محمود أبو حامد
(دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، 2022)
[محمود أبو حامد، صحفي وكاتب فلسطيني. منذ بداية الثمانينيات بدأ بنشر المقالات الأدبية والسياسية والقصص والقصائد في الدوريات العربية واللبنانية والسورية والفلسطينية. نشر العديد من القراءات النقدية حول بعض أعمال روائيين وقاصين عالميين ومحليين. أصدر مجموعتين قصصيتين، الأولى عن دار كنعان عام 1992 بعنوان "امرأة تلامس الرائحة"، والثانية عن دار حوران عام 2001 بعنوان "شقائق البحر"].
جدلية (ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسة التي يتضمنها الكتاب؟
محمود أبو حامد (م. ح.): الكتاب كدافع وكهدف كان وصار "محاولة" لإنصاف المترجمين، لأنهم حقاً مظلومون، فرغم ما يشهده العالم من تطور علمي وتقني، انعكس على كل مجالات حياتنا، ومنها الفكرية والثقافية، ظلّ المترجمون مظلومين من القراء والنقاد ودور النشر، ومن بعضهم بعضاً أيضاً.. وبكل بساطة لا يمكن لأي قارئ عربي، أن يتذكر من ترجم رواية «زوربا» أو «ليلة لشبونة» مثلاً، وإن كان القرّاء بشكل عام لا يلتفتون للمترجمين، فيساهم في ذلك أيضاً تقصير دور النشر في إبراز اسم المترجم على الغلاف، أو تخصيص تعريف موجز بسيرته الذاتية وأعماله التي ترجمها.. ولم يتوقف ظلم دور النشر على ذلك، فإضافة للبخس المالي في شراء حقوق المترجمين، تقوم دور النشر بطباعة الكتاب الواحد لعدة مترجمين، وبذلك يظلم المترجمون بعضهم بعضاً أيضاً، في ظل غياب الرقابة المؤسساتية والإعلامية عامة والنقاد خاصة، فالنقاد والصحافيون لا يسلطون الضوء على تلك التجاوزات من جهة، ولا يهتمون بنتاج المترجمين من جهة ثانية، وقلما نقرأ لناقد ما، تناول كيفية الترجمة ودقتها، والجوانب الإبداعية بين مترجم وآخر، والترجمة من لغة ثانية، وأمانة الترجمة.. ولا حتى تسليط الضوء على سرقة مترجم لأعمال مترجم آخر، أو سطو دور لنشر أعمال أديب ما، وطباعة كتبه دون الرجوع إلى الترجمات الأصلية لتلك الكتب، ولا حتى إلى الكاتب ذاته.
يتضمن الكتاب محورين رئيسين، الأول حوارات مع المترجمين من وإلى لغات متنوعة، والثاني: مقالات عن الترجمة والمترجمين.. والإثنان ضمن "محاولة" إنصاف المترجمين والارتقاء بنظرة القراء لهذه المهنة كفعل إبداعي من جهة، وكدور تاريخي في بناء الحضارات وتلاقح الثقافات من جهة ثانية، وفي هذه المحاولة جاءت الحوارات مع أسامة منزلجي، ورفعت عطفة، وعبد الصاحب البطيحي. عن تجربتهم الخاصة مع اللغة، في الجزء الأول من الكتاب، وفي والثاني وتحت عنوان "اللغة الثالثة" كانت الحوارات مع رندة بعث، وأسامة إسبر، وسعيد بوخليط. والثالث تحت عنوان "معايير الترجمة" حوارات مع عدنان حسن، وعبد المقصود عبد الكريم، وحسين عمر. والجزء الرابع والأخير جاء بعنوان "المقالة والشعر"، وضم حوارات مع رشيد غويلب، ومحمود الصباغ، وجمال حيدر.
أما المقالات فقد توزعت تحت عدة عناوين، بدأها الدكتور أحمد برقاوي تحت عنوان "آراء وتجارب" بمقالة أجاب عبرها على سؤال: ما الترجمة؟ وعلاقة الترجمة بالفلسفة، وما يسمى بظاهرة التأليف المترجم، وخاصة التأليف بالفلسفة الغربية وتاريخها. بالإضافة إلى دعوته إلى تجديد المعاجم العربية. وفي مقالة الدكتور عادل أسطة "أنا والترجمة" تحدث عن قراءاته وكتاباته وعلاقته بالترجمة من خلال تجاربه عامة، ومع محمود درويش وترجمات اللغة الألمانية خاصة.. في حين نقل لنا حسام الدين محمد، في مقالته "عربي يكتب شعراً بالإنكليزية: ترجمة العالم أم تفكيكه؟" تجربته حول ديوانه "Grave Seas" الذي كتبه باللغة الإنجليزية.
