جمال سعيد
(ECW، كندا، 2022)
[جمال سعيد، كاتب سوري أمضى في السجون السورية نحو 12 عاماً كمعتقل رأي، عرف خلالها سجن تدمر سيئ الصيت، والذي يعد من أسوأ السجون في العالم. نشرت أول قصة له عام 1982 في مجلة الأفق اللبنانية، وقد هربها أثناء إقامته في سجن القلعة. نشر بعد خروجه من السجن مجموعة قصصية بعنوان مجنونة الشموس، وتلقى بسببها تهديدات من أجهزة المخابرات مع أنها صدرت عن وزارة الثقافة في سورية، الأمر الذي جعله ينشر في بعض الدوريات العربية بحذر وبأسماء مستعارة عندما يشعر بالخطورة. عمل في دار الطليعة الجديدة مديراً للإنتاج ومصمماً لأغلفة الكتب لمدة تزيد على 14 عاماً، وتعاون مع العديد من دور النشر في سورية ولبنان في الحقل الفني. وقام بترجمة بعض الكتب عن الإنكليزية. قبل أن تعم المظاهرات سورية وبعدها وقف مع الشخصيات والمنظمات التي تدعو إلى دولة مدنية ديمقراطية، وركز في كتاباته على ضرورة الحداثة والعقلانية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وحين تعرض للتهديدات وكاد طفلاه وزوجته أن يختطفوا، غادر سورية إلى دبي ومنها إلى كندا. تعاون مع الكاتبة الكندية شيرون مكّاي (Sharon McKay) وكتبا معاً رواية لليافعين بعنوان ربيع يارا (Yara’s Spring) التي صدرت عن دار أنّك برس (Annik Press). يقيم حالياً في كندا مع أسرته].
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
جمال سعيد (ج. س.): عشتُ هذا الكتاب لزمن طويل. رويتُ لنفسي الكثير من العبارات والمشاهد التي يتضمنها في أوقات مختلفة من حياتي، وكأني كنت أخزنها في ذاكرتي لأشارك بها الآخرين. بل وعدتُ نفسي بهذه المشاركة. أتاح لي الاعتقال الطويل في المرة الأولى الكثير من التأمل وتقليب الأحداث التي عشتها على وجوهها المختلفة، وحين طال الاعتقال صرت أتذكر أحداث سنوات التخفي، ثم الاعتقال الأولى، حين كنت مراهقاً، وأقلبها على وجوهها.
حين اعتقلت للمرة الثالثة منحني اليأس الشجاعة. نعم كنت شاباً يائساً عندما اعتقلت فقط لأني كنت موقوفاً سياسياً من قبل، أو من (أصحاب السوابق) الذين تلم المخابرات بعضهم أثناء حملات الاعتقال. كنت وقتها مهتماً بعملي وبدراستي في قسم اللغة الإنكليزية في جامعة دمشق، بعيداً عن أي تنظيم سياسي. أوقفت معصوب العينين ومكبل اليدين وكنت أسمع صوت المحقق الذي استجوبني، لم يكن لدي فعلاً ما تضطرني حماية الآخرين أن أخفيه. وحين انهال علي بالشتائم، قلت له إن لغة أولاد الشوارع هذه معيبة. جن جنونه وصرخ كثور هائج: "خدوه، اعدموه .. في سورية 17 مليوناً.. بالناقص كلب". بصدفة محضة كنت قد قرأت قبل يوم من اعتقالي أن عدد سكان سورية وصل إلى 13 مليوناً، هذا ما جعلني أبتسم. اعتبر الرجل ابتسامتي استخفافاً به، فكرر شتائمه ووعدني بأن أكون وجبة للكلاب. قادني عنصر إلى غرفة أخرى، وفي تلك الغرفة، تذكرت موت رفيقي مضر الجندي في هذا الفرع، والذي لم يعلن عن موته إلا بعد انقضاء زمن طويل. كان ماضيَّ الشخصي يتتالى بوضوح شديد وكانت ملامح وروائح الناس والأمكنة شديدة الوضوح، كدت ألمس البطاطا المقلية التي أتناولها من يد أمي على باب المطبخ، عندما فك أحد العناصر العصابة عن عيني وفك القيد عن يدي. قال لي العنصر:"لم يجرؤ أحد على قول ما قلت لمصطفى التاجر رئيس الفرع". لم أكن أعرف أني كنت أتحدث مع مصطفى التاجر. كانت سمعة الرجل السيئة مرعبة. بعد أن تيقنت أن أمر الإعدام كان مجرد تهديد كاذب ،فكرت أن أكتب عن اللحظات التي قابلت فيها الطفل والمراهق والعاشق الذي كنته وأنا أنتظر الإعدام. لعل تلك كانت واحدة من اللحظات الحاسمة التي فكرت فيها بكتابة هذا الكتاب.
