بيللي فالنتين أولسن
(مجلّة الدراسات العربية، خريف 2021)
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا المقال؟
بيللي فالنتين أولسن (ب. أ.): في بدايات القرن العشرين، وبسبب تأثيرات محليّة وعالميّة، شهد العراق الاستعمار، والاستقلال وولادة طبقات اجتماعيّة جديدة، واختبار أشكال سياسيّة وأيديولوجيات وتعبيرات ثقافية جديدة. وترافق ذلك كلّه مع تغيير سريع في أوضاع المدن وبرزت مجالات جديدة للعمل والترفيه. وبالتزامن مع ذلك، انتقل الترفيه من الحيّز الخاص وتحوّل إلى نشاطات وعروض عامّة غالبا ما كانت تجاريّة. فمثلا، ومع ظهور المقاهي والنوادي الليليّة، انتقل الرقص والترفيه الموسيقي من المنازل الخاصة إلى الأماكن العامّة. وقد استكشفت الكثير من هذه الموضوعات في أطروحتي، التي أنهيتها في جامعة شيكاغو في 2020. وعملي عن قطاع الترفيه أثار لديّ اهتماما بتاريخ السينما في العراق، وهو موضوع لم يحصل، فعليّا، على أي اهتمام أكاديمي.
مؤخرا، جرت عملية هامة لإعادة كتابة تاريخ العراق الحديث. نظرت دراسات جديدة في ماضي العراق الثقافي، والاجتماعي، والفكري، والارتباطات بالمنطقة وبالعالم. إلّا أن الباحثين، باستثناءات قليلة جدا، لم يدرسوا تاريخ السينما وارتيادها في العراق. وحتّى المراجع والسير السينمائيّة قليلة ومتباعدة زمنيا، بما فيها الأبحاث المكتوبة بالعربية. ومقالي هو محاولة، أو لنقل خطوة أولى، لكتابة تاريخ السينما والإنتاج السينمائي في العراق. ويقترح المقال أنه لا يتعين أن نكتفي بدراسة السينما العراقية من منظار سينما وطنية، بل أيضا من خلال شبكة ارتباطاتها مع السينما في بلاد أخرى، مثل مصر، كما مع صناعات ومصالح رأسماليّة ناشئة أخرى في العراق وما يتجاوزها. ويعير المقال انتباها خاصا للإنتاجات المشتركة، التي أناقش بأنّها كانت في غاية الأهمية لتمهيد الطريق لإنتاجات عراقية لاحقة. وفي ما يتجاوز إلقاء الضوء على البنى التحتية لصناعة الأفلام والسينما في العراق، بما في ذلك دُوْر السينما وشركات الإنتاج والإعلانات والاستيراد، أقترح أيضا أنه يتعين إعادة إدراج الانتاجات المشتركة في السرديات الوطنية العراقية والتأريخ السينمائي، بعدما استبعدها الباحثون. ويستعير مقالي عنوانه "القاهرة-بغداد" من فيلم هو إنتاج مصري عراقي مشترك عرض للمرة الأولى في بغداد في 10 آذار\مارس 1947. وكان "القاهرة-بغداد" عملا مشتركا بالفعل بين قطاعي السينما في البلدين، وهو نموذج أساسي عن الطبيعة العابرة للأوطان والأقاليم لبدايات صناعة السينما العراقية. وفي الواقع، فإن ما دفعني لكتابة هذا المقال هو السعي لكشف هذه الارتباطات العابرة للأوطان والأقاليم.
(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها المقال؟
(ب. أ.): يحقق المقال في ارتباطات المنتجات الثقافية كما الأشياء المادية، وشبكاتها وانتاجاتها المشتركة وتوزيعها، بما في ذلك الأفلام والتكنولوجيا، ويستكشف كيف تلتقي، في لحظة تاريخيّة معيّنة، مع التمويل والمؤدّين وأصحاب المهارات التقنيّة في سبيل تأسيس صناعة سينمائية في العراق. ويساهم القيام بذلك في إثراء الدراسات المتنامية عن تاريخ السينما في دول الجنوب والتي تتحدّى الأطر الوطنية (المحليّة) الصرفة، وتعالج، بطريقة مبتكرة، غياب الأرشيف أو النصوص المتعلّقة بالأفلام.
