رعايا روحانيون: حجاج آسيا الوسطى والحج العثماني في نهاية الإمبراطورية

رعايا روحانيون: حجاج آسيا الوسطى والحج العثماني في نهاية الإمبراطورية

رعايا روحانيون: حجاج آسيا الوسطى والحج العثماني في نهاية الإمبراطورية

By : Lâle Can

لاله كان

(جامعة ستانفورد للنشر، 2020). 

جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟

لاليه كان (ل. ك.): في صيف العام 2006، قررت أن آخذ استراحة من الأرشيف العثماني، وأن أقوم بزيارة "سلطانتيبي أوزبكلير تيكيس" أو "نزل الدراويش الأوزبك" في سلطانتيبي (تلّة السلطان)، وهو نزل صوفي قرأت عنه في مئات العرائض والوثائق الحكومية. وعلمت من مقال قصير كتبته غريس مارتن سميث أن هذا النزل المتواضع لمسافري آسيا الوسطى، يحتفظ بسجلّات دفينة تحتوي على معلومات عن الحجاج الذي دخلوا بابه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. كان مشايخ "سلطانتيبي" قد دوّنوا، بدقّة، أسماء النزلاء، والمناطق التي أتوا منها، ومهنهم، وتواريخ وصولهم ومغادرتهم، وتفاصيل شخصية تعطي لمحة عن تاريخ غني يصعب اكتشافه في الوثائق الحكومية. 

بعد زيارات عدّة، ومساع عدة للوصول إلى هذه المصادر الفريدة، ومحاولات لدمج سرديات الحج غير المنشورة في بحثي، وسنوات من التفكير بالسبل التي أتاحتها فضاءات الصوفيين ونصوصهم لتسهيل السفر عبر مسافات طويلة، عرفت أن الطريقة الوحيدة لكتابة هذا الكتاب هي جعل الحجاج أنفسهم يرشدونني. ولكن، وإن كان هؤلاء الحجاج ومجتمع "سلطانتيبي" هم من حفّزوني على كتابة هذا الكتاب، إلّا إنني لم أكن دائما مستعدة لمواجهة الأسئلة المعقّدة المتعلّقة بالقانون، والانتماء، والحقوق، التي أضاءتها تجاربهم.

في صياغة الدراسة التي نتجت عن ذلك حول الهجرة، والقانون، والسلطة الدينية، والرعاية، كان من المهم بالنسبة لي أن أبقي شخصيات دراستي- ومجتمعاتهم وشبكاتهم- في المركز من تحليلي. وفي حين أن سرديات التنّقل داخل الإمبراطورية وعبرها كانت غالبا ما تبدأ بالاستناد إلى المسارات أو التصدعات العالمية، أو بقصص عن أشخاص ذُكروا في المصادر الأرشيفية لأنهم كانوا استثنائيين بشكل من الأشكال، اخترت أنا أن أبدأ الكتاب وأن أنهيه في فناء هذا النزل، وسط مشاهد من الحياة اليومية. وجزئيا، كان السبب هو إظهار أن الحج لم يكن شيئا يحدث في مقاطعة بعيدة في وقت محدد من العام، بل كان طقسا منسوجا في بنية المجتمعات العثمانية. وكان سبب آخر هو تجذير تاريخ روابط الحج في مكان يمكن للقراء تخيّله كنقطة محورية ضمن شبكة تؤدي دور الوسيط للتخفيف من التجارب المشحونة، وتؤمن الدعم للوافدين الجدد. 

وفي اصطحابي للقراء عبر التلة شديدة الانحدار بين حيي أسكدار وسلطانتيبي، آمل أن أعرّفهم على المشايخ الذين ساعدوا الوافدين الجدد على إيجاد عمل، وتأمين صحي، وبطاقات للسفن البخارية. كما أنني أريدهم أن يتعرّفوا على النزلاء الذين كانوا يأتون ويذهبون، أحيانا عشرات المرّات على امتداد عشرات الأعوام. ووسط الصعوبات الهائلة التي كان الحجاج يواجهونها في سفرهم داخل إسطنبول، أردت أن أظهر كيف قدّم هذا النزل بعض الراحة، متنفسا، وإحساسا بالألفة وبالدفء المنزلي. في الوقت ذاته، كنت أريد أن أرسم صورة بجزيئات ناعمة لهذه المساحة من الصلات، التي كانت تشمل شجرة ماغنوليا جميلة، كانت تؤشّر على تبدّل الفصول، كما أنها كانت شاهدا صامتا على التغييرات الهائلة التي أثّرت على إيقاعات الحياة اليومية بين 1869 و1914. 

(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟

(ل. ك.): "رعايا روحانيون" هو دراسة عن الحج بالمجمل، والتعديلات في الجنسيات، والقانون الدولي، يتعقّب كيف مهّدت الهجرة المرتبطة بالحج الطريق لأبناء آسيا الوسطى كي يصبحوا رعايا عثمانيين، ومن ثم، لاحقا، مواطنين أتراك. هو يتتبع أشخاصا من تركستان الغربية (الروسية) والشرقية (الصينية) ويستكشف كيف أدّت المزاعم العثمانية بامتلاك سلطة الخلافة، خلال عهدي عبد الحميد الثاني و"تركيا الفتاة"، إلى إعادة تشكيل علاقة السلطان مع المسلمين في الخارج. ومع ضمّ أبحاث من مكتب المجلس القانوني في وزارة الخارجية العثمانية وارتباطه بالقانون الدولي، يظهر الكتاب كيف سعى الباب العالي (الحكومة المركزية) إلى مكافحة انتشار المسلمين الساعين للحصول على حقوق وامتيازات خارج الأراضي العثمانية عبر حرمانهم من حقّهم بالحماية الأوروبية، ومن ثم ادعاء أنّهم يخضعون لحماية الخليفة العثماني حصريا. وحصل أبناء آسيا الوسطى، وهم ليسوا عثمانيين تماما كما أنّهم ليسوا غرباء تماما، على نوع من أنواع الرعاية المبنية على الزعم المستحدث للباب العالي بالحماية المتأتيّة عن الخلافة. وشكّل وضعهم القانوني تحدّيا للتصنيف المعاصر للعثمانيين وللأجانب، كما للفئات التي استخدمها المؤرّخون لدراسة مواطنية الإمبراطورية.

ومن بين المساهمات التي يقدّمها الكتاب، أعتقد أن هناك ثلاث مهمة على وجه خاص. أولا، هو يقوم بتجزئة مجموعة من التطورات التي درست من قبل في إطار "الوحدة التركية" أو "الوحدة الإسلاميّة". فمثلا، هو يظهر كيف أن الدافع لمنح الرعاية العثمانية لحجاج تركستان أو لإعادتهم إلى بلادهم كان في معظم الأحيان مرتبطا بالمخاوف المتعلقة بحفظ الأمن والنظام العام-وليس بالعقيدة السياسيّة-الدينية أو بالأواصر العرقية. وبشكل مماثل، هو يبيّن أن زعم الباب العالي بأنّه الحامي الحصري للبخاريين وغيرهم من "الرعايا المحميين" جاء ردا على الاستعمار القانوني، وليس كمحاولة للمنافسة على عقول أبناء آسيا الوسطى وقلوبهم. 

