[حازم كمال الدين].
[حوار سوزان المحمود].
تجربة فنية فريدة متنوعة المنابع والمآلات، لا يمكن الإحاطة بها هنا لتعدد جوانبها، لذلك اخترنا الحديث عن أحدها فقط وهو الجانب المسرحي، ببعديه السردي (النص، الدراماتورغي) والحركي (ممثل، مخرج، دراماتورغ، سينوغراف،..)، يقول عنه الناقد المسرحي جف آرتس "حازم كمال الدين يسعى لإعادة الأصالة لوسائل العرض المسرحي، ويسعى لتفجير طاقة الممثل الداخلية - الخارجية، عن طريق تفكيك وتوحيد العلاقة بين العقل، العاطفة/الانفعالات والجسد. هذا البحث عن الوحدة يشكل عالماً من المعرفة ولغة مسرحية خاصة، طريقة أخرى للتخيل، وتطويع جديد للطقوس"، وتقول عنه الدراماتوغ البلجيكية إلزه هايب التي عملت معه لسنوات "في سلالم الصمت": ثمة بحث تجريبي لمنح الّلا مسمّى مكانة غير هامشية. فالممثل يبحث عن نموذج مبدع وأصيل للتمثيل، عن طرائق تمنح لغة الجسد أصالة غير شكلانية. لغة لا تحدّدها سلطة الكوريوغراف أو الميموغراف أو المخرج. لغة لا تحدّدها مساطر الأفكار. يقول A. Watts: إنّ (الجوهر والصعوبة أننا طوّرنا سلطة التفكير بسرعة وبطريقة أحادية حتى فقدنا إمكانية الربط بين الأفكار والأحداث، بين الكلمات والأشياء). نعم، فمتى ما تكفّ سلطة التفكير عن الهيمنة، يصبح اللا مرئيّ مرئيّا". وكتبت عنه الناقدة ليفه ديريكس (Lieve Dierckx): "بالنسبة لحازم كمال الدين تأتي الحركة في ذات المقام الذي تأتي فيه الكلمة".
وعلى مستوى السرد المسرحي تميز عمل حازم كمال الدين بتوليد النص المسرحي من داخل نصوص أخرى، "لا وجود للنص البِكر" بحسب رأيه، لكن المتن المسرحي (النص) عنده لا يتوقف هنا أو يأخذ صيغة نهائية، بل يتم تطويره مع الممثلين والدراماتورغ والسينوغراف، إذاً النص أيضاً كائن مرن ومتحرك تماماً كالممثل وككل عنصرٍ في العرض المسرحي. نحن أمام تجربة مسرحية زاوجت بين ممكنات الشرق الكامنة وتقنيات الغرب لتنتج مآلات فريدة صادمة للشرق وللغرب معاً.
هنا حوار أجريته مع الدكتور حازم كمال الدين حول تجربته المسرحية:
1. هل يمكنك أن تحدثنا عن بداية إحساسك بذاتك وأناك المغايرة للمحيط ولحظة وقوفك الأول على المسرح؟
هما لحظتان لوقوفي الأول على المسرح، لحظة افتراضية وأخرى فعلية.
الافتراضية حدثت يوم كانت خالتي (فاطمة كمال الدين) تُخرج مسرحية (بيت برناردا ألبا) في إعدادية البنات في بابل. في ذلك العصر دخلت معها قاعة التمارين المسرحية. ظلام كامل في الصالة وليس سوى بضعة بروجكتورات على المسرح. ممثلات يبكين وأم تصرخ وحبيبة ملوّعة، وكان يساعد خالتي في الإخراج (ياسين لطيف بربرن) ممسكاً بعصا ضارباً على أرض المسرح الخشبية ذات الرائحة الآسرة التي تفوح منها رطوبة الخشب راكضاً وراء الممثلات بالعصا والممثلات يتضاحكن كأن العصا وردة لا عصا للعقاب. في الاستراحة طلبت خالتي من الممثلات ارتداء الأزياء وعمل الماكياج وطلبت مني مساعدة البنات في غرفة الماكياج. هناك أسكرتني رائحة أدوات الماكياج وضحكات الممثلات وبطريقة غير مقصودة اصطدمت يدي بنهد إحدى الممثلات. غزاني في تلك اللحظة تيار لا تسمية له، وما أزال أشعر به حتى في هذه اللحظة وأنا أكتب هذا. انتهت الجنرال بروفه، وعدنا إلى البيت، خالتي وأختي وفاء (وكانت تمثل أحد الأدوار). في الطريق قررت لنفسي بأني أفضل ممثل مسرحي في العالم. لم أقل سأصبح أفضل ممثل. لا. قلت لنفسي أنا أفضل ممثل! مرّت أمامنا عربة بحصان تحمل بوسترا ضخما لمسرحية نسيت اسمها لـ (حكيم الجراح) فنظرت للبوستر بتعال وأنا أرى أني أفضل مسرحي في العالم.
