السوق، الأمر الذي كانت الحكومات الأوكرانية تحاول منعه دوما لأنه كان مرفوضا شعبيا بشكل هائل-خاصة بين المسنين، الذين يمكن أن يشكل رفع السعر بالنسبة لهم ضربة عنيفة، والذين يصوتون بأعداد كبيرة. وقدّم زيلينسكي أيضا مشروع إصلاح سوق الأراضي وهو كان قضية كبرى منذ استقلال أوكرانيا وغير شعبية على الإطلاق؛ كان أكثر من سبعين بالمئة من الأوكرانيين معارضين لبعض بنوده.
هل كان تقديم مشروع إصلاح الأراضي هو التغيير الاجتماعي والاقتصادي الأهم لزيلينسكي؟
- نعم، كان واحدا من الأهم، على الرغم من أنه أحاطه بقيود كونه يعرف أنه لا يتمتع بالشعبية. هكذا، في البداية، يمكن للمواطنين الأوكرانيين فقط أن يبدأوا بشراء الأراضي، ومن ثم- ربّما بعد إجراء استفتاء- يمكن السماح للأجانب بشرائها. ولكنه، مع ذلك، أطلق العملية التي كانت معطّلة منذ ثلاثين عاما. مع بداية 2021، كان زيلينسكي قد خسر معظم شعبيته. كان حزب "منصة المعارضة"- خليفة "حزب الأقاليم" والذي حلّ في المرتبة الثانية في انتخابات 2019- متقدما على حزب "خادم الشعب" في بعض الاستطلاعات.
قلت إن وقف إطلاق النار في دونباس انهار في نهاية 2020. ما هي الخطوات الرئيسية التي تلت ذلك؟
- ما زال هناك الكثير من الغموض حول الحرب وكيف بدأت. بالطبع، هناك أجزاء من القصة هي كلّها في غاية الأهمية- البعد الدولي لتوسع الحلف الأطلسي والامبريالية الروسية، بالإضافة إلى تقلبات الكرملين ردا على الموجة الأخيرة من الانتفاضات التي تلت المرحلة السوفياتيّة- في أرمينيا (2018)، روسيا البيضاء (2020) وكازاخستان (2022). ومن المؤكد أن اقتناع بوتين بأن روسيا تملك تفوقا عسكريا مؤقتا على حلف الأطلسي بالأسلحة الفرط صوتية (خمسة أضعاف سرعة الصوت) وتقليله من أهمية المقاومة الأوكرانية، ساهما في قرار بدء الحرب. وكان أحد العوامل الحاسمة هو ردة فعل بوتين على التطورات في السياسة الداخلية الأوكرانية واقتناعه المتزايد بأن روسيا لن تتمكن من التأثير عليها- بأن أوكرانيا تتجه بشكل نهائي نحو ما أسماه "معاداة روسيا" وأنه لم يتبق أي وسائل دبلوماسية لمنع هذا التحوّل.
كان أحد العوامل المحفّزة الذي استُخف به هو فرض زيلينسيكي لعقوبات جديّة على المعارضة، وكان فيكتور ميدفيدشوك- أحد قادة حزب "المنصة المعارضة"- هو الهدف الرئيسي. وميدفيدشوك مخضرم محترف في السياسة الأوكرانية؛ كان مدير مكتب كوشما السابق، وصديق شخصي لبوتين ومفاوض رئيسي في عمليات تبادل السجناء في دونباس. وينظر إليه عموما على أنه الشخص الأكثر موالاة لروسيا بين الشخصيات السياسية الرئيسية في أوكرانيا، مع أنه يتعين الأخذ في عين الاعتبار استقطابات ما بعد يورو ميدان وتحول الإحداثيات السياسية في أوكرانيا إلى القطب الموالي للغرب والقومي. كان ميدفيدشوك واحدا من المستهدفين بالعقوبات الأميركية بعد 2014. وبما أن حزب "منصة المعارضة" كان يتقدم على زيلينسكي في الاستطلاعات، بدا وكأن الرئيس يهاجم خصما سياسيا. وكان قرار البدء بفرض عقوبات- أحيانا من دون أي دلائل جدّية ضد المستهدفين- تتخذه مجموعة صغيرة من الأشخاص، في "مجلس الأمن القومي والدفاع"، أي فعليا نحو عشرين شخصا: أساسا بعض الوزراء، ورؤساء كل من الاستخبارات، ومكافحة التجسس، والمؤسسات المالية مثل المصرف المركزي. أحدهم، دميترو رازومكوف، وهو الناطق السابق باسم البرلمان الأوكراني، بدأ يتحدث علنا عمّا كان يحدث بعدما خسر منصبه في الانتخابات في تشرين الأول\أكتوبر 2021، قبيل بدء الإعلام الأميركي بقليل بنشر تسريبات عن اجتياح روسي وشيك.