أثناء قيام بعض الجلادين في فرع فلسطين في دمشق في ظهيرة يوم من أيام 1992 بتعذيبي، حلمت بالعودة إلى الانفرادية الضيقة، وعندما أصبح الألم لا يطاق تمنيت الموت. وحين أعادوني إلى المنفردة، وهدأت آلام الجسد التي سببتها السياط، قلت سأخبر الناس إذا بقيت حياً كيف كانت هذه الغرفة الضيقة ملاذاً مع أنها مخصصة للزمن القتيل، أو الذي يتجدد قتله، ولعل الأدق هو اعتبارها مكاناً للرعب ولانتظار حفلات تعذيب جديدة، بدأت أشرح عجز أحد أبيات المتنبي"وحسب المنايا أن يكن أمانيا" بطريقة معاصرة يمليها القمع العاري. كنت أملي هذا الكتاب على نفسي محولاً الأحداث إلى لغة.
عندما لامست قدماي رصيف الشارع يوم إطلاق سراحي أول مرة بعد سجن مديد، كدت أطير. يومها وعدت أن أكتب كيف تمنيت أن أزور كل الأماكن التي اشتقت إليها وأن أعانق كل الذين أحبهم وأفتقدهم في لحظة واحدة. كنت وحيداً على رصيف في حي البرامكة وسط دمشق، وكانت عيناي تبحثان عبثاً عن مصادفة تجمعني بأي شخص أعرفه في المدينة، فكرت وقتها بفصل من كتاب مثل هذا.
خرجت من سورية خائفاً. مررت باثني عشر حاجزا في طريقي إلى لبنان، وكان أي منها مرشحاً لاعتقالي. وعندما اجتزت الحاجز الأخير فكرت وأنا في السيارة إلى مطار بيروت أنني عشت في سورية 55 عاماً متواصلة لم أخرج منها إطلاقاً، وقد تشربت تلك البلاد بكل حواسي، شممت بأنفي رائحة البنفسج البري المذهلة قرب الأنهار وروائح البطانيات العفنة في فروع التحقيق، ولامس بشرتي نسيم صباحات الجبال، وجرب السجون، تذوقت ما توارثه السوريون من قمح وزيتون ونبيذ، وما أضافوه من أطباق تحمل أسماء غريبة، وعرفت أيضاً الطعام الذي يصفه السجانون بحق باسم:"العلف"، ورأيت وسمعت ما يذهل المرء لشدة حسنه أو لقبحه الذي لا يطاق. وهذا كله من نسيج الذاكرة التي يتكئ هذا الكتاب عليها.