ثانيا، ومن خلال التركيز على سجلات الحج، ووثائقه والنزل الصوفيّة، يسلط الكتاب الضوء على أهمية النصوص والفضاءات الإسلامية في تسهيل السفر إلى السلطنة، والاندماج مع المجتمعات العثمانية. ثالثا، وفي إضاءته على الطرق المسدودة الكثيرة التي واجهها الحجاج في مساعيهم للاستفادة من حقوق الولاية القضائية لدولهم في الخارج، يتصدّى "رعايا روحانيون" للرأي القائل بأن التنافس على السيادة القضائية زاد من الفرص القانونية للرعايا من جنسيات متنازع عليها أو مبهمة. إذ أناقش أن التنافس الامبراطوري أدّى في الغالب إلى تضييق الآفاق القانونية-خاصة بالنسبة لأبناء الأراضي المستعمرة بشكل غير رسمي في آسيا.

ومن خلال تعقّب مسارات الحجاج ومساعيهم للتعامل مع أنظمة حماية مختلفة، يقدّم "رعايا روحانيون" تاريخا جديدا عن الحج. ويشمل ذلك إعادة النظر في الكثير من الآراء السائدة عن الخلافة والاعتراف بأعباء هذه المؤسسة وحدودها. ويبدو ذلك بوضوح تام حين ننظر في عجز الباب العالي عن تحديد المواطنة بشكل صارم، وحين نتابع كيف تُرجمت مزاعم الحماية والسيادة "الروحانية" إلى مسؤوليات ماديّة أرهقت خزنة الإمبراطورية المفلسة.

(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟ 

(ل. ك.): بصفتي مساهمة نشطة، ومستفيدة، من الجهود المبكرة لتعزيز الأبحاث الآسيوية-الآسيوية (بدعم من "مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية")، بدأت هذا المشروع مسلّحة بأسئلة عن سبل النظر إلى التاريخ العثماني ضمن سياق آسيوي أوسع. وكان ذلك ملازما لأعمالي كلّها، ويساعدني في مواجهة ما أجده محيّرا في الأطر النظرية المهيمنة والمختزلة المتعلقة بالأفكار عن الولاء والعقيدة في الإسلام، كما عن رعاية الإمبراطورية وشرعيتها. وهو أيضا يغذي اهتماماتي بالارتباطات الإقليمية الواسعة بين الحج والهجرة والقانون والانتماء للإمبراطورية، وهي أمور ناقشتها في مقالات نشرت في "الدراسات الآسيوية الحديثة" وفي "المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط". ويتصل هذا الكتاب مباشرة أيضا بمجلّد شاركت في تحريره، يتضمن دراسات أكاديمية رائدة عن الارتباط العثماني بالقانون الدولي.

(ج): من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغبين أن يخلّفه؟

(ل. ك.): عملت على هذا الكتاب بحب، وهو ربط بين تاريخ أسري معقد وبين اهتمامات فكرية بطرق أحاول أن أشرحها في المقدّمة. وبالإضافة إلى المتخصصين بالحقبة العثمانية، ومؤرخي الحج، آمل أن يقرأ هذا الكتاب الباحثون في التاريخ الإسلامي، وفي الهجرة، والقانون الدولي، والمواطنة، وآمل أن يضمونه إلى المناهج الدراسية للبكالوريوس والدراسات العليا.

أمّا تأثيره، فآمل أن يساعد المؤرّخين على التفكير بكتابة التاريخ العثماني انطلاقا مما يسميه انغسينغ هو بالمقاربة من الظاهر إلى الباطن: وهو في هذا السياق يعني أن الانتباه لأشخاص من خارج السلطنة يسمح لنا أن نفصّل بطريقة منتجة مفاهيم يعتبرها كثيرون من المسلمات في أي حقل دراسي- بما في ذلك الحقل "العثماني" ذاته. 

حين يخبرني القرّاء أنه بإمكانهم تصوّر شجرة المانغوليا في سلطانتابيه، والحجاج يتجولون في إسطنبول، أشعر بأنني نجحت في كتابة أبناء آسيا الوسطى في التاريخ بطرق تتجاوز كونهم مجرد بيادق في خصومات القوى العظمى، أو حشوداً من بين رعايا غير متمايزين يسافرون في عصر السفن البخارية. آمل أن يلهم الكتاب طلاب الدراسات العليا لإيجاد مشاريع تبقيهم أحيانا صاحين ليلا (مع أسئلتهم وحماستهم)، وسير يلتزمون بإعادة بنائها بطرق تتسم بالصدق إزاء موضوعات بحثهم.

(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعملين على إنجازها الآن؟

(ل. ك.): بما أنني حاصلة على زمالة عليا في "مركز حضارات الأناضول" في "جامعة كوتش"، أعمل على مشروع جديد عن المنفى العثماني خلال القرن التاسع عشر الطويل. وحاليا، أتحرّى عن ممارسات الترحيل القسري وتأثيرها على ما أسميه "ثقافة النفي". بمعنى من المعاني، أعمل على الوجه الآخر للتنقّل وأنظر في ما كان يعنيه أن تكون عثمانيا من منظار الذين عزلوا عن المجتمع ومنعوا من التنقل. و يفسح المشروع المجال أمام أسئلة مثيرة حول رؤى العدالة، والفضاء الامبريالي والصدمات العاطفية للترحيل.

(ج): ما هي بعض الكتب التي ألهمتك على امتداد مسارك؟

(ل. ك.): التالي هو قائمة جزئية للغاية، ولكن خلال دراستي للبكالوريوس، كنت أعشق كتاب "بردة النبي" والنثر الرائع الذي استخدمه روي متحدة في إحيائه للملّا علي هاشمي وللتاريخ الإيراني الحديث. وكطالبة دراسات عليا، استلهمت كثيرا من كتاب ليسلي بيرس "حكايات الأخلاق"، وهو سرد تاريخي تفصيلي متقن للقانون، والجندر، والمجتمع في عينتاب في القرن السادس عشر. في الحقل المتنامي للتاريخ الآسيوي- الآسيوي، قرأت وأعدت قراءة "قبور تاريم" لانغسينغ هو، وتعلمت كثيرا من طريقة مقاربته للتنقل والشتات من خلال سجلات ومقاييس تمددت بسلاسة عبر المحيطات. أما كتاب المشرف على عملي روبرت ماكتشيسني "وقف في آسيا الوسطى: أربعمئة عام من تاريخ مزار إسلامي"، فقد قدّم نموذجا عن البحث الدراسي في تاريخ آسيا الوسطى، وأنا اعتبره كتابا يتحدى مرور الزمن. ومؤخرا، اعتبر أن كلّ ما تكتبه سارا ابريفايا ستين عن الولاية القضائية خارج الحدود، هو مصدر إلهام. كما أنني من كبار المعجبين بأعمال دومينيك كيرشنر ريل، التي تقوّض الأحكام السائدة عن نهاية الإمبراطورية، وبروز القومية، ودعم الفاشية من خلال تاريخ فيوميه التي تسميها "مدينة الأشباح"، (واسمها اليوم رييكا في كرواتيا). 

