اعتمد القاصّ رأفت حكمت شكل القصّة/القصيدة وتقنيّاتها في أغلب قصص مجموعته: "كأنّني كنت أحلم"، الصادرة عن دار الشارقة للثقافة إثر فوزها بجائزتها للعام 2020. ولا تبدو الكتابة عن هذا الصنف من القصص أمراً سهلاً، إنّما أحاول هنا كتابة ما أمكنني الخوض فيما اخترته من بين تسع عشرة قصة.
تتميّز القصص برمّتها بطروحاتها الجديدة، بالإيجاز وشدّة التكثيف بمثل ما يتكثّف النصّ الشعريّ. وفي تصويرها المتقن للمشاهد المدجّجة بالمعاني والدلالات، الانفعالات والتأمّلات. تسوقها لغة شاعريّة وتحلّق بها، حتّى أنّ فقرات عديدة تبدو كأنّها مقتطعة من قصائد. وتتسم القصص بالتخفّف من تراتبيّة السرد المعهودة، ومن ثقل تفاصيل الأحداث، ومعها تنتفي عناصر تشويقها، وذلك لصالح سرد جاذب لا ينفلت من أصابع الكاتب، ولا ينفلت منه اهتمام القارئ. سرد يتّسم بوضوح الرؤية ودقّة القول، بدءاً بالمقدّمات وصولاً إلى الخواتيم، مستنداً إلى تقنيّة الإخفاء المغوية، ليتوارى القول أكثر ممّا يفصح، مكتف بإشارة هنا أو دالّ هناك حيناً، تاركاً في السطور فجوات تثير القارئ وتدفع به لتحمّل مسؤوليّة ملئها. وحيناً آخر، يوغل في الإخفاء لدرجة معها يحرن النص في دوائر من التخمين عصيّة وشيّقة. إنّما أكبر هواجس رأفت حكمت الفنيّة يكمن في عرضه للنتائج، وصياغة الخواتيم/البؤر التنويريّة بالقدر الذي يضمن به استدامة إدهاش القارئ وبلبلته.
تجري الأحداث في أمكنة وأزمنة متنوّعة، تعيش فيها الشخصيّات، وفي فضاءات رمزيّة حيناً، وأغلب الأحيان فنتازيّة رحبة تصل حدّ الغرائبيّة مراراً، في تخييل باذخ ، فتبدو القصص كأنّما هي محمولة على أكفّ الأحلام. بينما تنتشل مضامينها من الحياة الواقعيّة مراراً، هذه التي عشناها وما نزال، وخبرناها جيّداً، وعلى وجه خاص، خلال الحرب السوريّة. لأغلب القصص حمولاتها الواقعيّة، فيها حكيٌ عن اليوميّ، في راهن إزاء شدّة قسوته ينغلق الأفق لحضور أيّ زمن مستقبليّ، ما يؤجّج أوار الرغبة في استرجاع الماضي، هذا الملتصق بالذاكرة أبداً، بل إنّه أحياناً، يصبح الملاذ الوحيد لتحمّل مرارة الحياة في البلاد وخارجها. وفي هذين الفضاءين، الواقعيّ والتخييليّ الفنتازيّ، تنتظم الحركة المتواصلة ما بين الخارج/ الموضوعي، والداخل/الذاتي بالتناوب ودونما انقطاع، وتتضافر مع الفلسفي والشعريّ والتأمّليّ بتناغم وحذاقة فنّيّة بادية. يؤطّر ذلك كلّه، وعيُ القاصّ وحرصه على أن يحفظ للسرديّة مكانتها.