الدكتور حسين شاويش، رجع إلى طفولته وبداية نشأته، في مقالته "الكتب المترجمة..انطباعات وتأمّلات" وكيف كادت الكتب المترجمة أن تكون صديق طفولته الأول.. في حين أكد الدكتور نبيل خليل في مقالته "الترجمة معرفة شمولية وإبداع" أن الترجمة عمل احترافي يتطلب من صاحبه اطلاعاً ومعرفة أوسع مما يمتلكه الكاتب أو الشاعر أو الأديب نفسه.. وصاحب ومدير دار كنعان للدراسات والنشر، الأستاذ سعيد البرغوثي، اختتم الكتاب بتسليط الضوء على تجربته الطويلة في تجسير الثقافات، وإضافة معارف جديدة للقارئ، عبر النشر بالعربية عامة والترجمة إليها خاصة.. مشيراً إلى أن بعض دور النشر تعتمد على مترجمين متواضعين لمحدودية إمكانيتهم بمجاراة المؤسسات غير الربحية ودور النشر الكبرى.. الأمر الذي يؤثر على نوعية الترجمة ومصداقيتها.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(م. ح.): التحدي الأكبر هو أن هذا المشروع ضخم جداً، فمهما حاول الكاتب أو الصحفي أن يحقق الإحاطة والشمولية لإكماله لن يستطيع، فثمة لغات كثيرة لا يمكن جمعها في كتاب واحد، وتجارب عديدة مختلفة نوعياً، تحتاج لكتب متخصصة، فقد كنت أتمنى أن أضيف للتجارب الشعرية في الكتاب، التي تضمنت اللغة الإسبانية واليونانية والإنجليزية والكردية والألمانية، ترجمات عن اللغة اليابانية، وخاصة الهايكو.. وفي المقابل لا يمكن للكتاب أن يتسع لترجمات سياسية أو فكرية أو علمية.
الصعوبة الخاصة باللغة كانت في اتجاهين، الترجمة عن اللغة الثالثة، والترجمة أو الكتابة المعاكسة، فلم يحقق الكتاب تجربة حاضرة أو آراء واضحة عن الترجمة من اللغة الثالثة، على الرغم من إشادة جميع المتحاورين في الكتاب بتجربة الراحل سامي مصباح الدروبي ومنجزه الذي جعل منه ''مؤسسة كاملة''.. وفي الاتجاه الثاني لم يتسن للكتاب ضم تجربة عن الكتابة بلغة ثانية وترجمتها إلى اللغة الأم، كما يحدث مع من الروائيين خاصة.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(م. ح.): الكتاب في حد ذاته دعوة للحوار حول الترجمة عامة، ودوافع الترجمة بين المهنة والإبداع، والترجمة بما هي مشكلة فهم الثقافات الأخرى خاصة، وإن جاءت أفكاره ضمن حوارات ومقالات لكنها ارتقت بجدالها وجدلها الثري إلى ما يشبه المفاهيم الجديدة حول الترجمة، مفعمة بتجارب فريدة وجديدة للقائمين عليها، تستحق التأريخ وإعادة النشر باستمرار.
ولقد ساهم الدكتور محمد شاويش في مقدمته للكتاب في بلورة تموضعه في جنسه وأبعاد التفاعل معه، محدداً أنه يقدم حوارياً في موضوعات مهمة تخص الترجمة، وقد لجأ في هذا السبيل، لا إلى منظّرين للترجمة، بل إلى ممارسين لها، والممارس كما يقول الباحث الألماني الكبير في نظرية الترجمة "فيرنر كولر" ينطلق دوماً من نظرية في الترجمة، صريحة تجدها مثلاً في مقدمة يكتبها لما يترجم، أو ضمنية تستخلصها من ممارسته وطريقته في معالجة مشاكل الترجمة.
