كاميليا الأرياني وروس بورتر
في العام 2021، حلّت الذكرى العاشرة لـ"ثورة الشباب اليمنية" الشعبية السلميّة. وتميّزت تلك السنة بصدور ونشر عدد كبير من التعليقات البحثيّة والصحافيّة التي تكوّن خلاصات عن فشل أحداث الربيع العربي أو نجاحها. في الحالة اليمنية، كانت غالبية تلك الخلاصات تتحدث عن فشل ذريع. هناك تحوّل الاحتجاجات السلميّة في 2011 إلى عنف غير مسبوق لاحقا في 2015، وانهيار الحركة الثورية، وتشكيل جيوش متنازعة، وتزاحم عدد هائل من السلطات الاستعمارية في شبه الجزيرة العربية على الهيمنة على البلاد. بطرق شتى، ذلك هو جوهر حكاية مأساة ثورية: السعي والفشل، واستسلام مثل عليا في مواجهة الواقع، وظهور الاستبداد مجددا. ومع ذلك، وإذا توقفّنا لمراقبة كيف أحيا الثوريون في اليمن ذكراهم العاشرة، تظهر في الصدارة صورة ثورة تتحدى السرديات السائدة عن نهايتها. في خضّم حرب خطفت أرواح نحو ربع مليون إنسان، سمعنا كلاما عن فترة جميلة في 2011، وعن الاستقامة وأخلاقيات نموذجيّة خالدة؛ وعن حدث سيعود جوهره للتبلور من جديد. وإلى جانب هذه الاحتفاءات، سمعنا أيضا اتهامات بالخيانة، وبالتخاذل، وبثورات مضادة وأخرى معدّلة، وبنخب منتفعة استغلّت الوضع. في هذه القطعة القصيرة، المبنية على العمل الميداني خلال السنوات الأولى للحدث، وعلى مراسلات حديثة مع أصدقاء من الثوار، وعلى أفكار نشرت إحياءً للذكرى، نقترح أن آثار هذه الثورة مستمرّة على مستويات متعدّدة، من الذات الفردية وصولا إلى الخلاف ذاته الذي أسس لقيام الحرب الحاليّة. ومع اقتراب ذكرى سنوية جديدة، نقترح أن ما اندلع قبل عشرة أعوام يستمر في تحدي أي خاتمة.
جمال وحنين
في مطلع شباط\فبراير 2021، في مدينة التربة في محافظة تعز، احتفل تجمع صغير يتألف من بضع مئات من الأشخاص، بالنزول إلى الشارع. كان في الأمر تغاض واضح، في ظل حرب وحشية مستشرية منذ سنوات، أسفرت عن مقتل مئات الآلاف من الأشخاص جراء القذائف والرصاص والمرض والمجاعة. مشى أفراد العائلات في شارع جمال، يدا بيد، فيما أولادهم يلوّحون بالبوالين ورايات يمنيّة صغيرة. وكان من بينهم شبّان وشابات كانوا أطفالا حين اندلعت الثورة قبل عشرة أعوام. واندفع بعض الجنود، المجازين من الجبهة، يمشون إلى جانب "الشباب"-أي الرجال والنساء الذين أطلقوا الدعوة لإسقاط النظام في 2011. والاحتفال بحدث يحمّله كثيرون مسؤوليّة الكارثة الحالية لم يمر مرور الكرام عبر وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الذين شجبوا تمادي الثورة. وفيما كانت المسيرة تتلاشى، صودر ميدان عام قريب لإحياء الذكرى: دارت أحاديث عن ماضي الثورة وحاضرها ومستقبلها، واستعادات لكل ما أنجزته، وتصريحات حول استمرارها. مع حلول المساء، غطت الألعاب النارية السماء، وعملا بالأعراف، قام جندي بإضاءة شعلة الثورة. ثم أعلن، أمام الكاميرات التلفزيونية والحشد الصغير الموجود، إخلاصه للثورة، مستذكرا تضحيات الشهداء، ومسترجعاً أسمى الإنجازات الثورية، المحتضرة منذ زمن- حين قام جنود مثله بمواجهة آلة الحرب التابعة للنظام وهم عزّل في التظاهرات، يواجهون طلقات النظام بصدورهم العارية.
