أعادت أجواء ما قبل الانتخابات والأزمة الاقتصادية الخطيرة التي عصفت بتركيا منذ شهور خطاب الكراهية ضد الأجانب إلى الواجهة. هذا الخطاب يستهدف أربعة ملايين لاجئ سوري في البلاد. وقد اقترح الرئيس التركي “العودة الطوعية” لمليون لاجئ إلى مناطق شمال سوريا التي تسيطر عليها أنقرة.
قبل بضعة أشهر، اقتحم نائب تركي محل مجوهرات على ساحل بحر إيجة ومعه كاميرا فيديو، وسأل صاحب المتجر عن أوراقه ورخصة عمله، وسجّل المحادثة بأكملها دون إذنه. وبعد فترة وجيزة، نشر النائب الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي وقدّم فيه الصائغ بالطريقة التالية:
لقد قدم إلى تركيا منذ سبع سنوات. لغته التركية محدودة. حصل على الجنسية، ولديه رخصة حمل سلاح. افتتح محلاّ للمجوهرات في إزمير بترخيص حصل عليه في أورفة. هناك 900 ألف سوري آخر مثله. تركيا.. ألا تعين الخطر؟
اسم هذا النائب أوميت أوزداغ، وهو زعيم تشكيل قومي جديد يُدعى “حزب النصر”، الذي أطلق حملة واسعة النطاق على شبكات التواصل الاجتماعي تطالب بطرد حوالي أربعة ملايين لاجئ سوري استقبلتهم تركيا. ومنذ أسابيع، ينشر حزبه مقاطع فيديو لم يتم التحقق منها، لمهاجرين يتحرشون بالنساء التركيات في الشوارع، وللاجئين يسخرون من العلم التركي. بل وقام حتى بنشر فيلم خيالي من نوع الدستوبيا ينذر بمستقبل بائس لتركيا، ويظهر دولة منقسمة لغتها الرسمية العربية.
رفض كبير للاجئين
أعاد هذا الخطاب المعادي للأجانب والمنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي الخوف إلى قلوب اللاجئين، والذين باتوا يخشون وقوع أحداث مماثلة لما جدّ في الصيف الماضي في أنقرة، عندما قام حشد من القوميين الغاضبين بتخريب متاجر لسوريين، وحاولوا مهاجمة منازلهم بعد شجار قُتل خلاله شاب تركي.
فعلا، فإن هجمات حزب النصر ليست فورة منعزلة لحزب شُعبوي لا يحظى بتمثيل برلماني. إذ يستخدم حزب المعارضة الرئيسي – وهو حزب الشعب الجمهوري الاشتراكي الديمقراطي- بدوره الرفض الشعبي للاجئين، كسلاح ضد الحكومة. وقد اقترح هذا الحزب مؤخرًا إجراء استفتاء شعبي لتقرير مصير اللاجئين، وأعلن أنه سيقوم بترحيل السوريين إلى بلادهم بمجرّد فوزه في انتخابات 2023.
يرى أيهان كايا، وهو باحث متخصص في موضوع الهجرة بجامعة بيلجي في اسطنبول، أن رفض اللاجئين يرجع جزئيًا إلى الطريقة التي تواصلت بها الحكومة -بقيادة حزب العدالة والتنمية- حول موضوع استقبالهم: “منذ بداية وصول السوريين الهائل في عام 2015، أنتج حزب العدالة والتنمية خطابًا دينيًا لتبرير استقبال اللاجئين السوريين. ما دفع المجتمع التركي إلى قبول السوريين كأخوة مسلمين، لكن على أساس أن حضورهم مؤقت، وليس على أساس حقهم في اللجوء. وقد بدأت المشاكل عندما تجاوزت هذه الفترة الزمنية قدرة السكان على التحمّل. واليوم، لم يعد الخطاب الذي يقدم السوريين كضيوف يعني شيئًا”.
تؤكّد الإحصائيات ذلك. فحسب معهد “ميتروبول”، وهو معهد استطلاعات الرأي الأكثر شهرة في البلاد، فإن 82٪ من الأتراك يرغبون في عودة اللاجئين والمهاجرين إلى بلدانهم الأصلية. وترتفع هذه النسبة إلى 85٪ في صفوف ناخبي حزب العدالة والتنمية.
عودة “طوعية” أم إعادة توطين؟
في هذا السياق، أكّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بادئ الأمر أن بإمكان السوريين “العودة إلى وطنهم متى شاءوا”، لكن تركيا “لن تجبرهم أبدًا على مغادرة أراضيها”. وبعد فترة وجيزة، راجع الرئيس التركي تصريحاته، وأعلن عن خطة “عودة طوعية” إلى شمال سوريا ستشمل مليون سوري. ويشمل هذا المشروع بناء مساكن وخدمات في المناطق التي تسيطر عليها تركيا. وقد أوضح أردوغان بعض تفاصيل هذه الخطة، مثل عدد المنازل المخطط لها، وأن 500 ألف سوري قد عادوا بالفعل إلى بلادهم في السنوات الأخيرة، إلا أنه ترك تفاصيل أخرى دون جواب شافٍ. ولا يُعرف إلى الآن كيف سيتم تنفيذ هذه المبادرة، ومن سيدير صيانة هذه المواقع أو ما إذا كان سيحصل على دعم السلطات الأوروبية.
بالنسبة لأيهان كايا، فنحن لا نتحدّث هنا عن “عودة طوعية” بل عن إعادة توطين، إذ “لم تتم استشارة الجهات الفاعلة في الدولة السورية. ما تقترحه تركيا هو في الواقع نوع من إعادة توطين في مكان آخر، أي في هذه الحالة سوريا، تحت سيطرة قوات الأمن التركية”. من ناحية أخرى، لم يتم توضيح نوع سوق العمل الذي سيكون متوفّرا في هذه الأماكن.
