لاله كان
(جامعة ستانفورد للنشر، 2020).
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟
لاليه كان (ل. ك.): في صيف العام 2006، قررت أن آخذ استراحة من الأرشيف العثماني، وأن أقوم بزيارة "سلطانتيبي أوزبكلير تيكيس" أو "نزل الدراويش الأوزبك" في سلطانتيبي (تلّة السلطان)، وهو نزل صوفي قرأت عنه في مئات العرائض والوثائق الحكومية. وعلمت من مقال قصير كتبته غريس مارتن سميث أن هذا النزل المتواضع لمسافري آسيا الوسطى، يحتفظ بسجلّات دفينة تحتوي على معلومات عن الحجاج الذي دخلوا بابه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. كان مشايخ "سلطانتيبي" قد دوّنوا، بدقّة، أسماء النزلاء، والمناطق التي أتوا منها، ومهنهم، وتواريخ وصولهم ومغادرتهم، وتفاصيل شخصية تعطي لمحة عن تاريخ غني يصعب اكتشافه في الوثائق الحكومية.
بعد زيارات عدّة، ومساع عدة للوصول إلى هذه المصادر الفريدة، ومحاولات لدمج سرديات الحج غير المنشورة في بحثي، وسنوات من التفكير بالسبل التي أتاحتها فضاءات الصوفيين ونصوصهم لتسهيل السفر عبر مسافات طويلة، عرفت أن الطريقة الوحيدة لكتابة هذا الكتاب هي جعل الحجاج أنفسهم يرشدونني. ولكن، وإن كان هؤلاء الحجاج ومجتمع "سلطانتيبي" هم من حفّزوني على كتابة هذا الكتاب، إلّا إنني لم أكن دائما مستعدة لمواجهة الأسئلة المعقّدة المتعلّقة بالقانون، والانتماء، والحقوق، التي أضاءتها تجاربهم.
في صياغة الدراسة التي نتجت عن ذلك حول الهجرة، والقانون، والسلطة الدينية، والرعاية، كان من المهم بالنسبة لي أن أبقي شخصيات دراستي- ومجتمعاتهم وشبكاتهم- في المركز من تحليلي. وفي حين أن سرديات التنّقل داخل الإمبراطورية وعبرها كانت غالبا ما تبدأ بالاستناد إلى المسارات أو التصدعات العالمية، أو بقصص عن أشخاص ذُكروا في المصادر الأرشيفية لأنهم كانوا استثنائيين بشكل من الأشكال، اخترت أنا أن أبدأ الكتاب وأن أنهيه في فناء هذا النزل، وسط مشاهد من الحياة اليومية. وجزئيا، كان السبب هو إظهار أن الحج لم يكن شيئا يحدث في مقاطعة بعيدة في وقت محدد من العام، بل كان طقسا منسوجا في بنية المجتمعات العثمانية. وكان سبب آخر هو تجذير تاريخ روابط الحج في مكان يمكن للقراء تخيّله كنقطة محورية ضمن شبكة تؤدي دور الوسيط للتخفيف من التجارب المشحونة، وتؤمن الدعم للوافدين الجدد.
وفي اصطحابي للقراء عبر التلة شديدة الانحدار بين حيي أسكدار وسلطانتيبي، آمل أن أعرّفهم على المشايخ الذين ساعدوا الوافدين الجدد على إيجاد عمل، وتأمين صحي، وبطاقات للسفن البخارية. كما أنني أريدهم أن يتعرّفوا على النزلاء الذين كانوا يأتون ويذهبون، أحيانا عشرات المرّات على امتداد عشرات الأعوام. ووسط الصعوبات الهائلة التي كان الحجاج يواجهونها في سفرهم داخل إسطنبول، أردت أن أظهر كيف قدّم هذا النزل بعض الراحة، متنفسا، وإحساسا بالألفة وبالدفء المنزلي. في الوقت ذاته، كنت أريد أن أرسم صورة بجزيئات ناعمة لهذه المساحة من الصلات، التي كانت تشمل شجرة ماغنوليا جميلة، كانت تؤشّر على تبدّل الفصول، كما أنها كانت شاهدا صامتا على التغييرات الهائلة التي أثّرت على إيقاعات الحياة اليومية بين 1869 و1914.