قام شباب ثوريون سابقون في مختلف أنحاء البلاد وفي المنفى بالاحتفال بالمناسبة منفردين، ناشرين صورهم وهم أصغر سنا على "فيسبوك"، وهم يجلسون في الخيم في المعسكرات الثورية السابقة، أو يمشون في الشوارع، باسمين دوما. وطغى الثناء على التعليقات الواردة (على المنشورات الإلكترونية) والمشيرة إلى "الأيام الجميلة" وإلى الثورة "الحقيقيّة" و"المجيدة". واستذكروا، احتراماً كل منهم لذاته ولبعضهم البعض، "حسهم المدني"، وكيف اتحد خصوم سابقون اعترافا بوجود عدو واحد مشترك (نظام الرئيس علي عبد الله صالح، 1978-2012). واعتبروا أنه كان حدثا للتوكيد على الحياة، حدث فاضل بالفطرة، وسيتعافى في الوقت المناسب. وعلى الرغم من أنه كانت في استعادة الحدث درجة معينة من السرور، إلا أنّها كانت تخفي في الوقت ذاته قلقا مؤلما من مرور الزمن ومن محدودية مسار الحياة البشرية. وحملت رسالة من صديق تشكيكا في إمكانية الاتحاد مجدّدا بالطريقة نفسها، في تلميح يائس إلى حال التشتت والانقسام الحالي بين الأصدقاء والرفاق القدامى الذين جمعتهم المعسكرات الثورية.
وشدّد منشور آخر تمت مشاركته على مواقع التواصل الاجتماعي، على أهمية رواية المفاصل البارزة للمقاومة. وأفاد أنه يجب تسجيل كلّ تفصيل من تفاصيل الثورة، من الهتاف الأول "سلميّين!"، إلى الخيمة الأولى التي نصبت، إلى الشهيد الأوّل، والصلاة الجماعية الأولى. واستذكر (المنشور) المجازر في المعسكرات باعتبارها تعكس تلاقي نقاء التضحية مع إبداع السياسة. وذكّر بـ "مسيرة الحياة" الأولى-وهي عبارة عن عملية خروج جماعي على امتداد 250 كيلومترا من ميدان الحرية في تعز إلى ميدان التغيير في صنعاء في نهاية العام 2011- على أنّها الرحلة "المقدّسة" للمقاومة التي سعى "الشباب" من خلالها لإنقاذ الثورة من مكائد الأحزاب السياسيّة (لاسيما "الإصلاح" أو "التجمع اليمني للإصلاح")، والوفود الأجنبية (الأممّ المتّحدة ثم السفير الأميركي).
ودعا المنشور إلى كتابة كل تفصيل من تفاصيل المسيرة، مهما كان صغيرا: كيف تم التخطيط لها، وكيف عبروا الجبال على الأقدام ليلا نهارا، وماذا أكلوا، وعما تحدّثوا، وكيف استُقبلوا على امتداد مسيرتهم، ولحظة نزولهم إلى صنعاء حيث واجهتهم نيران الرشاشات في شارع السبعين. وشدّد المنشور الإلكتروني على أن "تذكّر مسيرة الحياة يعني حفر مكانتها في تاريخ ثورة 2011، كونها، في آن، فعلا ثوريا متواصلا ومصدر وحي للأجيال والثورة الآتية."
النقاء والخيانة
تنبع التصريحات المتسمة بالمبالغة في تلميحها إلى نقاء الماضي من عذابات (حالية) غير مسبوقة. فغالبية الشباب الذين اعتبروا الذكرى العاشرة فرصة لمشاركة الذكريات عن حدث ضاع منذ زمن طويل، أمضوا السنوات الأخيرة عاطلين عن العمل، في المنازل، معزولين، وأهدافا، هم أنفسهم، لثورة فرعية عصفت بالبلاد في 2014. وبالنسبة لهؤلاء الشباب، فإن ما حدث في 2014 هو فعل خيانة، مع تحالف واضح مع الصفوف المتصدّعة في المعسكرات الثورية، لإقالة الحكومة الانتقاليّة، ونشر العسكر على امتداد البلاد، وتقديم مصالحهم على مصالح الشعب. وفي خلال أشهر من بعد الاستيلاء على السلطة، قام تحالف من 22 دولة بقيادة كل من السعودية والإمارات، بالإضافة إلى الحكومة الانتقالية، بالرّد باستخدام قوة عسكريّة