ألقى عقد من الحرب بثقله على الاقتصاد السوري، كما يخشى العديد من الشباب العودة إلى ديارهم، خوفًا من اعتراضهم من قبل قوات بشار الأسد. لا يعتقد كايا أن فكرة الانتقال إلى شمال سوريا تستهوي عددًا كبيرًا من اللاجئين في تركيا. “وحدهم أفقر الناس في تركيا مستعدون لذلك. وبهذا تقدّم الدولة التركية خيارًا لأولئك الذين يعيشون في وضع أكثر هشاشة. ولكن كي تكون هذه العودة آمنة ومستدامة، يُفترض استخدام القنوات الدبلوماسية بالتعاون مع المؤسسات الدولية”.
تتساءل ديدم دانيس هي الأخرى، وهي عالمة اجتماع ومؤسسة لجمعية الأبحاث حول الهجرة، عما إذا كان اللاجئون السوريون يرغبون حقاًّ في الاستقرار في مناطق بشمال سوريا مثل أعزاز أو الباب أو تل أبيض، والحال أنها ليست مسقط رأسهم: “سيتم إعادة توطين السكان السابقين لحلب أو حمص في شمال البلاد. وستفتح القوانين الجديدة سؤالاً آخر حول اندماجهم في هذه الأماكن”. من ناحية أخرى، فإن العديد من هؤلاء اللاجئين يعيش في تركيا منذ ست أو سبع سنوات. حوالي 40٪ منهم قاصرون وحوالي 500 ألف وُلدوا في تركيا. تتساءل ديدم: “لقد قضّى هؤلاء جزءًا كبيرًا من حياتهم في تركيا، فكيف لهم أن يستقرّوا في بلد لا يعرفونه على الأرجح؟ فكثير من هؤلاء الأطفال يعرفون تركيا أفضل من معرفتهم لسوريا”.
أزمات عديدة تقوّض الاندماج
يأتي الجدل حول إدارة الهجرة وخطاب كراهية الأجانب على خلفية تضخم حاد في تركيا بنسبة 70٪، والذي أثر على القدرة الشرائية للأسر التركية. حتى بات من الشائع أن تسمع في الشارع شكاوى حول استقبال اللاجئين في علاقة بالأزمة الاقتصادية الحالية. ويُزعم أن هؤلاء تلقّوا مساعدات حكومية، وأنهم أخذوا وظائف على حساب السكان المحليين، وأن المستشفيات والمدارس اكتظت بسببهم. لكن في الحقيقة، من أصل حوالي مليوني سوري في سن العمل، بالكاد يحمل 200 ألف منهم تصريح عمل. أما الباقون، فهم مُجبرون على العمل في القطاع غير الرسمي، حيث يتعرّضون للاستغلال ويتلقّون أجوراً تقلّ عن الحد الأدنى للأجر التركي، والذي يبلغ حاليًا 4250 ليرة تركية1.
في 2016، تبنّت الحكومة التركية قوانين جديدة تسمح للسوريين بالحصول على تصاريح عمل، شرط أن يتقدم أرباب العمل بمطلب الحصول عليها، ودفع رسوم ترفض العديد من الشركات تقديمها. ووفق ديدم دانيس، فقد خلقت هذه القوانين الجديدة حالة توتر مع السكان المحليين، إذ يتهم هؤلاء السوريين بالمنافسة غير العادلة في سوق العمل: “إن أداتنا التنافسية في السوق العالمية هي العمالة الرخيصة. وبسبب التضخم، لم يعد بوسع العديد من الأتراك العيش على الأجور الحالية، بينما تُضطر القوى العاملة السورية إلى قبول ظروف عمل سيئة”. وتضيف: “إن إمكانية استبدال عامل تركي محمي بموجب قانون العمل بعمالة رخيصة فرصة عظيمة بالنسبة لأرباب العمل”.
كما تم انتقاد إجراء حكومي آخر بسبب غموضه، وهو منح الجنسية التركية لبعض اللاجئين السوريين. إذ أعلنت السلطات عن منح الجنسية التركية لنحو 200 ألف سوري، لكنها لم تحدد معايير اختيار هؤلاء، ما تسبب في إضفاء نوع من الغموض على هذه المبادرة.
الاتحاد الأوروبي يتبرّأ
تتجاهل الحكومة الانتقادات، بل وتُوجه أصابع الاتهام إلى المؤسسات الأوروبية، إذ طالبت في عدة مناسبات بتجديد شروط الاتفاقية الموقعة عام 2016 التي تم تعليقها بسبب بالوباء، والتي يُفترض بموجبها إعادة جميع المهاجرين غير الشرعيين القادمين إلى الجزر اليونانية من تركيا إلى الأراضي التركية. كما يتعيّن على الاتحاد الأوروبي بمقتضى نفس الاتفاقية إعادة توطين عدد مماثل من اللاجئين السوريين المتواجدين في تركيا. لم يتم احترام الاتفاقية، ولم يقم الاتحاد الأوروبي إلا بإعادة توطين 28 ألف سوري فقط. يشك الخبراء في الوقت الحالي في كون بروكسل مهتمة بمناقشة هذا الاتفاق مع أنقرة. يقول كايا: “هذه الاتفاقية تتجاوز اللاجئين السوريين، فهي تتضمن فقرات حول تسهيل التأشيرات للأتراك، وتحديث الاتحاد الجمركي، وتطبيع العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي. لكني لا أعتقد أن الاتحاد الأوروبي مهتم بهذه الأمور في السياق الحالي”.
[ترجمت المقال من الفرنسية سارة قريرة]
[ينشر المقال ضمن اتفاقية شراكة مع مجلة اورنيت]