(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(ل. ك.): "رعايا روحانيون" هو دراسة عن الحج بالمجمل، والتعديلات في الجنسيات، والقانون الدولي، يتعقّب كيف مهّدت الهجرة المرتبطة بالحج الطريق لأبناء آسيا الوسطى كي يصبحوا رعايا عثمانيين، ومن ثم، لاحقا، مواطنين أتراك. هو يتتبع أشخاصا من تركستان الغربية (الروسية) والشرقية (الصينية) ويستكشف كيف أدّت المزاعم العثمانية بامتلاك سلطة الخلافة، خلال عهدي عبد الحميد الثاني و"تركيا الفتاة"، إلى إعادة تشكيل علاقة السلطان مع المسلمين في الخارج. ومع ضمّ أبحاث من مكتب المجلس القانوني في وزارة الخارجية العثمانية وارتباطه بالقانون الدولي، يظهر الكتاب كيف سعى الباب العالي (الحكومة المركزية) إلى مكافحة انتشار المسلمين الساعين للحصول على حقوق وامتيازات خارج الأراضي العثمانية عبر حرمانهم من حقّهم بالحماية الأوروبية، ومن ثم ادعاء أنّهم يخضعون لحماية الخليفة العثماني حصريا. وحصل أبناء آسيا الوسطى، وهم ليسوا عثمانيين تماما كما أنّهم ليسوا غرباء تماما، على نوع من أنواع الرعاية المبنية على الزعم المستحدث للباب العالي بالحماية المتأتيّة عن الخلافة. وشكّل وضعهم القانوني تحدّيا للتصنيف المعاصر للعثمانيين وللأجانب، كما للفئات التي استخدمها المؤرّخون لدراسة مواطنية الإمبراطورية.
ومن بين المساهمات التي يقدّمها الكتاب، أعتقد أن هناك ثلاث مهمة على وجه خاص. أولا، هو يقوم بتجزئة مجموعة من التطورات التي درست من قبل في إطار "الوحدة التركية" أو "الوحدة الإسلاميّة". فمثلا، هو يظهر كيف أن الدافع لمنح الرعاية العثمانية لحجاج تركستان أو لإعادتهم إلى بلادهم كان في معظم الأحيان مرتبطا بالمخاوف المتعلقة بحفظ الأمن والنظام العام-وليس بالعقيدة السياسيّة-الدينية أو بالأواصر العرقية. وبشكل مماثل، هو يبيّن أن زعم الباب العالي بأنّه الحامي الحصري للبخاريين وغيرهم من "الرعايا المحميين" جاء ردا على الاستعمار القانوني، وليس كمحاولة للمنافسة على عقول أبناء آسيا الوسطى وقلوبهم.
ثانيا، ومن خلال التركيز على سجلات الحج، ووثائقه والنزل الصوفيّة، يسلط الكتاب الضوء على أهمية النصوص والفضاءات الإسلامية في تسهيل السفر إلى السلطنة، والاندماج مع المجتمعات العثمانية. ثالثا، وفي إضاءته على الطرق المسدودة الكثيرة التي واجهها الحجاج في مساعيهم للاستفادة من حقوق الولاية القضائية لدولهم في الخارج، يتصدّى "رعايا روحانيون" للرأي القائل بأن التنافس على السيادة القضائية زاد من الفرص القانونية للرعايا من جنسيات متنازع عليها أو مبهمة. إذ أناقش أن التنافس الامبراطوري أدّى في الغالب إلى تضييق الآفاق القانونية-خاصة بالنسبة لأبناء الأراضي المستعمرة بشكل غير رسمي في آسيا.
