هناك كتب معينة تَمْنح لدار النشر هويتها وانتشارها وتميزها، وتؤكد حضورها من خلال دورها في توسيع مدارك القراء وتعميق فهمهم لظواهر معينة. وهنا جوهر الفكرة وراء جائزة لاينغ للتميز في مجال النشر التي تمنحها دار نشر جامعة شيكاغو للكتب التي تحقق تميزاً وتوهجاً بين منشوراتها، وكانت هذا العام من نصيب كتاب عن سوريا، ألفته أستاذة العلوم السياسية، الأنثربولوجية والمؤرخة الثقافية ليزا ودين.
بعد حصوله على جائزة ٢٠٢١ لتحليل المفهوم في العلوم السياسية التي تقدمها الجمعية الدولية للعلوم السياسية، قسم المفهوم والمناهج، وبعد أن نال جائزة تشارلز تيلور للكتاب (٢٠٢٠) وهي الجائزة السنوية لمجموعة المناهج التأويلية لأفضل كتاب في المناهج التأويلية وجائزة أفضل كتاب في العلوم السياسية عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية، حصل كتاب الباحثة الأمريكية وعالمة السياسة ليزا ودين الصادر حديثاً عن منشورات جامعة شيكاغو، بعنوان "تخوفات سلطوية، الأيديولوجيا، الحكم والحداد في سوريا"، على جائزة لاينغ المرموقة التي تمنحها دار نشر جامعة شيكاغو. منحت جامعة شيكاغو الباحثة الجائزة في حفل خاص حضره عدد كبير من الأكاديميين والباحثين والصحفيين والكتاب والشعراء. تاريخياً، سُميت الجائزة على اسم الباحث جوردون جي. لاينغ الذي عمل كمحرر عام من ١٩٠٩ إلى ١٩٤٠، وأسس بقوةٍ شخصيةَ وسمعةَ منشورات جامعة شيكاغو على أنها الناشر الأكاديمي الأول في الولايات المتحدة الأمريكية، وتُمْنح الجائزة من خلال التصويت الذي يقوم به مجلس منشورات الجامعة، ولجنة من أعضاء هيئة التدريس.
هذه الجائزة التي تُمنح سنوياً تُقدم إلى مؤلف عضو في هيئة التدريس في جامعة شيكاغو، أو لمحرر أو مترجم كتاب نُشر في السنوات الثلاث الأخيرة وحظي بشهرة وبأهمية تزيد من تميز دار النشر.
قدم الجائزة للمؤلفة رئيس جامعة شيكاغو بول أليفيساتوس في حفل خاص في السابع عشر من أيار في قاعة الندوات في جامعة شيكاغو، في قاعة ديفد روبنتشاين التي تتوضع في بناء يتميز بطرازه المعماري الفريد، وما يمنح القاعة جمالية خاصة هي إطلالتها الساحرة على الحرم الجامعي كله وعلى أفق مدينة شيكاغو المعماري. قال رئيس الجامعة في كلمته إن جائزة جوردون جي لاينغ فرصة رائعة للاحتفاء بأعمال أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة والعلاقة الخاصة التي جمعتهم مع دار نشر (مطبعة) الجامعة لأكثر من ١٣٠ سنة، وأضاف قائلاً "أشعر بالسرور الشديد لتقديم أصدق التهاني للمؤلفة ليزا ودين التي تستحق بجدارة هذه الجائزة".
من جانبه، ألقى جاريت كيلي، الذي عين للمرة الثانية مديراً لمطبعة جامعة شيكاغو، كلمة قال فيها إن جميع العاملين في هذه المطبعة يشعرون بالفخر لنشرهم كتاب ليزا ودين، والذين يقدم دراسة عميقة ومتبصرة حول الاستبداد وبعض الاهتمامات الأكثر إقلاقاً لحاضرنا ومستقبلنا السياسي.
الأستاذة كريستين ميهرينغ، رئيسة مجلس منشورات الجامعة أثنت على المقدرات الأكاديمية البحثية العبرمناهجية للمؤلفة، والتي توسع حدود البحث في العلوم السياسية كي تشمل حقولاً كالإثنوغرافيا والإعلام والدراسات الفيلمية والنظرية الاجتماعية والممارسة الفنية، مضيفة أن كتاب ليزا ودين حول سوريا يساعدنا على فهم المركّب الأيديولوجي والعمليات الإعلامية التي غذت الحرب الأهلية والنظام الاستبدادي.