ويؤكد الشاويش أن وظيفة اللغة ليس نقل الأفكار عن الملموسات وحسب، بل عن الأمور الوجدانية والمشاعر أيضاً، وكما أن للملموسات كلمات وتراكيب تعبر عنها (وهي مبدئياً قابلة للنقل إلى لغات أخرى) فإن للوجدانيات والمشاعر أيضاً في كل ثقافة كلمات لنقلها، ولكن مدلول هذه الدوال، الذي هو معروف عند ابن الثقافة يظل غامضاً عند ابن ثقافة أخرى.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب ومن القراء الذين تأمل أن يصل إليهم؟
(م. ح.): الكتاب، بدعوته للحوار، يخاطب المترجمين عامة والنقاد خاصة، ويحرضهم على لعب دورهم الثقافي والحضاري في إنصاف المترجمين من جهة، والتمييز بين مترجم وآخر من جهة ثانية.. كما هو بمثابة دعوة إلى المترجمين لاحترام بعضهم بعضاً، وتقدير جهودهم وإبداعاتهم.. ودعوة خاصة إلى أصحاب دور النشر لاحترام المترجمين وإبراز دورهم، وإنصافهم أيضاً في التعامل معهم ومع كتبهم وأسمائهم ومجهوداتهم.. والكتاب بحواراته ومقالاته المتنوعة يتوجه إلى جميع القراء ويسلط الضوء على منابع ثقافاتهم وحضارتهم، وطرق اكتسابهم لمعارفهم وأفكارهم ومفاهيمهم الجديدة.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(م. ح.): إضافة لمشروعي الروائي الخاص عن المكان الذي ولدت فيه (حي العائدين) في الرمل الجنوبي بمدينة اللاذقية، ثمة دراسة موسعة عن فن "التسطير" في قصيدة النثر بين الموروث الشعري والتجارب الجديدة، وللترجمة نصيب في هذه الدراسة. وسيتم نشر جزءها الأول قريباً.
مقتطف من الكتاب
الدكتور سعيد بوخليط: الترجمة شغف وعشق ودَأَب ثم تمرس وصناعة في نهاية المطاف
من حوارات الكتاب، حوار مثير وممتع وإشكالي مع المترجم المغربي الدكتور سعيد بوخليط، الذي يرى أن الترجمة تحرك المياه الراكدة، بوضعها موضوع مساءلة القائم محلياً والمسيطر فكرياً لعقود دون مساءلة تذكر، ليس بالضرورة أن تتم عملية التفكيك صراحة وجهراً، لكن فقط استيراد المفاهيم الدائم واللامتوقف عبر أوراش الترجمة، يؤدي ضمنياً إلى خلخلة المعتقد الديني والسياسي، والتحول بهما من مستوى العقيدة الجامدة أو الدوغما المتحجرة، كما الشأن معنا داخل أسوار هذه المجتمعات الشمولية والكليانية من الصباح غاية المساء، ثم من المساء حتى المساء ثانية، فتعود إلى حالتها الأولى باعتبارها مجرد وجهة نظر فردية قابلة للحياة والموت معاً، حسب قدراتها البيولوجية على التفاعل مع محيطها الداخلي والخارجي.
ويؤكد أن المترجم ككاتب مستقبلي يعيش تحت الوصاية، أو مشروع مؤلف بصدد امتثاله لفترة تمرين غير محدد زمنها، قد تطول أو تقصر، وربما توقف سعيه منذ البداية، تبعا لأهداف قصده من العملية برمتها. وحينما تختبر الترجمة لفترة طويلة، تشرع ضمنياً في البحث من جديد عن القدرات الذاتية لكتابة شخصية، وليست ''استنساخاً" لخطاب كاتب ثان. ما دامت ورش الترجمة، على الأقل حسب التصور القائم من الوهلة الأولى، تستدعي فقط توفر نص مكتمل، جاهز من ألفه إلى يائه، فوق الطاولة تلزمه مجرد إعادة نقل وتحول هوياتي وجهة اللغة التي تريد إذن، المطلوب فقط، امتلاك معجمين لغويين وورقة وقلم، ثم انطلاق القراءة وتدبيج الصياغات الجديدة، دون الخوض هنا في مسألة المعنى، التي تتقاطع كما نعلم عند تصورين، هناك فريق من المترجمين يتمسك برؤية أصولية محضة، إن صح التعبير، بحيث يشتغل على معجم الكلمات حرفياً مؤولاً المعنى حسب متوالية خطية، تبعا لحصيلة تلك الكلمات. بينما يراهن فريق ثان على مجرد استيعاب للمضمون ثم كتابته بحرية تركيبية.
