كتب: منهج جديد لقراءة النصوص الأثرية

[غلاف الكتاب] [غلاف الكتاب]

كتب: منهج جديد لقراءة النصوص الأثرية

By : Arabic Editors

خالد حسين أيوب

(دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، 2022) 

[خالد حسين أيوب، باحث فلسطيني- سوري. أصدر عام ٢٠٠٩ كتاباً بعنوان: وجه آخر لتاريخ فلسطين- نقد التاريخ المتداول، وفي نفس العام أصدر كتاباً بعنوان: أخطار القراءات الخاطئة للنصوص الأثرية على الثقافة العربية، وشارك في إلقاء محاضرات في مراكز ثقافية في دمشق].

جدلية (ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسة التي يتضمنها الكتاب؟

خالد أيوب (خ. أ.): يتناول هذا الكتاب نصوصاً أثرية من إيطاليا وقبرص وتركيا والجزائر وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، تعود إلى الألف الأول ق.م، ويعرض المنهج المتبع والقواعد اللغوية الخاطئة التي استند إليها الباحثون لقراءة هذه النصوص الأثرية، وهذا المنهج المتبع الذي يتيح لقرائها ومترجميها إضافة وحذف حروف من النص الأثري بالاستناد إلى عدة قواعد افتراضية، التي هي ليست سوى أداة لتشويه المعاني الحقيقية لهذه النصوص، والكتاب محاولة نقدية لهذا المنهج.

ومن ناحية لا تقل أهمية عن ذلك ينفي الكتاب في قسم منه أن هذه النصوص كُتبت نثراً، فمعظم هذه النصوص كتبت شعراً، يتبين ذلك من خلال مقارنة الخصائص الشعرية فيها وما تحتويه من قافية وجناس وقد تم نظم نماذج منها، فأتت مطابقة للعروض الرقمي. وللأسلوب الشعري أثر هام على قراءة هذه النصوص، أهمها أنها لا تسمح بإضافة أو حذف أي حرف من هذه النصوص، لأن أي عملية تجري وفق قواعد المنهج المتبع ستؤدي إلى خلل في الميزان الشعري للنص.

(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟

(خ. أ.): هناك صعوبات عديدة يواجهها عامة الباحث الأثري على صعيد الحصول على النصوص الأثرية كمادة لا غنى عنها في البحث، والمسألة الثانية التي يعاني منها معظم الكتاب هو دور النشر كوسيط بين الكاتب والمطبعة، ولا أعرف كيف يسير نظام النشر، فقد قمت بطباعة كتابين مباشرة بالاتفاق مع مطبعة دون المرور بدار نشر، وكانت التكلفة أقل من نصف القيمة التي يشبه دورها دور الوسيط العقاري.

ولا أخفيك حول مسألة حدثت مع مجموعة من خمسة كتاب لدى بعضهم أكثر من كتاب جاهز للطباعة، وبسبب عدم وجود دور نشر في المستوى المطلوب، كان لدينا فكرة إنشاء دار نشر خاصة لنتخلص من هذه المشكلة، وما زلنا ننتظر.

(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟

(خ. أ.): ظل علم الآثار ضيقاً محدوداً في الوسط الأكاديمي، تحتكره قلة ممن يدعون الاختصاص، وهذا ما يجعلني سلفاً أرى ما سيواجه هذا الكتاب من سخط ونقد من قبل هؤلاء الذين أجحفوا طويلاً بحق ثقافتنا في علوم الماضي تاريخاً وآثاراً وأسطورة وتراثاً.. وهم من يتحملون دون غيرهم مسؤولية كتابة هذا التاريخ المزيف الذي نتناول وجباته اليومية كالسم.

(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب ومن القراء الذين تأمل أن يصل إليهم؟

(خ. أ.): على النقيض من السؤال والإجابة السابقين أنا متأكد تماماً أنه سيلاقي اهتماماً جيداً في الوسط الثقافي العام والشعبي، وخارج الوسط الأكاديمي الرسمي، ويأتي هذا اليقين من خلال تجربتي لسنوات طويلة، في اللقاء مع جمهور واسع ومتنوع و نماذج مختلفة، وهذا العمل أصلاً هو موجه إليهم بشكل خاص.

(ج): ما هي مشاريعك الأخرى المستقبلية؟

(خ. أ.): كما هو معروف فإن النص الأثري هو مفتاح لكتابة التاريخ والأسطورة والتراث ويكشف عما يتعلق بكل علوم الماضي وعناصر الحضارة، فإنني أطمح أن يكون هذا أساساً للمعرفة والكشف عن تلك الحقب التاريخية المجهولة والغامضة للحياة الإنسانية. إن الكتابات الأثرية ككل الكتابات في مواضيعها المتعددة فيمكن أن تكون نصاً زراعياً أو ملكياً أو دينياً أو يتحدث عن الموت والزواج.. إلخ، فلذلك فإن هذه النصوص لا يمكن تحديد اختصاصها وتشكل معاً لوحة شاملة تقدم لنا صورة عن الماضي لهذا العالم، كما تفرض المواضيع المتعددة لهذه النصوص الدراسات عامة أهميتها في الصراع على الحاضر، فأنا لا أُخفي أن هذا الكتاب يشكّل جزءاً من معركة الصراع على اللغة، اللغة التي تعتبر أهم عناصر هوية الشعوب وتدل على وجودها تاريخاً وثقافة وتراثاً..

هذا هو المشروع العام، أما تحديداً فسيكون عملي القادم قراءة نصوص أثرية فلسطينية حصراً، و من ثم كتاب حول موطن الإله إيل.

مقتطفات من الكتاب:

نص نقش أحيرام وأهميته التاريخية

يتألف نّص أحيرام من ستّة سطور قصيرة، منقوشة على غطاء تابوت من الحجر الكلسيّ، ويعود لملك جبيل أحيرام. عثر على النّقش في مدينة جبيل بلبنان في العام 1922، ويعود تاريخ النّقش إلى القرن العاشر ق. م ، واختلف نسّاخ حروف النقش في نقل حروفه، فبعضهم مثلاً نسخ الحروف الأولى ا ر ن، و بعضهم قرأها ان ك.

