١١ أيار ٢٠٢٢.
قضيت ليلة طويلة مزعجة، أتقلب فيها عاجزة عن النوم.
طلع الصبح. صارت الساعة ١١. تدقّ أمي على باب الغرفة، تدخل، أحس بوجودها على الجهة الأخرى من الصحو.
"قومي. صبّحوا مغتالين شيرين أبو عاقلة، مراسلة الجزيرة".
ظلت الكلمات معلّقة في الهواء لبضع دقائق، كبلالين هيليوم ضعف تأثير الهيليوم فيها في اليوم الرابع فتوقفت هناك، في منتصف المسافة بين الأرض والسقف.
انفجر البالون.
أستيقظ، أتحسس السرير حولي، باحثة عن الموبايل الذي نام بجانبي وقام على الجهة الأخرى.
أفتح تويتر، أنظر إلى الصور، أقلّب بين التغريدات.
جنين، قناص، مخيم جنين، الجزيرة، press، دهشة، حزن، استنكار، الياس كرام، الرأي الآخر.
شو؟ عنجد اللي عم بصير؟
بعدين بشرفك يا أمي في حدا بالدنيا بصحي حدا هيك؟
أعود للقراءة، أسرع أسرع أسرع، هل هذا حقيقي؟
صور متعددة لشيرين أبو عاقلة، من الميدان، الصورة الأخيرة قبل الاغتيال بدقائق، صور من موقع الاستشهاد.
معقول؟
أقوم من السرير وأسرع باتجاه الصالة، صوت الأخبار احتل الغرفة والشريط الأحمر العريض يحتلّ نصف الشاشة. عاجل.
الشاشة مقسّمة أربعة مربعات، هاي التقسيمة معناها مصيبة، الأحداث في فلسطين، المراسلون من رام الله والقدس وبيت حنينا وجنين.. بس لحظة، وين شيرين؟
كانت تلك المرة الأولى التي أدرك فيها أن شيرين أبو عاقلة اسمها شيرين، لطالما كنا نقول اسمها كاملاً. شيرين أبو عاقلة، الياس كرام، جيفارا البديري.. لا لا لحظة، أعتقد أن اسم جيفارا أغرب من أن يتوه عن المستمع كالبقية.
مقطع مسجل يوثق لحظة الاستشهاد، صراخ، نادت هي في البدء على علي بعد أن أصيب، ومن ثم نادى شاب على اسمها بعد أن أدرك استشهادها.
بدا الشارع فارغاً، عن أي اشتباك يتحدثون؟
في مخيم جنين.. حدث ذلك.
مخيم جنين، تلك البقعة التي صارت أقرب إلى الأسطورة من الواقع، مصنع الرجال، عرين المقاومة.
هو عنجد مكان حقيقي الناس بروحوا عليه ولا فكرة مجردة من عالم الخرافات؟
قضيت بعدها ساعتين أتابع الأخبار، عبر التلفاز، وهو فعل لم أقم به منذ سنوات. قناة الجزيرة، كنت قد قررت مقاطعتها ومقاطعة تغطيتها "المستمرة" لكل ما حملته من تطبيع وتسويغ لدناءتها في استضافة مجرمي وقيادات العدو تحت مسمى "الرأي الآخر".
اليوم مختلف، اليوم أريد أن أرى كل شيء، أسمع كل شيء، أرى تلك الوجوه، وذلك الشريط الأحمر، والشاشات الأربع. حزن عميق بدأ يقطر في دمي، وجسدي، ويقبض بوحشية على قلبي. احتاج الأمر مرور قليل من الوقت، كأن الوجع احتاج بعض الوقت ليقطع تلك المسافة بين السماء والأرض، بين من ارتقى ومن بقي، بيني وبين غيمة بحجم العالم، غطّت على سمائنا اليوم وقررت أن تمطر.
استطاعت تلك الغيمة أن تعيد معها الكثير من الذكريات. وربما كان لجلوسي على الكنبة دور في ذلك أيضاً، أمام التلفاز، أشاهد وأتابع. تعجبّت من قلة تحكمي بالعملية، شاشة وتسلسل للأخبار، لا تفاعل ولا تعليق ولا تعارك مع الجمهور، على خلاف متابعة الأخبار على الهاتف مثلاً، حيث كنت أتنقل هذا الصباح بين المصادر والتطبيقات عودة وذهاباً، كمجنونة فقدت عقلها على الطريق السريع خلف مقود سيارة بلا فرامل.
عمّا كنت أبحث يا ترى؟ كنت مدركة تماماً بأن الطريقة المجنونة التي كنت أتنقل فيها بين المحتوى والتطبيقات هذا الصباح كانت جزءاً من رحلة بحث عن أمر معيّن، هل كان سعياً مني أن أكذب الخبر، أن أكتشف أنه مفبرك؟ أم أن أجد زاوية أختبئ فيها من هول موجة عارمة جرفتنا جميعاً؟
بالعودة إلى الأريكة، تذكرت والدي، الذي كان قد قاسمني تلك الأريكة قبل أيام معدودة من رحيله، حيث جلسنا نتابع الأخبار معاً. جلست كعادتي أعلّق على ما يحدث، وأتخوّت على أشياء هبلة كانت عم بتصير. لم يعجبه ذلك، خلص يا نماء خلينا نسمع.