ومن خلال تعقّب مسارات الحجاج ومساعيهم للتعامل مع أنظمة حماية مختلفة، يقدّم "رعايا روحانيون" تاريخا جديدا عن الحج. ويشمل ذلك إعادة النظر في الكثير من الآراء السائدة عن الخلافة والاعتراف بأعباء هذه المؤسسة وحدودها. ويبدو ذلك بوضوح تام حين ننظر في عجز الباب العالي عن تحديد المواطنة بشكل صارم، وحين نتابع كيف تُرجمت مزاعم الحماية والسيادة "الروحانية" إلى مسؤوليات ماديّة أرهقت خزنة الإمبراطورية المفلسة.
(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟
(ل. ك.): بصفتي مساهمة نشطة، ومستفيدة، من الجهود المبكرة لتعزيز الأبحاث الآسيوية-الآسيوية (بدعم من "مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية")، بدأت هذا المشروع مسلّحة بأسئلة عن سبل النظر إلى التاريخ العثماني ضمن سياق آسيوي أوسع. وكان ذلك ملازما لأعمالي كلّها، ويساعدني في مواجهة ما أجده محيّرا في الأطر النظرية المهيمنة والمختزلة المتعلقة بالأفكار عن الولاء والعقيدة في الإسلام، كما عن رعاية الإمبراطورية وشرعيتها. وهو أيضا يغذي اهتماماتي بالارتباطات الإقليمية الواسعة بين الحج والهجرة والقانون والانتماء للإمبراطورية، وهي أمور ناقشتها في مقالات نشرت في "الدراسات الآسيوية الحديثة" وفي "المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط". ويتصل هذا الكتاب مباشرة أيضا بمجلّد شاركت في تحريره، يتضمن دراسات أكاديمية رائدة عن الارتباط العثماني بالقانون الدولي.
(ج): من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغبين أن يخلّفه؟
(ل. ك.): عملت على هذا الكتاب بحب، وهو ربط بين تاريخ أسري معقد وبين اهتمامات فكرية بطرق أحاول أن أشرحها في المقدّمة. وبالإضافة إلى المتخصصين بالحقبة العثمانية، ومؤرخي الحج، آمل أن يقرأ هذا الكتاب الباحثون في التاريخ الإسلامي، وفي الهجرة، والقانون الدولي، والمواطنة، وآمل أن يضمونه إلى المناهج الدراسية للبكالوريوس والدراسات العليا.
أمّا تأثيره، فآمل أن يساعد المؤرّخين على التفكير بكتابة التاريخ العثماني انطلاقا مما يسميه انغسينغ هو بالمقاربة من الظاهر إلى الباطن: وهو في هذا السياق يعني أن الانتباه لأشخاص من خارج السلطنة يسمح لنا أن نفصّل بطريقة منتجة مفاهيم يعتبرها كثيرون من المسلمات في أي حقل دراسي- بما في ذلك الحقل "العثماني" ذاته.
حين يخبرني القرّاء أنه بإمكانهم تصوّر شجرة المانغوليا في سلطانتابيه، والحجاج يتجولون في إسطنبول، أشعر بأنني نجحت في كتابة أبناء آسيا الوسطى في التاريخ بطرق تتجاوز كونهم مجرد بيادق في خصومات القوى العظمى، أو حشوداً من بين رعايا غير متمايزين يسافرون في عصر السفن البخارية. آمل أن يلهم الكتاب طلاب الدراسات العليا لإيجاد مشاريع تبقيهم أحيانا صاحين ليلا (مع أسئلتهم وحماستهم)، وسير يلتزمون بإعادة بنائها بطرق تتسم بالصدق إزاء موضوعات بحثهم.
(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعملين على إنجازها الآن؟
(ل. ك.): بما أنني حاصلة على زمالة عليا في "مركز حضارات الأناضول" في "جامعة كوتش"، أعمل على مشروع جديد عن المنفى العثماني خلال القرن التاسع عشر الطويل. وحاليا، أتحرّى عن ممارسات الترحيل القسري وتأثيرها على ما أسميه "ثقافة النفي". بمعنى من المعاني، أعمل على الوجه الآخر للتنقّل وأنظر في ما كان يعنيه أن تكون عثمانيا من منظار الذين عزلوا عن المجتمع ومنعوا من التنقل. و يفسح المشروع المجال أمام أسئلة مثيرة حول رؤى العدالة، والفضاء الامبريالي والصدمات العاطفية للترحيل.