وبسبب تشوّه في النّص سأدع القسم الثاني دون نظمه شعراً:

ا م ح ن ت ع ل ج ب ل و ي ج ب ل ا ر ن ز ن ت ح ت ج ب ل ط ر م س ف ط و ن ف ط ه‍ ت ه‍ ت ف ك ك س ا م ل ك ه‍ و ن ح ت ت ب ر ح ع ل ج ب ل و ه‍ ا ي م ح "ت" ج ر ه‍ ل ف ف ج ب ل .

قراءة الباحثين للنّقش "بما فيهم قراءة الكتيب الصادر عن متحف اللّوفر الذي يضمّ هذا الحجر من بين مجموعة ضخمة من المحفوظات الشّرقية":

((ارن: تابوت، ذا: هذا، فعل: صنعه، اتبعل بن احرم: ايتوبعل بن احيرام، ملك جبل: ملك جبيل، ل احرام: لأحيرام، ابه: ابيه، كشطا بعلم: لما سجى والده للابد . وال ملك بملكوم: لكن ملك بين الملوك، وسكن بسكنم: أو حاكم من بين الحكام، وتما محنت: أو قائد جيش، علي جبل ويجل ارن: زحف إلى جبيل وفتح التابوت، زن تحتسك حطر مشفطه تحتفك كسا ملكه: سوف تتحطم سلطته، ونحت تبرح عل جبل وها يمح سفره لفن شبل: ويسقط عرشه ويزول السلام عن جبيل، ويختفي نقشه بحد السيف)).

 قراءة ومناقشة 

لم أجد أيّ اعتراض على قراءة هذا النّص، إلّا للباحث فرج الله صالح ديب في كتابه اليمن هو الأصل، واعتراضه كان على بعض الكلمات فيه، كما اعترض على تسمية النّص باسم بيبلوس، على اعتبار أن اسم بيبلوس هو الاسم اليونانيّ لمدينة جبيل، والنّص يعود إلى ما قبل الوجود اليوناني وقبل هذه التسمية وكان على حق في اعتراضاته، وعموماً كانت محاولته قيّمة. 

الكلمة الأولى في النّص هي أرنز وليس ارن، وهي في اللهجة طريقة الاعتداد بالنفس في الجلوس على كرسيّ العرش، أو الجلوس في مكان مرتفع، وهناك لفظ يدل على طريقة الجلوس في وضعية القرفصاء "أرمز"، وهي مشهورة في المحكيّة في شمال فلسطين والجنوب اللبنانيّ امتداد جغرافي واجتماعي، وهي منطقة اكتشاف النص، أما ارمز فهي طريقة الجلوس معتدّاً بالنفس.

وكلمة فعل هي جار و مجرور: ف عل، في علٍ، في مكان مرتفع على سفح الجبل، وكما يتضح في النص "ت ح ت . ج ب ل . ط ر م"، وطرم أيضاً أحد مفردات المحكية، ومنها أطرم أي لا يسمع ولا يتكلم، أما وقد ذكرت فيما سبق خطأ إضافة الحروف أو حذفها، فإن ا ت ب ع ل ب ن ا ح رم، لا يجوز أن تصبح ايتوبعل بن حيرام، وكلمة بن تقطيعها خطأ وهي ليس بن احرم بل: بنا "بنى" حرم، وتحدثت فيما سبق عن ظاهرة الجناس، وهنا تتكرّرت كلمة حرم مرتين في نهاية البيت الأول في الجدول ونهاية البيت الثاني، وفي البيت الأول هي مفعول به "اسم" للفعل بنى، أما الثانية فهي فعلاً ماضياً تسبقه لا النافية، لا حرم.

فيصبح البيت الأول:

ا ت ب "أو أثِبْ"، ع ل ب ن ى: على الذي بنى، ح ر م: الحرم: الضريح أو القبر، وهنا يطلب الثناء والثواب وأن يغفر ويتوب عن الذي بنى هذا الضريح.

والبيت الثاني: م ل ك، ج ب ل، ل ا، ح ر م: وهو دعاء ما زال مستخدماً بالقول: "الله لا يحرمنا من …"، وهي فعل، تماماً كما هي كلمة جبل التي ذكرتها سابقاً، وتأتي في حالات التّكرار جناساً تاماً أو ناقصاً وفي حالتين منها فعلاً واسماً.

وفي البيت الثالث يحدّد النّص دعاء عدم الحرمان من الشّتاء، وانقطاع الشّتاء في منطقة جبيل هو بمثابة روح حياة النّاس والأرض، ويقول البيت: أ ب ه‍ ك. ش ت ه‍. ب ع ل: يجعلك بعل بهيّاً في شتائه، ولا يوجد مطلقاً اسم أحيرام التوراتي، واستخدام منهج الإضافات كان له هذه الغايات، لليّ عنق المعاني كي تتطابق مع اسم مكان أو اسم علم "مرموق" وهام في التّوراة، وباقي معاني النّص، غير ذات أهميّة، باعتقادي، على الأقل في الفترة الحاليّة.

السردية التوراتية

حاولت فيما سبق البقاء ضمن مجال البحث الأثريّ واستبعاد التّاريخ والتّاريخ التّوراتي عن دراستي هذه، لكن بسبب أهمية نقش احيرام هذا فإنّني أجد حاجة لعرض السّردية التّوراتيّة حول هذا الملك التّوراتي وخاصّة أن المؤرّخين قد تعاملوا مع منطقتنا باستخفاف واستهتار، وتناولوا الخرافات والأساطير على أنّها وقائع تاريخية.. وسأذكر باقتضاب ثلاث حكايات توراتية كأمثلة مفصلية من التّاريخ التّوراتي.

الحكاية الأولى: خروج موسى من مصر

تعتبر رواية الخروج من مصر هي بداية التّاريخ الحقيقي لمملكة إسرائيل القديمة، وتسردها التّوراة بهذه الآيات.