ومن القراءات المتّصلة بمشروعي الجديد، لدي حماسة كبيرة تجاه إعمال المؤرخين الاجتماعيين من أمثال نويمي ليفي-أكسو، وأفق أداك، وجنكيز كيرلي، ونادر أوزبك، وغولهان بالسوي، وكان نكار، وطرق تعاملهم مع سرديات "النظام"، والسجون، والفساد، وفرض الضرائب والجندر والعمل، وسبل تأريخهم لها. 

مقتطف من الكتاب: من حجاج إلى مهاجرين وعثمانيين بحكم الأمر الواقع

كان الشرق القديم كلّه في هذه الشوارع. تركستانيون هزيلون، بلحاهم المشذّبة دائريّا، وعظام خدودهم البارزة، ووجوههم المثقلة بالزهد والتقوى، وأيدهم المشبوكة بالأكمام الطويلة لقفاطينهم، جاؤوا بقوافل الحج في سنة لم يعد يذكر تاريخها أحد - تماما مثل الطيور التي انفصلت عن سربها- وانتهى بهم المطاف في إحدى زوايا هذه المدينة [إسطنبول]. صينيون مسلمون، يتزوجون في مسجد حي إيوان سراي أو حي حراك الشريف، ويصبحون أرباب أسر، ومازالت أطرافهم، بحكم العادة، تجد ملابسنا غريبة، [يختلطون مع] أشخاص من القوقاز بقبعات من الفرو (كالبك)، وخصورهم مشدودة بأحزمة لها مشابك فضية، [و] يمنيون ملتفون بعباءات بيض، ووجوههم تذكر بالحجاج المسنون في عرفة.

أحمد حمدي تانبينار، "المدن الخمس" (بيش شهير)

في الحيّ التجاري المزدحم الذي يصل بين مجمع مسجد السليمانية وبين حي محمود باشا، حيث وجد العديد من أبناء آسيا الوسطى سكنا وعملا في نزل إسطنبول، وورشها ومقاهيها-ما زالت هناك وكالات لخدمات الحج والعمرة، بأسماء تستحضر بخارى وتركستان. وعلى الرغم من الزيادة الأخيرة في هجرة العمالة من آسيا الوسطى- التي حملت رجالا ونساء للاهتمام بمسنيّ إسطنبول وللعمل في قطاع الخدمات فيها- لم يعد الربط بين أماكن مثل بخارى وإسطنبول الكبرى والجزيرة العربية يعني شيئا، وبالنسبة لمعظم سكان المدينة فإن وجود خدمات الحج البخارية هي مجرد شيء يثير الفضول.

أشعر بأنني نجحت في كتابة أبناء آسيا الوسطى في التاريخ بطرق تتجاوز كونهم مجرد بيادق في خصومات القوى العظمى، أو حشوداً من بين رعايا غير متمايزين يسافرون في عصر السفن البخارية.

ولكن، في بداية حياة الروائي الشهير أحد حمدي تانبينار (1901-1962)، كان ارتباط أبناء آسيا الوسطى بالحج مازال واضحا. وكما كتب في كتاب "بيش شهير" وفيه مجموعة من المقالات، كان التركستانيون جزء من الجالية المسلمة الكوزموبوليتانية المتنوعة التي تعيش في إسطنبول وترتبط-"بشرق قديم"، عرفة- وبالحج في منتصف القرن العشرين، كان من المألوف لزائر المدينة أن يرى حجاجا بخاريين وكاشغريين مجتمعين على سلالم "الجامع الجديد" (يني جاميي) بالقرب من الخانات التي يعملون فيها، ومنازل العزاب التي يقطنونها، أو بالقرب من نزل اسكودار والسلطان أيوب، حيث كوّنوا جاليات صغيرة. في نهاية الإمبراطورية، كان أبناء آسيا الوسطى والهنود يجتمعون داخل "زاوية الأوزبكية" (النزل الصوفي الأوزبكي) ومن حوله، وهو المتفرّع من "طريق الآلام" في القدس-وهي الطريق التي أوصلت المسيح إلى صلبه. ووسط اللغة العربية المستخدمة في الشوارع المزدحمة، كان من المرجح سماع بعض التركية والفارسية والأوردية وملاحظة التحوّل من لغة إلى أخرى وهو سمة من سمات الحوارات بين أشخاص متعددي اللغات. في طرسوس، كان مهاجرون من وادي فرغانة يتحلّقون من حول "تركستان تيكي"، وهو نزل صوفي تأسس قبل أن تطغى طرق السفن البخارية على الطرقات البريّة التي تؤدي إلى سوريا الكبرى عبر الأناضول. في المدينة (المنّورة)، كان هناك أعداد كبيرة من البخاريين في بيوت الضيافة التي بدأت تتأسس منذ بداية العصر الحديث، وأحدها يقع بمحاذاة مسجد الرسول.

في أي محيط كان، كانت ملابسهم وقبعاتهم المصنوعة من الحرير والمخمل، تدل على أن أصلهم من مكان آخر، ولهجاتهم بالتركية والعربية تشي بأنهم ليسوا عثمانيين تماما. 

وعلى عكس المهاجرين واللاجئين المسلمين الذي هربوا من الاضطهاد والحرب في البلقان والقوقاز والقرم، والتجأوا إلى أراضي السلطان، كانت طبيعة هجرة أبناء آسيا الوسطى في القرن التاسع عشر، ظرفية كما يقترح تانبينار. فالبخاريون والأنديجانيون والكاشغاريون لم يكونوا يصلون بأفواج كبيرة، ولم يضطروا للتعامل مع لجان خاصة باللاجئين، ولم يصار إلى إعادة توطينهم في الروملي والأناضول أو المقاطعات العربية، حيث كان من المتوقع أن يصبحوا مواطنين منتجين ومخلصين للبلاد التي تبنتهم. عوضا عن ذلك، هم كانوا مسافرين مثل نور محمد (الذي تعرفنا عليه في الفصل الثاني) -أشخاصا أتوا في موجات صغيرة وبقوا هناك بعد أداء مراسم الحج مستغلين الخيط الرفيع الذي كان يفصل بين العثمانيين وبين الأجانب والذي كان الباب العلي قد بدأ برسمه في 1869. وكانت قصصهم في الغالب مشتتة وضائعة، أو حجبتها سير أشخاص كانوا في مركز الصراعات الدبلوماسية على المواطنة والحماية، حشود الرعايا الإشكاليين الذين سعى الباب العالي لاستعادتهم إلى الوطن، والتتريكيين الذين أعادوا صياغة فهم الجمهورية التركية لارتباطاتها التاريخية مع آسيا الوسطى.