ما الذي تضمنته العقوبات على ميدفيدشوك والآخرين؟
- كانت هذه العقوبات أكثر صرامة من التي تفرضها الولايات المتحدة عادة. وهناك فرق هام يتمثل في أن أوكرانيا فرضت عقوبات على مواطنين أوكرانيين من دون حكم قضائي. تم تجميد أرصدة ميدفيدشوك المصرفية كلّها، ولم يكن بإمكانه استخدام ممتلكاته. كما فرض "مجلس الأمن القومي والدفاع" عقوبات على شريك ميدفيدشوك، تاراس كوزاك، المالك السابق لثلاث محطات تلفزيونية تعتبر، على نطاق واسع، على أنها لميدفيدشوك؛ ونتج عن ذلك آلية قضائية لوقف بث هذه المحطات، وهو ما كان ربما النتيجة السياسية الأهم للعقوبات-فالمحطات كانت تهاجم زيلينسكي بشدة، وأيضا القوى القومية والمؤيّدة للغرب في أوكرانيا، وتنتقد عموما أفراد المنظمات الأهلية والسياسيين على أساس أن "سوروس هو من يغذيها". في وقت لاحق، قام زيلينسكي بوضع ميدفيدشوك قيد الإقامة الجبرية، حين فتحت الحكومة قضية جنائية بحقه بتهمة خيانة الدولة لمتاجرته بالفحم مع جمهوريات دونباس، في صفقة كان ميدفيدشوك قد عقدها في الواقع بالنيابة عن بوروشينكو، على أساس وجود حاجة للفحم من أجل الاقتصاد الأوكراني. بهذه الطريقة، تمكن زيلينسكي من الربط بين ميدفيدشوك وبين بوروشينكو، وهما على طرفي نقيض في السياسة الأوكرانية؛ وهكذا، إذا ربطت بينهما، سوف يبدآن بتشويه مصداقية بعضهما البعض؛ وإذا كان بوروشينكو يتعامل مع ميدفيدشوك بالسر، سوف يبدو الأمر على أنه خيانة، إن لم تكن خيانة عظمى، لشريحة كبيرة من ناخبيه.
ماذا كانت دوافع زيلينسكي في فرضه لعقوبات على ميدفيدشوك؟
- من الصعب التأكد من ذلك. رحب المجتمع المدني القومي الليبرالي بالعقوبات على ميدفيدشوك، الذين كانوا يعتبرونه طابورا خامس روسيا-كانت تلك خطوة قد انتظروها لسنوات عدة. وهناك تفسير أكثر واقعية وهو أن زيلينسكي استهدف زعيم حزب منافس كان يكتسب شعبية متزايدة بسرعة في نهاية 2020 على خلفية موجة من الاستياء من زيلينسكي بين الناخبين في المناطق الجنوبية الشرقية، والتي كانت قد أيّدته بصورة هائلة في 2019 ولكنها لم تعد ترى أي فارق جوهري بينه وبين بوروشينكو. وهناك جانب آخر، يشدد عليه سيمون شوستر في مقاله في مجلة "تايم"، وهو أن العقوبات طبقت، ورحبت بها السفارة الأميركية بتعبيرات لافتة، بعد وقت قصير من تسلم بايدن لمنصبه في نهاية كانون الثاني\يناير 2021.