= "سفر الخروج، الإصحاح 1، من الآية 1-5" : "(1) وَهَذِهِ هِيَ أَسْمَاءُ أَبْنَاءِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَدِمُوا مَعَ يَعْقُوبَ إِلَى مِصْرَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَ أَهْلِ بَيْتِه..(2) رَأُوبَيْنُ، وَشِمْعُونُ، وَلاوِي وَيَهُوذَا (3) وَيَسَّاكَرُ وَزَبُولُونُ وَبَنْيَامِينُ، (4) وَدَان وَنَفْتَالِي وَجَاد وَأَشِير. (5) وَكَانَتْ جُمْلَةُ النُّفُوسِ الْمَوْلُودِينَ مِنْ صُلْبِ يَعْقُوبَ سَبْعِينَ نَفْساً".

النص الأثري هو مفتاح لكتابة التاريخ والأسطورة والتراث ويكشف عما يتعلق بكل علوم الماضي وعناصر الحضارة، فإنني أطمح أن يكون هذا أساساً للمعرفة والكشف عن تلك الحقب التاريخية المجهولة والغامضة للحياة الإنسانية.

وفي سفر الخروج من الإصحاح 2 الآية 1: "وَتَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لاوِي فَتَاةً ابْنَةَ لاوِي". وفي التفاسير يدعى هذا الرجل عمرام -عمران- ابن قهات بن لاوي والفتاة التي تزوجها هي يوكابيد بنت لاوي بن يعقوب وولدوا مريم وهارون موسى، وإذن، موسى التّوراتي هو ابن يوكابيد بنت لاوي بن يعقوب، ويحق لنا نسأل: كم سيكون تعداد بني إسرائيل في عهد موسى، وهو الجيل الرابع بعد يعقوب، وقد ذكرت أن من قدموا إلى مصر 70 شخصاً، مستخدمين أعلى نسبة ولادات يمكن أن تكون قد جرت، فإنهم وفق ذلك لن يكونوا أكثر من 2000 شخص، أما إجابة التوراة على هذا السؤال قد كانت: حسب سفر الخروج الإصحاح 12، الآية 37: "وَارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ رَعَمْسِيسَ إِلَى سُكُّوتَ فَكَانُوا نَحْوَ سِتِّ مِئَةِ أَلْفٍ مِنَ الرِّجَالِ المُشَاةِ مَاعَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلادَ"، وإذا اعتبرنا أن عدد كلٍّ من الأطفال والنساء مساوياً لعدد الرجال، يصبح بذلك عدد من رافق موسى بالخروج مليون وثمانمائة ألف نفساً، فهل يعقل دراسة مثل هذه الخرافة على أنها قصة خروج شعب بأكمله ؟ أم هم مجرد أقلُّ من قبيلة؟

يتنبه الباحثون إلى ذلك ويحاولون تخفيف العدد مراعاة للمنطق، ويعتبرهم البعض لا يزيدون عن نصف مليون، وكأنهم بهذا الحل قدموا نقداً تقبله عقولهم.

الحكاية الثانية: جيش داود 

سنرى ما تتحدث التوراة عن بعض القصص حول جيش داود النموذجي من حيث التنظيم وتقسيم وحداته العسكرية، ومن خلال عظمته، الذي يعتبر نموذجاً عصرياً، وتعتمد كثيرٌ من منظومته القديمة في تشكيلات الجيش الإسرائيلي الحديث.

وبعد أن تذوّق ملك إسرائيل شاؤول مرارة ويلات جالوت، وعجزه عن مواجهته، ويقوم داود بالقضاء على جالوت، ويندم الرب لأنه جعل شاؤول ملكاً، ويختار داود ملكاً من بعده، يحدث لاحقاً صراع بين داود و ابنه أبشالوم، ويهرب داود منه إلى أرض جلعاد - الأردن -، تأتي الفزعة والدعم اللوجستي والإمداد الغذائي لجيش داود، وفق ملتصق التوراة :

سفر صموئيل الثاني الإصحاح 15 الآية 16-22: "(16) فَخَرَجَ الْمَلِكُ وَسَائِرُ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ سِوَى عَشْرِ مَحْظِيَّاتٍ لِحِرَاسَةِ الْقَصْرِ. (17) وَتَوَقَّفَ الْمَلِكُ وَالشَّعْبُ السَّائِرُ فِي إِثْرِهِ عِنْدَ آخِرِ بَيْتٍ فِي طَرَفِ الْمَدِينَةِ. (18) وَأَخَذَ رِجَالُهُ يَمُرُّونَ أَمَامَهُ مِنْ ضُبَّاطٍ وَحَرَسٍ خَاصٍّ، ثُمَّ سِتُّ مِئَةِ رَجُلٍ مِنَ الْجَتِّيِّينَ الَّذِينَ تَبِعُوهُ مِنْ جَتَّ. (19) فَقَالَ الْمَلِكُ لِقَائِدِهِمْ إِتَّايَ الْجَتِّيِّ: «لِمَاذَا تَذْهَبُ أَنْتَ أَيْضاً مَعَنَا؟ اِرْجِعْ وَأَقِمْ مَعَ الْمَلِكِ الْجَدِيِدِ لأَنَّكَ غَرِيبٌ وَمَنْفِيٌّ أَيْضاً مِنْ وَطَنِكَ. (20) لَقَدْ جِئْتَ بِالأَمْسِ الْقَرِيبِ، فَهَلْ أَجْعَلُكَ الْيَوْمَ تَتَشَرَّدُ مَعَنَا، مَعَ أَنَّنِي لَا أَدْرِي إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ؟ اِرْجِعْ وَعُدْ بِقَوْمِكَ، وَلْتُرَافِقْكَ الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ». (21) وَلَكِنَّ إِتَّايَ أَجَابَ الْمَلِكَ: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ وَحَيٌّ هُوَ سَيِّدِي الْمَلِكُ، أَنَّهُ حَيْثُمَا يَتَوَجَّهُ سَيِّدِي الْمَلِكُ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْحَيَاةِ أَمْ لِلْمَوْتِ، يَتَوَجَّهُ عَبْدُكَ أَيْضاً». (22) فَقَالَ دَاوُدُ لإِتَّايَ: «تَعَالَ، وَاعْبُرْ مَعَنَا». فَعَبَرَ إِتَّايُ الْجَتِّيُّ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ وَسَائِرُ الأَطْفَالِ الَّذِيِنَ كَانُوا مَعَهُ". وتطلق التوراة عليه لقب ملك وأحياناً لقب شيخ.