حين بدأت بكتابة هذا الكتاب بغرض النشر، كانت التظاهرات قد عمت البلاد، وكانت مختلف صنوف الأسلحة قد بدأت فعلها في تدمير حياة البشر والبيوت والأشجار والمستقبل القريب. لم يعد همي منحصراً في جلسة تعذيب وزنزانة أو في تجربة السجن، بل تقصدت الكتابة عن الحال المعقد والمتداخل الذي تعيشه البلاد، والذي عشته وأنا فيها وعشته بعد أن غادرتها. هذا الحال الذي رفس ملايين السوريين ورماهم خارج بيوتهم، وخارج مدنهم، بل وخارج البلاد برمتها. وجدت نفسي منغمساً بالعالم الغرائبي الذي عرفته، ومشاعر الحب وأجمل اللحظات التي عشتها، والخيالات والأحلام وكوابيس اليقظة وغير ذلك .. أردت في هذا المشروع أن أساهم فيما يسمى التأريخ من تحت، لا لِما عايشت من أحداث فقط، بل لما عشناه من خيبات وهزائم بحجم الآمال العظيمة، ولما عرفناه من أفراح صغيرة في بيوتنا وشوارعنا ومزارعنا، وهي في الحقيقة أقل بكثير من حالات الضيق والحزن التي عرفناها. شعرت بأني لا أكتب بصفتي سورياً فقط، بل وبصفتي أحد سكان الأرض المغمسين بسورية حتى نقي عظامهم.
هذا الكتاب في جانب منه بمثابة شهادة. أخيراً لا أخفي أنني تقصدت في هذه الشهادة أن أسخر بمرارة، مباشرة أو مداورة، من الأكاذيب التي تتضمنها بروباغاندا وديماغوجيا مختلف السلطات السياسية والدينية وغيرها، سواء أكانت محلية أو إقليمية أو عالمية، والتي ساهمت في دمار البلاد وأحلام أبنائها.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسة التي يتضمنها الكتاب؟
(ج. س.): يتناول الكتاب فضاءات الحياة الرحبة، وضيق خطوط الأيديولوجيات. ويهتم بالحريات المفتقدة. يعرض مشاهد عديدة للقمع العاري بل والقتل الهمجي الذي تعرض ويتعرض له السوريون، من قبل مختلف السلطات السياسية والدينية وسلطة التقاليد والأعراف، ويقدم بعض الطرق التي يجترح فيها الناس الملاذات، لكي يبقى في نفوسهم ما يبعث على الاستمرار في الحياة في مواجهة الموت. ويعرض أيضاً المفارقات والتداخلات في حياتنا نحن السوريين. يتضمن الكتاب أحداثاً كثيرة لها دلالتها، على الثقافة والمفاهيم والأعراف السائدة سأعطيك بعض الأمثلة:
أعطتني سيدة شابة، عندما كنت أعمل في دار الطليعة الجديدة في سورية ، مخطوطاً لقصائد تذكر فيها أكثر من مرة علامات الكي بالحديد المحمى على فخذيها، وذكرت لي: "أنا لم أتخيل الأمر، لقد عشته . كوتني أمي فعلاً بأسياخ محماة لأني لعبت مع ابن الجيران كعريس وعروس، وأمي هي التي عالجت الحروق وهي تبكي معي".
مثال آخر: في يوم 13 آذار 1992 احتفى بي أنطون مقدسي ضمن دائرة حكومية هي مبنى وزارة الثقافة ، وقال لي حرفياً: "لا تتوقف عن الكتابة، ستكون لسورية ما كان موباسان لفرنسا"، أخجلني الرجل وأبكاني فرحاً، وبعد نحو 18 ساعة تم سحبي من سرير نومي (فعلاً لا مجازاً) وتم سوقي حافياً إلى فرع فلسطين. اقتادني بعض العناصر معصوب العينين لأقف أمام رئيس الفرع، وقد رويت لك كيف طلب يومها مصطفى التاجر إعدامي. ووعدني يومها بأن يحولني إلى طعام للكلاب. قرأت على جدار وزارة الثقافة وعلى جدار فرع فلسطين وقتها العبارة نفسها: "لا حياة في هذا القطر إلا للتقدم والاشتراكية- من أقوال القائد الرمز حافظ الأسد".