وكان هناك عامل تعقيد يتمثل في أن محطات التلفزة التابعة لميدفيدشوك كانت تدفع نحو نظرية المؤامرة المتعلقة بمسألة هانتير بايدن وشركة "بوريسما"، ملقية بذلك الزيت على نار فضيحة تتعلق ببايدن. ومن المتصور أن زيلينسكي ظن أن حظر المحطات التلفزيونية التابعة لميدفيدشوك يمكن أن يعتبر "بادرة صداقة" تجاه الرئيس الأميركي الجديد، ومحاولة لتبييض صورته. ونعرف أيضا أن بايدن لم يكن على عجلة من أمره لإجراء اتصال رسمي بزيلينسكي بعد حفل تنصيبه-ونوقش الأمر على نطاق واسع في الصحافة الأوكرانية وقتها على أنه مؤشر على متاعب يمكن أن تواجه زيلينسكي. ومع ذلك، ليست لدينا أي معلومات أكيدة تثبت أي من التفسيرات.
ومهما كانت دوافعها، قامت حكومة زيلينسكي بعدها بمضاعفة هجومها وبدأت تستخدم العقوبات بصورة أوسع بكثير- أحيانا ضد الأوليغاركيين، وغالبا ضد أشخاص مشتبه بضلوعهم في الجريمة المنظمة، ولكن أيضا ضد مؤسسات إعلامية معارضة أخرى. مع بداية 2022، كانت الحكومة قد حظرت معظم وسائل الإلام المعارضة الرئيسية، بما فيها واحد من أكثر المواقع الالكترونية شعبية في أوكرانيا "سترانا يو آ"، وأكثر المدونين السياسيين شعبية، أناتولي شاريي، الذي طلب اللجوء في الاتحاد الأوروبي. كان زيلينسكي يخلق الكثير من الأعداء لنفسه من خلال هذه العقوبات العشوائية، المشكوك بقانونيتها، وبدأ الأوليغاركيون الأوكرانيون يشعرون بالقلق. مع حلول نهاية 2021، دخل زيلينسكي في نزاع مع رينات أخميتوف، الرجل الأكثر ثراء في أوكرانيا. بدأ أخميتوف بجمع المؤثرين الذين يتمتعون بالشعبية من حوله-صحافيون معروفون، رازومكوف، رئيس البرلمان المعزول، وأفاكوف، وزير الداخلية القوي المعزول- وبدا الأمر كأنه بداية ائتلاف (تحالف) محتمل في مواجهة زيلينسكي يمكن أن يكون قادرا على تشكيل تحد له في حال وقوع أي أزمة، وأن يفرض انتخابات مبكرة وأن يصل إلى السلطة. كان زيلينسكي في معركة مع المعارضة المؤيدة لروسيا، مع بوروشينكو- الذي حاول ولكنه فشل في اعتقاله في كانون الثاني\يناير- ومع أخميتوف. لم تكن الأمور تبدو جيدة بالنسبة له على الإطلاق؛ إذا قمت بخلق هذا الكم من الأعداء، فيمكنهم أن يتحدوا لمجرد التخلص منك. كانت هناك نقاشات عن تقليص صلاحيات الرئيس لتحويل الموقع إلى منصب شرفي إلى حد كبير، والتوجه نحو جمهورية برلمانية. قبل الحرب، لم تكن الاستطلاعات لصالحه، حتى أنه في بعضها كان يخسر مقابل بوروشينكو. إلا أن الحرب غيّرت كل شيء-و، طبعا، أصبح زيلينسكي اليوم أكثر شعبية بكثير مما كان عليه. إذا تمكّن من الفوز في الحرب، أو على الأقل التوصل إلى تسوية غير مهينة مع بوتين، يمكن أن يتحول ليصبح واحدا من أكثر القادة السياسيين شعبية الذين عرفتهم أوكرانيا.
