خالد حسين أيوب
(دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، 2022)
[خالد حسين أيوب، باحث فلسطيني- سوري. أصدر عام ٢٠٠٩ كتاباً بعنوان: وجه آخر لتاريخ فلسطين- نقد التاريخ المتداول، وفي نفس العام أصدر كتاباً بعنوان: أخطار القراءات الخاطئة للنصوص الأثرية على الثقافة العربية، وشارك في إلقاء محاضرات في مراكز ثقافية في دمشق].
جدلية (ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسة التي يتضمنها الكتاب؟
خالد أيوب (خ. أ.): يتناول هذا الكتاب نصوصاً أثرية من إيطاليا وقبرص وتركيا والجزائر وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، تعود إلى الألف الأول ق.م، ويعرض المنهج المتبع والقواعد اللغوية الخاطئة التي استند إليها الباحثون لقراءة هذه النصوص الأثرية، وهذا المنهج المتبع الذي يتيح لقرائها ومترجميها إضافة وحذف حروف من النص الأثري بالاستناد إلى عدة قواعد افتراضية، التي هي ليست سوى أداة لتشويه المعاني الحقيقية لهذه النصوص، والكتاب محاولة نقدية لهذا المنهج.
ومن ناحية لا تقل أهمية عن ذلك ينفي الكتاب في قسم منه أن هذه النصوص كُتبت نثراً، فمعظم هذه النصوص كتبت شعراً، يتبين ذلك من خلال مقارنة الخصائص الشعرية فيها وما تحتويه من قافية وجناس وقد تم نظم نماذج منها، فأتت مطابقة للعروض الرقمي. وللأسلوب الشعري أثر هام على قراءة هذه النصوص، أهمها أنها لا تسمح بإضافة أو حذف أي حرف من هذه النصوص، لأن أي عملية تجري وفق قواعد المنهج المتبع ستؤدي إلى خلل في الميزان الشعري للنص.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(خ. أ.): هناك صعوبات عديدة يواجهها عامة الباحث الأثري على صعيد الحصول على النصوص الأثرية كمادة لا غنى عنها في البحث، والمسألة الثانية التي يعاني منها معظم الكتاب هو دور النشر كوسيط بين الكاتب والمطبعة، ولا أعرف كيف يسير نظام النشر، فقد قمت بطباعة كتابين مباشرة بالاتفاق مع مطبعة دون المرور بدار نشر، وكانت التكلفة أقل من نصف القيمة التي يشبه دورها دور الوسيط العقاري.
ولا أخفيك حول مسألة حدثت مع مجموعة من خمسة كتاب لدى بعضهم أكثر من كتاب جاهز للطباعة، وبسبب عدم وجود دور نشر في المستوى المطلوب، كان لدينا فكرة إنشاء دار نشر خاصة لنتخلص من هذه المشكلة، وما زلنا ننتظر.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(خ. أ.): ظل علم الآثار ضيقاً محدوداً في الوسط الأكاديمي، تحتكره قلة ممن يدعون الاختصاص، وهذا ما يجعلني سلفاً أرى ما سيواجه هذا الكتاب من سخط ونقد من قبل هؤلاء الذين أجحفوا طويلاً بحق ثقافتنا في علوم الماضي تاريخاً وآثاراً وأسطورة وتراثاً.. وهم من يتحملون دون غيرهم مسؤولية كتابة هذا التاريخ المزيف الذي نتناول وجباته اليومية كالسم.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب ومن القراء الذين تأمل أن يصل إليهم؟
(خ. أ.): على النقيض من السؤال والإجابة السابقين أنا متأكد تماماً أنه سيلاقي اهتماماً جيداً في الوسط الثقافي العام والشعبي، وخارج الوسط الأكاديمي الرسمي، ويأتي هذا اليقين من خلال تجربتي لسنوات طويلة، في اللقاء مع جمهور واسع ومتنوع و نماذج مختلفة، وهذا العمل أصلاً هو موجه إليهم بشكل خاص.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى المستقبلية؟
(خ. أ.): كما هو معروف فإن النص الأثري هو مفتاح لكتابة التاريخ والأسطورة والتراث ويكشف عما يتعلق بكل علوم الماضي وعناصر الحضارة، فإنني أطمح أن يكون هذا أساساً للمعرفة والكشف عن تلك الحقب التاريخية المجهولة والغامضة للحياة الإنسانية. إن الكتابات الأثرية ككل الكتابات في مواضيعها المتعددة فيمكن أن تكون نصاً زراعياً أو ملكياً أو دينياً أو يتحدث عن الموت والزواج.. إلخ، فلذلك فإن هذه النصوص لا يمكن تحديد اختصاصها وتشكل معاً لوحة شاملة تقدم لنا صورة عن الماضي لهذا العالم، كما تفرض المواضيع المتعددة لهذه النصوص الدراسات عامة أهميتها في الصراع على الحاضر، فأنا لا أُخفي أن هذا الكتاب يشكّل جزءاً من معركة الصراع على اللغة، اللغة التي تعتبر أهم عناصر هوية الشعوب وتدل على وجودها تاريخاً وثقافة وتراثاً..