في الكتاب ما يشي بالكثير من التفاصيل، في قصص عديدة تروى عن الشارع المستقيم وشاوول الأعمى الذي أبصر في كنيسة حنانيا وأصبح بطرس الرسول، والجامع الأموي الذي يقام فيه آذان الجوق على مقامات متعددة كنت أسمعها أثناء إقامتي في سجن القلعة. أنا يا عزيزي من بلاد تتنوع فيها اللهجات والمطابخ والأزياء ودرجات الحرارة والتضاريس مع أن مساحتها ليست كبيرة، وتبكي فيها امرأة من شدة الشعر، ويعيش الناس فيها بكاءات متشابهة بسبب شدة الحب، أو متشابهة بسبب شدة الظلم، أو ربما الفرح. أنا من بلاد تتجاور فيها المعابد المختلفة التي تتكرر فيها الكلمات نفسها منذ مئات السنين، ولا تبعد عنها كثيراً المباغي والخمارات. أنا من بلاد استبيحت مراراً، ولا يزال أبناؤها يذبحون على ركبتها، فتبكي عليهم وتتجلبب بأقمشة قاتليهم. بجملة واحدة: حاولت جمع العديد من الجوانب الحية التي آمل أن تكون غنية بدلالاتها الثقافية والوجدانية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(ج. س.): فكرت في إنجاز هذا الكتاب أثناء وجودي في سورية. ولكني لم أبدأ بالعمل بغرض النشر إلا بعد أن غادرتها. نشرت أثناء إقامتي في سورية مجموعة قصص قصيرة لا تتعدى مائة صفحة، ومع أن الناشر كان مديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة السورية، فقد تلقيت تهديداً صريحاً من ضابط في فرع فلسطين اعتبر ما أكتبه تسميم لعقل الجيل وأنه يحذرني من التمادي. ومع أني كتبت بعض الصفحات في مناسبات متعددة، ولكني لم أنشر منها شيئاً لأني خفت من العودة إلى السجن، وازداد خوفي عندما أصبحت أباً.
مع أن التقدم التقني جعل التواصل أكثر سهولة بكثير، ومع ذلك لم يكن هيناً في بعض الأحيان إيجاد المرجع اللازم لتدقيق التواريخ التي خانتني ذاكرتي في تحديدها بدقة، وبسبب انقطاع الكهرباء والانترنت واختلاف التوقيت بين كندا وسورية لم يكن التواصل سهلاً مع الأصدقاء والمعارف في سورية. كنت بحاجة إلى شهادات وإجابات عن بعض الأسئلة ولكن موت العديد من الأصدقاء مثل الطيب تيزيني، وغياب بعضهم في المعتقلات مثل عبد العزيز الخير، وتشرد الكثيرين في منافي الدنيا، جعل الأمر أكثر صعوبة. احتجت أحياناً إلى الحوارات التي تحفز الذاكرة أو تلقي الضوء على جانب غفلت عنه. وكلفني ذلك التدقيق الكثير من الانتظار عندما خانتني الذاكرة. كان التحدي الأكبر والذي لا يزال يقلقني: هل اخترت المشاهد ذات الدلالة الأعمق في سياق محاولتي لما سماه كريس هارمان التأريخ من تحت، والخروج من دائرة مذكرات سجين إلى دوائر أوسع مثل مذكرات سوري أو مذكرات إنسان.
