مي سرحان
(دار الشروق، القاهرة، 2021)
تقول سامية محرز في كتابها الجديد "إبراهيم ناجي: زيارة حميمة تأخّرت كثيراً" (دار الشروق، 2021)، إن هناك صورة على جدار في غرفة معيشة خيّمت طويلاً على حياتها. ثم تخبرنا أن الصورة هي لشاعر، الدكتور إبراهيم ناجي. "إنها صورة رجل لا أعرفه، إلا أنّه قيل لي أنّه جدّي".
واحتُفل بالإصدار الجديد في حفل توقيع في "القنصلية" في وسط القاهرة، في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2021. وكان أحد أكثر الأسئلة وجاهة من بين التي أثيرت حينها هو عن النوع الأدبي للكتاب. فسبل تعرّف الكاتبة على جدّها من خلال هذه الرحلة السردية متعرّجة وعصيّة على التصنيف. وفعلاً، وكما روت محرز نفسها في تلك الأمسية، فإن ذلك كان السؤال الأوّل الذي طرحته عليها مديرة النشر أميرة أبو المجد حين سلّمتها مخطوطة الكتاب: كيف تصنفين هذا الكتاب؟ هل هو سيرة ذاتيّة عن محرز في ما يتعلّق بجدّها ناجي؟ هل هو سيرة عن حياة ناجي وأعماله؟ هل هو تاريخ اجتماعي للقاهرة وساحاتها الأدبيّة المتناميّة؟ هل هو محاولة لتفسير أوجه ناجي المتعدّدة، ولإعادة إحيائه؟ أو أنّه نقد أدبي لإنتاجيته والمؤسسات المرتبطة بها؟ وإذا جاز التعبير، فإن تلك الأسئلة هي التي كانت توصل إلى فهم النوع الأدبي المرن للعمل الجديد.
وأوضحت محرز في تلك الأمسية أنّه "حين كنت أكتب، لم أكن أعي على وجه الخصوص أنه نوع أدبي مرن، ولكن كلما فكرّت بالسؤال، كلما أدركت أن الكتاب خرج بهذه الصيغة بسبب شخصياته وموضوعاته." فلنبدأ بالشخصيات إذا- - حفيدة وجدّها، يتصادف أنّ كلا منهما هو أيضا وجه أدبي، حددت المسار المهني لكل منهما، بشكل أساسي، اهتمامات وانتاجات من قطاعات مختلفة. فمن جهة، هناك ناجي وهو طبيب وشاعر وكاتب قصة قصيرة ومترجم يعترف "إنّني أتعامل مع الفن وكأنه علم، وأتعامل مع العلم كأنه فن." ومن جهة ثانية، هناك محرز التي تشهد إصداراتها على تنوّع اهتماماتها الفكرية. وهي كتبت "الكتّاب المصريون بين التاريخ والخيال القصصي"، و"حروب الثقافة في مصر بين السياسة والممارسات"، و"أطلس القاهرة الأدبي"، ودراسات يتقاطع فيها باستمرار المتخيل مع التاريخ الاجتماعي، والسياسة، والجغرافيا وغيرها. كما أنّها أسست وأدارت "مركز دراسات الترجمة في الجامعة الأميركية في القاهرة"، الذي وفّر على امتداد عشرة أعوام منبرا للحوار بين اختصاصات متعدّدة.
ولننتقل الآن إلى موضوعات الكتاب. يشاء الحظ، في أعقاب وفاة خالتها، أن تحصل محرز على محتويات مغلّفين. ويحتوي المغلفان على التالي: عقد بيع مكتبة إبراهيم ناجي إلى "رابطة الأدب الحديث" بمبلغ قيمته سبعون جنيها مصريا، وعلى تنازل الورثة عن حقوق النشر لصالح خالة محرز، وعلى مسودات مشاريع كتب طبّية لم تكتمل، ودفاتر تحتوي ترجماته لسوناتات شيكسبير، ومفكرته غير المنشورة، وإقرار من الخالة تتعهد فيه أنّها ستنشر محتوياته بعد إزالة كل المقاطع الشخصيّة، وأنها ستنشر ترجماته بعد قيامها هي بترجمة السوناتات المتبقيّة. ولم تف الخالة يوما بهذا التعهد، مما من جعل الكاتبة مرغمة على حمل إرثه، ومكلّفة بمهمة تمثيله الجسيمة.