وإذا كانت ملوك الشعوب التوراتية بهذا العدد المكون من مئات الأشخاص، يغدو داود امبراطوراً في نظر من دون التوراة.

وفي سفر صموئيل الثاني أيضاً، الإصحاح 16 الآية 1-2 الذي يتحدث عن عبور داود لقمة جبل الزيتون: "(1) وَعِنْدَمَا عَبَرَ دَاوُدُ قِمَّةَ الْجَبَلِ لاقَاهُ صِيبَا خَادِمُ مَفِيبُوشَثَ بِحِمَارَيْنِ مُحَمَّلَيْنِ بِمِئَتَيْ رَغِيفِ خُبْزٍ وَمِئَةِ عُنْقُودِ زَبِيبٍ وَمِئَةِ قُرْصِ تِينٍ وَزِقِّ خَمْرٍ. (2) فَقَالَ الْمَلِكُ لِصِيبَا: «لِمَنْ كُلُّ هَذَا؟» فَأَجَابَ صِيبَا: «الْحِمَارَانِ لِرُكُوبِ عَائِلَةِ الْمَلِكِ، وَالْخُبْزُ وَالتِّينُ لِيَأْكُلَهَا الرِّجَالُ، وَالْخَمْرُ لِمَنْ أَعْيَا فِي الصَّحْرَاءِ»".

إن كل ما ترويه التوراة من قصص دينية ليس لها مكان في هذا البحث، إلا أن الباحث في معرض رده على المؤرخين يضطر إلى ذكرها لأنهم استحضروا الخيال والقضايا الإيمانية والعقيدة وجعلوا منها علما وتاريخها يبدو أنه حقيقي.

أما موضوعنا حول أحيرام ملك صور فهو المثال، وينال أهمية ليس كونه ملكاً، بل اكتسب شهرته لأن التوراة تذكر علاقته بداود وسليمان خاصة وكيف زود الأخير بمواد بناء الهيكل، وهذه سردية هيكل ومعبد سليمان كما ذكرتها الآيات التوراتية:

أ) سفر الملوك الأول، الإصحاح 6 الآيات 2-3: "(2) وَكَانَ طُولُ الْهَيْكَلِ الَّذِي شَيَّدَهُ سُلَيْمَانُ لِلرَّبِّ سِتِّيِنَ ذِرَاعاً (نَحْوَ ثَلاثِينَ مِتْراً) وَعَرْضُهُ عِشْرِينَ ذِرَاعاً (نَحْوَ عَشَرَةِ أَمْتَارٍ) وَارْتِفَاعُهُ ثَلاثِينَ ذِرَاعاً (نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَةِ مِتْراً) (3) وَكَانَتْ هُنَاكَ شُرْفَةٌ أَمَامَ الْهَيْكَلِ طُولُهَا عِشْرُونَ ذِرَاعاً (نَحْوَ عَشَرَةِ أَمْتَارٍ) وَعَرْضُهَا عَشْرُ أَذْرُعٍ (نَحْوَ خَمْسَةِ أَمْتَارٍ)".

ب) سفر الملوك الأول، الإصحاح 5، الآيات: 13-18: "(13) وَسَخَّرَ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ ثَلاثِينَ أَلْفَ رَجُلٍ مِنْ أَرْجَاءِ إِسْرَائِيلَ، (14) فَكَانَ يُرْسِلُ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلافٍ إِلَى لُبْنَانَ لِمُدَّةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ مُنَاوَبَةً، فَيَقْضُونَ شَهْراً فِي لُبْنَانَ وَشَهْرَيْنِ فِي بُيُوتِهِمْ. وَكَانَ أَدُونِيرَامُ الْمُشْرِفَ عَلَى تَنْظِيمِ عَمَلِيَّةِ التَّسْخِيرِ. (15) وَفَضْلاً عَنْ هَؤُلاءِ، كَانَ لِسُلَيْمَانَ سَبْعُونَ أَلْفاً مِنْ حَمَّالِي الْخَشَبِ وَثَمَانُونَ أَلْفاً مِنْ قَاطِعِي الْحِجَارَةِ فِي الْجَبَلِ، (16) مَاعَدَا ثَلاثَةَ آلافٍ وَثَلاثَ مِئَةٍ مِنَ الْمُشْرِفِينَ عَلَى هَؤُلاءِ الْعُمَّالِ. (17) وَبِنَاءً عَلَى أَمْرِ الْمَلِكِ قَامَ الْعُمَّالُ بِقَلْعِ حِجَارَةٍ كَبِيرَةٍ، هَذَّبُوهَا فَصَارَتْ مُرَبَّعَةً، لاِسْتِخْدَامِهَا فِي أَسَاسِ بِنَاءِ الْهَيْكَلِ. (18) فَنَحَتَهَا بَنَّاؤُو سُلَيْمَانَ بِمُسَاعَدَةِ بَنَّائِي حِيرَامَ وَأَهْلِ جُبَيْلَ، وَهَيَّأُوا الأَخْشَابَ وَالْحِجَارَةَ لِتَشْيِيدِ الْهَيْكَلِ".