ويقع العراق عند ملتقى طرق في مجال صناعة السينما وتوزيعها، بين كل من الشرق الأوسط وجنوبي آسيا وأوروبا والولايات المتحدة. لذلك، فإن تاريخ صناعة السينما في العراق يضيء على الطبيعة العابرة للحدود الوطنية والإقليميّة للسينما في مناطق عدة في دول الجنوب حيث تأخر ظهور إنتاجات الأفلام المحليّة. ويستعين هذا المقال بمصادر أوّلية لم تستخدم من قبل، وهي تشمل مذكرات، ومواد صحافية، وشهادات شخصية لعراقيين على علاقة بالقطاع، بالإضافة إلى أعمال فرعية لمؤرخين عراقيين وأدبيات عن تاريخ السينما في المناطق المحيطة بالعراق. وهو يعتمد على نظريات السينما العابرة للوطنية وللأقاليم ضمن سياقات أخرى، وعلى حوارات مع باحثين في حقول الدراسات السينمائية في جنوبي آسيا وسينما السود في غربي آسيا، وهم قد طوّروا منهجا لتعقّب الجذور المادّية للسينما.
ويبدأ هذا المقال بتعقّب هذه الشبكات متعددة الاتجاهات، والارتباطات، وتدفقات التمويل التي حملت عروض الأفلام وإنتاجها إلى العراق. أردت دراسة التشابك التاريخي بين التمويل والثقافة والترفيه عبر تحديد النخب العراقية المحلية الرأسمالية والرائدة في مجال الأعمال - ومعظمهم من اليهود العراقيين من أبناء الطبقة العليا ممن لديهم آفاق تجارية دولية - والذين استثمروا في العروض وفي تقنيات الانتاج. ونتيجة للطبيعة الإقليمية والدولية جوهريا لصناعة الأفلام في العراق، فإن شبكات التجارة والاستيراد الموجودة في البلاد كانت حيوية لقيام القطاع. وبالتالي، فإن عددا صغيرا من الأفراد والعائلات المرتبطة بصناعات رأسمالية ناشئة أخرى تمكنّت من السيطرة على البنى التحتية لبدايات السينما، وهي التي بقيت قطاعا خاصا تماما حتى مطلع الستينيات. أمّا النطاق الذي يشمله المقال، فهو يدرس التاريخ المبكر للسينما في العراق، بدء من عرض الفيلم الصامت الأوّل في 1909 وصولا إلى ظهور قطاع وطني لصناعة السينما في الخمسينيات.
وكما في أماكن أخرى في المنطقة، فإن النقّاد العراقيين، الذين كانوا يستخفّون بالفنون الشعبية، تجاهلوا غالبا الانتاجات والانتاجات المشتركة الميلودراميّة المبكرة، والتي لم تتماشى مع المفاهيم الوطنية اللاحقة لإنتاج الأفلام. وكما حاججت زميلتي وصديقتي كلير كولي، فإنّ السرديات الوطنية المماثلة تميل أيضا إلى تجاوز انخراط النساء والمنتمين لهويات مهمّشة ومساهماتهم. في حالة العراق، فإنّ بعض الروايات اللاحقة تجاوزت أيضا دور اليهود العراقيين في العقود الأربعة الأولى من صناعة السينما. بالإضافة إلى كلير كولي، سمحت المساهمات الحديثة لكل من كافيه أسكاري وسمحيتا سونيا، وغولبارغ ريكابتالاي، وديبورا ستار، بتسهيل مهمة النظر في ما يتجاوز الحدود الوطنيّة. ولقد كانت أعمالهم مصدر وحي كبير بالنسبة لي، وأشعر بأنني مدين لها بالكثير. وفي ما يتعلّق بتقّفي أثر جذور الأفلام المادية والرديفة، فإن عمل أليسون فيلد عن سينما الأميركيين الأفارقة (السود) في الولايات المتحدة والمقالات الأخيرة لغنوة حايك عن السينما اللبنانية كلها ساهمت في تشكيل هذا المقال.