الوقوف الحقيقي الأول على المسرح تمّ بعد سنة. انتقلنا من بابل إلى كربلاء. قدمنا مسرحية (الزمن) ولأني أفضل ممثل في العالم (بنظر نفسي) بذلت كل جهدي لإقناع المخرج/المؤلف (عادل ثابت) بذلك.. وقد اقتنع(!) فلعبت الدور الرئيسي. عند انتهاء العرض لم أعرف ما حلّ بي. ضجّت القاعة بتصفيق لا يتلاءم مع أعمارنا الصغيرة، ورأيتُ وَهمَ أني (أفضل ممثل في العالم) يتجسّد أمامي فعلياً. في اليوم التالي جاء من يناديني إلى الصف الدراسي ويخبرني بأن السيد لواء كربلاء (محافظ كربلاء) يريد أن يلتقي بي... أو هذا ما سمعته من شدة ضجيج اعترى رأسي. في الحقيقة طلب محافظ كربلاء جلب "الصبية الذين اجترحوا معجزة على مسرح الإدارة المحلية في كربلاء" هكذا نقلوا له الخبر.
في مركز المحافظة قادونا إلى مكتب المحافظ. طاولة منخفضة فائقة الطول مليئة بكل أنواع السجائر الموجودة في السوق آنذاك بما فيها سجائر (المزبّن) واللف. ترحيباً بنا سمح لنا المحافظ أن ندخن، وجلس جنبنا بعيداً عن مكتبه. أخبرنا بأننا (أحسن فرقة في العالم!!) وبأنه سيتصل ببغداد كي نمثل المحافظة في مهرجان مسرحي لم أعد أتذكر اسمه، لأننا لم نصل إليه أبدا. بقينا نحن الممثلون والمخرج ندخن سيجارة وراء أخرى عيوننا دائماً على أجود الأنواع، ولم نستخدم عود ثقاب، إنما بقينا نشعل السجائر من أعقاب بعضها البعض. ولأنني مأخوذ بفرح عارم وعدم تصديق ما يحدث كنت أنهي السيجارة الواحدة بربع الزمن الطبيعي لإنهاء سيجارة.
[حازم كمال الدين في عمر السادسة عشرة على المسرح].
2. عندما انتقلت إلى بلجيكا لم تهادن أو تجامل الغرب، ما الذي تقبله من الغرب وما الذي ترفضه؟
عندما أتحدث عن الغرب لا أتحدث عن الإنتاج الفني والأدبي، فإنتاجات الغرب على هذا الصعيد عظيمة كبقية الشعوب. اللا مهادنة هي علاقتي بالمبرمج الفني والأدبي (أسميه طبقة الشحم) ومهندس السياسة الثقافية والمؤسسة التي تنتج المبرمج والمهندس (أعني الجامعة). كان المبرمج الفني في تسعينيات القرن الماضي يخبرني بأن أعمالي المسرحية تستعصي على فهم المشاهد البلجيكي، وهو بذلك كان يلعب دور الناطق الرسمي باسم الجمهور. بعد حرب طويلة استخدمت فيها سلاحاً فتاكاً (عقدة الذنب المسيحية المتأصلة لدى الكاثوليك) لم يجلب لي الانتصار الحاسم، قرّرت أن أدير ظهري للمؤسسات التي تحرسها طبقة الشحم التي تمنع إنتاجي (الشرقي) من الوصول إلى الجمهور (الغربي). قدّمت مسرحية (ساعات الصفر) في صالون بيتي، واستخدمت الطقوس الشرقية كخدعة إكزوتيكية مزجتها بتقنيات غربية، ولم ينته الأسبوع الأول من عروض صالون البيت حتى ظهرت مقالات نقدية في الصحف البلجيكية الأولى ووصلت دعوات من المشاهدين لتقديم العرض المسرحي في بيوت الناس وفي شتى الفضاءات اللا مسرحية واللا مؤسساتية. بهذا رفضت المهادنة على تغيير هويتي القسري. ما ساعدني بشكل حاسم على النجاح هو (عقدة الذنب المسيحية المتأصلة لدى الكاثوليك).
[مسرحية "عند مرقد السيدة"].