كيف ترتبط هذه العقوبات ضد ميدفيدشوك وغيره بالاجتياح؟
- كما يوضح شوستر في مقاله في "تايم"، فقد تلت العقوبات ضد ميدفيدشوك في نهاية كانون الثاني\يناير 2021، بعد أسابيع قليلة فقط، المؤشرات الأولى على الحشود الروسية عند الحدود الأوكرانية. كان بإمكان بوتين اعتبار إقصاء ميدفيدشوك من السياسة الأوكرانية رسالة واضحة- "عملية تطهير بديهية تماما للساحة السياسية"- كما ينقل مخبر شوستير عن بوتين قوله. وأكدت السفارة الأميركية في كييف على ذلك من خلال تأييد العقوبات فورا: اتخذ "مجلس الأمن القومي والدفاع" القرار مساء يوم جمعة، ويوم السبت قالت السفارة الأميركية عبر "تويتر" شيئا كمثل "نؤيد جهود أوكرانيا لحماية سيادتها ووحدة أراضيها من خلال العقوبات". ربما يمكننا التخمين بأن بوتين اعتبر الخطوة المتخذة ضد ميدفيدشوك هي القطرة الأخيرة، وأن أوكرانيا لن تطبق أبدا على الإطلاق اتفاقيات مينسك؛ وأنه لن يُسمح مطلقا لأي سياسي صديق لروسيا بدخول الائتلاف الحكومي في أوكرانيا؛ وأن الحكومة لن تكون أبدا مراعية للمصالح الروسية.
ويصف مقال مجلة "تايم" الأساس المنطقي لقيام روسيا بحشد قواتها، كنوع من دبلوماسية الإرغام-الطريقة الوحيدة لجعل الغرب يفاوض حول العقوبات والضمانات الأمنية، بحسب المصدر المجهول لشوستير في الكرملين. إلا أنه لا يفسر سبب الغزو-وأيضا، طبعا، لا يبرره.
بالطبع، لا يمكن أن يكون هناك أي تبرير مقبول لهذه الحرب، ولاسيما من وجهة نظر تقدمية. كانت الحرب تهدف إلى التوكيد على موقع روسيا كقوة عظمى، وإلى رسم حدود "منطقة نفوذها" حيث يكون لروسيا حقوق-قادرة على العمل إما عبر تغيير نظام "معاد لروسيا"، أو عبر تقسيم أوكرانيا، أو من خلال تحويل أراض واسعة إلى منطقة رمادية هائلة حوّلها القصف إلى دولة منذ ما قبل الحداثة. هو تحرك يؤدي حكما إلى خسائر بشرية هائلة، ومذابح بين المدنيين، ودمار كارثي. والحرب تخدم أيضا هدفا محليا هاما لبوتين. هي تهدف إلى تحويل السياسة الروسية من قيصرية ما بعد الحقبة السوفياتية، بدت هشاشتها واضحة خلال الانتفاضات الأخيرة في روسيا البيضاء وكازاخستان، إلى نظام سياسي قادر أن يكون أكثر استقرارا، وتدعيما، وقادر على التعبئة، لديه مشروع عقائدي امبريالي-محافظ، أكثر هيمنة بالنسبة للبعض لكنه أكثر قمعا بالنسبة للبعض الآخر. ضمن هذا المشروع، سوف يتعين "إعادة تثقيف" العديد من الأوكرانيين بالقوة للتحول من هوية أوكرانية مؤيدة لبانديرا ومعادية لروسيا إلى هوية أوكرانية مالوروسية (روسيا الصغرى) ومؤيدة لروسيا.