(ج): كيف يرتبط هذا المقال أو يبتعد عن عملك السابق؟
(ب. أ.): إن المقال إلى حد بعيد استمرارية لاهتمامي في تاريخ الترفيه في العراق. ومع ذلك، فإنه يختلف عن عملي السابق بمعنى أنّه يسعى لتجاوز الشاشة والسينما كمساحة للترفيه. وليس هذا المقال سوى خطوة أولى، وسيتعين تأجيل سردية أكثر تفصيلا حتّى أتمكّن من القيام بالمزيد من البحث الأرشيفي، إلا إنّه يمثّل اهتمامي المتنامي في تضافر رأس المال، والثقافة والترفيه بالإضافة إلى البنى التحتيّة والأطر والبنى والهيكليات الماديّة، وأشكال الإنتاج اللازمة لاحتواء السينما. هذا الاهتمام لم يكن حاضرا بهذا القدر في عملي السابق.
ج: من تأمل أن يقرأ هذا المقال، وما نوع التأثير الذي ترغب أن يخلّفه؟
(ب. أ.): مقارنة بالاهتمام البحثي الذي يحظى به تاريخ ارتياد السينما وإنتاج الأفلام في أماكن أخرى في المنطقة، فإن سرديات بدايات السينما العراقية غائبة بشكل كبير. ويعود السبب جزئياً إلى تعذّر الوصول إلى الأرشيف العراقي، السينمائي وغيره. ولكن، وفي الوقت ذاته، فإن مقالي يقترح تجاوز الشاشة وفهم أن السينما هي أكبر من أفلام فردية لتسهيل القيام بتحليل أكثر إحكاما للعدد الهائل من الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي هي جزء من ارتياد السينما. آمل أن يبيّن هذا المقال أنّه من الممكن بناء أرشيف رديف للسينما العراقية من خلال مجموعة من النصوص. والأهم، ربّما، هو أنني آمل أن يشكّل المقال بداية لنقاش مع باحثين يعملون على تاريخ السينما في المناطق والبلاد المحيطة بالعراق.
(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعمل على إنجازها الآن؟
(ب. أ.): إلى جانب مشروعي الحالي لبرنامج ما بعد الدكتوراه، الذي يتناول التاريخ العالمي للتضامن مع الثورة الفلسطينية، أعمل على تحويل أطروحتي إلى كتاب بعنوان "أيام وليال خاملة: الترفيه، والوقت والحداثة في العراق". ويركّز الكتاب على تاريخ العراق من منظار الترفيه. ولكن، وفيما ركّزت أطروحتي على بغداد، يوسع الكتاب اهتمامه ليشمل أيضا المراكز الحضرية خارج العاصمة، وسبل تأثير الدين على تنظيم الترفيه وتسهيله في آن. ويناقش فصل جديد أن مناسبات الاحتفالات الدينية للطوائف كافة كانت تتيح مساحات ترفيه مؤقتة للنساء والأطفال والعائلات، التي تستثنى في العادة من الترفيه العام. وينظر فصل جديد آخر في هجرة العمالة الإقليمية للمؤديات والعاملات في الجنس من النساء اللواتي أتين إلى العراق من مختلف أنحاء المنطقة للعمل في النوادي الليليّة. ويناقش هذا الفصل أن هذه الأشكال من العمل والاستغلال، بما في ذلك المؤديات في النوادي الليلية والنجمات السينمائيات، بقي في الغالب محجوبا في الدراسات المتعلقة بالترفيه.