هذا هو المشروع العام، أما تحديداً فسيكون عملي القادم قراءة نصوص أثرية فلسطينية حصراً، و من ثم كتاب حول موطن الإله إيل.
مقتطفات من الكتاب:
نص نقش أحيرام وأهميته التاريخية
يتألف نّص أحيرام من ستّة سطور قصيرة، منقوشة على غطاء تابوت من الحجر الكلسيّ، ويعود لملك جبيل أحيرام. عثر على النّقش في مدينة جبيل بلبنان في العام 1922، ويعود تاريخ النّقش إلى القرن العاشر ق. م ، واختلف نسّاخ حروف النقش في نقل حروفه، فبعضهم مثلاً نسخ الحروف الأولى ا ر ن، و بعضهم قرأها ان ك.
وبسبب تشوّه في النّص سأدع القسم الثاني دون نظمه شعراً:
ا م ح ن ت ع ل ج ب ل و ي ج ب ل ا ر ن ز ن ت ح ت ج ب ل ط ر م س ف ط و ن ف ط ه ت ه ت ف ك ك س ا م ل ك ه و ن ح ت ت ب ر ح ع ل ج ب ل و ه ا ي م ح "ت" ج ر ه ل ف ف ج ب ل .
قراءة الباحثين للنّقش "بما فيهم قراءة الكتيب الصادر عن متحف اللّوفر الذي يضمّ هذا الحجر من بين مجموعة ضخمة من المحفوظات الشّرقية":
((ارن: تابوت، ذا: هذا، فعل: صنعه، اتبعل بن احرم: ايتوبعل بن احيرام، ملك جبل: ملك جبيل، ل احرام: لأحيرام، ابه: ابيه، كشطا بعلم: لما سجى والده للابد . وال ملك بملكوم: لكن ملك بين الملوك، وسكن بسكنم: أو حاكم من بين الحكام، وتما محنت: أو قائد جيش، علي جبل ويجل ارن: زحف إلى جبيل وفتح التابوت، زن تحتسك حطر مشفطه تحتفك كسا ملكه: سوف تتحطم سلطته، ونحت تبرح عل جبل وها يمح سفره لفن شبل: ويسقط عرشه ويزول السلام عن جبيل، ويختفي نقشه بحد السيف)).
قراءة ومناقشة
لم أجد أيّ اعتراض على قراءة هذا النّص، إلّا للباحث فرج الله صالح ديب في كتابه اليمن هو الأصل، واعتراضه كان على بعض الكلمات فيه، كما اعترض على تسمية النّص باسم بيبلوس، على اعتبار أن اسم بيبلوس هو الاسم اليونانيّ لمدينة جبيل، والنّص يعود إلى ما قبل الوجود اليوناني وقبل هذه التسمية وكان على حق في اعتراضاته، وعموماً كانت محاولته قيّمة.
الكلمة الأولى في النّص هي أرنز وليس ارن، وهي في اللهجة طريقة الاعتداد بالنفس في الجلوس على كرسيّ العرش، أو الجلوس في مكان مرتفع، وهناك لفظ يدل على طريقة الجلوس في وضعية القرفصاء "أرمز"، وهي مشهورة في المحكيّة في شمال فلسطين والجنوب اللبنانيّ امتداد جغرافي واجتماعي، وهي منطقة اكتشاف النص، أما ارمز فهي طريقة الجلوس معتدّاً بالنفس.