(ج): ما هي بعض الكتب التي ألهمتك على امتداد مسارك؟
(ل. ك.): التالي هو قائمة جزئية للغاية، ولكن خلال دراستي للبكالوريوس، كنت أعشق كتاب "بردة النبي" والنثر الرائع الذي استخدمه روي متحدة في إحيائه للملّا علي هاشمي وللتاريخ الإيراني الحديث. وكطالبة دراسات عليا، استلهمت كثيرا من كتاب ليسلي بيرس "حكايات الأخلاق"، وهو سرد تاريخي تفصيلي متقن للقانون، والجندر، والمجتمع في عينتاب في القرن السادس عشر. في الحقل المتنامي للتاريخ الآسيوي- الآسيوي، قرأت وأعدت قراءة "قبور تاريم" لانغسينغ هو، وتعلمت كثيرا من طريقة مقاربته للتنقل والشتات من خلال سجلات ومقاييس تمددت بسلاسة عبر المحيطات. أما كتاب المشرف على عملي روبرت ماكتشيسني "وقف في آسيا الوسطى: أربعمئة عام من تاريخ مزار إسلامي"، فقد قدّم نموذجا عن البحث الدراسي في تاريخ آسيا الوسطى، وأنا اعتبره كتابا يتحدى مرور الزمن. ومؤخرا، اعتبر أن كلّ ما تكتبه سارا ابريفايا ستين عن الولاية القضائية خارج الحدود، هو مصدر إلهام. كما أنني من كبار المعجبين بأعمال دومينيك كيرشنر ريل، التي تقوّض الأحكام السائدة عن نهاية الإمبراطورية، وبروز القومية، ودعم الفاشية من خلال تاريخ فيوميه التي تسميها "مدينة الأشباح"، (واسمها اليوم رييكا في كرواتيا).
ومن القراءات المتّصلة بمشروعي الجديد، لدي حماسة كبيرة تجاه إعمال المؤرخين الاجتماعيين من أمثال نويمي ليفي-أكسو، وأفق أداك، وجنكيز كيرلي، ونادر أوزبك، وغولهان بالسوي، وكان نكار، وطرق تعاملهم مع سرديات "النظام"، والسجون، والفساد، وفرض الضرائب والجندر والعمل، وسبل تأريخهم لها.
مقتطف من الكتاب: من حجاج إلى مهاجرين وعثمانيين بحكم الأمر الواقع
كان الشرق القديم كلّه في هذه الشوارع. تركستانيون هزيلون، بلحاهم المشذّبة دائريّا، وعظام خدودهم البارزة، ووجوههم المثقلة بالزهد والتقوى، وأيدهم المشبوكة بالأكمام الطويلة لقفاطينهم، جاؤوا بقوافل الحج في سنة لم يعد يذكر تاريخها أحد - تماما مثل الطيور التي انفصلت عن سربها- وانتهى بهم المطاف في إحدى زوايا هذه المدينة [إسطنبول]. صينيون مسلمون، يتزوجون في مسجد حي إيوان سراي أو حي حراك الشريف، ويصبحون أرباب أسر، ومازالت أطرافهم، بحكم العادة، تجد ملابسنا غريبة، [يختلطون مع] أشخاص من القوقاز بقبعات من الفرو (كالبك)، وخصورهم مشدودة بأحزمة لها مشابك فضية، [و] يمنيون ملتفون بعباءات بيض، ووجوههم تذكر بالحجاج المسنون في عرفة.