اللغة من المسائل التي أتعبتني. وجدت نفسي بعد كتابة الفصول الثلاثة الأولى بالإنكليزية، أقْدَر على التعبير بلغتي الأم، وهذا ما دفعني إلى التعامل مع المترجمة كاثرين كوبام، كنت أكتب مسودة كل فصل بالعربية وأرسلها إلى كاثرين، وبعدها أقرأ النص الانكليزي، وأعمل مع أصدقائي المحررين للوصول إلى صيغة أرسلها للناشر، وبعدها عملت مع دار النشر للوصول إلى الصيغة النهائية للكتاب.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(ج. س.): لا تقض مسألة تصنيف هذا الكتاب من ناحية جنسه الأدبي مضجعي. يمكن القول إنه كتاب مذكرات يشبه الروايات الوثائقية الحافلة بالمشاهد الشعرية. الكتاب مبني على أحداث وشخصيات وأحلام وخيالات أعرفها حق المعرفة. ومثل كتب المذكرات كلها، يعد هذا الكتاب نوعاً من التأريخ لأحداث حية. فقد كنت أثناء الكتابة شاهداً على ما أحاط بي وشاهداً على نفسي، أقصد على ما يجري في عالمي الداخلي. وكان لا بد من أمرين أولهما اختيار الأحداث وثانيهما إيجاد لحمة بين مختلف القصص. ورأيت أنني أمتد على طول الكتاب مثل حبل غسيل تعلق عليه مشاهد حدث جلها في سورية.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب ومن القراء الذين تأمل أن يصل إليهم؟
(ج. س.): أُنجز هذا الكتاب على نحو يجعله في متناول الجميع من الأطفال الكبار في الرابعة عشرة، الذين يحبون القراءة، إلى المسنين الذين تجاوزوا الثمانين. من جهة أخرى، قد يفيد هذا الكتاب الباحث في التاريخ، والمتقصي لبعض ينابيع المشهديات الشعرية، والباحث عن العلاقة بين زمن السرد والزمن والواقعي، وصياد المفارقات. وقد يهم قارئاً عبثياً أضجرته الحياة وأراد أن يقرأ ليتسلى. من جهتي أتمنى أن يصل لكل قادر على قرائته.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ج. س.): أفكر حالياً بإعداد مجموعة القصص القصيرة، بعضها ناجز وبعضها قيد الصياغة. وأعد هذا الكتاب في الوقت نفسه للنشر باللغة العربية.
مقتطف من الكتاب
شاطئ المتوسط مناسب للعواء أكثر من شاطئ بحيرة أونتاريو. قرب المتوسط يمكنك أن تعوي مثل قطيع من الحيوانات الجريحة دون أن يصطدم عواؤك بأي شيء، هنا على شاطئ البحيرة قرب كنغستون يصطدم العواء بجزر تواجه الخط الذي يتصل فيه الماء بالسماء. على شاطئ المتوسط يبدو خط الأفق لعينيك مثل فراغ لا ينتهي، بل يتسع لما شئت من الصراخ والأنين واللعنات.
أمشي وحيداً قرب روكوود أسيلم (Rockwood Asylum)، مشفى الأمراض العقلية المهجور، المطل على البحيرة، لأتخفف من أعباء الهزائم. قالت صديقتي بارب : "يعتقد الناس أن المشفى أضحى موطناً للأشباح بعد أن غادره المجانين". قرب بيت الأشباح أرى سيدة عجوز تمشي وحيدة، مع أن كلبها معها. تُظهر ملامحها الحيادية أنها قد بلغت حداً من الوحدة لا فائدة فيه للخروج عن الحياد. يبدو الكلب الأسود الذي تجره ويجرها وكأنه حارس وحدتها لا رفيق طريقها. لم تبتسم كما يفعل أغلب عجائز كنغستون الذين أصادفهم على مواقف الباصات عادة. ابتسامات العجائز يمكن أن تكون إشارة لحديث يبدأ عادة عن الطقس، وقد يستمر الحديث فيسألك محدثك عن بلد المنشأ الذي تفضلت بالقدوم منه، والفترة التي أمضيتها حتى الآن في كندا، ولماذا اخترت كندا وما رأيك بالحياة في كنغستون وما الذي تفعله الآن؟ وغيرها من الأسئلة التي يترتب عليك أن تجيب عنها مراراً، مكرراً النكات اللطيفة والسمجة ذاتها.