أعمل أيضا على مقالين آخرين. أحدهما، والذي أشترك في كتابته مع زميلتي سارة فرحان، يدرس بروز انحراف القصّر كتصنيف طبي-قضائي في العراق خلال الحكم الهاشمي. والمقال الآخر، الذي أكتبه بالشراكة مع راشيل شاين، يتناول رواية "أبو نوّاس في أمريكا" لصفاء خلوصي والصادرة في 1955، باعتبارها نموذجا وشرحا لديناميات الإنتاج الثقافي العراقي في القرن العشرين. ويحلل المقال الشخصيّة الرئيسية للرواية-وهو نسخة عن الشاعر العبّاسي أبو نواس، متقمصا ومعدلا بصورة جذريّة- وهو ينطلق في رحلة عبر الولايات المتحدة.
وأبدأ في برنامج ت للدكتوراه مدتّه عامين في جامعة أوكسفورد في أيلول\سبتمبر 2022، مما يعني أنه سيكون بإمكاني أن أكرّس وقتي كليّا لمشروع تاريخي عن صناعة السينما في العراق. وفي هذا المشروع سأواصل التركيز على اهتمامي بالتاريخ العابر للأوطان للسينما وهيكلية الأفلام العراقية.
مقتطف من المقال
إخفاقات، إنتاجات مشتركة والأفلام العراقيّة الأولى
لأن العديد من الأفلام العراقية الأولى كانت إنتاجات مشتركة مع كل من مصر وتركيا ولبنان، وقد لجأت في الغالب إلى مخرجين أجانب، وممثلين أجانب، واعتمدت على تمويلات ومعدّات ومهارات بشرية من الخارج، وفي ظلّ محدوديّة الدراسات المتوّفرة عن تاريخ السينما والأفلام في العراق، دار الكثير من الجدل حول ما الذي يمكن اعتباره الفيلم العراقي الأول فعلا. وبشكل مواز، استبعد النقّاد الإخفاقات الأولى كما الانتاجات المشتركة من سرديات تاريخ السينما العراقيّة. ينظر هذا الفصل في نماذج عن الإخفاقات والإنتاجات المشتركة ويُظهر أنها لم تكن عنصرا ضروريا في بدايات صناعة الأفلام العراقية فحسب، بل أنّها مهّدت الطريق لإنتاجات لاحقة.
لقد وصف باسكار ساركار كيف انشغلت نظرية الإعلام الشامل خارج المراكز الدوليّة للإنتاج بالسابقات الوطنيّة والمبتكرة. وعلى نحو مماثل، تناقش كولي، في مقال حديث عن الروابط بين الأفلام الإيرانيّة والهنديّة والمصرية، أن "السرديات المتداخلة، مثل سرديات السينما في الشرق الأوسط وغربي آسيا، محيت منذ زمن من السرديات الوطنية للأفلام التي لم تكن سائدة إجمالا"، معتبرة أن المهمة هي بالتالي شقّ الطريق لإظهار كيف يمكن "لأفلام وإعلام الفضاء الوطني أن ينخرط ويشرّع عبر مروحة من الشبكات: العابرة للأوطان، والإقليمية والمحليّة." وتنجز كولي هذه المهمة عن طريق دراسة تنقّل تقنيات الصوت وشبكات الصوت عبر البلاد التي صنعت السينما الوطنية الإيرانية. وعلى وجه خاص، هي تركّز على المستثمرين الإيرانيين الذين سافروا إلى كل من الهند ومصر بحثا عن التكنولوجيا، والتدريب، والتعاون وتخلص إلى أن "السينما الإيرانيّة ولدت جزئيا من الارتباطات المادية مع مصر والهند." وفي العراق أيضا، قام قطاع إنتاج الأفلام على التعاون الثقافي والمادي العابر للأقاليم والبلاد بالإضافة إلى عمليات التأهيل والتعليم التي ربطت العراق بالبنى التحتية للأفلام والسينما في الخارج.