ج) سفر الملوك الأول الإصحاح الخامس الآيات 1-11: "(1) وَأَرْسَلَ حِيرَامُ مَلِكُ صُورَ وَفْداً إِلَى سُلَيْمَانَ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ أَنَّهُ اعْتَلَى الْعَرْشَ خَلَفاً لأَبِيهِ، وَكَانَ حِيرَامُ صَدِيقاً مُحِبّاً لِدَاوُدَ. (2) فَكَتَبَ سُلَيْمَانُ رِسَالَةً إِلَى حِيرَامَ قَائِلاً: (3)«أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ أَبِي دَاوُدَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتاً لاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِهِ مِنْ جَرَّاءِ الْحُرُوبِ الَّتِي خَاضَهَا، حَتَّى أَظْفَرَهُ الرَّبُّ بِأَعْدَائِهِ وَأَخْضَعَهُمْ لَهُ. (4) أَمَّا الآنَ وَقَدْ أَرَاحَنِي الرَّبُّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلَيْسَ مِنْ ثَائِرٍ أَوْ حَادِثَةِ شَرٍّ. (5) وَهَا أَنَا قَدْ نَوَيْتُ أَنْ أَبْنِيَ بَيْتاً لاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِي، كَمَا قَالَ الرَّبُّ لِدَاوُدَ أَبِي: إِنَّ ابْنَكَ الَّذِي يَخْلُفُكَ عَلَى عَرْشِكَ هُوَ يَبْنِي بَيْتاً لاِسْمِي الْعَظِيمِ. (6) فَأَرْجُو أَنْ تَأْمُرَ رِجَالَكَ أَنْ يَقْطَعُوا لِي أَرْزاً مِنْ لُبْنَانَ، وَسَيَعْمَلُ رِجَالِي جَنْباً إِلَى جَنْبٍ مَعَ رِجَالِكَ، وَأَقُومُ أَنَا بِدَفْعِ أُجْرَةِ رِجَالِكَ بِمُوْجِبِ مَا تَرَاهُ، لأَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ قَوْمِي مَنْ يَمْهَرُ فِي قَطْعِ الأَخْشَابِ مِثْلَ الصِّيدُونِيِّينَ». (7) فَلَمَّا سَمِعَ حِيرَامُ كَلامَ سُلَيْمَانَ، غَمَرَتْهُ الْبَهْجَةُ وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الْيَوْمَ الرَّبُّ الَّذِي رَزَقَ دَاوُدَ ابْناً حَكِيماً لِيَمْلِكَ عَلَى هَذَا الشَّعْبِ الْغَفِيرِ». (8) وَبَعَثَ حِيرَامُ إِلَى سُلَيْمَانَ بِرِسَالَةٍ قَائِلاً: «قَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى رِسَالَتِكَ وَسَأَعْمَلُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَغْبَتِكَ بِشَأْنِ خَشَبِ الأَرْزِ وَخَشَبِ السَّرْوِ. (9) سَيَقُومُ رِجَالِي بِنَقْلِ الْخَشَبِ مِنْ جَبَلِ لُبْنَانَ إِلَى الْبَحْرِ، وَيَرْبِطُونَ قِطَعَ الْخَشَبِ إِلَى بَعْضِهَا فِي حُزَمٍ ضَخْمَةٍ، يُعَوِّمُهَا رِجَالِي وَيُوَجِّهُونَهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُعَيِّنُهُ، فَيُسَلِّمُونَهَا لِرِجَالِكَ، وَعَلَيْكَ لِقَاءَ ذَلِكَ، أَنْ تُمَوِّنَ قَصْرِي الْمَلَكِيَّ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ». (10) فَكَانَ حِيرَامُ يُوَفِّرُ لِسُلَيْمَانَ مَا يَطْلُبُهُ مِنْ خَشَبِ الأَرْزِ وَخَشَبِ سَرْوٍ، (11) وَيُقَدِّمُ سُلَيْمَانُ لِحِيرَامَ كُلَّ سَنَةٍ لِقَاءَ ذَلِكَ، عِشْرِينَ أَلْفَ كُرِّ قَمْحٍ (نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلافٍ وَثَمَانِي مِئَةِ طُنٍّ) طَعَاماً لِقَصْرِهِ، وَعِشْرِينَ أَلْفَ كُرِّ زَيْتٍ نَقِيٍّ (نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلافٍ وَثَمَانِي مِئَةِ لِتْرٍ)".

تتضح خرافة الهيكل من خلال هذا العدد الهائل من العمال الذي بلغ 183300 عاملاً، والمدن التي أعطاها سليمان لأحيرام كلفة مواد بناء الهيكل التي بلغت عشرين مدينة حتى لو كان مقصوداً بالمدينة قرية- والمواد التي يزيد حجمها عن حجم الهيكل المشار إليه بأبعاده: 30×10×15، حوالي 4500 متراً مكعباً، أي أن كل 40 عاملاً اختصّوا ببناء متر مكعب واحد لمدة عشرة سنوات.

جاءت فكرة الهيكل تعبيراً عن النهم والجشع في بداية العصر الحديث، واستعيد اجترار الخرافة حين اكتشاف قارة أستراليا، وكان اكتشاف الجزر التابعة لها والبالغة قرابة 100 جزيرة، وتمثلت شراهة الرأسمالية في استحضار فكرة ذهب سليمان وكنوزه الخيالية، وهكذا جنح الخيال الرأسمالي الجشع إلى تأويل نصوص العهد القديم بخلق سردية عن كنز سليمان وعظمة هيكله/معبده كما نعرفها الآن، وأن سليمان زار هذه الجزر وبنى هناك هيكلاً من الذهب الخالص، وكان هذا مبرراً لإطلاق اسم جزر سليمان على هذا المكان.

أما من حيث التنقيب عن الهيكل فله تاريخ طويل، أوجزه بهذه السطور قبل البدء بمناقشة نص أحيرام ملك صور: بدأت أول ضربة معول أثري على بعد أمتار قليلة من جدار الحرم القدسي الشريف تحت إشراف (الضابط الانكليزي وارن 1867)، وصلت حفرياته إلى عمق 30 متراً، إلى أن تمّ الوصول إلى الطبقة الصخرية ومن ثم حفر نفق باتجاه الجدار للكشف عن أساساته. وأظهرت النتائج أنّ حجارة الجدار المكونة للأساسات، والحجارة الظاهرة فوق الأرض ذات مواصفات متشابهة من شكل وحجم ونقش وطريقة بناء.. وهذه النتائج تخالف الرواية التوراتية حول بناء الهيكل على مراحل ثلاث:

(الهيكل الأول: سليمان، الذي هدم أثناء السبي) ثم أعيد بناؤه.

(الهيكل الثاني: معبد زر بابل الذي أعيد بناؤه بعد العودة من السبي).