وكلمة فعل هي جار و مجرور: ف عل، في علٍ، في مكان مرتفع على سفح الجبل، وكما يتضح في النص "ت ح ت . ج ب ل . ط ر م"، وطرم أيضاً أحد مفردات المحكية، ومنها أطرم أي لا يسمع ولا يتكلم، أما وقد ذكرت فيما سبق خطأ إضافة الحروف أو حذفها، فإن ا ت ب ع ل ب ن ا ح رم، لا يجوز أن تصبح ايتوبعل بن حيرام، وكلمة بن تقطيعها خطأ وهي ليس بن احرم بل: بنا "بنى" حرم، وتحدثت فيما سبق عن ظاهرة الجناس، وهنا تتكرّرت كلمة حرم مرتين في نهاية البيت الأول في الجدول ونهاية البيت الثاني، وفي البيت الأول هي مفعول به "اسم" للفعل بنى، أما الثانية فهي فعلاً ماضياً تسبقه لا النافية، لا حرم.
فيصبح البيت الأول:
ا ت ب "أو أثِبْ"، ع ل ب ن ى: على الذي بنى، ح ر م: الحرم: الضريح أو القبر، وهنا يطلب الثناء والثواب وأن يغفر ويتوب عن الذي بنى هذا الضريح.
والبيت الثاني: م ل ك، ج ب ل، ل ا، ح ر م: وهو دعاء ما زال مستخدماً بالقول: "الله لا يحرمنا من …"، وهي فعل، تماماً كما هي كلمة جبل التي ذكرتها سابقاً، وتأتي في حالات التّكرار جناساً تاماً أو ناقصاً وفي حالتين منها فعلاً واسماً.
وفي البيت الثالث يحدّد النّص دعاء عدم الحرمان من الشّتاء، وانقطاع الشّتاء في منطقة جبيل هو بمثابة روح حياة النّاس والأرض، ويقول البيت: أ ب ه ك. ش ت ه. ب ع ل: يجعلك بعل بهيّاً في شتائه، ولا يوجد مطلقاً اسم أحيرام التوراتي، واستخدام منهج الإضافات كان له هذه الغايات، لليّ عنق المعاني كي تتطابق مع اسم مكان أو اسم علم "مرموق" وهام في التّوراة، وباقي معاني النّص، غير ذات أهميّة، باعتقادي، على الأقل في الفترة الحاليّة.
السردية التوراتية
حاولت فيما سبق البقاء ضمن مجال البحث الأثريّ واستبعاد التّاريخ والتّاريخ التّوراتي عن دراستي هذه، لكن بسبب أهمية نقش احيرام هذا فإنّني أجد حاجة لعرض السّردية التّوراتيّة حول هذا الملك التّوراتي وخاصّة أن المؤرّخين قد تعاملوا مع منطقتنا باستخفاف واستهتار، وتناولوا الخرافات والأساطير على أنّها وقائع تاريخية.. وسأذكر باقتضاب ثلاث حكايات توراتية كأمثلة مفصلية من التّاريخ التّوراتي.
الحكاية الأولى: خروج موسى من مصر
تعتبر رواية الخروج من مصر هي بداية التّاريخ الحقيقي لمملكة إسرائيل القديمة، وتسردها التّوراة بهذه الآيات.
= "سفر الخروج، الإصحاح 1، من الآية 1-5" : "(1) وَهَذِهِ هِيَ أَسْمَاءُ أَبْنَاءِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَدِمُوا مَعَ يَعْقُوبَ إِلَى مِصْرَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَ أَهْلِ بَيْتِه..(2) رَأُوبَيْنُ، وَشِمْعُونُ، وَلاوِي وَيَهُوذَا (3) وَيَسَّاكَرُ وَزَبُولُونُ وَبَنْيَامِينُ، (4) وَدَان وَنَفْتَالِي وَجَاد وَأَشِير. (5) وَكَانَتْ جُمْلَةُ النُّفُوسِ الْمَوْلُودِينَ مِنْ صُلْبِ يَعْقُوبَ سَبْعِينَ نَفْساً".