كان من بين الباحثين البارزين الذين حصلوا على الجائزة سابقاً إيف ل. إيوينغ وما يكي روسي وأدريان جونز وديبورا نلسون وأليسون وينتر وروبرت رتشاردز ومارثا فيلدمان وبرنارد إي هاركورن وفيليب جوسيت وبليو جي. تي ميتشيل.
في كلمتها التي ألقتها في حفل استلام الجائزة تحدثت الباحثة ليزا ودين عن ظروف تأليف كتابها، وكيف أن الكتابة الأكاديمية يمكن أن تكون مغامرة يقوم بها المرء لوحده لكنها في الوقت نفسه تعاونية، وفي هذا السياق شكرت المؤلفة أصدقاءها السوريين وكل الذين حاورتهم في الكتاب، والذين لولاهم لما وجد طريقه إلى النور. وأضافت الكاتبة أن كتابها يطرح السؤال التالي: كيف تمكن النظام السوري من أن يتحمل وطأة التحديات التي تجمعت ضده؟ وما الذي يقوله لنا المثال السوري عن إغواءات السياسة الاستبدادية بشكل عام أكثر؟
تضيف الباحثة أن مقاربتها لهذا اللغز المحير حددت أنماطاً جديدة من الاستدماج الأيديولوجي، مستعيرة هنا مصطلح ألتوسير، بتعبير آخر، حددت طرقاً جديدة لـ"استدماج" المواطنين داخل النظام الأوتوقراطي السوري. ويستقصي الكتاب من زوايا متعددة الأشكال المتنوعة وغير المتماسكة أو غير المتناغمة غالباً للخطاب التي ضمنت شراء المواطن كي ينضوي داخل أطر النظام الذي كان بحاجة للبقاء. وتعمل الأيديولوجيا من خلال الإغواء، مثيرة المحتوى الفانتازي بينما في الوقت نفسه تنفّسه وتخفّف من حدة التناقضات، تساعدُ في إدارة حالات القلق العامة والتضاربات الاجتماعية السياسية عن طريق تقديم آليات تسمح للتنافرات بأن تُحْتوى، أو يتم إبعادها أو التنصل منها.
ربما كان البعد الأكثر تحريضاً في حجة الكتاب حول الأيديولوجيا، كما أشارت المؤلفة في كلمتها، هو مقاربتها للتنصل. فقد لاحظ المنظّر المشهور أوكتاف مانوني كيف يعقلن الناس حيواتهم، مقرين ومتنصلين في الوقت نفسه. إن عبارة "أعرف على وجه اليقين ولكن مع ذلك"، تجسد هذا النمط من التنصل، الابتعاد عن المسؤولية التي لها معاني ضمنية بالنسبة للسياسة: وفي حالة سوريا يعمل التنصل عادة بهذه الطريقة: "أعرف على وجه اليقين أن النظام فاسد بشكل لا يمكن إصلاحه لكن مع ذلك نستطيع أن نبني منظمات مجتمع مدني ترعاها الحكومة تمكّن المواطنين بشكل حقيقي"، "أو أعرف على وجه اليقين أن العصابات السنّية لم تزر قريتنا في الليل لكن مع ذلك يمكنها أن تفعل ذلك"، أو حتى بين الناشطين العلمانيين في العامين الأولين من الانتفاضة: أعرف على وجه اليقين إن هناك متشددين إسلاميين عنيفين في أوساط المعارضة لكن مع ذلك ليسوا هم المشكلة في الحقيقة". ويتجاوز التنصل الإنكار من ناحية أن المشكلة التي تستدعي الحل هي على الأقل قد طُرحت. ففي التنصل تتوضح الأيديولوجيا، ويتم استدماج الذوات في موقف حيث الوقائع التي لم يعد بالإمكان إنكارها ما تزال مُنْكرة. بهذا المعنى يعبّر التنصل عن التناقض الذي يشجبه في الوقت نفسه.