***
لا أزال على شاطئ البحيرة وحيداً، يداهمني مشهد عشته دون أن أراه:
جسدي عار ومثني ويحيط بظهري وساقي دولاب سيارة مهترئ، قدماي ملتصقتان ومرفوعتان في الهواء، الكابل الرباعي يصدر صوتاً وهو يشق صدر الهواء قبل أن يهوي على قدمي، بعد قليل بدأت أشعر أن رأسي يتصدع، وبدت ضربة السوط على قدمي وكأنها ضربة إزميل في رأسي، أبدأ بالصراخ، يضع أحدهم قطعة قماش متسخة في فمي ثم يدفعها برأس حذائه، يتحول جسدي إلى مجرد ثوب لصرخة تختنق لحظة انطلاقتها. يأمر صوت خشن: "توقفوا! نريد التحقيق مع هذا الحيوان. سنحاسب الحيوان الثاني في وقت لاحق!" إذاً نحن معتقلان بالغرفة "هذا الحيوان" وهو الشخص الذي سيأخذ مكاني في التعذيب و"الحيوان الثاني" وهو أنا. يخرجون جسدي من الدولاب ويأمرونني بالركض لكي لا تتورم قدماي أركض في أرض الغرفة، وأصطدم بالجدار، عيناي لا تزالان معصوبتان، ويداي لا تزالان مقيدتان، يضحك أحد الجلادين ويضربني بالكابل على ظهري مؤنباً: "هل أنت أعمى؟ كل هذا الحائط … ألا تراه" ثم يأمرني بالركض مجدداً بالاتجاه الآخر. أركض محاولاً ألا أقطع مسافة كبيرة في كل خطوة، أحاول أن أركض في مكاني، يضربني بقسوة ويطلب أن أتحرك… عوووووووووووووووووووووووو.. وووووووووووووووو… وااااااااااااا… هل يفهم هذا الفراغ الذي أصرخ في أذنه ماذا يعني أن تقع على جسد رجل مدمى وأنت معصوب العينين، فيزعق فجأة، وتجفل من صوته المدوي وتصرخ بدورك، ثم… يضحكون… ويضربون ويأمرونك بالركض. أنت فراغ، لا تركض، أنا أركض وأصرخ. أرمي ذلك كله في الفضاء فوق البحيرة. لا أريد للصراخ أن يتجدد أريد أن أرميه دفعة واحدة حيث أستطيع، عووووووووووووووووووووووو، عوووووووووووووووووووووووو، ووووووووووووووووو، لا أريد أن تراني تلك العجوز الحيادية التي تتمشى مع كلبها الأسود، ولا أريد أن يراني أحد. هل سيظن من يسمع صوتي أنه صوت شبح من سكان روكوود أسيلم؟ لو صادفتني سوزان المهذبة، صديقة زوجتي وأنا أصرخ، هل كنت سأخبرها أنني عندما اصطدمت بالجدار للمرة السادسة، أمرني أحدهم بأن أضرب الجدار لأنه لا يفسح لي طريقاً، كان يقهقه ويضربني بقسوة لأني لم أمتثل للأمر، ربما ظن أني أتحدى أوامره فصرخ: "الآن ستنكح هذا الجدار يا ابن العاهرة، ابدأ فوراً" ثم بدأ بضربي بقسوة على ظهري واااااااااااااااااااااااااا...أوووووووووووووووووووو… الأصوات تقص للبحيرة استجابتي لتلك الأوامر، بعد مضي زمن بعيد على إطلاقها. يشد الكلب السيدة العجوز ويشم شيئاً، أمد يدي إلى كتفي حيث تهاوت السياط. لو حدثتك يا سيدتي كيف حاولت أن أنقذ نفسي من لسع السياط وأنا قرب الجدار لظننت أنني أفتقر إلى التهذيب. لعل هذه الحادثة من النوع الذي يفضل أن لا تروى. ثمة حوادث كثيرة من هذا النوع حيث رغب الحراس في انتهاك أرواح السجناء، هل لديكم كلمة انتهاك في لغتكم؟ أتذكر راتب شعبو، أنت لا تعرفين راتب. شاب وديع أمضى 16 عاماً وثلاثة أيام في السجن، من بينها ثلاث سنوات وستة أشهر وثلاثة أيام في سجن تدمر. حدثنا راتب أن أحد الحراس كان يتسلى باختراع أشكال جديدة لانتهاك أرواح السجناء ومشاعرهم وقد هد أجسادهم الجوع والتعذيب اليومي. كان الحارس يقف قرب فتحة في سقف المهجع، يسمونها "الشراقة" وهي فتحة للتهوية والمراقبة والإذلال، كان أحد الحراس مهووساً جنسياً وكان يسأل (الليلي) وهو السجين المكلف بحراسة المهجع بعد النوم الإجباري: "شو لون كس أمك؟"
متل ما بدك سيدي!