وما يبرز هو أن العلاقة بين الحفيدة وبين الجد هي علاقة إشكالية. هي تشبهه، ولكنها رفضت هذا الشبه لسنوات، وتجنبته بسبب صورته المثالية المبجلة كمثل أعلى، والأطر التي كانت تحدد إرثه وتحدّه. في البيت، كانت صورته تظلّل المكان كلّه، مهيمنة على غرفة المعيشة. والمميزات التي تصفها العائلة لوصفه كانت ثابتة: والد مثالي، زوج مثالي، طبيب مثالي. والصورة التي في الإطار هي نفسها التي يعرفها الجمهور العريض. إذ تستخدم على أغلفة الكتب، ومع مقالاته، وفي جزء من المنهج العربي في المدارس المصرية. عبر الإذاعة، هو الشاعر الذي كتب "الأطلال"، أكثر أغنيات أم كلثوم شهرة، والتي كانت بالنسبة للطفلة الصغيرة في 1966 نواحاً حزيناً يحثّها على البكاء. في المدرسة، كان هو الشاعر الذي كتب قصيدة "العودة" المملة، والتي كانت سببا لسخرية زملائها منها لأنّهم، معذورين، لم يحبوها على الأطلاق. كيف كان الممكن أن يحبونها فيما كان المطلوب هو الحفظ من دون فهم؟ في حين كانت تفسيرات المنهاج لا تتجاوز شرح القواعد الإملائية؟
ثمّ تتحوّل رحلة سرد لتصبح عن شخصين أعادا التعرّف على بعضهما البعض، لكي يتمكنا عن إعادة كتابة قصة علاقتهما، والتصالح مع أوجه التشابه والإضاءة على الفروقات التي بينهما. وبناء على لشخصياتها وموضوعاتها، تتكشّف الرحلة بشكل طبيعي عبر حبكة متغيّرة (متلوّنة). ونتابع طرقات شخصين استثنائيين ومتحوّلين في تلاقيهما وتباعدهما، ككاتبين، وناقدين أدبيين، ومترجمين، ومن جيلين من العائلة ذاتها في ظل ميل لتجاوز الانقسامات.
وبالفعل، تلفت محرز إلى أن "الحدود هي بنى نشيدها نحن، وعبورها يُثري تجارب الكاتب والقارئ معاً". ولكنها تشرح أنه في هذه الحالة المحدّدة، كان هناك عدد من الأسباب الأساسيّة التي أملت اللجوء إلى نطاق تحليلي مرن. فأولا، كان تحديد الاختصاص إشكاليا لناحية ناجي نفسه. ونعرف أن سعيه الحثيث والمتواصل للجمع بين امتهانه للطب ومسيرته الأدبية أسفرت عن تهميشه من قبل المؤسسة الطبيّة وبالتالي عن معاناته طوال حياته من الصعوبات المالية. وثانيا، هناك اتساع المروحة التي تغطيها الوثائق ذاتها، من مدونات مفكرته، إلى المراسلات بينه وبين زوجته، إلى الترجمات الشعرية، إلى المشاريع غير المكتملة في مجالي الصحة والتغذية، إلى كتابات في علم الاجتماع وفي علم النفس. وثالثا، هناك مقاربة ناجي متعدّدة التخصصات للكتابة، والتي تمتد من تحليل نفسي لبودلير إلى سوسيولوجيا الطب؛ ورابعا يجب الأخذ بعين الاعتبار الجاذبية الشعبية لناجي، والتي لا يمكن للغة بحثية بحتة التقاطها ونقلها لجمهور عريض. وهناك تنوع في اللغة العربية المستخدمة بحسب المدونات المختلفة مما كان يتطلب اعتماد طرق متعددة من التعاطي معها: فهناك النميمة والذكريات، والرسائل العاطفية ورسائل الشكاوى الرسمية، واليوميات المدونة بسرعة بخط اليد في المفكرة وصولا إلى العمليات الدؤوبة لإعادة صياغة القصائد، وإلى ما ذلك.