أحمد حمدي تانبينار، "المدن الخمس" (بيش شهير)
في الحيّ التجاري المزدحم الذي يصل بين مجمع مسجد السليمانية وبين حي محمود باشا، حيث وجد العديد من أبناء آسيا الوسطى سكنا وعملا في نزل إسطنبول، وورشها ومقاهيها-ما زالت هناك وكالات لخدمات الحج والعمرة، بأسماء تستحضر بخارى وتركستان. وعلى الرغم من الزيادة الأخيرة في هجرة العمالة من آسيا الوسطى- التي حملت رجالا ونساء للاهتمام بمسنيّ إسطنبول وللعمل في قطاع الخدمات فيها- لم يعد الربط بين أماكن مثل بخارى وإسطنبول الكبرى والجزيرة العربية يعني شيئا، وبالنسبة لمعظم سكان المدينة فإن وجود خدمات الحج البخارية هي مجرد شيء يثير الفضول.
ولكن، في بداية حياة الروائي الشهير أحد حمدي تانبينار (1901-1962)، كان ارتباط أبناء آسيا الوسطى بالحج مازال واضحا. وكما كتب في كتاب "بيش شهير" وفيه مجموعة من المقالات، كان التركستانيون جزء من الجالية المسلمة الكوزموبوليتانية المتنوعة التي تعيش في إسطنبول وترتبط-"بشرق قديم"، عرفة- وبالحج في منتصف القرن العشرين، كان من المألوف لزائر المدينة أن يرى حجاجا بخاريين وكاشغريين مجتمعين على سلالم "الجامع الجديد" (يني جاميي) بالقرب من الخانات التي يعملون فيها، ومنازل العزاب التي يقطنونها، أو بالقرب من نزل اسكودار والسلطان أيوب، حيث كوّنوا جاليات صغيرة. في نهاية الإمبراطورية، كان أبناء آسيا الوسطى والهنود يجتمعون داخل "زاوية الأوزبكية" (النزل الصوفي الأوزبكي) ومن حوله، وهو المتفرّع من "طريق الآلام" في القدس-وهي الطريق التي أوصلت المسيح إلى صلبه. ووسط اللغة العربية المستخدمة في الشوارع المزدحمة، كان من المرجح سماع بعض التركية والفارسية والأوردية وملاحظة التحوّل من لغة إلى أخرى وهو سمة من سمات الحوارات بين أشخاص متعددي اللغات. في طرسوس، كان مهاجرون من وادي فرغانة يتحلّقون من حول "تركستان تيكي"، وهو نزل صوفي تأسس قبل أن تطغى طرق السفن البخارية على الطرقات البريّة التي تؤدي إلى سوريا الكبرى عبر الأناضول. في المدينة (المنّورة)، كان هناك أعداد كبيرة من البخاريين في بيوت الضيافة التي بدأت تتأسس منذ بداية العصر الحديث، وأحدها يقع بمحاذاة مسجد الرسول.
في أي محيط كان، كانت ملابسهم وقبعاتهم المصنوعة من الحرير والمخمل، تدل على أن أصلهم من مكان آخر، ولهجاتهم بالتركية والعربية تشي بأنهم ليسوا عثمانيين تماما.
وعلى عكس المهاجرين واللاجئين المسلمين الذي هربوا من الاضطهاد والحرب في البلقان والقوقاز والقرم، والتجأوا إلى أراضي السلطان، كانت طبيعة هجرة أبناء آسيا الوسطى في القرن التاسع عشر، ظرفية كما يقترح تانبينار. فالبخاريون والأنديجانيون والكاشغاريون لم يكونوا يصلون بأفواج كبيرة، ولم يضطروا للتعامل مع لجان خاصة باللاجئين، ولم يصار إلى إعادة توطينهم في الروملي والأناضول أو المقاطعات العربية، حيث كان من المتوقع أن يصبحوا مواطنين منتجين ومخلصين للبلاد التي تبنتهم. عوضا عن ذلك، هم كانوا مسافرين مثل نور محمد (الذي تعرفنا عليه في الفصل الثاني) -أشخاصا أتوا في موجات صغيرة وبقوا هناك بعد أداء مراسم الحج مستغلين الخيط الرفيع الذي كان يفصل بين العثمانيين وبين الأجانب والذي كان الباب العلي قد بدأ برسمه في 1869. وكانت قصصهم في الغالب مشتتة وضائعة، أو حجبتها سير أشخاص كانوا في مركز الصراعات الدبلوماسية على المواطنة والحماية، حشود الرعايا الإشكاليين الذين سعى الباب العالي لاستعادتهم إلى الوطن، والتتريكيين الذين أعادوا صياغة فهم الجمهورية التركية لارتباطاتها التاريخية مع آسيا الوسطى.