وفي سفر الخروج من الإصحاح 2 الآية 1: "وَتَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لاوِي فَتَاةً ابْنَةَ لاوِي". وفي التفاسير يدعى هذا الرجل عمرام -عمران- ابن قهات بن لاوي والفتاة التي تزوجها هي يوكابيد بنت لاوي بن يعقوب وولدوا مريم وهارون موسى، وإذن، موسى التّوراتي هو ابن يوكابيد بنت لاوي بن يعقوب، ويحق لنا نسأل: كم سيكون تعداد بني إسرائيل في عهد موسى، وهو الجيل الرابع بعد يعقوب، وقد ذكرت أن من قدموا إلى مصر 70 شخصاً، مستخدمين أعلى نسبة ولادات يمكن أن تكون قد جرت، فإنهم وفق ذلك لن يكونوا أكثر من 2000 شخص، أما إجابة التوراة على هذا السؤال قد كانت: حسب سفر الخروج الإصحاح 12، الآية 37: "وَارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ رَعَمْسِيسَ إِلَى سُكُّوتَ فَكَانُوا نَحْوَ سِتِّ مِئَةِ أَلْفٍ مِنَ الرِّجَالِ المُشَاةِ مَاعَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلادَ"، وإذا اعتبرنا أن عدد كلٍّ من الأطفال والنساء مساوياً لعدد الرجال، يصبح بذلك عدد من رافق موسى بالخروج مليون وثمانمائة ألف نفساً، فهل يعقل دراسة مثل هذه الخرافة على أنها قصة خروج شعب بأكمله ؟ أم هم مجرد أقلُّ من قبيلة؟
يتنبه الباحثون إلى ذلك ويحاولون تخفيف العدد مراعاة للمنطق، ويعتبرهم البعض لا يزيدون عن نصف مليون، وكأنهم بهذا الحل قدموا نقداً تقبله عقولهم.
الحكاية الثانية: جيش داود
سنرى ما تتحدث التوراة عن بعض القصص حول جيش داود النموذجي من حيث التنظيم وتقسيم وحداته العسكرية، ومن خلال عظمته، الذي يعتبر نموذجاً عصرياً، وتعتمد كثيرٌ من منظومته القديمة في تشكيلات الجيش الإسرائيلي الحديث.
وبعد أن تذوّق ملك إسرائيل شاؤول مرارة ويلات جالوت، وعجزه عن مواجهته، ويقوم داود بالقضاء على جالوت، ويندم الرب لأنه جعل شاؤول ملكاً، ويختار داود ملكاً من بعده، يحدث لاحقاً صراع بين داود و ابنه أبشالوم، ويهرب داود منه إلى أرض جلعاد - الأردن -، تأتي الفزعة والدعم اللوجستي والإمداد الغذائي لجيش داود، وفق ملتصق التوراة :
سفر صموئيل الثاني الإصحاح 15 الآية 16-22: "(16) فَخَرَجَ الْمَلِكُ وَسَائِرُ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ سِوَى عَشْرِ مَحْظِيَّاتٍ لِحِرَاسَةِ الْقَصْرِ. (17) وَتَوَقَّفَ الْمَلِكُ وَالشَّعْبُ السَّائِرُ فِي إِثْرِهِ عِنْدَ آخِرِ بَيْتٍ فِي طَرَفِ الْمَدِينَةِ. (18) وَأَخَذَ رِجَالُهُ يَمُرُّونَ أَمَامَهُ مِنْ ضُبَّاطٍ وَحَرَسٍ خَاصٍّ، ثُمَّ سِتُّ مِئَةِ رَجُلٍ مِنَ الْجَتِّيِّينَ الَّذِينَ تَبِعُوهُ مِنْ جَتَّ. (19) فَقَالَ الْمَلِكُ لِقَائِدِهِمْ إِتَّايَ الْجَتِّيِّ: «لِمَاذَا تَذْهَبُ أَنْتَ أَيْضاً مَعَنَا؟ اِرْجِعْ وَأَقِمْ مَعَ الْمَلِكِ الْجَدِيِدِ لأَنَّكَ غَرِيبٌ وَمَنْفِيٌّ أَيْضاً مِنْ وَطَنِكَ. (20) لَقَدْ جِئْتَ بِالأَمْسِ الْقَرِيبِ، فَهَلْ أَجْعَلُكَ الْيَوْمَ تَتَشَرَّدُ مَعَنَا، مَعَ أَنَّنِي لَا أَدْرِي إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ؟ اِرْجِعْ وَعُدْ بِقَوْمِكَ، وَلْتُرَافِقْكَ الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ». (21) وَلَكِنَّ إِتَّايَ أَجَابَ الْمَلِكَ: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ وَحَيٌّ هُوَ سَيِّدِي الْمَلِكُ، أَنَّهُ حَيْثُمَا يَتَوَجَّهُ سَيِّدِي الْمَلِكُ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْحَيَاةِ أَمْ لِلْمَوْتِ، يَتَوَجَّهُ عَبْدُكَ أَيْضاً». (22) فَقَالَ دَاوُدُ لإِتَّايَ: «تَعَالَ، وَاعْبُرْ مَعَنَا». فَعَبَرَ إِتَّايُ الْجَتِّيُّ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ وَسَائِرُ الأَطْفَالِ الَّذِيِنَ كَانُوا مَعَهُ". وتطلق التوراة عليه لقب ملك وأحياناً لقب شيخ.
