معين ربّاني
على امتداد أكثر من عقدين من الزمن، كانت شيرين أبو عاقلة، مراسلة تلفزيون "الجزيرة" المخضرمة، ثابتة في غرف الجلوس الفلسطينية والعربية. شجاعة، ومتعاطفة وذكيّة على حدّ سواء. كان سردها للتطورات في الأراضي المحتلة منذ نهاية التسعينيات - وهي كانت كثيرة - يشكّل ذاكرة فلسطينية جماعية عن تلك الفترة العصيبة، والأليمة في معظم الأحيان.
بالنسبة لشعبها، كانت واحدة من أبطالهم الذين باتوا نادري الوجود أكثر فأكثر، وكان قلبها بوضوح في الموقع الصحيح، وكانت تقاريرها موثوقة دوماً. وإعدامها بلا محاكمة من قبل الجيش الإسرائيلي، في مخيم جنين للاجئين، في الضفة الغربية، في الصباح الباكر من الحادي عشر من أيار/مايو، أحدث صدمة فورية، وحداداً، وحنقاً على المستوى الوطني وفعلياً، على امتداد المنطقة. على الرغم من أن إسرائيل قتلت خمسة وأربعين صحافياً منذ العام 2000، إلا أنه يبدو أن حالة شيرين أبو عاقلة قد حملت الأمر إلى مستوى جديد كلياً.
ليس هناك لبس في وقائع ما حصل، وهي واضحة كعين الشمس. في صباحها الأخير، ذهبت أبو عاقلة، إلى جانب العديد من زملائها، ويسهل التعرف عليهم كلهم بأنهم إعلاميون بشكل ظاهر، لتغطية الاقتحام الإسرائيلي المسلح الأخير في مخيم جنين للاجئين، وهو رمز الحرمان والتحدي الفلسطينيين. لم يكن هناك أي اشتباك، ولم تكن هناك مواجهات في المنطقة حيث استقر الصحافيون لتأدية عملهم، ولا بالقرب منها. من مسافة نحو مئة وخمسين متراً، أطلق قناص عسكري إسرائيلي متمرس رصاصة واحدة نحو المنطقة المكشوفة بين درعها الواقي وخوذتها. لاحقاً أصيب مراسل آخر، هو علي الصمودي، برصاصة واحدة في الظهر، وأيضاً - في إجراء أصبح تقليداً عسكرياً إسرائيلياً - أصيب أحد السكان الفلسطينيين الذي حاول نجدتهما.
ليس من الواضح إذا كان القناص قد تصرف بمبادرة فردية منه أو أنه كان يتبع تعليمات، أو إذا كان المسؤولون يعون هوية أبو عاقلة أو إن هدفهم كان ببساطة إعدام أي صحافي. ولكن، وكقاعدة، يطلق القناصون النار بعد حصولهم على إذن، وأبو عاقلة كانت شوكة في حلق الجيش الإسرائيلي منذ عقود، وهي أعربت من قبل عن قلقها من أنه يمكن أن يتم استهدافها.
ربما لعلمها أن أبو عاقلة هي مواطنة أميركية، لجأت إسرائيل إلى الأساليب المجربة والمعروفة للحد من الأضرار المتمثلة بالتضليل والتعتيم. زعمت بداية أن أبو عاقلة قتلت من قبل أحد "عشرات" المسلحين الفلسطينيين الذين كانوا يطلقون النار بعنف في محيط الحادثة، وعممت سريعاً مقطع فيديو لعدد من الفلسطينيين الذين يطلقون النار لإنهاء القضية. إلا أن مراجعات الموقع الجغرافي أكدت أنه، على عكس القناص الذي قتلها، كان أقرب المسلحين من المكان موجوداً في منطقة أخرى من المخيم، ولا ينقصهم المجال البصري فحسب، بل أيضاً الأسلحة القادرة على إصابة ثلاثة أشخاص مختلفين بثلاث رصاصات فحسب. والأهم من ذلك هو أن زملاءها الذين بقوا على قيد الحياة كانوا متأكدين أن من أطلق النار عليهم هم جنود إسرائيليون، كانوا يرونهم بوضوح، من دون إنذار أو تحريض.
دعت إسرائيل لاحقاً إلى تحقيق مشترك مع السلطة الفلسطينية، هدفه الأساسي هو متابعة دليل الرصاصة التي قتلت أبو عاقلة. إلا أن التحقيقات الإسرائيلية - التي يُعلن عنها روتينياً، ونادراً ما تنجز، ولا تكون شفافة أو محايدة على الإطلاق - رفضتها منظمات حقوق الإنسان حول العالم واعتبرتها تدابير رامية لضمان عدم معاقبة المجرمين، وعرقلة الخضوع للمحاسبة. ومع تقلص خياراتها، قبلت إسرائيل، بانتظار المزيد من التحريات، بأنها الآن غير متأكدة ممن قتل أبو عاقلة بالتحديد إلا أنها واثقة أنه لا يمكن أن يكون ذلك تصرفاً متعمداً من جيشها المحتل.