3. تعمل في أوروبا منذ زمن طويل، لكن ما الذي قدمه المسرح للمجتمع في الشرق من حيث أتيت؟
رأيي الشخصي هو أن المسرح حالياً لا يقدم شيئاً للمجتمع. المسرح حالياً هو مجاميع صغيرة منعزلة تحاكي بعضها بعضاً وتلتقي في مناسبات معينة لتنظر لما تنتجه هذه المجاميع المتشابهة. في الماضي كان للمسرح دور اجتماعي وكان دوراً خطيراً. مثلا فرقتنا، فرقة مثل فرقة المسرح الفني الحديث العراقية. في سبعينيات القرن الماضي كان الجمهور يأتي إلى فرقتنا من شتى المحافظات العراقية البعيدة والقريبة وكان المسرح يتسبب في صداع الأنظمة حاله في ذلك حال الشعر في أربعينيات القرن الماضي.
في أوروبا المسرح يُعنى بالجمال. والجمال وظيفة اجتماعية لا ترفيهية، ولأن المسرح وليد عضوي في الغرب كبقية الآداب والفنون فإن علاقته بالمشاهد مختلفة عن علاقة المسرح العربي بالمشاهد العربي. التجريب في الغرب هو حاجة اجتماعية والجمال كذلك. المسرح في الغرب لا يخلو أبداً من الأفكار الكبرى والسياسة والأيديولوجيا، غير أن الفنان الغربي يتعامل مع هذه الثيمات كفنان وليس كسياسي، أو بالأحرى لا يعتبر نفسه مبشراً اجتماعياً أو سياسياً. من يريد أن يكون مبشراً في قضية ما توجد أقنية أخرى لفعل ذلك. في الستينيات ظهر المسرح السياسي والتسجيلي والتعليمي، لكن الشعوب الأوروبية استبدلت مثلا التعليمية بالمدرسة والوسائل التربوية الجديدة الجذرية. المعطى الأوروبي بسيط ولا يتطلب التعقيد: الفن لا يستطيع أن ينقذ العالم ولا أن يغيره. لأجل هذه الأهداف الكبيرة تحتاج إلى أنظمة ودول وأحزاب ونقابات وأديان، وغيرها.
[مسرحية "الموناليزا البابلية"].
4. نصوصك المسرحية تستنهض الينابيع البدائية لنصوص الذاكرة الجمعية الإنسانية القديمة في عقل المتلقي، الميثولوجية، والدينية، والحكايات الشعبية (كألف ليلة وليلة، وغيرها.) إلى الشفاهية المتوارثة من طقوس الأجداد، لِمَ ما يزال كل الموروث حاضراً داخلك، على الرغم من وجودك في الغرب منذ خمسة وثلاثين عاماً؟
هذا شكل من أشكال الدفاع عن الذات بوجه محاولات السياسات الثقافية الغربية التي لم تتوقف لتغيير الهوية قسراً. في البدء، أيام كنت في لبنان وسوريا لم يكن الأمر كذلك. فالبلدان قريبان جدا من الذاكرة الجمعية العراقية وذاكرتي الفردية. يوم وجدت نفسي محاطاً بمبان شاهقة كالحة (في تلك الأيام) في بلجيكا ولمست العزوف العام عن التعامل مع الأجانب (إلا من غيّر لونه) لجأت إلى ذاكرتي وطقوسي حمايةً لنفسي. وإبان تلك المرحلة التقيت جروتوفسكي ورينا ميريسكا وجان رينييه توسات ويان روتس فوجدت ضالتي فيهم، الأمر الذي عمّق دراساتي الطقسية النقدية.
[مسرحية "الحصار"].
5. أتساءل هنا عن المسافة القلقة بين الورق وبين العرض؟
لا توجد إمكانية للتخطيط على الورق ثم تطبيق ذلك على فضاء المسرح، ما يوجد على الورق يبقى كائنا افتراضياً يتغير نوعياً إبان تجسّده في العرض. تحدثت عن هذا في كتاب (بيت القصب) وضربت مثال الدودة التي تدخل شرنقة وتتحول بعد فترة إلى فراشة، النص والتخطيط على الورق هما الدودة والبروفة هي الشرنقة والعرض هو الفراشة الخارجة من البروفة. في أزمان سابقة كان المخرجون يطبقون تخطيطات على الورق ويكونون مؤتمنين على النص والتخطيط لكن أعمالهم لم تكن سوى تنفيذ ميكانيكي.