(الهيكل الثالث: الذي قام بتوسعته "هيرود\ حرد" في العصر الروماني)

كانت نتيجة هذا البحث الأثري أنّ الحرم القدسي تمّ بناؤه في القرن الأول ميلادي (في العصر الروماني)، وتبع هذا البحث بحوث أخرى، كان أخطرها أبحاث مؤسس علم الآثار التوراتي وليم فوكسويل أولبرايت، الذي سار على خطى وارن، وقام بحفرياته للوصول إلى الأساسات ليجدَ مكاناً لا تتشابك فيه الحجارة بالطريقة المعروفة بين الصفوف (المداميك) فوجد وصلة، كانت كافية للاستنتاج بأنّ هذه الوصلة هي النقطة التي تمّ من عندها توسعة (الهيكل الثاني) بعد العودة من السبي.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

«مملكة بعمر برغشة»: هل هذا أصدق ما يُقال عن مملكة سليمان المتخيلة؟

تبدو الإشكالية الأساسية في تناول شخصية سليمان ومملكته التي يعتبرها بعض المؤرخين محض وهم، هو الفهم لطبيعة العلاقة بين التاريخ كـ"رواية" من حيث هو علم قائم على الوثائق والأدلة الأركيولوجية، وبين القصص الديني كـ"باعث" خيالي إبداعي إنساني صرف، وكمحرض لفهم تاريخية الحدث باعتباره خيالاً تحول إلى تاريخ كما يصف المؤرخ أوتو إيسفلت.

ففيما يتعلق بأسفار وإصحاحات "الكتاب المقدس" الأولى، درجت العادة لدى كل من اليهود والمسيحيين والمسلمين من بعدهم "من خلال قرآنهم" أن يؤمنوا بالقصص إيماناً حرفياً، وكأنها روايات ذات مصداقية عن منشأ العالم وأحداث ما قبل التاريخ الحقيقية، ولا تخرج قصة سليمان ومملكته عن قصة خلق العالم في سبعة أيام، أو ما يسمى "بجنة عدن"، والأفعى التي تستطيع الكلام والتي أغوت المرأة الأولى حواء وغيرها كثير مما لا يخرج عن هذا السياق الأسطوري الذي يحمل في جوهره بعداً تاريخياً كبيراً كونه إنسانياً بالدرجة الأولى.

بالتالي يكون الهدف من هذه المحاولة لتفكيك القصة (قصة سليمان) لما في تماثيل وصور الميثولوجيا والدين من أثر إيجابي في تتبع درب التفكير الإنساني من منبعه، محاولين فهم هذه القوى الداخلية بوصفها "أحلاماً جماعية" كما يقول فرويد، وطاقاتنا المحركة لها باعتبارها مألوفة للروح البشرية، والتي تمثل حكمة النوع البشري.

سليمان "التوراتي":

يخبرنا التوراة في سفر الملوك الأول أن سليمان ورث السلطة عن أبيه داوود بعد أن ملك الأخير أربعين سنة، وكان أول عمل يقوم به مفتتحاً عهده الملكي، هو قتل أخيه أدونيا وساعده الأيمن يوآب قائد جيش داوود. ثم تزوج بابنة فرعون مصريم وأتى بها مدينة داوود (وهي مغارة صهيون) لأنه لم يك قد بنى بيتاً لنفسه بعد وملك سليمان على جميع إسرائيل.

ويذكر سفر الملوك أيضاً أنه "كان لسليمان اثنا عشر وكيلاً على جميع إسرائيل، وكانوا يمتازون للملك وبيته، كان على كل واحد أن يمتاز شهراً في السنة"، "وكان يهوذا وإسرائيل كثيرين كالرمل الذي على البحر في الكثرة، وكان سليمان متسلطاً على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين وإلى تخم مصر يحملون إلى سليمان الهدايا خاضعين له كل أيام حياته"، (الملوك الأول:3).

و"لأنه كان متسلطاً على كل ما عبر النهر من تفسح إلى غزة، على كل ملوك عبر النهر، وكان له صلح من جميع جوانبه حواليه، وسكن يهوذا وإسرائيل آمنين كل واحد تحت كرمته وكل واحد تحت تينته من دان إلى بئر السبع كل أيام سليمان، وكان لسليمان أربعون ألف مذود لخيل مركباته واثنا عشر ألف فارس"، (الملوك الأول:4).

وأرسل حيرام ملك صور الفينيقية رسلاً إلى سليمان يهنئه بعد أن سمع أنهم مسحوه ملكاً، فأرسل سليمان إلى حيرام طالباً منه تزويده بخشب الأرز من لبنان وبنجارين وبنائين، لأنه ليس مثل الصيدونيين من يعرف قطع الخشب. ووعده أن يرسل له مقابل ذلك حنطة وزيتاً، فوافق حيرام، وعقد الاثنان بينهما عهداً وصنعوا صلحاً. ولما ابتدأ سليمان باستلام شحنات الخشب، شرع ببناء هيكل الرب، وبناء قصور له ولزوجاته. وقد سخر سليمان في أعمال البناء آلافاً مؤلفة من الشعب.

وبعد أن اكتمل بناء البيت وقف سليمان أمام المذبح وكل جماعة إسرائيل تنظر إليه وبسط يديه إلى السماء وقال: "أيها الرب إله إسرائيل، ليس مثلك إله في السماء من فوق ولا على الأرض من أسفل. حافظ العهد والرحمة لعبيدك السائرين أمامك بكل قلوبهم"، (الملوك:5-8). و"بنى سليمان سفناً على بحر سوف [الأحمر] واستخدم لتسييرها في البحر عمالاً فينيقيين من صور أرسلهم له حيرام. فأتوا بلاداً يدعوها النص أوفير، وأخذوا من هناك أربعمائة وعشرين وزنة ذهب أتوا بها الملك سليمان"، (الملوك الثاني:9).

وكان وزن الذهب الذي أتى لسليمان في سنة واحدة ست مئة وستاً وستين وزنة ذهب، وذلك عدا الذي أتاه من ضرائب التجار وتجارتهم ومن الولاة الذي عينهم في المقاطعات. وقد بلغ من ثراء المملكة في عهده أن الفضة في أورشليم كانت مثل الحجارة، وخشب الأرز مثل خشب الجميز الذي في السهل لكثرته. (الملوك الثاني 10: 14-29).