يركّز هذا الفصل على الحجاج الذين بقوا (في إسطنبول) بعد أداء الحج وأصبحوا عثمانيين. أبدأ بالعودة إلى نشوب الحرب العالمية الأولى-حين أطلق إلغاء الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية، اندفاعا للتقدّم بطلبات تجنيس قانونية- وأتحرّى عن نوعين من الهجرة المرتبطة بالحج وسبل الوصول إلى المواطنة العثمانية. في الجزء الأول من الفصل، أدرس عملية منح الجنسية للمقيمين لفترات طويلة وللـ"دينيزيز" - والمشار إليهم في المصادر الحكومية بـ "تلسيك" [تتريك] (وهو مصطلح جديد للتجنيس) - وأناقش أن إلغاء الامتيازات الممنوحة للأجانب سهّل عملية إضفاء طابع رسمي على فئة من الانتماء غير القانوني برزت بعد العام 1869. وأسمي هذا الوضع مواطنة بفعل الأمر الواقع وأستخدمه في الإشارة إلى الأشخاص الذين عاشوا في الواقع كعثمانيين، على الرغم من أنّهم لم يكونوا مواطنين عثمانيين شرعيين. ويتضمّن تحليلي التمييز بين الأجانب الذين ينظر إليهم كغرباء والأجانب من الذين لديهم جنسيات قانونية غير عثمانية. وفي حين أن هذا التمييز غالبا ما يضيع في الترجمة، إلا أنّه مهم لكي نفهم كيف دمج أبناء آسيا الوسطى داخل المجتمعات العثمانية ولماذا تمكّنوا من تخطّي -من دون التحايل بالضرورة- القيود القانونية المفروضة على حقوق الأجانب. والمواطنة بفعل الأمر الواقع كانت موجودة ليس فقط لأن الناس استغلوا الثغرات القانونية، بل أيضا لأن الحكومة المركزية لم تتمكن من التوصل إلى إجماع حول تعريف الأجنبي كما أنها لم تكن راغبة في تفعيل عدد كبير من مراسيمها. 

إن تتبع الروابط بين الحج وبين الهجرة يلقي الضوء على مجموعة أوسع من التنقلات الآسيوية ويتحدّى الرأي الشائع بأن الدافع لهجرة أبناء آسيا الوسطى إلى الأراضي العثمانية كان عرقيا بالأساس. هناك سبب لاستيطان البخاريين والتركستانيين والكشغاريين في مدن تقع على طريق الجح، مثل إسطنبول ودمشق والقدس ومكة والمدينة، عوضا عن الاستقرار في مدن "تركية". ويتضح ذلك في الجزء الثاني من الفصل، حيث ننتقل إلى المدن المقدّسة وندرس نوعا من الهجرة والإقامة التي ترعاها الدول، وهو نوع لم يلق ما يكفي من الاهتمام والدرس، يسمّى "المجاورات". فتجارب أبناء آسيا الوسطى في الحجاز تثير أسئلة عن المواطنة والانتماء للإمبراطورية في مقاطعات "استثنائية" تدفعنا إلى إعادة النظر في معنى أجنبي مسلم أو التحول إلى عثماني ضمن كيان سياسي اكتسب شرعيته عن طريق الخلافة وحكم من خلال الاختلافات.

عثمانيون بفعل الأمر الواقع

بالنسبة للحاج صاحب، المولود في أنديجان في أوزبكستان، والذي هاجر إلى إسطنبول في بداية القرن العشرين، كان التحوّل إلى عثماني بمثابة عملية قيد الإعداد منذ وقت طويل. ذات يوم، قبل إتمام الحج أو بعده، استقرّ في [حي السلطان] أيوب-ربما بسبب تردده في العودة إلى وادي فرغانة، الذي كان ما يزال مزعزعا بسبب انتفاضة 1898 وما تلاها من أعمال انتقامية روسية. وما إن تمكن الحاج من جمع ما يكفي من المال، حتى افتتح محلا لبيع السبحات وتزوّج من امرأة عثمانية هي فاطمة توحيدة هانم، ابنة مالك مقهى محلّي. وقد أنجبا ابنتين، نعيمة ونبيّة. وفيما كان يبني حياة جديدة في العاصمة العثمانية، احتفظ بأوراقه الثبوتية الروسية وجواز سفره، "ني أولور ني أولماز" (احتياطا). ومثل كثيرين من مواطنيه، كان الحاج صاحب قد احتسب احتمال أنه يمكن له يوما ما أن يتأهل للاستفادة من الجنسية الأجنبية. لو أنّه يتمكّن من توسيع أعماله مثلا، فإن مزايا الامتيازات تسمح له بمنافسة المحميين الأوروبيين بطرق محظورة على الرعايا العثمانيين. وبما أنه قادر أساسا على العيش في السلطنة والعمل فيها من دون أن يصبح عثمانيا، فإن ذلك كان أسهل السبل، وإلا لكان يتعين عليه أن يذهب في رحلة مكلفة إلى روسيا لكي يتخلى قانونيا (عن طريق روسيا) عن جنسيته.

فقط في الأيام التي تلت التاسع من أيلول/سبتمبر 1914، حين قامت حكومة "لجنة الاتحاد والتقدّم" بإلغاء امتيازات الأجانب من طرف واحد، بدا أن الحاج صاحب قد شكك بصوابية احتفاظه بجنسيته الأجنبية. في ذلك الخريف، بدأ الناس في المدينة يزينون منازلهم وأماكن عملهم بالرايات والشعارات، وينضمون إلى تجمعات جماهيرية كبيرة للاحتفال بالاستقلال عن اتفاقيات الامتيازات المرهقة التي عانت منها الإمبراطورية لفترة طويلة. حين انضمت "لجنة الاتحاد والتقدّم" إلى الحرب إلى جانب "دول المحور" في 29 تشرين الأول/أكتوبر، ارتفعت التعبئة القومية الحكومية والمشاعر المعادية للأجانب. وبدأ العثمانيون على امتداد إسطنبول يستنفرون ضد الغرباء، الذين باتوا يعتبرون أكثر فأكثر "دخلاء خطرون، متواطئون مع التجار غير المسلمين في وجه فوائد ظهور اقتصاد وطني." وعلى الرغم من أنّه لم يكن من المرجح أن يعتبره جيرانه أو شركاؤه "غريبا غدّارا"، إلا أن الاحتفاظ بجنسية أجنبية بات يشكّل عائقا بدلا من أن يكون امتيازا. ومع وجود ابنتين صغيرتين، وزوجة لا ترغب ربما بالانتقال من إسطنبول إلى قرية نائية في تركستان، قام بتقديم عريضة لوزارة الداخلية يطلب الحصول على الجنسية. وكانت الوثائق تتضمّن تعهّد محلّف بأنّه يتخلّى عن أي حقوق مستقبليّة بجنسية أجنبيّة. وكان يلي عملية طلب المواطنة- التتريك- تحقيق بسيط إلى حد ما: كانت السلطات العثمانية تتشاور مع وسطاء مثل شيوخ التكية في أيوب، وتقرّ بأن الحاج قد لبّى مطلب الإقامة في البلاد لمدّة خمس سنوات، كما ينص قانون الجنسية العثماني للعام 1869، وبأنه كان رجلا سمعته حسنة وصاحب عمل سليم. وتمت الموافقة على طلبه سريعا: هو وابنتاه-اللتان تحصلان تلقائيا على جنسية والدهما بالولادة- أصبحوا عثمانيين.