"كأنّني كنت أحلم" عبارة اختارها الكاتب عنواناً عامّاً لقصصه، من دون أن يخصّ به قصّة بعينها، غير أنّ تلك العبارة ستُدرج لاحقاً، ومباشرة بعد خاتمة قصّة "مفتاح معدنيّ"، ففي القصّة يعود السارد إلى طفولته، إلى يوم وفاة جدّته، وكان قد شارك أباه في دفنها. بعد ذلك بخمس سنوات تندلع الحرب في البلاد، فتضيق المقابر، ولم يعد من متّسع لقبر العمّة المتوفّاة حديثاً. يفتي المشايخ بأن تدفن في قبر أمّها ذاته بعد إزالة ما تبقّى من عظامها وحفظها في مكان ما. يُفتح القبر، والصبيّ إلى جانب أبيه يراقب في خوف. إلى أن يصدمه اختفاء آثار الجدّة في قبرها، ولا شيء أبداً سوى بقايا الكفن، وكأنّما الجدّة بسنينها الاثنتين والتسعين لم تكن يوماً أبداً! وفي هذا، رؤية فلسفيّة تشير إلى أنّ في الموت الفناءَ التامّ. سيقول السارد بعد الخاتمة إثر صدمته باختفاء جثّة جدّته بأكملها:" كأنّني كنت أحلم." إلّا أنّ هذه العبارة في الحقيقة، وفي واقع طواف القصص في فضاءات موازية للشعر، تصحّ بعد خواتيم قصص عديدة أخرى، ولكانت ستنجدل بموضوع الموت أيضاً، الموت الحاضر مراراً بتجليّاته المتباينة تباين أسبابه. فإلى جانب الميتة الطبيعيّة للجدّة المسنّة في القصّة السابقة، ثمّة موت آخر سيحدث في قصّة "صندوق في غرفة الجدّة"، حيث يخبرنا السارد، المتكلّم بضمير الـ(أنا)، بأنّه بوغت بموعد لقائه مع الموت الذي حُدِّد له في الرابعة والنصف فجراً، فما من أحد أخطره بهذا الموعد مسبقاً. وهو الآن في غرفة جدّيه المتوفّيين تحوم حوله ذكريات الموت، أمامه ساعتان لتجهيز نفسه. لا يدري من رتّب له أشياءه، فيرتدي ما يراه لأوّل مرّة في الخزانة الفارغة، طقماً قديماً ربّما كان للأب، ويضع ربطة عنق بيضاء منقّطة بالأسود أخافته فقد بدت كما لو أنّها قدّت من سروال جدّته، وينتعل حذاء لا يليق بأيّ موعد، وجده في صندوق على سرير الجدّة! ثمّ يتجه إلى المقبرة، على بابها غراب يحرسها، يحمل بمنقاره عيناً زرقاء تنظر نحو القادم، ثمّ تحدث الخاتمة: "حلّق الغراب في عمق المقبرة بإشارة منه لكي أتبعه، وحين وصلت إلى حيث قادني، نعق بصوت مرتفع، فسقطت عين جدّي عند حذائي، وطارت فراشة منقّطة من قبر زوجته، وحطّت على كتفي، ثمّ جثوت على ركبتيّ أنتظر الموت لأقابله". أليس في ذلك كلّه ما لا يحدث إلّا في الأحلام؟ ولرأفت حكمت رؤية فلسفيّة أخرى للموت هي أنّ التوجّس من الموت هو شأن غريزيّ، أبطنها في قصّة "سياج"، حيث تأخذ الجدّة حبل السرّة الذي كان يربط المولود توّا بأمّه، وتلقي به، من فوق السياج، داخل المدرسة، على أمل أن يصبح الطفل معلّماً في المستقبل، تبعاً لإحدى خرافات الأزمنة الغابرة في القرية. سينتبه الطفل الذي كبر اليوم/السارد، إلى أنّ ما يفصله السياجُ عن المدرسة إنّما هو مقبرة! في حين أنّنا سنلقى سبباً للموت في قصّة "دبّوس"، يتجسّد في الخوف عامّة، فالخوف شعور فطريّ بالإمكان تشذيبه وتقليم أظافره، بيد أنّه هنا يصل إلى أن يكبّل السارد دوماً ويغلق أمامه سبل الطمأنينة. وما من حيلة بيد السارد للتخلّص من خوفه بغير قتله. ولن يحدث ذلك إلّا في المكان الذي يقبع فيه وبه يستبدّ، وهو جوّانيّة السارد، فيقتل هذا نفسه، ينتحر! لدروب الهجرة أيضاً دورها في إحداث الموت، الهجرة الجماعيّة هرباً من الحرب. كما يحدّثنا سارد قصّة "في صمت مطبق"، ويحكي عن رحيل بطل القصّة ومهجّرين آخرين كثر بحثاً عن أمكنة آمنة لا تطالها هذه الحرب. فلنتأمّل في هذه الفقرة:" من بين الجموع المهاجرة، فتاة صغيرة بعمر الحرب، دسّت يدها في برد يده، عينان واسعتان بلون الماء وشعرها قمح الشمال". ويصادف يوم رحيل بطل القصّة في يوم ذكرى ميلاده التاسع والعشرين. يقول السارد عنه في المقدّمة: "لم يودّع أحداً، ولم تكن هجرته أكثر من رحلة في المكان فقط، إذ يعيش الآن الوقت كلّه في ماضيه". وبعد عرض نتف من مآسي المهجّرين، يصوّر القاصّ في