6. لحظة المسرح لا تتكرر أبداً ، هل يُصَعِب ذلك توثيقه، وربما يحافظ على طقوسيته؟
نعم لأن التقدم يضع الماضي دائماً في رفوف محددة، أنا شخصياً لا أنظر إلى ما فعلته في الماضي، والكثير من النقاد يسألونني لماذا؟ جوابي هو أن النظر إلى الماضي يشعرني وكأني أنظر في متحف. الالتفات إلى الماضي يجعل إرثي ثقيلا على الحمل، يؤدي إلى انحناء ظهري وشيخوختي. مقتل الفنان هو التشبّث بالماضي، بما فعل. ذلك يدفع الفنان للخوف من المغامرة غير المحسوبة، والإبداع هو الذهاب دائما إلى المجهول.
7. لكن ألا تعتقد أن النظر إلى الماضي يساعدنا على معرفة أين نحن بالضبط الآن؟
هذا مفيد لمن يريد أن يضع أقدامه على الأرض. بالنسبة لي، وبسبب المنفى، فقدت قدرة وضع قدمي على الأرض. لهذا أفضل الطيران. هذا مجاز من ناحية ومن ناحية ثانية هو اشتغال حرفي.
8. قلت مرةً إن العمل الإبداعي يشبه العلاقة الحميمة، يجب أن لا يتسلط فيه طرف على آخر، هل أعضاء الفريق المسرحي لديك شركاء حقيقيون ، ماهي أسرار العمل الإبداعي لديك؟
اشتغالي مع الممثل ينطلق من مبدأ أن لا مسرح بدون ممثل، ولكن يوجد مسرح بدون مخرج، بدون مؤلف بدون ديكور.. إلخ.
في البدء أشتغل لفترة شهر تقريباً مع طاقم العمل، ممثلات وممثلين ودراماتورغ وسينوغراف ومؤلف موسيقي. هذه المرحلة أسميها التعارف وفيها يستلم الممثل مواد محددة ومهمات محددة وتمارين محددة ويجلب أشياء محددة. وفقا لأنظمة ارتجال تعلمتها من أساتذتي، وكوّنت منها توليفاً يخصني يشتغل طاقم العمل كل في اختصاصه. هذه الطريقة تسمح لنا أن نتعرف على بعضنا البعض في ظروف عمل محددة أو في ظروف شخصيات محددة. هذه التمارين جزء مركزي منها جسدي، نفسي، خيالي، ذاكراتي، صوتي، وجزء منها تحليلي، إعرابي، حركي. هذه المرحلة أقودها بنفسي ودوري ليس دور الرب الأعلى، إنما دور المحرّض الإيجابي على اشتغال الممثل ودور الصديق العزيز أو الأخ، وفي هذه المرحلة أحقق ذلك ليس فقط عبر تمارين الجسد، إنما أيضاً عن طريق الاشتغال على النص المقترح أو الثيمة المقترحة أو الفكرة المقترحة. دائما ما آتي بنفسي بنص لي أو ثيمة أو صورة أو غير ذلك، وأثناء التحليل التفكيك اليومي للنص أحرّض الممثل على تمزيق ما أمامه، على تحطيم قدسية النص وأنا أكون أول من يمزق النص، وأنا أضع في الواقع أخطاء كثيرة وهوة هنا وخلل هناك (وهي عملية مقصودة) كي يتجرأ زميلي الممثل على إبداء الملاحظات وتغيير النص إلى ما يشاء. هكذا يكتسب الممثل في هذا الشهر مهارة أن يكون ملتزماً بالتمارين ومتمرداً على النص والقوالب المحيطة بالعملية المسرحية كالإضاءة المسرحية والموسيقى والسينوغرافيا، وغيرها.
في الشهر الذي يليه يصبح الممثل أكثر حرية، ويكون فيها دوري هو إعطاء مهمات تساعد الممثل في الارتجال، ويعاد النظر دائماً بالنص وفقاً لما يحدث في التمارين الارتجالية.. النص هنا يصبح ما يلائم لسان الممثل لا ما هو مكتوب على الورق.
في الشهر الثالث، وهو الشهر الإنتاجي نجمع كل المواد الارتجالية ونضعها في قالب بالتعاون ورقابة الدراماتورغ. في هذه المرحلة نفقد جميعاً حريتنا وتنهض حرية إيقاع الإنتاج. في هذه المرحلة أمسك بالأمور وأراقب عدم خروج الممثل عن ذاته وعن ما فعله في المرحلتين السابقتين وتطوير ما فعله ويفعله يومياً. هنا تصبح مهمة الممثل تطوير اشتغاله اليومي ويصبح دوري دور الناقد الذي يشير إلى الخلل ويشير إلى النفحات الإبداعية التي يخلقها الممثل.
[مسرحية "أورال"].