منذ منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت مساع لإنتاج أفلام في العراق. وأدت شعبية الأفلام الناطقة، التي جاءت أولا من الولايات المتحدة وأوروبا ولاحقا من مصر ومن الهند، إلى ارتفاع في مبيعات التذاكر. وضمن هذا الإطار، بدأ رجال الأعمال وأصحاب دور السينما ومستوردو الأفلام بالاهتمام بإنتاج الأفلام. وفي العام 1935 تقريبا، تواصلت شركة "فوكس" (للإنتاج السينمائي) مع الممثل العراقي حقي الشبلي بشأن أفكار عن انتاج فيلم في العراق ومع ممثلين عراقيين. إلا أن المشروع لم ينفذ أبدا. في 1938، أعلن رجل الأعمال العراقي حفيظ القاضي للصحافة عن اهتمامه بإنتاج أفلام في العراق. وكان القاضي قد جمع ثروته من تجارته في استيراد أجهزة الراديو وسيارات "فورد" إلى العراق. في 1938، أرسل أخاه مصطفى القاضي إلى لندن لشراء المعدّات والتجهيزات اللازمة (للأفلام). ولأسباب مجهولة، فشل مشروع القاضي. في 1942، أسست مجموعة من رجال الأعمال شركة إنتاج لا يعرف الكثير عنها. وعلى الرغم من أن الشركة كانت مرخّصة لإنتاج الأفلام، إلا أنّها لم تنتج أي فيلم. ودراسة هذه المشاريع صعبة كونها فشلت، ولأن المعلومات المتوّفرة عنها محدودة للغاية. إلّا إنّها مع ذلك تؤشّر على اهتمام العراق في انتاج الأفلام ومساعيه لإدخالها على البلاد. بصورة مماثلة، تكشف حكايات الإخفاقات الصعوبات التي كانت تواجه الاستثمارات المالية في ذلك الوقت، خاصة في المضمار الثقافي حيث لم تكن البنى التحتية الضرورية موجودة بعد.
ولم يصار إلى إنتاج أفلام في العراق حتى نهاية الأربعينيات مع تأسيس عدد من شركات الإنتاج المصرية العراقية المشتركة. وأسس أولى تلك الشركات المشتركة، وهي "أفلام الرشيد"، عادل عبد الوهاب وهو عراقي يدرس الطبّ في القاهرة. وكان فيلم "ابن الشرق"، هو الفيلم الأول والوحيد الذي أنتجته "أفلام الرشيد"، من إخراج المخرجين المصريين إبراهيم حليمي وموريس مراد، وشارك في إنتاجه "استديو الأهرام" في القاهرة. وقدّم "ابن الشرق" ممثلين وموسيقيين عراقيين ومصريين، من بينهم عادل عبد الوهاب نفسه، والممثلة المصرية مديحة يسري، وعدد من الموسيقيين العراقيين. وعرض "ابن الشرق" للمرّة الأولى في نهاية تشرين الثاني\نوفمبر 1946 في "سينما الملك غازي" في بغداد، ومن بعدها بقليل عرض في القاهرة. والفيلم الذي لم يعد موجودا، هو شبه سيرة ذاتية ميلودرامية، يحكي قصة طالب طب عراقي في القاهرة. هناك، تقوم امرأة مصرية ثرية في إغواء بطل الفيلم، والذي يؤدي دوره عادل عبد الوهاب نفسه، واسمه في الفيلم أيضا عادل، فيترك خطيبته. ولكن، وبعد فترة من الوقت، يندم عادل على ما فعله ويعود إلى خطيبته. الآن وقد أصبح ثريا بفضل اكتشافه لعلاج لمرض خطير ولكنه مجهول، يتزوج عادل من خطيبته ويعودان معا إلى بغداد.