أضافت المؤلفة أن الكتاب يحاول أن يظهر دور الأيديولوجيا في صقل انتماءات الناس، وهي لا تعمل من خلال التصديق المباشر فحسب بل من خلال آليات التصديق وعدم التصديق. يمكن أن تولّد الإيديولوجيا الولاء المطلق ولكن التناقض أيضاً. وفي سوريا، إن هذا التذبذب بين الرغبات بالإصلاح والارتباط بالنظام ساعد نظام الحكم على أن يعيد بناء علاقته مع الحكم وتدعيمها. غير أن الكتاب، كما ذهبت المؤلفة، أشار إلى منافذ الأمل والاحتمال الديمقراطي والحكم السياسي في قدرة الكوميديا على عدم التوقير وفي الجهود الفنية لتجاوز مأزق الأخبار المزيفة عن طريق خلخلة تقاليد صناعة الأفلام الوثائقية وفي صقل كرم تأويلي من خلال الممارسات الخيالية في التفكير التمثيلي. وهذه محاولات لابتكار اختلاف مغاير لسواد اللحظة الحاضرة.
يتألف الكتاب من خمسة فصول وفي كل فصل تدرس المؤلفة موضوعاً مختلفاً، لكن المواضيع مترابطة سياقياً وفكرياً. تدرس في الفصل الأول الأيديولوجيا النيوليبرالية وتقوضها وفي الفصل الثاني الفكاهة في الأزمنة المظلمة وفي الثالث اللايقين والأنباء المزيفة وما بعد الحقيقة ومسألة الحكم، وفي الرابع تدرس الوطنية والعاطفية والحكم (judgement) وفي الخامس الخوف والتوجسات الطائفية، وتقول المؤلفة في مقدمتها الخاصة بالكتاب إنها تدرس الأفلام والفيديوهات والمسلسلات التلفزيونية والتمثيليات الكوميدية وأعمالاً تلفزيونية أخرى للنظام ولمنتجين ثقافيين محسوبين على المعارضة، ليس كأدلة لتفسير نقطة فحسب، بل كي تفكر أيضاً عن طريق هذه المنتجات الثقافية ومعها. إنها تولّد أيضاً احتمالات لما تدعوه حنة أرندت "صناعة العالم"، والقدرة على البدء من جديد، وللتفكير والتصرف نقدياً، وللعمل وراء المرجعية أو بشكل يتجاوزها، لتشجيع وظائف الفن المثيرة للعواطف والأفكار والذكريات، والتعبير عن علاقة تعاون وليس مجرد جمع معطيات إثنوغرافية، كما أشارت المؤلفة التي تقول في الكتاب: "إنني أدعو هنا للتعامل مع بعض الفنانين السوريين كمنظّرين سياسيين مستقلين، كأشخاص أحاورهم لا بوصفهم مخبرين، بل كمنتجي أعمال تهدف إلى تقديم احتمالات لتوسيع فضاء اللقاء التأويلي من أجل أن نستكشف طرقاً للخروج من المآزق ونتوصل إليها جماعياً".
يدعو كتاب تخوفات سلطوية الباحثين كي يفكروا من منظار تاريخيٍّ ونظريٍّ أشمل بما تعنيه مجموعةُ الأحداث الإقليمية التي أُطلق عليها في البداية مُسمى الربيع العربي، والتي تسم هذه الحقبة. إن وضع العالم العربي داخل إطار تاريخي عالمي ضروري لأي تحليل صحيح لما أنذرت به هذه الأحداث، ويثيرُ فعلُ هذا أسئلةً محورية معينة في الفكر النقدي الحديث. ويحثُّ هذا الكتاب أيضاً على التفكير بما يمكن أن تعنيه مصطلحات مثل النيوليبرالية أو الأيديولوجيا أو الأوتوقراطية، ليس فقط كظواهر متأصلة أو متجسدة في لحظات تاريخية، بل كبناءات نظرية تحتاج إلى تفسير في سياق علاقتها مع القوة والسياسة والجمالية والذاتية والمعتقد، بحسب المؤلفة.
حظي الكتاب بثناء واسع في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، وقال خوسيه سيرو مارتينيث في دراسة حول الكتاب نشرها في "الملحق الأدبي لصحيفة التايمز" إن كتاب تخوفات سلطوية دراسة عميقة محرضة للفكر تجبرنا على سبر احتمالات الحكم السياسي في عالم لم تعد تثبت فيه الحقائق، ولقد ساعدتنا ودين على الإجابة على أسئلة محيرة وبينها لماذا قبل السوريون العاديون نظام بشار الأسد.