وفي ذلك اليوم نفسه، توفر مؤشر آخر أكثر دلالة على وحشية إسرائيل، المحسوبة والشاملة، إزاء أولئك الذين تجردهم من إنسانيتهم بصورة منهجية، وهو مبدأ من سياستها المتبعة. في مشاهد باتت مألوفة بطريقة منتظمة إلى حد مقلق في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، داهمت القوات الإسرائيلية منزل أسرة أبو عاقلة في القدس حيث كان يجتمع المعزون، معتدية جسدياً على عدد منهم وممزقة الأعلام الفلسطينية. والحدث لم يكن إلا نذيراً على ما كان سيحدث في جنازتها في 13 أيار/مايو في القدس.
كان موكب تشييع جنازة أبو عاقلة هو الأكبر في القدس الشرقية منذ دفن زعيمها السياسي فيصل الحسيني في 2001 في الحرم الشريف في ذروة الانتفاضة الثانية. وإذا كانت إسرائيل قد اختارت عدم التدخل حينها خوفاً من العواقب، إلا أن أفراد قواتها الأمنية تصرفوا هذه المرة كالمسعورين بطريقة كانت ستجعل بول كونور، قائد شرطة بيرمينغهام في ألاباما سيئ السمعة في الستينيات، المنادي بتفوق البيض، يشعر بالفخر.
منذ لحظة انطلاق الجثمان من المستشفى الفرنسي "مار يوسف" من أجل أداء طقوس الصلاة الأخيرة في كاتدرائية البشارة في المدينة القديمة، بدأ أفراد الشرطة بمهاجمة موكب الجنازة بصورة ممنهجة، ضاربين الموجودين بشراسة حتى حاملي النعش، ومطلقين الغاز المسيل للدموع وقنابل صوتية على الحشد الهائل من المشيعين، يشتدون هياجاً كلما رأوا علماً فلسطينياً - بما في ذلك العلم الذي أزيل بالقوة من على النعش. بثبات خارق، بقي نعشها بطريقة ما عالياً، مرفوعاً من قبل الذين جاؤوا لضمان أنها ستدفن بكرامة تساوي الكرامة التي كانت تضمنها لهم تقاريرها من دون أي تقصير. وفيما كانت الصور الصادمة تنقل حول الكوكب، كانت أبو عاقلة قد نجحت في موتها بكشف حقائق الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي، بالتأثير ذاته لتغطياتها عبر "الجزيرة".
حين وصل الموكب الذي تعرض للهجوم الوحشي من دون أن ينحني أخيراً إلى الكاتدرائية، طالب رجال الشرطة الإسرائيليون معرفة ديانة كل فرد من المشيعين، رافضين دخول المسلمين منهم في محاولة لإجهاض ما بات بلا ريب مناسبة وطنية. في حين سعت إسرائيل مجدداً لأن تفرّق لتسهل هيمنتها، قام قادة الطوائف المسيحية المختلفة في القدس، وهم الذين يحمون بشراسة في العادة تميزاتهم في أقدس المدن، وفي خطوة غير مسبوقة، بقرع أجراس كنائسهم في اللحظة ذاتها، تكريماً للأسطورة المقتولة. وكما هو متوقع، ادعت الشرطة الإسرائيلية ذلك المساء بوقاحة أنها تصرفت فقط "لكي تسير الجنازة وفقاً لرغبة الأسرة".
الحقيقة المرة هي أن العدالة لن تتحقق لشيرين أبو عاقلة في الظروف السائدة. وإسرائيل، الواثقة من تأييد الولايات المتحدة الفعلي، ومن القبول الضمني الأوروبي الذي لا يقل فعالية، محقة في اعتقادها بأنه يمكنها مواصلة القتل من دون عواقب. ستبقى حرة لا في استهداف الفلسطينيين العاديين فحسب، بل أيضاً الصحافيين والعاملين في مجال الصحة، ومن ضمنهم حاملي الجنسيات الأميركية أو الأوروبية. وتماماً كما أن "التحقيقات" الإسرائيلية تهدف لإجهاض أي محاسبة، كذلك هي تصريحات القادة والمسؤولين الغربيين - لا سيما تلك التي تجازف بحذر بالإشارة إلى أنها قتلت عوضاً عن "ماتت"، وقتلها قناص عوضاً عن "اشتباكات" - فهي تصريحات مصممة للاستعاضة عن، وليس ضمان، رد له مغزى. ضمن هذا المشروع الأوسع، ربما لن يكون دم أبو عاقلة على أيدي واشنطن ولندن وبروكسل بالمعنى الحرفي، إلا أن هذه العواصم مجتمعة حددت هدفاً على ظهر الصحافي المقبل الذي ستقتله إسرائيل قريباً.
حين كنت أعمل مع "الحق"، المنظمة الفلسطينية الرائدة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، في أوج الانتفاضة الشعبية بين 1987 و1993، كان لدى أحد أعضاء مجلس إدارتها المرموقين رداً مقتضباً ثابتاً يقوله كلما سُئل عن السفالة الأخيرة التي ارتكبتها قوات الأمن الإسرائيلية أو أعوانها من المستوطنين بحق الذين يحتلونهم: "همج". يبدو الوصف ملائماً بشكل خاص في ما يتعلق بإعدام شيرين أبو عاقلة ومحاولة تدنيس دفنها.
[نُشرت بالإنجليزية على جدلية. ترجمة هنادي سلمان].