كان للأخبار هيبة علينا أن نحترمها، بحسب والدي، والجلوس على تلك الأريكة على مسافة محددة من شاشة التلفاز طقس يومي له تفاصيله ومحدداته، وحرمته كذلك، منذ أن كنا صغاراً.
من على الكنبة، من أمام التلفاز، على بعد مسافة آمنة من الميدان، كنا نجلس، ونتابع.
صوت الجزيرة كان جزءاً من خلفية حياتنا اليومية، حين نأكل ونحل الواجبات ونتجادل ونحضّر أنفسنا للنوم. على رأس الساعة، بضع دقائق للاستماع إلى النشرة، حين كانت تطل علينا شيرين أبو عاقلة من فلسطين لتنقل إلينا ما يحدث.
كأطفال، لم نكن ندرك حقاً ما معنى فلسطين. تربيت في السعودية، حيث كان على كل عائلة مغتربة أن تصنع وطنها في تلك المساحة الصغيرة التي كانت تسمى البيت. أتذكر الخارطة المعلقة في الصالة، والفعاليات المختلفة التي كنا نشترك فيها دعماً لفلسطين. أذكر غضب أمي حين قامت معلمة الجغرافيا بشطب درس فلسطين من المنهاج "لضيق الوقت" وقدومها إلى المدرسة في اليوم التالي لتعبيرها عن رفضها لذلك. ظلت على رفضها إلى أن عادت المعلمة عن قرارها.
أتذكر غضب أمي في المرة الثانية عندما وصفت معلمة الدين العمليات الفدائية في فلسطين بالإرهابية، حين جاءت ورفضت واشتبكت معهم، ومن ثم أتذكر شيرين أبو عاقلة وهي تنقل أحداث الانتفاضة الثانية من وسط الميدان يوماً بعد يوم.
في ٢٠٠٢، كان عمري ١٣ سنة. لم أكن مدركة حقاً لما يحدث، ولكني أذكر كم فُجعنا بمحمد الدرة. وكم حزينة كانت تلك الأيام، وكم حاضرة كانت شيرين أبو عاقلة فيها.
قضيت بقية اليوم في حالة من الذهول.
عنجد استشهدت؟
تذكرت يوم اعتقلت في حي الشيخ جراح، وتذكرت لقطة الإفراج عنها من مركز التحقيق. أتذكر أنها أسرعت باتجاه سيارة مصطفة كان فيها طفلتين. أكانوا بناتها؟ هل هي متزوجة؟ أم تراها كانت جيفارا البديري؟
بحث سريع. التي اعتقلت كانت جيفارا، اختلط علي الأمر، ولكن شيرين تعرضت لاعتداءات عدة. وشرين ليست متزوجة. طيب الحمدالله. ليسوا بناتها، بس الحمدلله مش بناتها لإني ما بتخيل كيف كانوا عاشوا بعدها بحسرتها.
وجع وقهر. أتُعقَل كمية الألم التي على الإنسان الفلسطيني أن يتحملها، كل يوم؟ والشعور المستمر بالظلم والقهر حين يقف مجتمع دولي منافق، يطالب بفتح "تحقيق شامل ومحايد" لكشف ملابسات ما حدث؟ شهيدة وصحفيون مصابون وشهود عيان وبطل اسمه شريف عزب من مخيم جنين حاولإ إنقاذهم وسط وابل من الرصاص وفيديو يوثق كل ما حدث، وبحكيلك تحقيق مستقل؟
والله الحق علينا أصلاً اللي بنعّول على هيك مجتمع دولي.
في الساعة السادسة والنصف، اتجهنا نحو مسجد الكالوتي للاشتراك في وقفة تندد باغتيال أبو عاقلة وتطالب بطرد السفير الإسرائيلي وإغلاق السفارة.
عدد هائل من المدرعات وسيارات الشرطة والدرك. كبرتوا الموضوع يا شباب والله.
وصلت إلى الساحة، لأجد أعلام الأردن وصور الملك مسيطرة على المشهد. هل أنا في المظاهرة الصح؟
يعيش جلالة الملك المعظم.
يعيش يعيش يعيش.
في طرف الوقفة، علم لفلسطين، نعم، هناك علم آخر، ربما ثلاثة. لا هذا مع نجمة، إذن علمان.
صحفيون وكاميرات بعدد هائل، أكاد أجزم أن عددهم قارب نصف عدد المتظاهرين، الكثير من الضغط على الناس لإتقان وقفتهم ليؤكدوا للعالم بأن الشعب الأردني رافض، متضامن، غير مطبّع. وهو كذلك، وأنا أؤمن بذلك، ولكن تجمهر الكاميرات من جهة، وهتّيفة الملك من جهة أخرى، حشر المتظاهرين في زاوية ضيقة كادت تبتلع أي من وقف فيها.