10. في عملك المسرحي تسعى جاهداً لإشراك المشاهد وتوريطه في العرض إلى أي مدى نجحت في ذلك؟
في عملي لا أسعى لتوريط المشاهد في العرض إنما أعمل على التواصل معه. لا أستطيع أن أطلق أحكاماً على النتائج، نتائج النجاح في هذا المسعى. ما يمكنني الحديث عنه هو تناول إحدى تجارب التفاعل مع الجمهور.
في مسرحية ساعات الصفر قدمت العرض المسرحي في بيتي، وحينما انتهى العرض لم يذهب المشاهدون إلى مقهى للدردشة والشرب وغير ذلك إنما بقي المشاهدون في بيتي وتوزعوا ما بين الصالون والمطبخ والحديقة. وعندما انتهى الليل أو شارف كانت هناك علاقات صداقة قد نشأت بين طاقم العرض والجمهور تطور فتحمس بعضهم لتقديم التجربة في بيته. شروطنا للموافقة على العرض هناك لم تكن دفع سعر ليلة العرض المعروفة في بلجيكا، إنما استضافة طاقم العمل وجلب الجمهور بأنفسهم وتحديد فضاء العرض الذي يرتئيه الشخص الذي يضيّفنا.
في العروض اللاحقة تطوّرت العلاقة بيننا وبين مضيّفي العرض ليصبح المضيّف أو المضيّفة جزءا عضوياً من العرض المسرحي. على سبيل المثال في بيت قروي أحالت المضيفة وزوجها صالون بيتهما إلى فضاء شرقي/استشراقي فما كنا منا إلا أن بقينا في ذلك الفضاء أربع ساعات كي نصغي للفضاء ولا نحوّره إلى مآربنا المسرحية. هكذا تعاملنا مع تسلسل الفضاء وأعدنا ترتيب المشاهد المسرحية وفق تسلسل الفضاء. في مركز ثقافي في مدينة لوفان قالوا لنا ما رأيكم بمخزن التلفزيونات فذهبنا هناك، وبعد دراسة الفضاء قررنا أن يصبح جزء من التلفزيونات كراسي جلوس للمشاهدين، وربطنا جميع التلفزيونات بجهاز فيديو وكاميرا فيديو. سجّلنا مشاهد مسرحية وصورنا الجمهور وأعدنا بثها على تلك التلفزيونات فكان أن أصبح الجمهور جزءاً من أحداث المسرحية والمبرمج الثقافي سينوغرافا. إحدى الكاتبات البلجيكيات طلبت منا أن نقدم العرض في المطبخ فتعاملنا مع أدوات المطبخ باعتبارها سيوفاً وعصياً وغير ذلك. رئيس قسم المسرح في الجامعة طلب منا أن نتخلى عن القسم العنيف في المسرحية ونبقي على الجزء الشاعري فقط، فما كان منه إلا أن تحول في تلك الليلة إلى دراماتورغ. في فضاء ما اشتغل المضيّف معنا كموسيقي، وفي آخر أصبحت المضيّفة ممثلة داخل العرض.
كل هذا كان مؤسساً على علاقة خاصة بالعرض: كان الممثلون يتعاملون مع المشاهدين باعتبارهم ممثلات وممثلين. في مشهد حب يتعامل الممثل مع إحدى المشاهدات باعتبارها الشخصية المسرحية. وفي مشهد ينسى ممثل حواره فيساعده مشاهد.
[مسرحية "عند مرقد السيدة"].
1. قلت مرةً ما معناه "إن الجسد هو الحصن الأخير للإنسان"؟ بينما يقول الشعراء إن اللغة هي الوطن "الملاذ"؟
كنت أحكي عن المنفى. حين يقتلع الإنسان من جذوره أو يقتطع نفسه ويختار المنفى يجد نفسه (أنا في هذه الحالة) في حالة خارج الجاذبية وخارج الزمن. بالملموس أشعر أن الأرض التي أنتمي لها اختفت، وكل أرض هي وهم جديد. كثيرون استطاعوا أن يتعايشوا مع المنفى. أنا لم أستطع! ولذلك بقيت كل أعمالي (حتى الآن) تتناول الأرض الأولى. دفاعاً عن تلك الأرض التي لم يعد لها وجود بالنسبة لي. لم يعد ثمة أرض أركن إليها ماعدا جسدي. جسدي هو الشيء الوحيد الذي يحميني وأحتمي به. ما يقوله الشعراء والمسيحيون (في البدء كانت الكلمة) صحيح في السياق المهني. اختلافي عن الشعراء أني أعيش تجربة المنفى الملموس، وألوذ بجسدي حماية له ولي، وهذا هو أحد الأسباب التي دفعتني لاختيار دراسة مسرح الحركة والطقوس والتبحر في الجوانب المعتمة داخل الإنسان.