ويقول الدكتور سعيد: إن الفكرة التي أرغب في طرحها، تلك المتصلة بمستويات الإبداع الحقيقية، انطلاقاً من الرهان على التأليف أو الترجمة؟ لا سيما، بالنسبة لمن قطعوا مع التأليف وتفرغوا تماماً لمهام الترجمة. هل المترجم مجرد كاتب فاشل؟ قياساً على تداعيات تلك المقولة التعليمية الشهيرة الناقد كاتب فاشل؟ طبعاً لا أتفق تماماً مع الوصفات الميكانيكية الجاهزة، لأن المسألة أعقد بكثير ومتداخلة جداً، مع ذلك، يشغلني هذا الهاجس: لماذا ألجأ إلى ترجمة نص معين، ولم أكتف فقط بقراءته، بحيث أضع اسمي تعسفاً بجانب صاحبه الأصلي. هل أردت ضمنياً أن يكون لي قبل غيري؟
ويؤكد أن الترجمة شغف وعشق ودَأَب ثم تمرس وصناعة في نهاية المطاف. غير أن مفهوم الصناعة يبتعد بالمعنى المتوخى عن المفاهيم التقليدية ذات النزوع العلمي الساذج، بل القصد تظل الترجمة رحلة معرفية طويلة، لا يتوقف ذهابها وإيابها المستمرين خلال الفصول وعلى امتداد اليوم، من خلال آفاق عدة ومتعددة يفتحها النص الواحد - لا سيما النصوص العتيدة والعنيدة - عبر الإحالات والهوامش والسياقات والأطروحات والمعاني والأعلام والمعجم..إلخ. مشيراً إلى أن تصور من هذا القبيل، لعملية الترجمة، والأخيرة بالمناسبة ليست بالعملية القيصرية؛ مثلما يعتقد غالباً، لكنها تعكس أساساً ولادة طبيعية منسابة أو بالأحرى فالترجمة جامعة حينها بين المتعة والمكابدة والخلاص، وفق تآلف سيمفوني خلاق، بحيث يعيش المترجم مختلف الحالات العقلية والوجدانية مع النص الواحد. إن أساس التفاضل النوعي بين مترجم وآخر، يكمن في مستويات معايشة النص المتوخى ترجمته ضمن ممكنات حياته. من هنا، ألح دائماً على ضرورة تشكل شاعرية الشغف وشعرية الاستئناس قصد الانتهاء إلى نتائج موحية. أما وضع الترجمة تحت الإكراه، لأي سبب من الأسباب، فلا يؤدي غالباً سوى لنتائج عكسية، حتى مع توفر عامل التمرس. العامل النفسي الحاسم في هذا الإطار، حسب اعتقادي، يعود مقياسه إلى عدم إحساس القارئ بتباين للهوية واتساع للهوة بين الأصلي والنسخة. يفرض عليك النص الجديد/المترجَمِ هوية واحدة، رغم السفر والانتقال من ضفة لأخرى، ثم أحياناً، ويا للمفارقة العجيبة! قد يكون نص الترجمة أفضل كتابة وتنضيداً للبنيات التركيبية والدلالية من النص الأصلي، مثلما يحدث العكس، بحيث تسيء الترجمة كثيراً للنص الأم فيغدو الفعل جريمة متكاملة الأركان. لذلك، يفضل بعض الكتَّاب ترجمة نصوصهم بأنفسهم تجنباً لأيِّ متاهة، أو ترشيحهم مترجماً يثقون في عمله، أو يرفضون رفضاً باتاً إخراجها إلى الجمهور، قبل اطلاعهم عليها وإعادة صياغة ما يلزم صياغته.
ويرى بوخليط أنه سواء في المغرب وغيره من البلدان العربية، لا زالت الترجمة تفتقد إلى الأفق المؤسساتي الكبير، الذي بوسعه تطوير وتثوير الإنسان والحجر. ما نعاينه حالياً يظل فقط مجرد هواجس فردية معزولة ونزوعات شخصية أساسها شغف صاحبها أو أساساً لأنها مصدر رزق بالنسبة للعديد من المترجمين في إطار عقود أبرموها مع بعض دور النشر، أو هيآت فكرية..إلخ. بل حتى هذا الجانب على بؤسه، مثلما تكشف حكايات من هنا وهناك، لا زالت تشوبه اختلالات كثيرة تقوض روح الطمأنينة المفترضة بين الناشر والمترجم، غير محكومة حقاً بروح التعاقد القانوني والفكري وقبلهما الأخلاقي. لذلك، يقتضي ما يحدث ثورة ثقافية نوعية، تضع لا محالة الترجمة في قلب التفكير المؤسساتي للمشاريع المجتمعية. ننتقل معها من العمل البدائي إلى الاشتغال على ضوء حوافز مشروع حضاري حقيقي، قوامه ومبعثه التطلع صوب نهضة تمس مختلف جوانب حياتنا السياسية والاقتصادية والمعرفية. فلا تطور يذكر، بدون أوراش الترجمة واشتغالات المترجمين على جميع الواجهات وانفتاح يلاحق اجتهادات مختلف الثقافات الإنسانية. نحن في حاجة ماسة إلى ترجمات ذات اتجاهين متقاطعين، من العربية وإليها، أفق يتطلب فعلاً مخططاً كبيراً حسب روافده اللوجيستيكية والابستمولوجية والأيديولوجية.