الخاتمة مشهداً كما لو أنّه يسرد حلماً: "ثمّ أفلتت "مَيْ" يدها من يده، وركضت لتلتقط حذاء أختها الذي سقط فوق حجارة الجبل ورؤوس كثيرة، وغابت خلف أمّها في العتمة، كأنّما وردة صغيرة ذبلت، لم يستطع أحد إنقاذها". حدث ذلك كلُّه في صمت مطبق! وفي قصّة "إسمنت مسلّح"، يرصد القاصّ تلك "اللحظة التي تفصل بين الحياة والموت". ففي يوم من شهر آذار، كان أهالي القرية يمارسون حياتهم الطبيعيّة، على الشرفات وفي البساتين. بغتة حدث أن توجّهت الأنظار كلّها إلى الأعلى، حيث: "سرب من الطائرات تحلّق في سماء شاحبة، خلفه حواّمتان مصفّحتان بالعسكر، لا تنذران بخير". فيا لتعاسة الأمّهات، وإسمنت البيوت: "مهما كان مسلّحاً، فلن يردّ عن عائلة موتاً كبيراً". لنشاهد في الخاتمة، كما لو أنّنا في كابوس، جميع الأهالي تحت الشمس الكاوية: "متكئون على حائط عال، يحملون ما ينقصهم من أجسادهم أشلائهم وينتظرون في طابور طويل. أحدهم خلف أحدهم، يحمل يدَه في يده الأخرى...خلف نافذة الدور الواسعة يقف الموت ويبتسم، إذ يناول أمّاً ثكلى كفناً أبيض نقشت فيه بقعة دم". موت آخر يتجلّى أيضاً جرّاء الاستبداد والقمع، في القصّة المرعبة والمدهشة "خيّاط الموت"، وفيها يخاطب السارد أحدهم مستخدماً ضمير المخاطب المفرد، ما قد يشي بأنّ السارد يقصد به: أنت، أيّها القارئ! يحكي عن أنّ هذا الـ"أنت"، تحاصره أصوات مختلفة يميّز من بينها صوت آلة خياطة تعمل، وصوت نقطة ماء لا تتوقّف عن السقوط في أذنه! لا يصرّح باسم المكان، إنّما يشير إليه من خلال باب حديديّ مهترئ موارب، وجدران امتلأت بكتابات مختلفة تُجمع كلّها على أنّ: "يداً سوف تطفئ ضوءك". وخيطان حمراء بيد خيّاط عجوز يخيط الأكفان، ثمّ صوت نقطة الماء الذي لا يتوقّف! لنفهم أنّ المكان هو زنزانة والـ"أنت" سجينها، وله من بين الأكفان كفنٌ! ليقول السارد في النهاية: "ثمّ يهوي بكفّ يده على قماش الكفن الذي يخيطه فوق الآلة، فينطفئ الضوء، ويبقى الماء يرنّ في أذنيك إلى الأبد". وفي قصّة سبب آخر للموت، هو الاستغلال الجشع للاستبداد "زورق على وجه الماء يحترق"، فالإعدام عقوبةٌ للمتمرّد الرافض لقطع الأرزاق، للخراب العميم، وللعبوديّة. عقوبة سيلقاها ملّاح شابّ أسمر شجاع رفض قطع حبال زورق الصيد خاصّته وسط العواصف، حبال تتآكلها الطحالب والمياه المالحة، على حدّ زعم رسول صاحب الميناء إلى الملّاحين، فيطلب إليهم استبدالها بأخرى ينتجها المصنع القريب الذي يديره صاحب الميناء! في صباح اليوم التالي، يحضر الصيّادون جميعاً، يقفون أمام المصنع حاملين حبال مراكبهم لاستبدالها: "بينما صاحب الميناء، يقف على شرفة عالية فوق باب المصنع، يبتسم، تتدلّى تحته في الهواء جثّة شابّ أسمر مشدودة إلى الشرفة بحبل مجدول تأكله الطحالب والمياه المالحة". أمّا في قصّة "هكذا هي الحياة" يكون الحبّ سبباً للموت. يختار العاشق موته بملء إرادته، لأنّه أحد ضحايا امرأة مغوية ساحرة. إثر فشله في نيل قلبها، يائساً يقلّ سيارة أجرة توصله إلى المقبرة، ليقول لنفسه في الخاتمة: "المقبرة صارت على يمينك، ترجّل، حان الوقت كي توغل في العتمة وحدك". ففي انعدام الحبّ تتسيّد الوحدةُ والعتمةُ الحياةَ كلَّها. كما يحدث لعاشقة أن خذلها حبيبها وتخلّى عنها، ليحلّ الموات محلّ السعادة وهناءة الحبّ، ليختم السارد بالقول: "التفتت إلى يسارها بكلّ حذر، إذ تناهى إلى أعماقها صوت رجل يضحك عالياً وهو يغادر، بعد أن رمى في قاع قلبها البئر كلّ المفاتيح التي يمكن أن تحتاجها امرأة خُلِعت أبواب جسدها". وذلك في قصّة "امرأة بلا أبواب". يتكرّر موضوع الموات في قصّة "سوق للخردة"، وفيها يقرّر السارد اليائس بيع قطع جسده الخردة ومقايضتها بزمن جميل ولّى، لا نعرف سبباً ليأسه هذا، إنّما يدلّ عليه قول السارد:" قدماي لا تصلحان للعودة، ولا تتذكّران الطريق". إذاً هو مخلوع عن أرضه، مهجّر بعيداً عنها!