يركّز هذا الفصل على الحجاج الذين بقوا (في إسطنبول) بعد أداء الحج وأصبحوا عثمانيين. أبدأ بالعودة إلى نشوب الحرب العالمية الأولى-حين أطلق إلغاء الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية، اندفاعا للتقدّم بطلبات تجنيس قانونية- وأتحرّى عن نوعين من الهجرة المرتبطة بالحج وسبل الوصول إلى المواطنة العثمانية. في الجزء الأول من الفصل، أدرس عملية منح الجنسية للمقيمين لفترات طويلة وللـ"دينيزيز" - والمشار إليهم في المصادر الحكومية بـ "تلسيك" [تتريك] (وهو مصطلح جديد للتجنيس) - وأناقش أن إلغاء الامتيازات الممنوحة للأجانب سهّل عملية إضفاء طابع رسمي على فئة من الانتماء غير القانوني برزت بعد العام 1869. وأسمي هذا الوضع مواطنة بفعل الأمر الواقع وأستخدمه في الإشارة إلى الأشخاص الذين عاشوا في الواقع كعثمانيين، على الرغم من أنّهم لم يكونوا مواطنين عثمانيين شرعيين. ويتضمّن تحليلي التمييز بين الأجانب الذين ينظر إليهم كغرباء والأجانب من الذين لديهم جنسيات قانونية غير عثمانية. وفي حين أن هذا التمييز غالبا ما يضيع في الترجمة، إلا أنّه مهم لكي نفهم كيف دمج أبناء آسيا الوسطى داخل المجتمعات العثمانية ولماذا تمكّنوا من تخطّي -من دون التحايل بالضرورة- القيود القانونية المفروضة على حقوق الأجانب. والمواطنة بفعل الأمر الواقع كانت موجودة ليس فقط لأن الناس استغلوا الثغرات القانونية، بل أيضا لأن الحكومة المركزية لم تتمكن من التوصل إلى إجماع حول تعريف الأجنبي كما أنها لم تكن راغبة في تفعيل عدد كبير من مراسيمها.
إن تتبع الروابط بين الحج وبين الهجرة يلقي الضوء على مجموعة أوسع من التنقلات الآسيوية ويتحدّى الرأي الشائع بأن الدافع لهجرة أبناء آسيا الوسطى إلى الأراضي العثمانية كان عرقيا بالأساس. هناك سبب لاستيطان البخاريين والتركستانيين والكشغاريين في مدن تقع على طريق الجح، مثل إسطنبول ودمشق والقدس ومكة والمدينة، عوضا عن الاستقرار في مدن "تركية". ويتضح ذلك في الجزء الثاني من الفصل، حيث ننتقل إلى المدن المقدّسة وندرس نوعا من الهجرة والإقامة التي ترعاها الدول، وهو نوع لم يلق ما يكفي من الاهتمام والدرس، يسمّى "المجاورات". فتجارب أبناء آسيا الوسطى في الحجاز تثير أسئلة عن المواطنة والانتماء للإمبراطورية في مقاطعات "استثنائية" تدفعنا إلى إعادة النظر في معنى أجنبي مسلم أو التحول إلى عثماني ضمن كيان سياسي اكتسب شرعيته عن طريق الخلافة وحكم من خلال الاختلافات.