مهما كانت المشكلات التي شهدتها أوكرانيا بعد اليورو ميدان-وكان هناك الكثير منها: سياسات فوضوية غير كفوءة، أوليغاركية ضارية متهكمة، اعتماد متفاقم على القوى الغربية، إصلاحات نيو ليبرالية عوضا عن تغيير تقدمي، توجهات قومية راديكالية، تضييق المساحة المتاحة للتعددية السياسية، تكثيف قمع المعارضة-هذه كانت مشكلات عامة في أوكرانيا كان يمكن للأوكرانيين، ويتعين عليهم، حلّها بأنفسهم من خلال عملية سياسية، من دون الدبابات والقنابل الروسية. عمليا، لم يؤيد أي سياسي رئيسي أو أي من اقطاب الرأي الأوكرانيين الغزو، حتى الذين صنّفوا "مؤيدين للروس" على امتداد أعوام.
العام الماضي، وردا على أسئلة من الروس عمّا يمكن لروسيا أن تفعله لمساعدة "مؤيدي روسيا" في أوكرانيا، قام صحافي أوكراني معارض "مؤيد لروسيا" بكتابة في مدونته ما معناه "دعوا أوكرانيا وشأنها، وركزوا على بناء روسيا تتمتع بالرخاء والجاذبية". وتعكس هذه الإجابة أزمة هيمنة بنيوية في المرحلة التالية للسوفياتية: عجز الطبقات الحاكمة التالية للسوفياتية، وتحديدا تلك الروسية، عن قيادة، وليس فقط حكم، الطبقات والدول التابعة. وبوتين، مثل قادة قيصريين في حقبة ما بعد السوفياتية الآخرين، حكم من خلال مزيج من القمع، والتوازن والموافقة المستسلمة، شرعته سردية إعادة الاستقرار بعد الانهيار التالي للسوفياتية في التسعينيات. ولكنه لم يعرض أي مشروع تنموي جذاب. ويجب تحليل الغزو الروسي ضمن هذا السياق تحديدا: بسبب افتقارها لما يكفي من القوة الناعمة الجاذبة، قررت الزمرة الروسية الحاكمة في النهاية الاعتماد على قوة العنف الخشنة، بدء من الدبلوماسية القسرية في بداية 2021، ومن ثم لاحقا التخلي عن الدبلوماسية لصالح الإكراه العسكري في 2022.
خلال الحشد للغزو، من كانون الأول\ديسمبر 2021، كانت إدارة بايدن ترفض التفاوض مع بوتين وتنشر عوضا عن ذلك لمعلوماتها الاستخباراتية عن خطط الاجتياح الروسي وتقود دبلوماسية البوق. كيف كان وقع ذلك في أوكرانيا؟
- حتى 24 شباط\فبراير، لم يكن الأوكرانيون يعتقدون أن روسيا سوف تجتاح بلادهم. الحكومة لم تكن تصدق ذلك. كان زيلينسكي يعتقد أنه من الممكن أن يحصل "اجتياح محدود"، ولكن ليس الهجمة واسعة النطاق التي حصلت فعلا. وأعدّ محللون عسكريون أوكرانيون من مركز أبحاث تابع لوزارة الدفاع تقريرا يقول إنه من المستبعد تماما أن يهاجم بوتين أوكرانيا في 2022. وكان زيلينسكي مستاء من الحملات الإعلامية الغربية، معتقدا أنها تهدف للضغط عليه للبدء في تطبيق اتفاقيات مينسك، والتي كان يقاومها؛ أو ربما للتخلي عن مطلب الانضمام إلى حلف الأطلسي. إلا أنه تبين أن توقعاته لم تكن صحيحة، وأن "وكالة الاستخبارات الأميركية" (سي آي أي) وجهاز الاستخبارات البريطاني (إم آي 6) كانا على حق- على الرغم من أنهما أبلغا الإعلام الآن أن المؤشرات على قرار بوتين الأخير ببدء الحرب لم تظهر قبل شباط\فبراير. في الوقت ذاته، استخفت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشكل فاضح بإمكانيات الجيش الأوكراني، تماما كما أنهما بالغتا في تقدير الجيش الروسي الذي توقعا أن يستولي على كييف في خلال ثلاثة أيام أو أربعة. أو، على الأقل، قاما بإبراز هذه التوقعات علنا، والتي أضيفت إلى الخطأ الواضح في الحسابات الروسية عن نصر سريع وسهل "للعملية الخاصة" في أوكرانيا.