وإذا كانت ملوك الشعوب التوراتية بهذا العدد المكون من مئات الأشخاص، يغدو داود امبراطوراً في نظر من دون التوراة.
وفي سفر صموئيل الثاني أيضاً، الإصحاح 16 الآية 1-2 الذي يتحدث عن عبور داود لقمة جبل الزيتون: "(1) وَعِنْدَمَا عَبَرَ دَاوُدُ قِمَّةَ الْجَبَلِ لاقَاهُ صِيبَا خَادِمُ مَفِيبُوشَثَ بِحِمَارَيْنِ مُحَمَّلَيْنِ بِمِئَتَيْ رَغِيفِ خُبْزٍ وَمِئَةِ عُنْقُودِ زَبِيبٍ وَمِئَةِ قُرْصِ تِينٍ وَزِقِّ خَمْرٍ. (2) فَقَالَ الْمَلِكُ لِصِيبَا: «لِمَنْ كُلُّ هَذَا؟» فَأَجَابَ صِيبَا: «الْحِمَارَانِ لِرُكُوبِ عَائِلَةِ الْمَلِكِ، وَالْخُبْزُ وَالتِّينُ لِيَأْكُلَهَا الرِّجَالُ، وَالْخَمْرُ لِمَنْ أَعْيَا فِي الصَّحْرَاءِ»".
إن كل ما ترويه التوراة من قصص دينية ليس لها مكان في هذا البحث، إلا أن الباحث في معرض رده على المؤرخين يضطر إلى ذكرها لأنهم استحضروا الخيال والقضايا الإيمانية والعقيدة وجعلوا منها علما وتاريخها يبدو أنه حقيقي.
أما موضوعنا حول أحيرام ملك صور فهو المثال، وينال أهمية ليس كونه ملكاً، بل اكتسب شهرته لأن التوراة تذكر علاقته بداود وسليمان خاصة وكيف زود الأخير بمواد بناء الهيكل، وهذه سردية هيكل ومعبد سليمان كما ذكرتها الآيات التوراتية:
أ) سفر الملوك الأول، الإصحاح 6 الآيات 2-3: "(2) وَكَانَ طُولُ الْهَيْكَلِ الَّذِي شَيَّدَهُ سُلَيْمَانُ لِلرَّبِّ سِتِّيِنَ ذِرَاعاً (نَحْوَ ثَلاثِينَ مِتْراً) وَعَرْضُهُ عِشْرِينَ ذِرَاعاً (نَحْوَ عَشَرَةِ أَمْتَارٍ) وَارْتِفَاعُهُ ثَلاثِينَ ذِرَاعاً (نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَةِ مِتْراً) (3) وَكَانَتْ هُنَاكَ شُرْفَةٌ أَمَامَ الْهَيْكَلِ طُولُهَا عِشْرُونَ ذِرَاعاً (نَحْوَ عَشَرَةِ أَمْتَارٍ) وَعَرْضُهَا عَشْرُ أَذْرُعٍ (نَحْوَ خَمْسَةِ أَمْتَارٍ)".