عثمانيون بفعل الأمر الواقع
بالنسبة للحاج صاحب، المولود في أنديجان في أوزبكستان، والذي هاجر إلى إسطنبول في بداية القرن العشرين، كان التحوّل إلى عثماني بمثابة عملية قيد الإعداد منذ وقت طويل. ذات يوم، قبل إتمام الحج أو بعده، استقرّ في [حي السلطان] أيوب-ربما بسبب تردده في العودة إلى وادي فرغانة، الذي كان ما يزال مزعزعا بسبب انتفاضة 1898 وما تلاها من أعمال انتقامية روسية. وما إن تمكن الحاج من جمع ما يكفي من المال، حتى افتتح محلا لبيع السبحات وتزوّج من امرأة عثمانية هي فاطمة توحيدة هانم، ابنة مالك مقهى محلّي. وقد أنجبا ابنتين، نعيمة ونبيّة. وفيما كان يبني حياة جديدة في العاصمة العثمانية، احتفظ بأوراقه الثبوتية الروسية وجواز سفره، "ني أولور ني أولماز" (احتياطا). ومثل كثيرين من مواطنيه، كان الحاج صاحب قد احتسب احتمال أنه يمكن له يوما ما أن يتأهل للاستفادة من الجنسية الأجنبية. لو أنّه يتمكّن من توسيع أعماله مثلا، فإن مزايا الامتيازات تسمح له بمنافسة المحميين الأوروبيين بطرق محظورة على الرعايا العثمانيين. وبما أنه قادر أساسا على العيش في السلطنة والعمل فيها من دون أن يصبح عثمانيا، فإن ذلك كان أسهل السبل، وإلا لكان يتعين عليه أن يذهب في رحلة مكلفة إلى روسيا لكي يتخلى قانونيا (عن طريق روسيا) عن جنسيته.
فقط في الأيام التي تلت التاسع من أيلول/سبتمبر 1914، حين قامت حكومة "لجنة الاتحاد والتقدّم" بإلغاء امتيازات الأجانب من طرف واحد، بدا أن الحاج صاحب قد شكك بصوابية احتفاظه بجنسيته الأجنبية. في ذلك الخريف، بدأ الناس في المدينة يزينون منازلهم وأماكن عملهم بالرايات والشعارات، وينضمون إلى تجمعات جماهيرية كبيرة للاحتفال بالاستقلال عن اتفاقيات الامتيازات المرهقة التي عانت منها الإمبراطورية لفترة طويلة. حين انضمت "لجنة الاتحاد والتقدّم" إلى الحرب إلى جانب "دول المحور" في 29 تشرين الأول/أكتوبر، ارتفعت التعبئة القومية الحكومية والمشاعر المعادية للأجانب. وبدأ العثمانيون على امتداد إسطنبول يستنفرون ضد الغرباء، الذين باتوا يعتبرون أكثر فأكثر "دخلاء خطرون، متواطئون مع التجار غير المسلمين في وجه فوائد ظهور اقتصاد وطني." وعلى الرغم من أنّه لم يكن من المرجح أن يعتبره جيرانه أو شركاؤه "غريبا غدّارا"، إلا أن الاحتفاظ بجنسية أجنبية بات يشكّل عائقا بدلا من أن يكون امتيازا. ومع وجود ابنتين صغيرتين، وزوجة لا ترغب ربما بالانتقال من إسطنبول إلى قرية نائية في تركستان، قام بتقديم عريضة لوزارة الداخلية يطلب الحصول على الجنسية. وكانت الوثائق تتضمّن تعهّد محلّف بأنّه يتخلّى عن أي حقوق مستقبليّة بجنسية أجنبيّة. وكان يلي عملية طلب المواطنة- التتريك- تحقيق بسيط إلى حد ما: كانت السلطات العثمانية تتشاور مع وسطاء مثل شيوخ التكية في أيوب، وتقرّ بأن الحاج قد لبّى مطلب الإقامة في البلاد لمدّة خمس سنوات، كما ينص قانون الجنسية العثماني للعام 1869، وبأنه كان رجلا سمعته حسنة وصاحب عمل سليم. وتمت الموافقة على طلبه سريعا: هو وابنتاه-اللتان تحصلان تلقائيا على جنسية والدهما بالولادة- أصبحوا عثمانيين.
[نشرت في جدلية. ترجمة هنادي سلمان]