كاسحة. وكان الثوار الجدّد، المعروفين باسم "أنصار الله" (وغالبا بالحوثيين)، قد ظهروا كحركة لإعادة إحياء الزيديّة في الثمانينات، لمواجهة التفرقة الدينية والسياسية التي مارسها (ضدهم) نظام صالح والهيمنة السعوديّة. وبالنسبة لهم، فإن الثورة الجمهورية في 1962 التي أطاحت بالإمامة الزيديّة، تحوّلت إلى ذريعة لإبعادهم عن الحياة السياسية ككل. خلال الثورة، كان الثوريون يشتبهون بأن لخصومهم-وكثير منهم يدّعون اليوم أنهم كانوا من الثوار- يد في تحويل مسار الأحداث لمصلحتهم. أمّا خارطة الطريق النهائية الناتجة عن مؤتمر الحوار الوطني في 2013-2014 -وهو حدث هلّل له موفد الأمم المتّحدة معتبرا أنه "حل سياسي" للخلافات والانقسامات العديدة في أنحاء البلاد- فقد اعتبر الثوار (هم وفصائل أخرى مثل "حركة استقلال الجنوب") أنّ كلامها عن "إنقاذ اليمن" هو مخطط للتخلي عن جهودهم الثورية وتضحيات شهدائهم، عبر تقييدهم بحياة من الحرمان الاقتصادي القسري ضمن التقسيمات الاتحادية المقترحة حديثا. أيا كان فعل الخيانة الذي يختار المرء تصديقه، فإن معظم اليمنيين اليوم يعانيون من وحشية حملات القصف السعودية التي بدأت في 2015، والتي لا تستهدف الثوار وحدهم بل البنى التحتية الأساسية التي تجعل الحياة ممكنة. وكثيرون ممن يدينون الحملة السعودية يدينون في الوقت ذاته استبداد "أنصار الله" الذين يفوق احترامهم للطائرات المسيّرة التي تحوم فوق رؤوسهم، مدى احترامهم لحياة البشر وللاختلافات البشرية.
ومن بين الشباب الثوريين الذين بقوا في اليمن حتى اليوم، يمضي الكثيرون وقتهم وهم يصبون جهودهم على تغذية صورهم السياسية الرمزية في وسائل التواصل الاجتماعي. في المقابل، يشعر آخرون أن ظروفهم رمتهم في الميادين، وقادتهم إلى الجبهات التي لم يتخيلوها يوما لهم. ويتحسّر طالب من المعسكرات الثورية في صنعاء على اللحظة التي أصبح فيها جنديا مشردا متنقلا بين الخطوط الأمامية في الضالع في سبيل "الشرعيّة" (أي الحكومة الانتقاليّة)، مدفوعا بالتزام أخلاقي لحمل السلاح بعدما دمّر أنصار الله منزل أسرته. وهو يعي التناقض الصارخ بين من كان عليه وبين من صار عليه، ويريد للناس أن يعرفوا أنه لم يكن لديه الخيار. بالنسبة لآخرين، لم يكن الانضمام إلى الجيش ناتجا عن عقيدة أو محنة شخصيّة على قدر ما كان سببه ضرورة تأمين دخل في ظل اقتصاد حرب. ووجدت أقلية ممن يملكون المؤهلات اللازمة وظائف في منظمات إنسانية، وأعاد آخرون صياغة أنفسهم متحولين إلى محلّلين سياسيين ضمن مجموعة شاملة من الخبراء. ونجح البعض في الفرار من البلاد إلى القاهرة، حيث يساعدون في نقل جرحى الحرب بين المطار وبين المستشفيات المحليّة. وهرب آخرون إلى قطر حيث لديهم أقارب، أو إلى إسطنبول حيث يديرون محطّات تلفزيونية ثوريّة. وغادر البعض إلى موسكو، أو القرن الإفريقي، والبعض إلى شرقي آسيا، فيما عبر آخرون الصحراء الكبرى للحاق بزوارق تبحر من الشواطئ الجزائرية باتجاه أوروبا. بالنسبة لكثيرين، فإن وضع "اللاجئ" أصبح تصاعديا. فالنزوح لا يشمل فقط المتنقلين، العابرين للقارات، أو من ينتهي بهم المطاف في مخيمات النزوح الداخلي. فحتى الذين بقوا، يعيشون نزوحا وجوديا، إذ يجد الثوار السابقون أنفسهم اليوم بلا مكان أو هدف ضمن واقع بائس.
