عفيف حمدان
[هذه القصة جزء من ملف مخصص للقصة السورية المعاصرة].
[عفيف حمدان من محافظة القنيطرة مواليد عام 1960، له مساهمات نقدية وسردية نشرت في الصحف السورية والعربية. صدرت له عدة مجموعات قصصية، كان آخرها "العالم الثالث" عن دار ديار للتوزيع والنشر في تونس، 2019].
فجأة ظهرت مجموعة تحمل السلاح من بين الشجر المحاذي لطريق السّفر وانتصبت في المنتصف قاطعةً الطريق وشاهرةً سلاحها لتُجبر سائق الحافلة للتوقف عنوة..! أخذ "الباص" بتخفيف سرعته ليتمكن من التوقف على قارعة الطريق السريع، التفت أحد المسافرين إلى سيدة محجبة تجلس بمحاذاته، وكان مرتبكاً وحائراً، وقد بَدت على وجهه المُستغيث علامات الخوف والهلع.. كان شاباً في مقتبل العمر.. مسافراً من قريته النائية والغافية على شط الأمان قاصداً العاصمة للالتحاق بالخدمة الإلزامية... أدركت المرأة المحجبة بسواد عباءتها سرّ الذعر الذي علا وجه الشاب المسكين والمصير المحتوم الذي ينتظره إن وقع بين أيدي هذه المجموعة المسلحة التي "تقتل الناس على الهوية"! فقالت له لطمأنته: "لا تخف يابني.. أعطني هويتك الشخصية لأخفيها فلن يعرفوك"... استيقظت عاطفة الأمومة التي تحمي أبناءها.
لقد عرفت هذه المرأة المنطقة التي ينتمي إليها هذا الشاب عندما سمعت حديثه مع والدته على هاتفه النقال أثناء انطلاق رحلة "الباص" من المحطة وهو يكرر بكلمات متلعثمة ويطلب منها أن تدعو له بالتوفيق ومحاولاً طمأنتها بصوت مخنوق بحرقة الغصّة بأنه على ما يرام ولا شيء يدعو للقلق....
سحب أوراقه الثبوتية مستسلماً وقدّمها للسيدة التي أخفتها على عجل داخل حقيبتها السوداء وقالت له: "اتكئ برأسك على كتفي يابنيّ كأنك نائم ولا تنبس ببنت شفة، دعني أتصرف معهم"..
ما إن ألقى برأسه على كتفها حتى ساورته الشكوك.. أحسّ بالندم متسائلاً: كيف تسرّع وسلّمها أمره لتقوم بدورها بتسليمه لهؤلاء القتلة المأجورين دون شفقة، كي يقطّعوا جسده إرباً..! لكن، ماذا ينفع الندم الآن!؟ لا يمكنه التراجع بعد أن صعد إلى "الباص" ثلاثة رجال ملتحين ومدججين بالسلاح والرصاص يفتشون الركاب بينما أحاط باقي العصابة "بالباص" من جميع الجهات...
اقتربَ أحد المسلحين من السيدة وطلب هويتها التي كانت قد هيأتها بيدها، تناول المسلح الهوية بإصبعيه وقلّبها ثم نظر إلى وجهها مُتفحصاً، وسألها بعد أن نقل البندقية ليده الأخرى عن هوية الشاب الغافي على كتفها، فادّعت بأنه ابنها المريض ويحتاج لعملية جراحية في مشفى العاصمة الكبير.. وقد نسيت هويته بالبيت لأنها كانت في عجلة من أمرها وكي لا يفوتها موعد انطلاق "الباص".. فطلب منها بإلحاح الهوية أو دفتر العائلة وهو ينظر لرفيقه الذي قاربه في هذه الأثناء وسمع حجة المرأة الوقورة فلكزَ الآخر موحياً له بأن يتركها وشأنها، لكنه لم يفهم ما ألمح إليه رفيقه، وظلّ واقفاً مُصرّاً على أن تبرزَ المرأة دفتر العائلة، فتناول هذا الآخر هوية المرأة وأعادها لها بحركة عصبيّة لسوء تقدير صاحبه لهذه المرأة المُحتشمة، ونهره مؤنّباً: ألم ترَ بأنها من أنصارنا!؟ فانصاع، وتركها منسحباً ببطء وهو يرمق الشاب بارتياب..
لقد اقتاد المسلحون "غنيمتهم": اثنين من الركاب، ونزلوا من "الباص" فتحلّق حولهما باقي أفراد العصابة المسلحة التي كانت تنتظرهما وانهالوا عليهما ضرباً بالعصي والسواطير "مُكبرين": الله أكبر...الله أكبر.." أما بقيّة الركاب المحظوظين الذين بقوا في أماكنهم فقد غارت معالم وجوههم خلف مغارات عيونهم المشدوهة وقد تعلّقت أهدابها مشدودةً إلى شبابيك الحافلة الزاحفة التي بدأت تتهادى متثاقلةً بوجومٍ للانطلاق صامّةً آذانها عن صرخات الاستغاثة اليائسة للمقعَديْن الشاغِريْن!
ومررت السيدة الحنون يدها، بعد أن أدّت دوراً جعلها تشعر بالرضا تمسّد رأس الشاب المتكئ على كتفها باستسلام وطمأنينة، وهي ترمق القتلة من وراء سواد الحجاب الذي لم يَحُل دون رؤية الدماء التي ضرّجت وجهيْ المسافريْن الضّحيتيْن اللذين يتضرعان بعيون غائمة متوسليْن عجلات الحافلة التي تخلّت عنهما بلا رحمة وتركتهما لمصيرهما وبدأت بالدوران لمتابعة سيرها وهي تكزّ بأسنانها متألمةً بصرير عجلاتها الزاحفة بحزنٍ على الإسفلت الأسود المستكين…!