- "جاوب يا منيك، لونه أحمر".
أحمر سيدي!
هذا السجان هو الذي سأل الرجل الخمسيني:
شو لون كس مرتك!
أعوي، يا سيدتي، بالنيابة عن الرجل الذي لم يعد قادراً على النظر في وجوه السجناء الآخرين، أعوي بالنيابة عن المذلين المهانين. اكتشفت بعد قليل أني أتحدث مع السيدة صاحبة الكلب بعد أن غادرت مع كلبها بزمن طويل. رغبت أيضاً أن أقول لها لماذا أتخفف من الأصوات التي تنهشني من الداخل برميها فوق البحيرة. راقبت نفسي: كهل وحيد يحمل عواء من الهناك الذي يبعد نحو عشرة آلاف كيلومتراً عن هنا، يتحدث مع سيدة عجوز لا تسمعه ولا يسمعها ولا تراه ولا يراها.
***
بدأت ستائر الظلمة تهبط فوق البحيرة. في ظلام أقسى بكثير انقطعت الكهرباء أثناء إقامتي في فرع التحقيق في دمشق، توقف هدير الشفاط الذي يسحب زفيرنا نحن السجناء إلى خارج المهجع، هل كنا نعيش مع هذا الهدير الذي اختفى طوال الوقت؟ صرخ أسامة، وهو معتقل لبناني في الثامنة عشرة: يا أمييييييييييييييييييييييييي وبعد قليل غاب عن الوعي. سقط أسامة فوق أجساد الناس المرمية على أرض المهجع، أفاق صالح غضب مرتعباً من شدة الظلام. كان الظلام مطلقاً للحظات ثم بدأ الحراس يشعلون قداحاتهم. بدأنا نشعر بالضيق ونقص الأوكسجين، يبلغ طول المهجع رقم 7 نحو ثمانية أمتار وعرضه لا يزيد على ستة أمتار، في تلك المساحة خمسة وثمانون أنفاً يطلبون الهواء. بدأ أبو عمر، السجين الذي عينوه رئيساً للمهجع بقرع الباب الحديدي، واستجاب الحراس بسيل من الشتائم، فتح الباب فجأة، وصرخ السجان: "مين ابن القحبة اللي عم يدق على الباب؟" قال أبو عمر: "الزلمي راح يموت" استأنف السجان صراخه: "وهل أنا رب العالمين حتى أحييه؟" لم يكن أسامة بحاجة إلى معجزة سماوية، كان يحتاج بعض الهواء المتوفر بكثرة فوق أرضنا، والذي لا يخطر لنا عادة مدى أهميته، هل خفت يوماً على كلبك الأسود من نقص الهواء؟ تركوا باب المهجع مفتوحاً، بدأ البرد المنعش يتخلل الأجساد المحشورة كيفما اتفق داخل مهجعنا، الذي يشبه مستودع المواد المهملة. هل تعرفين ما الذي تمنيته وقتها يا سيدتي؟ أن نعود إلى عصر ما قبل اكتشاف النار وندور في براري الدنيا مع باقي الكائنات حيث لا مهاجع ولا شفاطات ولا كهرباء. أخذوا أسامة اللبناني، لا أعرف له اسماً آخر، لم يعد أسامة، ولا أعرف إن كان سيعود يوماً.