إذا، لماذا لم تمنع واشنطن الغزو؟ إذا كانوا يعرفون أن هناك اجتياحا آت، لماذا لم يفعلوا شيئا سوى تسريب خطط بوتين للإعلام؟ واحدة من الاستراتيجيات التي كان يمكن اللجوء إليها هي بدء مفاوضات جدّية مع بوتين، والموافقة على أن أوكرانيا لن تصبح عضوا في حلف الأطلسي، لأنه لم تكن لديهم النية أبدا لدعوتها للانضمام-ولا النية للقتال من أجلها، كما نرى الآن. وكان يمكن اتباع استراتيجية أخرى، معاكسة، تقتضي بإرسال إمدادات هائلة من السلاح لأوكرانيا قبل بدء الحرب، كافية لتغيير حسابات طرف بوتين. إلا أنهم لم يفعلوا أيا من هذه الأشياء-وهذا يبدو غريبا نوعا ما، وبالطبع مأساويا بالنسبة لأوكرانيا.
فاجأت المقاومة العسكرية الأوكرانية العالية نسبيا أيضا الكثير من المراقبين. إلى أي مدى، برأيك، يعود ذلك للأسلحة والتدريبات المهنية التي أتت من الولايات المتحدة، وإلى أي مدى يعود للروح الوطنية العفوية للدفاع عن النفس؟
- من المؤكد أن المقاومة العسكرية أقوى مما توقعه الروس. بالإضافة إلى ذلك، شهدت المدن المحتلة تجمعات كبيرة مؤيدة لأوكرانيا، على الرغم من أنها حتى الآن لم تشمل إلا أقلية صغيرة من السكان. فمثلا، في خيرسون، وهي مدينة يقدر عدد سكانها بثلاثمئة ألف نسمة قبل الغزو، حشدت التجمعات ما بين الألفين والثلاثة آلاف شخص. بعض الأشخاص يخشون قمعا روسيا، إلا أن هناك من ينتظر لرؤية ما الذي سيحدث، وكم سيبقى الروس. وبما أن الخطط الروسية المتعلقة بالمناطق المحتلة خارج دونباس مازالت غير واضحة، فإنه سيكون من المجازفة البدء بالتعاون، لأنه حين يعود الأوكرانيون، سوف يتعرض هؤلاء الأشخاص للاضطهاد. المقاومة مهمة، إلا أنها ليست الشيء الوحيد الذي يحدث؛ فردود فعل الأوكرانيين على الاجتياح مختلفة بحسب اختلاف الأشخاص، وهو أمر مألوف ربما خلال الحروب.
هل ما زالت الإدارات السياسية الأوكرانية قائمة في المدن المحتلة؟
- بدأ الروس الآن يجبرونهم على التعاون معهم وإلا فإنهم يقومون باستبدالهم. وهناك تقارير تفيد بأنهم أحيانا يوقفون ويختطفون ممثلي السلطات الأوكرانية الذين يرفضون (التعاون). بعد شهر من الاحتلال، بدأوا بإنشاء بعض البنى لإدارة عسكرية مدنية. وهم يدخِلون الروبل الروسي كالعملة المتداولة في خيرسون ومدن محتلة أخرى في الجنوب. وبدأوا بتقديم مبالغ صغيرة للمتقاعدين وموظفي القطاع العام.