مدلول كلمة "ملك"، ورواية التوراة المتناقضة:

في كتابه "مملكة إسرائيل اسم موضوع وتاريخ مصنوع" يقول هشام محمد أبو حاكمة "لا يجب أن ننظر إلى كلمة (ملك) في العصور القديمة، والأقوام التي عاشت بها، ومن ضمنها "بنو إسرائيل"، على أنها كلمة ذات مدلول كبير، اللهم إلا في الإمبراطوريات التي ذكرها المؤرخون، ولها دلائل واضحة، ما زالت ماثلة للعيان. أما تلك الأقوام الصغيرة والتي كانت تعيش في مدن مسورة، ولا يتجاوز مدى سيطرتها حدود تلك المدن، فمثل هذه المدن إن أطلق على حكامها لقب (ملك) فهو وصف مضلل، إذا قيس بملك مصر، أو أشور مثلاً، ومن الأفضل أن نطلق على ملوك هذه المدن اسم شيخ قبيلة".

ويرى أحمد داوود في كتابه «تاريخ سورية القديم»: "أن كلمة "ملك" كانت تستخدم دونما حدود بحيث تشمل في مفهومها رئيس زمرة قد تبدأ بثلاثة أشخاص ثم لا يكون لها حدود في الاتساع، فتشمل رئيس الجماعة، والعصابة، والحارة، والمزرعة، والقرية، والبلدة، والمدينة، والدولة".

ويرد في القرآن أن الله قال لبني إسرائيل "وجعلكم ملوكاً" (المائدة 20) ويسوق ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" تفسير ابن عباس لهذه الآية حيث قال: "كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سُمي ملكاً".

أما محمود مناعة في كتابه "تاريخ اليهود" فيعلق على اسم ملك ومملكة بقوله: "ويستحسن أن لا يغيب عن بالنا لحظة الانطباع اسم مملكة وملك في التاريخ القديم لا يتعدى حجمه الواقعي، فالملك هو من يملك دون التقيد بمساحة ما يملك من مدن وأقاليم، وقد رأينا في العهد القديم هذا اللقب يطلق على حكام المدن مهما تصغر أو تكبر، ومهما يكن الوضع السياسي لأولئك الحكام من حيث الاستقلال والتبعية".

وتذكر التوراة (يشوع 1:10-4) أسماء عدد من الملوك كانوا يحكمون الممالك التي كانت قائمة في ذلك الوقت (عهد يشوع) ومنهم: "أدوني صادق ملك أورشليم، وهرهام ملك حبرون، وفرام ملك برموث، ويافيع ملك لخيش، ودبير ملك عجلون". ويورد هشام محمد أبو حاكمة في المرجع السابق "وفي رسائل تل العمارنة نجد رسائل من ملوك صور، وملك بيروت، وملك دمشق، وغير هؤلاء كثير وفي عصر داوود وسليمان عليهما السلام كان الفينيقيون في أوج عظمتهم، وكان لهم أكثر من ملك بالرغم من المساحة التي كانوا يسيطرون عليها صغيرة جداً نسبياً".

لا يتوافر لدينا دليل واحد على وجود ملكية متحدة، ولا دليل على وجود عاصمة في أورشليم ولا يوجد دليل على وجود ملوك في أورشليم في تلك الفترة المبكرة

أما كيث وايتلام فيقول في المرجع السابق "إن أرض ريتينو العليا -فلسطين- كانت أرض فلاحين ورعاة، وأن أميرهم لم يكن ملك مدينة كبيرة، أو دولة، بل هو "شيخ" لا تتجاوز سلطته مساحة المدينة التي يحكمها، وبذلك يمكننا اعتبار أن مملكة داوود ومن بعده ولده سليمان كانت من هذا النوع من الممالك".

أما الدليل على ذلك فيوجد في التوراة ذاته، يذكر سفر (الملوك الأول 16:9) أن سليمان تزوج من ابنة فرعون لتضم إلى باقي زوجاته اللاتي بلغن سبعمائة زوجة، وثلاثمائة سرية، بل فرعون صعد جازر وأحرقها بالنار، وقتل الكنعانيين الساكنين بالمدينة وأعطاها لابنته زوجة سليمان. وجازر هي قلعة كنعانية قديمة قريبة من القدس، يأتي هذا التناقض من قبل محرر التوراة ليدحض قصة العصر الذهبي تقريباً فكيف يكون لسليمان كل هذا المجد، ولا تقع يده على قلعة لا تبعد سوى عدة كيلومترات عن عن أورشليم؟

هذا إن سلمنا بحقيقة الزواج المفترض التي يعتقد كثير من المؤرخين بأنها محض شطط وخيال روائي. دون نفي قصة غزو جازر الذي يعتقد أبراهام مالمات في كتابه "العبرانيون وبنو إسرائيل في العصور القديمة بين الرواية التوراتية والاكتشافات الأثرية" أن الفرعون شيشق الأول مؤسس الأسرة الثانية والعشرين هو من قام بغزوها دون أن تأتي المصادر المصرية على ذكر سليمان ومملكته نهائياً.

سليمان "التاريخي" وروايات التاريخ المتناقضة:

غالباً ما يوضع سليمان "التاريخي" موضع النقاش المحتدم بين شد وجذب وتوكيد ونفي، فيما بين المؤرخين. يقول وايتلام في المرجع السابق "والمثير للاهتمام حول تكوين دولة إسرائيل في العصر الحديدي هو وجود القليل من الآثار الواضحة المتعلقة بما يسمى فترة (المملكة الإسرائيلية) وهكذا فإن خطاب الدراسات التوراتية لم يخلق هذا الكيان إلا بناء على قراءة للتراث التوراتي أضيف إليها دلائل وثائقية خارج التوراة".

بينما يعتبر وليم فوكسويل ألبرايت في كتابه "آثار فلسطين" من أوائل المؤرخين الذي تتفق نظرتهم مع الخطاب التوراتي، فهو يعتبر البيئات الأثرية وسيلة لتأكيد تاريخانية المرويات التوراتية، ويرى وجوب تطبيق هذه المرويات حتى لو أدى ذلك إلى إبادة السكان الأصليين لهذه المنطقة.