[نشرت في جدلية. ترجمة هنادي سلمان]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Review of "Bedouin Bureaucrats: Mobility and Property in the Ottoman Empire"

      Review of "Bedouin Bureaucrats: Mobility and Property in the Ottoman Empire"

      Historians of the late Ottoman Empire have long contended that Bedouin were opposed to standardized administrative state-making or victims of increasingly colonial forms of governance in eastern Anatolia and Arabic-speaking provinces. In her groundbreaking new book, Bedouin Bureaucrats: Mobility and Property in the Ottoman Empire, Nora Barakat turns this conventional wisdom on its head and shows how tent-dwelling, seasonally migrating people actively participated in Ottoman state transformation, reform of property regimes, and capitalist development. Instead of finding a history of intractable differences, Barakat traces how Bedouin contributed to Ottoman state-making and carved out local power that allowed them to protect communal interests. By registering land, aiding in taxation, participating in legal proceedings, and mediating between the central government and their communities, local headmen and middling administrators contributed to making the Syrian interior more legible and productive. Although they did not fit into official schemes of government administration, they were in effect what Barakat terms “Bedouin bureaucrats”: active participants in Ottoman governance and often the face of imperial administration.

    • Lâle Can, Spiritual Subjects: Central Asian Pilgrims and the Ottoman Hajj at the End of Empire (New Texts Out Now)

      Lâle Can, Spiritual Subjects: Central Asian Pilgrims and the Ottoman Hajj at the End of Empire (New Texts Out Now)

      In the summer of 2006, I decided to take a break from the Ottoman Archives and to visit the Sultantepe Özbekler Tekkesi, a Sufi lodge I had read about in hundreds of petitions and state-generated documents.

كتب: قصص الأجانب

ريبيكا سي جونسون

(جامعة كورنيل للنشر، 2020) 

جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟

ريبيكا سي جونسون (ر. ج.): بدأت أفكر في هذا الموضوع منذ سنتي الأولى في الدراسات العليا. كنت قد لاحظت تناقضا في كيفية وصف الباحثين لتاريخ الرواية العربية. في ذلك الوقت، كان من المتوافق عليه عموما أن الرواية ظهرت سنة 1913 مع صدور "زينب" (لمحمد حسين هيكل). ولكن هوامش هؤلاء الباحثين أنفسهم كانت تسجّل باستمرار وجود العديد، بل المئات، من الروايات التي نشرت قبل ذلك التاريخ. هم فقط لم يعدوها روايات عربية، بمعنى أنها ليست "روايات قويمة" أو عربية "أصيلة". كانت تلك الروايات، وعلى عكس الخيال الوطني المتضمن في رواية "زينب"، مترجمة من نصوص أوروبية أو مقتبسة منها؛ كانت تتمحور حول شخصيات وأماكن أجنبية. ووصفت بأنها روايات بدائيّة، تقلّد الأسلوب الأوروبي. ثم، حين بدأت أبحث عن المزيد حول هذه الأعمال، وجدت المزيد من التناقضات؛ فقد وصفت بأنّها تقليد "خانع" للشكل الغربي، ولكن أيضا بأنها ترجمات سيّئة، ونسخ غير دقيقة. كيف يمكن لها أن تكون الإثنين معا؟ شديدة الشبه بالأصل الأوروبي من جهة، وغير مشابهة بما يكفي من جهة ثانية؟ كان هذا واحدا من الأسئلة. ولكن، من ثم، كانت هناك خاصيّة أخرى لهذه الأحكام التقييمية: كانت الروايات مجموعة من الأعمال لم تقرأها إلّا قلة من هؤلاء الباحثين: فهم فعليا أسسوا مجمل المسارات التاريخية للرواية العربية "الصرفة" وتعريفاتها بناء على عناوين هذه الأعمال وحدها، معتبرين أنه إذا كان عنوان الرواية هو "البؤساء" فإن المحتوى يجب أن يكون موازيا لرواية "البؤساء" لفيكتور هوغو، حتى لو كانت الترجمة والنص الأصلي يختلفان جذريا أسلوبا وحجما. فبالطبع، أردت قراءة هذه النصوص-والتي كانت بحد ذاتها مشروعا طويل المدى.

(ج): هل وجدتِ شيئا غير متوقع لدى قراءة هذه الروايات؟

(ر. ج.): في بداية بحثي، توصّلت إلى اكتشافات أوليّة مفاجئة فتحت الطريق للأفكار الرئيسية التي قدّمتها في الكتاب.

أولا، واجهتني تفاصيل عملية النشر والتي لم أكن آخذها في عين الاعتبار من قبل وهي: المكانة الرئيسية لتجزئة النصوص المترجمة ولتداولها؛ ظهور إصدارات منفردة في أماكن مختلفة؛ إعادة الترجمة في دول مختلفة؛ مقتطفات في مجلات بحثية مختلفة. من هنا فهمت أنه يتعين إعادة النظر بعمق في الإطار الثقافي لعملية النشر الوطنية، وهو إطار هيمن طويلا على دراسات الروايات.

ثانيا، اكتشفت أيضا مدى أهميّة النصوص الرديفة؛ تفحّصت الأساليب اللغوية في الإعلانات، وموقع الرواية في صفحات الصحف إذا كانت تنشر متسلسلة، وأيضا مقدمات المترجمين. وسمح لي ذلك برؤية كيفية تقديم النص، وبرؤية الترجمة كنوع من القراءة النقدية. كان أولئك المؤلفون يحددون موقع ترجمتهم ضمن تاريخ أشمل للرواية حيث اللغة العربية رئيسية، وليست هامشية، ضمن تاريخ طويل للروايات في الترجمة. 

وأخيرا، وجدت ترجمات في أماكن لم أكن دائما أتوقعها؛ وجدت الروايات المترجمة نفسها التي صنعت خيالا عابرا للحدود الوطنية لقرائها. إلا أن الترجمة ظهرت أيضا في روايات أصليّة. وكانت الترجمة تُناقش في المجلات العلمية وفي القواميس. وأكثر من ذلك حتّى، فقد ظهر في أنواع النشر كلها تقريبا شكلا من أشكال الترجمة، من ترجمة الصحف الأجنبية من أجل أقسام الأخبار الدولية، وصولا إلى تلقي البرقيات. اكتشفت أن الترجمة كانت شرطا للقراءة في القرن التاسع عشر. كانت تقنية راسخة في عادات القراءة التي نفترضها أحادية اللغة. 