ما الذي يحدث؟
هتافات، شباب يهتفون من على شاشة الموبايل. بدأ عدد الناس بالازدياد. هتفت، صرخت، توقفت، لا، ما زال هناك المزيد بداخلي، كمان كمان كمان، غضب، غضب غضب.
هتفنا وهتفنا وتوعدنا السفير بأعتى الوعود.
معقول كيف اسم شيرين طالع على وزن جنين وفلسطين؟ يا نيالها. بالهتافات ساعدتهم كتير. مش صدفة.
ما مواصفات الهتيّف المثالي؟ قصير القامة، عالي الصوت، ذو حضور وكاريزما، ولكن بالمعقول لكي لا يطغى على المحتوى الذي جاء من أجله. يتبادل الشباب توسط الحلقة، يحمل الطويل القصير، عرف كل شخص من المنظمين موقعه ودوره بتلقائية عجيبة، إنهم على ما يبدو متعودون وقد سبق لهم القيام بهذا.
في الساعة السابعة والنصف، أعلن المنظمون انتهاء الفعالية مع صلاة المغرب، بالتوازي مع بدء مكبرات الصوت الأذان.
مضحكة فكرة أن الوقفة منضبطة هالقد وملتزمة بالوقت لهاي الدرجة.. وفي عمّان، من متى؟
بدأ الناس بالانتشار ومضى جزء منهم بالسلام والتحية على بعض. عملنا اللي علينا، يلا شوي الواحد بخفف من شعوره بالذنب.
أدركت في تلك اللحظة بأنني كنت هناك رغبة مني بأن أصرخ، أن أفرغ قليلاً من الغضب الذي كنت أشعر به، وأتأكد بأني ما زلت قادرة على أن أشعر. أترى إن صرخت لساعة أخرى، هل سأقدر أن أنام بسلام الليلة؟
نظرت إلى المساحة التي وقفنا فيها، على مسافة آمنة من سفارة الاحتلال، بحيث لا يقع أي منهم تحت تهديد حقيقي، ولكن بالقرب الذي يكفي ليشعر المتظاهرون بأنهم قادرون على فعل شيء.
يا ترى لمين بترجع ملكية هاي الأرض، هل هي ملك خاص ولا عام؟ كيف لهلا ما خطرلهم يتملكوها ويبنوا عليها ويريحوا راسهم من هالقصة؟ لازم أبحث بالموضوع.. دور قطعة الأرض جارة الكالوتي في تنمية الوعي السياسي للشباب الأردني. موضوع رسالة. يستحق الدراسة.
بعد العودة إلى المنزل، شاهدت المزيد من الأخبار، شاركت المزيد من مقاطع الفيديو لشيرين، سافرت أميالاً ضوئية في تويتر.. مستمرة في البحث.
هل كانت تلك وسيلتي في الحزن؟ هل وجدت في الفضاء الإلكتروني مساحة للحزن الجماعي الذي سمح لي بأن أتقاسم ذلك الوجع، مع كل من رثى شيرين وتذكرها وكتب عنها وشارك صورها، منذ ١٩٩٧ حين ظهرت أول مرة على شاشة الجزيرة إلى يوم ١١ أيار ٢٠٢٢ وتحديداً إلى آخر خمس دقائق قبل استشهادها؟
ما الذي حدث في تلك الدقائق التي فصلت بين الصورتين؟
هل اتضحت الصورة؟ كما كتبت شيرين؟
أؤمن بأن لحظات الشخص الأخيرة وموته يخبرنا الكثير عن حياته ومن كان. السطر الأخير. نقطة. الآن يمكنكم أن تفهموا كل شيء. من الأخير إلى الأول.
أحبت شيرين فلسطين وأحبت الميدان، وشهد كل شارع وحارة وقفت فيه على شهاداتها واستشهادها. تركت الهندسة المعمارية واختارت الصحافة، لأنها تقربها من الناس كما وصفتها.. فاختارت الميدان كمكان سقط فيه جسدها وارتقت منه روحها إلى السماء، ليظل صوتها واسمها حاضرين في جوف كل خبر وفي قلب كل حدث من فلسطين، لأجيال وأجيال إلى التحرير وما بعده.
الله يرحمك يا شيرين. ولقلوب كل من فقدك وبكى عليك اليوم الصبر والسلوان. فقد كل منزل عربي فرداً من عائلته اليوم، أرثيك وأرثي الشهيد الآخر الذي سقط اليوم وضاعت تفاصيل قصته في خضم خبر استشهادك، ثائر اليازوري، ١٨ عاماً، من البيرة. أدعوا لكما ولجميع الشهداء بالرحمة والمغفرة. على الرغم من أنوف حراس الغفران.
لو كان لها أن تعلّق على كل ما يحدث الآن، من مكانها، ماذا كانت ستقول؟