وفيما ننتقل من وثيقة إلى أخرى، تصبح الحدود بين الواقع وبين الخيال ضبابية. فالذاكرة عالقة بين الحقيقة والمغالطات. والنظرة إلى البيت ضمن مساحة "محفوظية" (نسبة إلى نجيب محفوظ)، كانت تفيد عن شخصياته. والطبيب والشاعر هم شخص واحد في منتصفه شرخ يسمح بدخول الضوء. ويتسرب الأدب في التقارير الطبية، وتوّضح الدقة العلمية العمل الأدبي. وتصبح العشيقات بطلات روايات عالمية وشخصيات في سيناريوهات تلفزيونية. أما محرز فتصبح بورتيا، من "تاجر البندقية" مصممة على فعل الصواب في ما يتعلق بإرث جدها. وفيما نتسلل من مقال إلى يومية، ومن قصة قصيرة إلى قصيدة، ومن رسالة إلى مقابلة، نقابل نسخا بأوجه متعددة لكل من يكوّن هذه السردية المحيرة. فالتجربة برمتها تشبه الدخول إلى منزل من المرايا حيث يتكرر انعكاس الصور باستمرار، كما أنها تُحرّف، ويقابلها كاتبة يجب أن تتأقلم بدورها لكي تتمكن من إيفاء كل ما كتب حقه، كل على حدة.
من خلال ذلك كلّه، تستفيد محرز من المعطيات الرئيسية في المفكرة: الحميمية والإفصاح، وذلك أيضاً هو معبر بين ما هو خاص وما هو عام. فمثلاً، يكشف عقد بيع مكتبة إبراهيم ناجي لـ"رابطة الأدب الحديث" بسبعين جنيهاً مصرياً، عن الصعوبات المالية التي واجهها، ولكنه يُظهر أيضاً ديناميكيات القوة في المؤسسات التي كانت تقيّده، إن كان في الزواج أو الأدب أو الطب. وإفادة خالة محرز بالتعهّد بنشر محتويات المغلفين بعد محو الأجزاء الشخصية، تشكّل انتقادا لسردية وطنية رسمية تفضل التطهير والتبجيل المعنوي للشخصيات السياسية والثقافية. وتتعارض المسودات الطموحة للمشاريع غير المكتملة مع الرجل الواهن والمحاصر. وتتسرّب اليوميات إلى قصائده وقصصه القصيرة فيما الشخصيات تتنقل بحرية بين العالمين الواقعي والمتخيّل. وتصبح ترجمة سوناتات شيكسبير وسيلة لتعاون محرز مع ابنها على المستويين النظري والشخصي، مؤسسة بذلك حوارا بين أجيال ثلاثة من الأسرة نفسها.
ندخل إلى هذه الحكاية من غرفة المعيشة، ثم نتجاوز عوالم متعدّدة، ونعود إلى غرفة المعيشة وقد تغيّر فهمنا بعمق. في البداية، كان الجو في غرفة المعيشة متشنجاً. قابلنا رجلاً داخل إطار صورة كبير، يهيمن على المكان؛ كانت صورته ثابتة، ومِكَبّلة ومخيفة بالنسبة للمرأة التي تقف مقابلها. حين استدرنا في النهاية، كانت روح ناجي متغلغلة في الغرفة وتغمر الراوية. رُفع الحجاب عن شخصية عامة ونموذج ثقافي، ليكشف النقاب عن مجرد رجل. تابعنا تجاربه ومحنه، وتماهينا مع صراعاته، وألهمنا طموحه، وتعاطفنا مع إخفاقاته، وانغمسنا في أسراره، وانتهينا إلى حبه عوضا عن تبجيله، أو ربما تبجيله لأنه حملنا على حبه. وصورة ناجي التي تمخّضت كانت في غاية الحميمية، والإبهار في أبعادها المتعددة، لدرجة كما لو أنه أعيد إحياؤه بطريقة ثلاثية الأبعاد. والنجاح هنا مزدوج، لأنه، وفيما كانت إحدى الشخصيات الرئيسية تتكشف أمام أعيننا، كانت الأخرى تتكشف أيضا. وحين عبرت محرز الحاجز الأخير نحو ناجي، خرج من إطار الصورة.
[ترجمة هنادي سليمان عن جدلية باللغة الإنجليزية].
[أجرت مي سرحان مؤخرا مقابلة مع سامية محرز].