الروايات الأولى بالعربية لم تنشر مترجمة، بل كانت تتطلب من القارئ أن "يترجم" ما يقرأ، وسط أطر مرجعية متنوعة، وأصوات السلطة، واللغات، والنصوص، وبالرغم منها.

(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟

(ر. ج.): يتناول الكتاب، بصورة رئيسية، سبل تداول الأدب والأشكال الأدبية، وهو ينظر إلى الإنتاج الروائي من 1853 (لدى ظهور الرواية الأولى بالعربية) إلى نحو 1913. أقوم بدراسة روايات مترجمة وأخرى أصلية من الفترة تلك، إلى جانب الدوريات، والأطروحات اللغوية، ومحاضر المجتمعات الأدبية ومواد أرشيفيّة أخرى. استخدمتها ليس لفهم التاريخ المبكر للرواية العربية فحسب، بل أيضا لفهم كيف تُتداول الرواية كنوع عابر للدول. لفترة طويلة، عمل الباحثون على تنويعات لنموذج واحد لانتشار الرواية- - حيث "تنهض" الرواية في أوروبا ثم تُصدّر إلى خارجها. وأنا أناقش بالأساس أن هذا نموذج محوره أوروبا ويفترض أن أوروبا هي مصدر الأدب وموقع (النصوص) "الأصلية"، وأن الأماكن الأخرى كلها هي ببساطة "متلقيّة" للروايات في نسخ أدنى منزلة من النسخة الأصلية. ولكن إذا نظرنا إلى الترجمة كإنتاج أدبي عوضا عن كونها فعل "تلقي"، يصبح بإمكاننا أن نرى أن الترجمات ليست على الإطلاق نسخا عن الأصل-بل هي أعمال أصلية ناتجة عن علاقة نقدية مع نص المصدر. 

الترجمة ليست نسخاً، بل قراءة نقدية، تفسير، نقد سياسي. والرواية المترجمة ليست نسخة عن الرواية الأصلية بل تنظيراً لها. هكذا، فإن الروايات المترجمة التي تشمل البدايات الأولى للرواية بالعربية (وفي أماكن أخرى) ليست نسخا متأخرة عن الأصل الأوروبي، بل تنظيرات لها، ونوع قائم بحد ذاته؛ لديها ما تضيفه عمّا يكوّن الرواية وما تقدمه. إن كتاب "قصص الأجانب" هو محاولة لفهم تنظيرات الرواية هذه، والتوزيع العابر للأوطان، مما يتطلب اعتبار المترجمين منظرين في الترجمة ومعلقين مطلعين على تاريخ الأدب، قاموا بتنظيم مدوّنة عابرة للأوطان للقراء العرب بعد إعادة تفسير الأصول الأوروبية وإعادة وضع سياقات لها، في عملية غالبا ما كانت تبعدها عن الأصل.

لكنه أيضا كتاب عن شكل المؤسسات المتنوعة للحداثة الأدبية كما كانت بالعربية في القرن التاسع عشر. وهو يبين كيف أن مؤسسات الطباعة والنشر والتحديث اللغوي والنطاق العام للنشر- وهي معالم النهضة- كلها بُنيت على الأساليب الجديدة لقراءة الترجمة. وهو يظهر كيف هيمنت الترجمة على صيغة من القراءة، والكتابة، والتحليل الثقافي لدى المؤلفين العرب في القرن التاسع عشر في افتراضهم لحداثتهم في علاقتها بأوروبا، وبتراثهم الأدبي، وغالبا، بالعالم ككل.

(ج): من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغبين أن يخلّفه؟

(ر. ج.): بطريقة من الطرق، فإن الإجابة على هذا السؤال محبوكة بالعنوان الفرعي ذاته. هذا تأريخ للرواية في الترجمة العربية، وليس تأريخا للرواية العربية. وهذا يعني أنه وعلى الرغم من أن الرواية هي جزء لا يتجزأ من أرشيف نصي بمعايير لغوية معينة، إلا أن الأرشيف ذاته يتضمن ظروفا أخرى أوسع، وينظّر للرواية بشكل عام كنوع أدبي يعتمد على الترجمة. وقدم العديد من المترجمين الذين تناولهم بحثي أعمالهم على |أنّها تحدث ضمن تاريخ مستمر من الترجمة والتوزيع؛ وهم يطرحون- مثلي- فكرة أن الرواية العربية تتخذ من الترجمة والتبادل الثقافي قاعدة لها، مثلها مثل الرواية الأوروبية. الرواية لم "تظهر" في سياق معين ثم "سافرت"، مكتملة، إلى سياق آخر؛ لقد ظهرت داخل عملية تفاعلية من الترجمة، ومن خلالها. بهذا المعنى، ليست الحالة العربية محوريّة فحسب؛ بل هي نموذجية. وهذا يعني أن النتائج التي توصلت إليها الدراسة لها انعكاسات على التوزيع الأدبي العابر للدول كله، كما على سرديات الروايات غير العربية. لذلك، وإلى جانب الباحثين في الأدب العربي ومؤرخي النهضة، آمل أن يجد الباحثون في مجال تاريخ الرواية ونظرياتها بشكل عام، بالإضافة إلى دراسات الترجمة، هذا العمل مفيدا.

(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعملين على إنجازها الآن؟

(ر. ج.): حاليا، عدت للعمل على مشروع أطروحتي لنيل الماجستير والتي هي-بطريقة ما- نسخة عن هذا البحث، ولكنّها تتناول القرن العشرين. وأنا مهتمة بالتاريخ الطويل لجماليات الأدب المعاصر وأساليبه (والتي تسمى أحيانا "تجريبية" أو "رائدة") وكيف تتصل بالالتزامات السياسية خلال حقبة القضاء على الاستعمار وبعدها. إلا أن مشروعي الأساسي يستكشف كيفية انجاز الأبحاث الأكاديمية في ظل ظروف (ما بعد) الجائحة. أفترض أن ذلك يتطلّب بعض التجريب أيضا!