في سعيهم لإجراء جردة حساب للاضطرابات الحالية، وجد العديد من الشباب بعض المواساة بالتمييز بين "أخطاء" ثورتهم و"خطاياها". وأحد هذه "الأخطاء" هو أن الثورة لم تندلع مع اكتمال شروطها الذاتية، بل تطلب اندلاعها دفعاً وفّرته الأحداث في كل من تونس ومصر. وعلى سبيل المثال، تعرب إحدى الرسائل المنشورة الكترونيا عن الأسف لأن الثورة لم تكن "يمنية الأصل"، بما يوحى بغموض بأنه كان يُفضّل أن يكون التحرك أصيلاً. ويتلاقى هذا الإيحاء، عن غير عمد، مع إصرار الرئيس صالح في أوائل 2011 على الاستثناء اليمني: إن اليمن يختلف عن جاراته وأن أي اضطراب سوف يُعزّز النزعة الطبيعية لاندلاع حرب أهلية. والخطأ الآخر يتعلق بالبراءة الشديدة للشباب الثوري، مما جعل من المعسكرات ساحة قابلة للاستغلال من أجل المنافع الخاصة للأحزاب السياسيّة والأفراد الفاسدين. أما الخطيئة فجاءت من عالم النخب المنحازة للسلطة السياسية والتي عزلت الثورة. ويذكّر الشباب منتقديهم بأنهم ليسوا من دفعوا باتجاه مبادرة انتقال السلطة التي منحت الحصانة لصالح، وليسوا من قام بدعوة تحالف عسكري يتألف من 22 دولة إلى أرضهم، كما أنهم ليسوا من تواطئوا مع أنصار الله. ومع ذلك، استمر العديدون في منح ثقتهم للنخب السياسية، حتى وإن كان لدى البعض منهم ارتباطات قديمة بالنظام السابق. وهم لا يرون أن ذلك يتناقض مع قيمهم الثوريّة.
وعلى الرغم من هبوطهم إلى تصنيف الخطايا بسبب فعل الخيانة الكبير الذي ارتكبوه، إلا أن أنصار الله لم يسمحوا للذكرى العاشرة أن تمر من دون احتفال. فهم أيضا احتلّوا ميادين الثورة، وقدموا حصّتهم من الشهداء، ومشوا عبر شوارع العاصمة مستحضرين إرادة الشعب ومحتفين بتحضّر الرسالة الثورية. وعلى الرغم من غياب الاحتفالات في شوارع صنعاء، إلا أنهم استذكروا عبر محطتهم التلفزيونية أحداث 2011 من منظار معادي للإمبريالية. وكانت الذكرى العاشرة مناسبة ليذكّروا أنفسهم وأعدائهم كيف قامت كل من واشطن والسعودية والنخب اليمنية المرتبطة بأحزاب المعارضة بمصادرة الحدث من أجل مكاسبهم الشخصية. وذكّرونا أن مبادرة انتقال السلطة ومؤتمر الحوار الوطني الناتج عنها إنما كانت ترمي لتكريس الهيمنة الاستعمارية على اليمن. ومن بين هذه الاستحضارات استخلصنا رسالة إضافية، مضمرة، مفادها أن: فلنبذل أقصى جهدنا لضمان أن ماضي الاستبعاد السياسي لن يعيد نفسه. وأكد التقرير التلفزيوني في الخلاصة أن ثورة فبراير 2011 أنقذها "الشعب" في أيلول\سبتمبر 2014. بالنسبة لأنصار الله، فإن الحرب الحالية تدّل على أن الثورة لم تنتهِ.
البراءة والتغاضي
فيما كان الشباب يحتفلون بحدثهم الجميل، كانوا يعرفون أن الكثيرين يحمّلونهم المسؤوليّة المباشرة عن الحجم الهائل للمعاناة التي تكتسح البلاد اليوم. ولا يهم كثيرا إن اعتبروا أن حدثهم صودر أو تعرّض للخيانة. يبقى إنهم هم من أطلقوا هذا المسار عبر زعزعة نظام قائم ولو كان نظاما سلطويا. أمّا المقيمون في الشتات فيعرفون أنهم حين يكتبون عبر مواقع التواصل عن نقاء ثورتهم، سيواجهون حتما تعليقات تتهمهم بأنهم يتمتعون بامتيازات مادّية، ولا يعانون مثلنا، وبعدم الاكتراث، وبالانغماس في الذات، وبالحماسة العمياء. بالنسبة لمن يدينون الثوّار، فإن ما حدث في 2011 كان نكبة. مثلا، وردا على رسالة عبر وسائل التواصل تشيد بالفعاليّة الثورية وتقدمية مؤتمر التربة، سأل رجل بوضوح "ولكن هل يتقبّل المؤتمر النقد الذاتي"؟
وكلما اشتّدت شراسة النقد، زادت شراسة مزاعم البراءة، بدا الحدث أكثر نقاء. ويزدري الشباب أنصار الله بسبب فعل الخيانة الذي ارتكبوه، إذ جلسوا معهم في الخيم يتحدثون اللغة الثورية ذاتها فيما هم يتآمرون (يخطّطون) للتخريب. وهم يرون أن انتصار هذا العدو هو انتكاسة-عودة إلى عصر من التخلّف والاستبداد، من مخلفات الإمامة التي انطلقت ثورة 1962 في وجهها. ويمتزج الكلام عن الانتكاسة مع مخاوف من "أشباح صالح" الذين يحومون في الحاضر، رافضين السماح بنهوض "اليمن الجديد" من بين الأنقاض. وينشر الشباب مقالات في صحف الكترونية تسعى لتذكير كل من يبدي شعورا من الحنين للنظام والقانون في عهد صالح، أن الحياة قبل الثورة كانت "مسدودة"، مع استحالة التحدث عن أي نوع من أنواع التقدمية.