ب) سفر الملوك الأول، الإصحاح 5، الآيات: 13-18: "(13) وَسَخَّرَ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ ثَلاثِينَ أَلْفَ رَجُلٍ مِنْ أَرْجَاءِ إِسْرَائِيلَ، (14) فَكَانَ يُرْسِلُ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلافٍ إِلَى لُبْنَانَ لِمُدَّةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ مُنَاوَبَةً، فَيَقْضُونَ شَهْراً فِي لُبْنَانَ وَشَهْرَيْنِ فِي بُيُوتِهِمْ. وَكَانَ أَدُونِيرَامُ الْمُشْرِفَ عَلَى تَنْظِيمِ عَمَلِيَّةِ التَّسْخِيرِ. (15) وَفَضْلاً عَنْ هَؤُلاءِ، كَانَ لِسُلَيْمَانَ سَبْعُونَ أَلْفاً مِنْ حَمَّالِي الْخَشَبِ وَثَمَانُونَ أَلْفاً مِنْ قَاطِعِي الْحِجَارَةِ فِي الْجَبَلِ، (16) مَاعَدَا ثَلاثَةَ آلافٍ وَثَلاثَ مِئَةٍ مِنَ الْمُشْرِفِينَ عَلَى هَؤُلاءِ الْعُمَّالِ. (17) وَبِنَاءً عَلَى أَمْرِ الْمَلِكِ قَامَ الْعُمَّالُ بِقَلْعِ حِجَارَةٍ كَبِيرَةٍ، هَذَّبُوهَا فَصَارَتْ مُرَبَّعَةً، لاِسْتِخْدَامِهَا فِي أَسَاسِ بِنَاءِ الْهَيْكَلِ. (18) فَنَحَتَهَا بَنَّاؤُو سُلَيْمَانَ بِمُسَاعَدَةِ بَنَّائِي حِيرَامَ وَأَهْلِ جُبَيْلَ، وَهَيَّأُوا الأَخْشَابَ وَالْحِجَارَةَ لِتَشْيِيدِ الْهَيْكَلِ".
ج) سفر الملوك الأول الإصحاح الخامس الآيات 1-11: "(1) وَأَرْسَلَ حِيرَامُ مَلِكُ صُورَ وَفْداً إِلَى سُلَيْمَانَ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ أَنَّهُ اعْتَلَى الْعَرْشَ خَلَفاً لأَبِيهِ، وَكَانَ حِيرَامُ صَدِيقاً مُحِبّاً لِدَاوُدَ. (2) فَكَتَبَ سُلَيْمَانُ رِسَالَةً إِلَى حِيرَامَ قَائِلاً: (3)«أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ أَبِي دَاوُدَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتاً لاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِهِ مِنْ جَرَّاءِ الْحُرُوبِ الَّتِي خَاضَهَا، حَتَّى أَظْفَرَهُ الرَّبُّ بِأَعْدَائِهِ وَأَخْضَعَهُمْ لَهُ. (4) أَمَّا الآنَ وَقَدْ أَرَاحَنِي الرَّبُّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلَيْسَ مِنْ ثَائِرٍ أَوْ حَادِثَةِ شَرٍّ. (5) وَهَا أَنَا قَدْ نَوَيْتُ أَنْ أَبْنِيَ بَيْتاً لاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِي، كَمَا قَالَ الرَّبُّ لِدَاوُدَ أَبِي: إِنَّ ابْنَكَ الَّذِي يَخْلُفُكَ عَلَى عَرْشِكَ هُوَ يَبْنِي بَيْتاً لاِسْمِي الْعَظِيمِ. (6) فَأَرْجُو أَنْ تَأْمُرَ رِجَالَكَ أَنْ يَقْطَعُوا لِي أَرْزاً مِنْ لُبْنَانَ، وَسَيَعْمَلُ رِجَالِي جَنْباً إِلَى جَنْبٍ مَعَ رِجَالِكَ، وَأَقُومُ أَنَا بِدَفْعِ أُجْرَةِ رِجَالِكَ بِمُوْجِبِ مَا تَرَاهُ، لأَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ قَوْمِي مَنْ يَمْهَرُ فِي قَطْعِ الأَخْشَابِ مِثْلَ الصِّيدُونِيِّينَ». (7) فَلَمَّا سَمِعَ حِيرَامُ كَلامَ سُلَيْمَانَ، غَمَرَتْهُ الْبَهْجَةُ وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الْيَوْمَ الرَّبُّ الَّذِي رَزَقَ دَاوُدَ ابْناً حَكِيماً لِيَمْلِكَ عَلَى هَذَا الشَّعْبِ الْغَفِيرِ». (8) وَبَعَثَ حِيرَامُ إِلَى سُلَيْمَانَ بِرِسَالَةٍ قَائِلاً: «قَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى رِسَالَتِكَ وَسَأَعْمَلُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَغْبَتِكَ بِشَأْنِ خَشَبِ الأَرْزِ وَخَشَبِ السَّرْوِ. (9) سَيَقُومُ رِجَالِي بِنَقْلِ الْخَشَبِ مِنْ جَبَلِ لُبْنَانَ إِلَى الْبَحْرِ، وَيَرْبِطُونَ قِطَعَ الْخَشَبِ إِلَى بَعْضِهَا فِي حُزَمٍ ضَخْمَةٍ، يُعَوِّمُهَا رِجَالِي وَيُوَجِّهُونَهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُعَيِّنُهُ، فَيُسَلِّمُونَهَا لِرِجَالِكَ، وَعَلَيْكَ لِقَاءَ ذَلِكَ، أَنْ تُمَوِّنَ قَصْرِي الْمَلَكِيَّ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ». (10) فَكَانَ حِيرَامُ يُوَفِّرُ لِسُلَيْمَانَ مَا يَطْلُبُهُ مِنْ خَشَبِ الأَرْزِ وَخَشَبِ سَرْوٍ، (11) وَيُقَدِّمُ سُلَيْمَانُ لِحِيرَامَ كُلَّ سَنَةٍ لِقَاءَ ذَلِكَ، عِشْرِينَ أَلْفَ كُرِّ قَمْحٍ (نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلافٍ وَثَمَانِي مِئَةِ طُنٍّ) طَعَاماً لِقَصْرِهِ، وَعِشْرِينَ أَلْفَ كُرِّ زَيْتٍ نَقِيٍّ (نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلافٍ وَثَمَانِي مِئَةِ لِتْرٍ)".