وبينما لا يعدو أن يكون سليمان حاكم دولة مدينة كممالك المدن التي كانت قائمة في ذلك العصر وفقاً لوايتلام الذي يتابع قائلاً: "ربما كان سليمان حاكماً قوياً وثرياً جداً بمقاييس العصر الحديدي المبكر في فلسطين، لكن إذا نظرنا إلى ذلك من منظور أوسع في سياق الشرق الأوسط القديم، يمكننا اعتباره حاكماً محلياً في دولة مدنية، وليس إمبراطوراً على مستوى عالمي".

يرى ألبرشت آلت في كتابه "مقالات في العهد القديم التاريخ والدين" أن الإمبراطورية التي أنشأها داوود ومن بعده ولده سليمان بسرعة مذهلة كانت تتأرجح سياسياً بشدة، ويقول "إن الإسرائيليين أول من أوجد مبدأ الدولة القومية في المنطقة". أما جيوفاني غاربيني في كتابه "التاريخ والأيديولوجيا في إسرائيل، الذي يعتبر نقده من أكثر الدراسات تشكيكاً في التراث التوراتي، وفكرة وجود عصر ذهبي إسرائيلي وإمبراطورية عظمى، فقد بيّن أن ذلك ليس أكثر من إعادة صياغة للنص التوراتي نابعة من دوافع لاهوتية، وينتقد التصورات التقليدية حول فترة حكم داوود وسليمان ويقول: "إن الإطار التاريخي يعطي انطباعاً بأنه أقرب إلى النظرة الأسطورية عن وجود عصر ذهبي أصيل منه على أن يكون إعادة بناء مقنعة للماضي وللأعمال الإنسانية".

وعلى الخلاف منه يرى مارتن نوت في كتابه "تاريخ إسرائيل" أن "اللحظة الحاسمة في فترة حكم داوود وسليمان التي سارت فيها إسرائيل نحو الهيمنة السياسية ودخلت مرحلة جديدة تماماً ويصرح بأن جدة ذلك الوضع يؤكدها إدخال تقاليد تاريخية جديدة في العهد القديم الذي هو سجل تاريخي وعمل علمي" واصفاً المملكة الإسرائيلية بأنها كانت أول قوة عظمى مستقلة في الأرض السورية الفلسطينية. وسارت كارول مايزر على خطى نوت واصفة سليمان بـ"الإمبراطور الثاني" والأخير الذي حافظ على الأجزاء المتفرقة لأقاليمه لفترة غير مسبوقة، والذي أسس عاصمة عالمية رائعة، وبنى سلسلة من المدن الملكية في البلاد.

وبينما يبين بول كينيدي في كتابه "صعود القوى العظمى وسقوطها" زيف الادعاء بترويج ماض متخيل لقوة عظمى حكمها داوود وسليمان في العصر القديم، وأظهر الظروف الاقتصادية والتجارية في ذلك الوقت، لذلك لم تنشأ قوة إقليمية أبداً، والبحث يقودنا إلى الشك في كل ما يُروى عن مملكة كبرى في فلسطين في العصر الحديدي".

وفي كتابه "الماضي الخرافي في التاريخ والتوراة"، يؤكد توماس طومسون "تلك الصور لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخي الواقعي، إننا نعرفها كقصة وما نعرفه حول القصص لا يشجعنا على معاملتها كما لو أنها تاريخية"، ويتابع قائلاً: "لا يتوافر لدينا دليل واحد على وجود ملكية متحدة، ولا دليل على وجود عاصمة في أورشليم ولا يوجد دليل على وجود ملوك في أورشليم في تلك الفترة المبكرة".

وعلى العكس من موقف توماس طومسون، ترى كارين أرمسترونغ في كتابها "القدس مدينة واحدة ثلاث عقائد" أنه "ولما كانت المملكة لا يرد ذكرها في نصوص الشرق القديم التي ترجع إلى الفترة نفسها، فقد ظن البعض أنها محض خيال وأنها تفتقر إلى الأساس التاريخي الثابت مثل قصص بعض الآباء. ولكنّ آراء الباحثين تتفق على أن هذه المملكة وُجدت فعلاً، فالواقع أن عدداً من التفاصيل السياسية والاقتصادية والتجارية الواردة في الكتاب المقدس والتي تتفق مع معلوماتنا المؤكدة عن مجتمع الشرق الأدنى القديم في تلك الآونة بشكل كبير بحيث ينفي أن تكون إمبراطورية داوود محض تلفيق".

أما ج.م.ن. جفريز في كتابه "فلسطين إليكم الحقيقة" فيصف المملكة قائلاً: "إن دولة سليمان بلغت في أوج اتساعها مائة وعشرين ميلاً في أطول أطوالها وستين ميلاً في أعرض عروضها، إن امتلاك اليهود لفلسطين كان من القصر بحيث لا يُذكر إذا ما قيس بامتلاك الكنعانيين لفلسطين في حين أن الدولة اليهودية قد قامت وتألقت وطنطنت بمقدار عمر برغشة ثم تلاشت".

أما المؤرخ جيرارد فون راد في كتابه "مقدمات وتعليقات مختصرة على العهد القديم" فيعتبر عصر سليمان "ذهبياً" للمملكة الإسرائيلية، وأن الحضارة الإسرائيلية لا وجود لمثلها في الشرق الأدنى فيقول: "أنتجَ العصر الذهبي للملكة العبرية أعمالاً تاريخية أصيلة، لم يكن بمقدور أي حضارة في الشرق الأدنى القديم الإتيان بها. حتى الإغريق لم يتمكنوا من الوصول إلى مثلها إلا في ذروة تقدمهم في القرن الخامس قبل الميلاد، ولكنهم انهاروا بسرعة بعد ذلك"، ويتابع قائلاً: "فإن حضارة إسرائيل يجب أن تقف في صف الحضارة الإغريقية الأغنى والأكثر عمقاً في القرون اللاحقة".