بالإضافة إلى رسائل تذكيرية بحدثهم المجيد- المتمثل بمسيرات نموذجية أخلاقياً تجوب شوارع صنعاء محاسبة الفاسدين والمفسدين، ويتسم المشاركون فيها بالكرامة قولاً وفعلاً، متحدّين كل الذين يهددون اليمن الذي في تصورهم-نجد إعلانات جريئة بأن "الثورة مستمرة"! وبالتالي، تظهر نزاهة الفرد الثوري الأصلي وقد بقيت سليمة تحت أنقاض المعركة المرعبة والدامية- إذ أن الثورة كانت ومازالت "ثورة سلمية لا تحمل السلاح، بل وردة الحب وحمامة السلام، وتغني أغنية الوطنية والحرّية"، كما يشرح أحد الناشطين. ويجد آخرون ملجأً في الاعتقاد بأن الثورة أعادت صياغة نفسها على أرض المعركة ضمن استمرارية سَلِسلة انطلقت في 2011. هناك ميزة للعنف. ويرافق مزاعم الصمود والتأقلم الثوريين، إشارات عَرضية إلى تصورات مثالية (مسيحانية) بدولة مدنية مستقبلية تستعيد الحدث الجميل. وتتقاطع أصوات أخرى قائلة: "لقد انكسرنا لكننا غير نادمين" و "لا عارا في ثورة فيراير (2011)". وفي المجالس الخاصة يتحدثون عن الصدمة النفسية وجيل ضائع.
ثم هناك الذين لم يقولوا شيئا في ذكرى حدثهم. هؤلاء رفضوا بقوة العودة للاحتشاد خلف خطط كبرى وكلّ ما تعد بتحقيقه في سبيل الظرف الإنساني. ولأنهم لا يرغبون بتحرير الماضي من ظل الحاضر، فإنهم يجدون ملجأ في الاعتقاد بأنه من الأفضل عدم الإيمان بأي شيء.
الدعوات إلى خاتمة
ما الذين يتعين استخلاصه من هذه الأصوات المتنافرة؟ هل يتعين أن نقول بقناعة أن هذه الثورة نجحت أو فشلت؟ هل نحتاج إلى أسطرة الأصوات الموحدة بهدف رواية حكاية موّحدة؟ غالبا ما يُعتقد أن ثورات الربيع العربي فشلت لأنها كانت تفتقر إلى رؤى فكرية شاملة حول التغيير الاجتماعي. إذا كان اتحاد من هذا النوع هو شرط مسبق للثورة، يصبح بإمكاننا إلقاء ثورة العام 2011 في اليمن بسرعة في مزبلة التاريخ.
ومع ذلك، نقترح أن القيام بذلك سيعني تفويت تجربة ثورة بصفتها ثورة. كان العنصر المميز لهذه الثورة لدى اندلاعها في 2011 هو مروحة واسعة من الناس، لديهم مروحة واسعة من المعتقدات، يحتفلون بالتغيير الثوري لأنه جوهري على الصعيد الشخصي. اليوم، حين نسمع أصواتا كثيرة متنافسة تقول إن الثورة مستمرة، وأنها تعرضت للخيانة، وأنها أعادت انتاج نفسها، وأنها عائدة، أو أنها ستدوم عبر الاخلاقيات الشخصية، فإنه يتعين أن نحترس من فرض خاتمة أو افتراض الفشل. وعوضا عن ذلك، ربما يمكننا فهم الخلاف المفتوح، والنزاع المفتوح، والاختلاف المفتوح-وكلّها تشكّل وصفة للفشل- بصورة أفضل، إذا اعتبرنا أنّها جزءّ لا يتجزأ من قصة الثورة نفسها.
[نشرت في جدلية. ترجمة هنادي سلمان.]