أمّا قصّة "خرج ولم أعد" البديعة، فتبدأ مقدّمتها بتقنيّة الإخفاء، إذ كتب القاصّ على السطر الأوّل كلمة واحدة: "لذلك.."، تاركاً بقيّة السطر فارغاً من الحكي والتعليل، ليتساءل القارئ عمّا كان سابقاً، ليؤول الأمر إلى ما هو كائن الآن؟ لذلك.. اختار السارد/الأنا، أن يلعب بمفرده تلك اللعبة الموجعة، لعبة السجّان والسجين! كان قد جهّز لها منذ ثمانية أيّام، وفيها يتقمّص الدوريْن المتضادّين، وكلّ يمارس دوره على الآخر بإتقان؛ السجّان القامع المُعنِّفِ؛ والسجين المقموع المُعنَّف، وهذا رغم ردّه على شتائم سجّانه بشتائم مماثلة، إلّا أنّه مستسلم. إنّما هو استسلام إلى حين! سيهرب السجين، ويصدم السجّان! في الخاتمة، وقد انتهت اللعبة، يجلس السارد على حافّة السرير ليصرّح بما سيُجلس قارئه على حافّة الارتباك والتساؤل والتأمّل: "جلتُ بناظري في أرجاء الزنزانة، بينما أدير المفتاح في قفل الباب لأدخل، وأتأكّد أنّ اللعبة قد انتهت، لكنّني ما إن دخلت ضعت، واختلط عليّ باب الزنزانة بين الخارج والداخل. وها أنا ذا منذ ثمانية أيّام، أجلس على حافّة السرير محاولًا أن أتذكّر: من منّا الذي أكله الخوف!" ويصل تبلبل القارئ حتّى إلى الشكّ في الشكل الفنّيّ الذي صيغت عليه هذه القصّة! أهو الفنتازيّ فعلاً؟ أمّ أنّه الواقعيّ، وفيه يرصد واحدة من نتائج الاستبداد، هي إصابة الأفراد بالفصام؟!
يظهر الحلم لمرّة واحدة في المجموعة، في قصّة "صيّاد غافله النعاس"، إنّما الحلم لا يخصّ بطل القصّة، بل يخصّ شخصاً آخر حلم به، كما أخبره بنفسه. وهذا رجل ضخم صيّاد تمنعه من النوم مهمّتُه في المراقبة، مراقبة فرائسه. لكنّه هذه المرّة غافله النوم وأسقطه فيه ليرى بطل القصّة في حلمه النادر. وفي حقيقة الأمر، حسبما يشي به السرد، بأنّ بطل القصّة أغوته فكرة أن يكون بطلاً في إحدى الحكايات الشعبيّة التي يرويها الأهالي، فيخرج للبحث عن حقيقة هذا الصيّاد، رغم إدراكه لخطورة المغامرة، فما من أحد سبقه إليها وعاد. يحاول معرفة الإجابة عمّا يحدث. فيدنو أبعد ممّا تتيحه مسافة الأمان، هنا أيضاً يخمّن القارئ ما قد يكون حدث فعلاً، فما إن دنا السارد من الرجل الضخم، حتّى ابتلعه هذا، وبذلك دخل السارد إلى حلمه! في النهاية يستيقظ الصيّاد، وتخبرنا الخاتمة بأنّ: "الرجل الضخم، الذي بعين مفقوءة، تبدو مفتوحة تراقب آخر فرصة قد تنجيه من الجوع، التقطني بين إصبعيه كطعم، وثبّتني بخطّاف صغير عند آخر خيط الصنّارة، ثمّ بكلّ ما أوتي من قوّة رماني خارج حلمه". فمن هذا الذي الجائع دوماً ويفترس الناس؟ يقطع المياه عن الأهالي إشارة لجوعه؟ وهل تقول القصّة ليس كلّ من ينشد البطولة، تلك التي تتحوّل إلى أسطورة، سيلقاها، حتّى السارد الذي لم يكد يقترب منها حتّى لفظته من بطنها/حلمها؟! هي مجرّد محاولة لتفسير ما أخفاه القاصّ في هذا النصّ الجاذب بغرائبيّته المماثلة لغرائبيّة الحكايات الشعبيّة المتوارثة.
في النهاية، يجدر القول إنّ أيّة كتابة عن هذه القصص الغنيّة والممتعة حقّاً، للكاتب رأفت حكمت، وهو القاصّ والشاعر في آن معاً، لن تغني عن قراءتها، إطلاقاً!