في العام الذي تلا عرض "ابن الشرق"، ظهر انتاج مصري عراقي آخر هو "القاهرة-بغداد"، والذي أصفه بالتفصيل في مقدمة هذا المقال. وكما في "القاهرة-بغداد"، فإن الحبكة في "ابن الشرق"، والممثلين والمخرجين والطواقم الفنية تتنقل بين القاهرة وبين بغداد، رابطة بالتالي بين العاصمتين ثقافيا وماديا. والفيلمان صورا في مصر وفي العراق وتستخدم اللهجتان المحليتان للبلدين فيهما. على مستوى عام يتجاوز الشرق الأوسط، فإن الانتاجات المشتركة تستحق المزيد من الاهتمام العملي (التطبيقي) والنظري. ولكن الآن، ولأنها كانت محورية في تمهيد الطريق لإنتاجات عراقية لاحقة، فإنه من المهم إعادة إدراج أعمال التعاون هذه ضمن السرديات الوطنية كما تاريخ السينما في العراق، والتي تميل إلى استبعادها. بالإضافة إلى ذلك، فإن استعادة الإنتاجات المشتركة يكشف مدى التبادل الإقليمي في المعرفة والثقافة والهيكلية السينمائية والتمويل الخاص.
في 1946، أسس الأخوان سودائي "استوديو بغداد"، وهو الاستديو الأول في العراق. وكان بمثابة مشروع شراكة تجارية، إذ أن الأخوين سودائي أسسا "استديو بغداد" باستثمارات من كل من أنطون مسايح، الذي كانت أسرته تملك المعمل الأكبر لتقطير العرق في بغداد، ورجل أعمال يهودي عراقي اسمه سلمان زيلخا، وشريك مسلم اسمه كميل الخضيري. في العامين الأولين، اعتمد "استديو بغداد" بقوّة على خبراء وُظِّفوا من أوروبا ومن مصر. ولكن، مع الوقت، حلّ مكانهم عراقيون تمرّنوا في الخارج. وليس من الواضح إلى من ذهبت ملكية "استديو بغداد" بعد العام 1951، حين غادر الأخوان سودائي، وآخرون من اليهود العراقيين، إلى إسرائيل. في 1954، بيع "استديو بغداد" لعراقيين يعيشون في الخارج، إلّا إنّه استمّر في صناعة الأفلام حتى العام 1966، حين اشترت شركة "كوكا كولا" الأرض والمبنى من أجل بناء مصنع. وفي عاميها الأولين، أنتجت الشركة المؤسسة حديثا، أفلاما وثائقية، من بينها فيلما للشرطة العراقيّة. في 1948، أنتج "استديو بغداد" فيلمه الأوّل "عليا وعصام "، وهو ميلودراما شبيهة بروميو وجولييت عن أمير وأميرة من قبيلتين عراقيتين متحاربتين يسعيان للانتقام. وينتهي الفيلم بالانتحار المأساوي لبطليه. وأخرج الفيلم مخرج فرنسي هو أندريه شاتان مستخدما تجهيزات ومعدات فرنسية في الإنتاج. وفي الواقع، فإن غالبية التجهيزات والمعدات في "استديو بغداد" جاءت من فرنسا، حيث كانت لمائير سودائي علاقات وقد درس الهندسة هناك. وكلف "استديو بغداد" المحامي اليهودي العراقي أنور شاؤول، وهو أيضا صحافي وشاعر ومحرر المجلة الثقافية العراقية "الحاصد"، بكتابة سيناريو فيلم "عليا وعصام" وأغنياته. ولأنه شاعر، كتب شاؤول النسخة الأولى من السيناريو على شكل أبيات مقفاة. إلا أن مالكي الاستديو وجداه رسميا للغاية وطلبا منه إعادة كتابته، ما يظهر كيف كان يتعين التفاوض على المعايير الجمالية واجراءاتها خلال الأعوام الأولى لهذه الصناعة حتّى تتناسب ومتطلبات هذا الوسيط الإعلامي الجديد. وتأثرا بالإنتاجات الأميركية والأوروبية والمصرية، أراد آل سيدائي ومائير خاصة، انتاج ميلودراما حديثة، وليس إنتاجا يمكن الخلط بينه وبين الأشكال ومعايير الجماليات السابقة.
[نشر في جدلية. ترجمة هنادي سلمان]