هل يمكن لحكومة زيلينسكي، أو أي حكومة أوكرانية، أن توافق على انفصال أقاليم دونباس أو القرم؟
- سوف تكون تلك تسوية مؤلمة. إذا بدأت الحكومة تقول إنها جاهزة للموافقة على ضم القرم، والاستقلال المزعوم لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، سوف تتم مهاجمة زيلينسكي بقوة-إنه يخون وطنه، إنه يستسلم للروس. هو يفضل ألا يقول ذلك علنا، بغض النظر عما يحصل على طاولة المفاوضات. في مقابلة نشرت مؤخرا مع مجلة "إيكونوميست"، قال زيلينسكي، وهو أمر مثير للاهتمام، أن انقاذ حياة الأوكرانيين هو أكثر أهمية من انقاذ الأراضي. ويمكن تفسير ذلك على أنه يفكر بأنه من الممكن أن يجبر على القبول بهذه التسوية. إلا أنه من الممكن أن يبنوا على بعض التطورات المغايرة للحرب- استنزاف الموارد الروسية، هزيمة كبرى ما، أو المزيد من الإمدادات بالأسلحة الأميركية. من الممكن أنهم يناقشون خيارات متنوعة يتم تفعيلها بحسب مجريات الأمور على الجبهات.
برأيك، ما هو شكل أوكرانيا بعد هذه الحرب؟
- الحرب تقوم بتغيير العلاقات الأوكرانية-الروسية كما الهوية الأوكرانية. قبل الحرب، كانت أقلية كبرى من المواطنين الأوكرانيين، ربما 15 بالمئة، يستطيعون أن يقولوا إنهم يشعرون بأنهم أوكرانيين وروس في الوقت ذاته. اليوم، سيكون ذلك أصعب بكثير- سيتعين أن يختاروا، وبرأيي سيكون خيارا لصالح الهوية الأوكرانية. وسيتشدد الحظر على اللغة والثقافية الروسيتين في المجال العام- وفي التواصل الخاص. في حال طالت الحرب محوّلة أوكرانيا إلى سوريا أو أفغانستان في أوروبا، فمن المرجح بقوة أن يبدأ القوميون الراديكاليون باحتلال مواقع قيادية في المقاومة، مع ما يرافق ذلك من عواقب سياسية بديهية. أوكرانيا التي ولدت فيها، والتي عشت فيها معظم حياتي، ضاعت الآن، للأبد- مهما كانت نتيجة الحرب.
هل تتوقع تأثيرات ارتدادية ضد بوتين في روسيا؟
- ليس الآن. تشير التقارير إلى أن الحرب تلقى تأييدا في روسيا نسبته ما بين ستين وسبعين في المئة، أو أكثر. هناك نقاش مختلف عن مدى مصداقية الاستطلاعات الروسية، ولكن ليست لدينا أي دلائل منهجية أخرى، وهذا منطقي. بالطبع، إذا ارتفع عدد الخسائر البشرية، وإذا استمرت الحرب وبدأ التأثير الشامل للعقوبات يطال أكثر فأكثر الروسيين العاديين، فإن الآراء ستتغير- وسيتعين على الحكومة الروسية أن تتكيف مع ذلك. الاعتماد على إجراءات ديكتاتورية فحسب لا يجدي نفعا على المدى البعيد، وفي لحظة معينة سوف تحتاج الحكومة للبدء بشراء ولاء الروس. مشكلتهم الأولى تتمثل في كيفية تغيير وجهة الاقتصاد الروسي بعيدا عن الغرب. ولكن الآن، ليس من المرجح على الإطلاق حصول أي تمرد، لاسيما وأن نحو مئتي ألف شخص من المعارضة الحقيقية والروس المعارضين للحرب، قد فرّوا من البلاد. والمعارضة في روسيا منقسمة ومقموعة- وقد سحق تيار نافالني حاليا، فيما الحزب الشيوعي يؤيد الحرب فعليا. هناك احتمال أكبر بوقوع انقلاب نخبوي ضد بوتين، إلا أنّني أشك أن يتّخذوا الخطوة الأولى قبل هزيمة في أوكرانيا. وهكذا، في النهاية، لن تنهي الحرب في أوكرانيا ثورة أو انقلاب في القصر، بل نتائج الحرب هي التي ستحدد إذا كانت روسيا ستشهد ثورة، أو انقلابا، أو تدعيما للبوتينية السياسية.
[ترجمة هنادي سلمان. نشرت في "نيو ليفت ريفيو" (كانون الثاني/يناير- نيسان/ابريل 2022)].