مقتطف من الكتاب: "الرواية في عصر صورة العالم المقارن"

جاءت شعبية "كونت مونتي كريستو" في المقدمة من اهتمام أوسع للمخيلة العربية بالشبكات العابرة للأوطان في مجالي الإعلام والنقل. كان قراء "النهضة" يجدون بانتظام إعلانات عن توفّر إصدارات أجنبية، وخدمات توصيل الرسائل والطرود (البريدية) من وإلى الخارج، وعن التوزيع الخارجي للدوريات المحليّة؛ وأيضا إشعارات تعلن تمديد أسلاك تلغراف وتأسيس شبكات بريدية؛ ومقالات تلي افتتاح سفن بخارية وخطوط سكك حديدية... كما أن هذا الاهتمام لم يكن حكرا على القراء باللغة العربية. فافتتاح قناة السويس كان بحد ذاته حدثا إعلاميا عالميا؛ وغطّت الصحف العربية- كما الأوروبية والأميركية- ربط القارة الأميركية بأوروبا عبر أسلاك البرقيات في 1866، ووصل شبكتي سكك الحديد "يونيون" و"سنترال باسيفيك" لتغطي سواحل الولايات المتحدة في 1869، ومن ثم في 1870 دمج سكك الحديد في الهند الذي سمح بالسفر من بومباي إلى كلكتا.

الترجمة ليست نسخاً، بل قراءة نقدية، تفسير، نقد سياسي. والرواية المترجمة ليست نسخة عن الرواية الأصلية بل تنظيراً لها.

ومع حلول الربع الأخير من القرن، كان العالم نفسه قد تحوّل إلى وحدة تحليل مشتركة. وارتفعت وتيرة المقالات التي تعدد "سكك الحديد في العالم" أو "صحف العالم"، مثلها مثل المقالات التي تشرح سبل السفر "حول العالم" ومقالات مقارنة تشرح الفارق بين "مناطق العالم". كان بإمكان القراء أن يروا أنهم يعيشون في العالم ذاته مع أولئك البعاد. وكان لديهم سككا حديدية أيضا، أي: سكك الحديد المصريّة أو السورية أو العراقية كانت واحدة من "سكك الحديد العالمية"؛ كان ينظر إليها باعتبارها جزء من شبكات سكك الحديد العالمية الأشمل. انضمت ترجمة "مونتي كريستو" وروايات أخرى ذات الصلة إلى تقارير الترابط هذه لتتيح للقراء بالمشاركة في العملية العالمية لإعادة تخيل جميع أرجاء العالم.

في كانون الثاني/يناير 1872، في الواقع، عرف القراء في بيروت أنهم هم أنفسهم يستطيعون أن يجوبوا العالم كلّه. فوسط أنباء دولية أخرى متداولة- شهادة عن مطاردة متنقلة مسكونة بأرواح يلاحقون أسرة فرنسية إلى مواقع متعدّدة (إنها الحقيقة، على الرغم من كونها غير قابلة للتفسير) وتحديث لأسعار القهوة والسكّر والأرزّ- عثر قرّاء المجلّة الأسبوعية الكاثوليكية "البشير" على خبر عنوانه "رحلة تحمل المسافر حول العالم". ويبدأ الخبر بالقول إن "أفادت "صحيفة التجارة" أنه شوهد على جدران مدينة سان فرانسيسكو في أميركا، إشعارا يعلن عن رحلة حول العال في 82 يوما". وبعد تحديد المسار والمسافات بين المحطات ("من هونغ كونغ إلى كلكتا، 3500 ميلا")، يشرح الكاتب أنه يمكن للقارئ القيام بالرحلة ذاتها بطريقة أسرع حتّى، وأكثر سهولة وراحة: ويشرح أن "جولة حول العالم بأربعين دقيقة فقط"، ستصبح ممكنة قريبا مع التلغراف، ما إن ينجز الخط بين أميركا واليابان.

وكان بإمكان قرّاء "النهضة" أن يقرأوا عن عالم متصل، والسفر فيه، مجازيا وفعليا. وكانت شبكات التواصل والنقل هي شكل تخيلات القرّاء العالمية وأرضيتها.

وبالفعل، فمن أجل تمثيل العالم، كان المادي والمتخيّل غالبا، وغالبا للضرورة، منصهرين. في أيلول/سبتمبر 1874، بعد عامين على صدور إعلان الرحلة حول العالم في "البشير"، علم القرّاء أنفسهم عن رحلة أخرى، عنوانها "الرحلة الجويّة في المركبة الهوائيّة المعروفة بالبالون"، والتي "اختصرت" من رواية جول فيرن "خمسة أسابيع في البالون" (1863). وقد تمت تجزئة الرواية لتنشر على حلقات حتى تشرين الثاني/نوفمبر من العام التالي، إلا أن هذه الترجمة ظهرت إلى جانب أخبار واقعية عن أسفار لمسافات طويلة، وقدمت بطريقة مبهمة وكأنّها خبر وقعي أيضا. وعلى الرغم أنها نشرت تحت الشريط الفاصل في القسم الذي كان مخصصا سابقا للقصص، إلا أنّها لم تصنّف كـ "قصة"، كما كانت تصنف القصص المتسلسلة سابقا. وعوضا عن ذلك، وصفت ببساطة بتعبير عام هو "كتاب"، عن "رحلة من شرقي أفريقيا إلى غربيها" بالبالون. وكان يضاعف من هذا الالتباس تقطع نشر السلسلة في سبيل نشر العديد من المقالات الإخبارية الطويلة عن السفر والاستكشاف: في أحد أعداد المجلة نشرت مقالتا "دراسات جغرافية وخرائطية"، و"البعثة البريطانية إلى جزر كيرغولين"، بدل القصة، في حين استبدلت بمقالة "فوائد الاستكشاف العلمي البريطاني للقطب الشمالي" على امتداد ثلاثة أسابيع متتالية. هكذا، يمكن للرحلة التي حكيت في هذا الكتاب أن تكون حصلت فعلا في الواقع أو أن تكون متخيّلة.

هذا الصهر بين العالمين المتخيل والملموس ليس مؤشرا على سذاجة معرفية. لم يلجأ ناشرو المجلة إلى تداخل هذين النوعين لأنهم أخطأوا بين الواقع وبين القصة. بل فعلوا ذلك لأنهم اشتركوا بالمشروع العقائدي المركزي لعولمة القرن التاسع عشر: تحويل جميع الأماكن المتنوّعة والأشخاص المختلفين في العالم إلى وحدة واحدة، مقروءة، ومترابطة ببعضها البعض. وكما طرح مارتن هيدغر "كان الحدث الأساسي في العصر الحديث هو غزو العالم وكأنّه صورة" هي نفسها "صورة للعالم متصوّر ومفهوم على أنّه صورة.... في مجمله". وكانت صناعة العولمة بعيدة كل البعد عن كونها عملية تجريبية فحسب، إذ كانت أيضا عملية من صنع الخيال وعملية تطلبت تقنيات وجماليات وأشكالا جديدة. ... خرائط للعالم، كرات أرضية، أطالس، وكلّها ارتفعت شعبيتها في أوروبا حيث كان المستكشفون يرسمون خرائط لما اعتبروه المساحات الأخيرة "غير المكتشفة"، وكانوا يصنعونها مستخدمين ما يمكن لباحث أدبي أن يسميه وسائل استعارية: استقراءات، أفكار تجريدية، وإسقاطات.

[....]