تتضح خرافة الهيكل من خلال هذا العدد الهائل من العمال الذي بلغ 183300 عاملاً، والمدن التي أعطاها سليمان لأحيرام كلفة مواد بناء الهيكل التي بلغت عشرين مدينة حتى لو كان مقصوداً بالمدينة قرية- والمواد التي يزيد حجمها عن حجم الهيكل المشار إليه بأبعاده: 30×10×15، حوالي 4500 متراً مكعباً، أي أن كل 40 عاملاً اختصّوا ببناء متر مكعب واحد لمدة عشرة سنوات.
جاءت فكرة الهيكل تعبيراً عن النهم والجشع في بداية العصر الحديث، واستعيد اجترار الخرافة حين اكتشاف قارة أستراليا، وكان اكتشاف الجزر التابعة لها والبالغة قرابة 100 جزيرة، وتمثلت شراهة الرأسمالية في استحضار فكرة ذهب سليمان وكنوزه الخيالية، وهكذا جنح الخيال الرأسمالي الجشع إلى تأويل نصوص العهد القديم بخلق سردية عن كنز سليمان وعظمة هيكله/معبده كما نعرفها الآن، وأن سليمان زار هذه الجزر وبنى هناك هيكلاً من الذهب الخالص، وكان هذا مبرراً لإطلاق اسم جزر سليمان على هذا المكان.
أما من حيث التنقيب عن الهيكل فله تاريخ طويل، أوجزه بهذه السطور قبل البدء بمناقشة نص أحيرام ملك صور: بدأت أول ضربة معول أثري على بعد أمتار قليلة من جدار الحرم القدسي الشريف تحت إشراف (الضابط الانكليزي وارن 1867)، وصلت حفرياته إلى عمق 30 متراً، إلى أن تمّ الوصول إلى الطبقة الصخرية ومن ثم حفر نفق باتجاه الجدار للكشف عن أساساته. وأظهرت النتائج أنّ حجارة الجدار المكونة للأساسات، والحجارة الظاهرة فوق الأرض ذات مواصفات متشابهة من شكل وحجم ونقش وطريقة بناء.. وهذه النتائج تخالف الرواية التوراتية حول بناء الهيكل على مراحل ثلاث:
(الهيكل الأول: سليمان، الذي هدم أثناء السبي) ثم أعيد بناؤه.
(الهيكل الثاني: معبد زر بابل الذي أعيد بناؤه بعد العودة من السبي).
(الهيكل الثالث: الذي قام بتوسعته "هيرود\ حرد" في العصر الروماني)
كانت نتيجة هذا البحث الأثري أنّ الحرم القدسي تمّ بناؤه في القرن الأول ميلادي (في العصر الروماني)، وتبع هذا البحث بحوث أخرى، كان أخطرها أبحاث مؤسس علم الآثار التوراتي وليم فوكسويل أولبرايت، الذي سار على خطى وارن، وقام بحفرياته للوصول إلى الأساسات ليجدَ مكاناً لا تتشابك فيه الحجارة بالطريقة المعروفة بين الصفوف (المداميك) فوجد وصلة، كانت كافية للاستنتاج بأنّ هذه الوصلة هي النقطة التي تمّ من عندها توسعة (الهيكل الثاني) بعد العودة من السبي.