كانت ترجمات القصص العالمية بوضوح... تساعد القراء على الموازنة بين مفاهيمهم وتجاربهم للعولمة في حين كانت وعودها بالمزيد من الازدهار مخترقة بتجارب اقتصادية وجسدية حرجة، إلى جانب تدخل حكومي متزايد في الحريات المادية والعائلية وحركتها. في الفترة الممتدة بين 1885 و1895 التي أنجزت خلالها هذه الترجمات (لقصص جول فيرن العالمية)، وجد القراء حركتهم تقيّدها أنظمة هي بدورها مدارة ومقيدة من قوى خارجية-عبر حكم استعماري مباشر وغير مباشر. ففي حين كانت هذه الروايات تقدّم نماذج تبدو ذات سيادة، تتحرك بحرية وبلا أي عقبات في الفضاء وحتى في الزمان، كانت ترجماتها تحتوي على آثار تجارب التقييد تلك.

لم تكن مخاطر التنقل أمرا نظريا بالنسبة لمنتجي تلك الروايات. فمترجما "رحلة إلى مركز الأرض" يوسف عسّاف واسكندر عمّون ولدا في متصرفية جبل لبنان، في حين أن كلا من الناشر سليم خليل النقّاش (1850-1884) الذي أنشأ دار "المحروسة"، وجرجي زيدان الذي أسس دار "الهلال" ولدا في بيروت؛ كلهم هاجروا إلى مصر بين العامين 1875 و1885. وذلك يعني أنّهم، مثلهم مثل ثلث سكان متصرفية جبل لبنان، تهجروا بسبب الحرب الأهلية، وقمع السلطة أو الضغوطات الاقتصادية. والأكثر من ذلك هو أنه كانت لدى المترجمين كلّهم صلات مباشرة مع الأنظمة الاستعمارية. كان توفيق دوبارية ابن يوسف بيك، مترجم "رحلة إلى القطب الشمالي"، هو حفيد ألكسندر دوبريه، أحد أفراد مجموعة من الباحثين في مجال الطب دعاهم حاكم مصر محمد علي باشا إلى مصر، بقيادة كلوت بيك. كما أن كلا من يوسف عسّاف واسكندر أنطون كانا موظفين في الحكومة الاستعمارية البريطانية لدى نشر ترجماتهما. وقام هؤلاء المترجمون، وهم مرتبطين مع مؤسسات الاستعمار لدى نشأتها، بإنتاج أعمال وآراء دولية لا يمكن فصلها عن الاستعمار.

[...] في حين كانت نصوص جول فيرن معدّة لإثبات أن العالم متواقت، ووحدة منفردة، وسالك للسفر، كانت الترجمات العربية تلحظ عوضا عن ذلك أن الوحدة العالمية هي نتيجة للمشروع الاستعماري. ويقدم هذا الاختلاف في الترجمة صورا معقدة للعولمة في القرن التاسع عشر وهي أكثر من مجرد صور طوباوية عن الانسجام العالمي. فمديح شبكة سكك الحديد في أميركا الشمالية على أنها "أداة تقدم وتحضّر ألقيت على امتداد الصحراء، ومصممة للوصل بين المدن والبلدات"، مثلا، حذف ببساطة. وبدلا عنه، بعد ذلك بصفحات، توصف شبكة السكك الحديدية تلك بأنها مشروع استعماري بوضوح. وكما في نص فيرن، يهاجم محاربو سيو (من قبائل السكان الأصليين لأميركا) - الموصوفين بالقرود في النسخة الفرنسية ولكن ليس في النسخة العربية- القطارات، وهو هجوم تصوره النسخ العربية بالمبرر بسبب وحشية عملية بناء سكك الحديد. فالسو، كما تشير ملاحظات عسّاف بالعربية، "ومنذ تأسيس السكك الحديدية على أراضيهم"، "أصحبت وظيفتهم" مهاجمة القطارات: لم يكن ذلك هجوما اعتباطيا أو خطوة للانتفاع بل عنفا محسوبا مناهضا للاستعمار، "وظيفته" هي التحرر. 

في "الرحلة العلمية في قلب الكرة الأرضية"، لا يعتبر الراتب الشهري الذي يعطيه البروفيسور ليدينروك لدليله، تدخلا هزليا في القصّة المشحونة، بل هو حدث بحد ذاته يستحق التعليق والتوسّع. في النسخة العربية، كان العالِم، وعلى امتداد الرحلة، يوثّق تفاصيل تاريخ العالم برمّته، ولكنه كان يوثّق أيضا تفاصيل راتب خادمه. وهذه الإضافة تذكّر القارئ أن تاريخ الكرة الأرضية لا يمكن أن يدوّن من دون سجل للعبودية.

إن ما تقدّمه قصص الترابط هذه ليس مقاومة للعولمة بل تصور منافس لها. وهي تُظهر أن الحداثة التكنولوجية لا تقدم إلا وحدةً مشروخة، وليست تامّة. وهذا ما يفسر، في معظم الأحيان، لماذا يتم حذف كلمة "عالَم" نفسها من هذه الترجمات؛ فالكليّة محجوبة. ولكن، وهذا مهم، لا يصار إلى إلغائها، بل إلى إعادة تشكيلها فحسب. في "الرحلة الجويّة"، يتم حجب تلك الكليّة حتى النهاية، حين-وبعد حجب أربع إحالات إلى كلمات "العالم" و"الأرض" و"الكوكب"- يضيف المترجم يوسف سركيس خلاصة موجزة بتوجه عالمي كانت غائبة كليا في النسخة الفرنسية لفيرن. ففي حين يختم فيرن نصّه بشرح أن أهمية السرد تكمن في المعلومات الجغرافية التي يوفرها عن أفريقيا، يوسّع سركيس نطاق أهمية النص، مستخلصا مطالب جغرافية ومعنوية أخلاقية أوسع بكثير. [...] لهذا السبب، يناقش فينغ شيا أن العمل الأدبي لا يعكس ببساطة القوى العالمية أو يواجهها بمفعول رجعي، بل هو يحتوي على ما يسميه بـ"القوة المعيارية..في العالم." ولا تقدم القصة للقارئ نظرة عن العالم بل هي تطرح رأيا حول كيف يجب أن يكون: "هي تخوض المعركة التي ينتصر فيها كشف الكائنات ككل- أي الحقيقية"، بحسب قول هيديغر. وكما يشرح سام فيبير "ليس من أماكن آمنة" في نظرة هيديغر للعالم. وتلقي هذه الترجمات لقصص فيرن العالمية الضوء على الهوة بين العالم وبين النظرة للعالم وهي ما يسميه هيديغر "انفتاح" الأعمال الفنية- والتي لا يعني بها قدرتها على خلق المعنى بطرق متعددة ومتضاربة فحسب، بل أيضا قدرتها على خلق أطر متعددة للمعنى... وقد فهم هؤلاء المؤلفون والمترجمون، أن فهم العالم ككل يعني القراءة في الترجمات.

[نشرت في جدلية. ترجمة هنادي سلمان].