البيئة في السياسة العربية: الأجندة الغائبة!

البيئة في السياسة العربية: الأجندة الغائبة!

البيئة في السياسة العربية: الأجندة الغائبة!

By : Asmaa Muhammad Amin أسماء محمد أمين

تعتبر القضايا البيئية في المنطقة العربية من أكثر القضايا إهمالاً رغم تأثيراتها الكبيرة التي تمتد من جودة المعيشة والآثار الصحية إلى الزراعة والغذاء مروراً بالتأثيرات الاقتصادية، ورغم وعينا أن من بين أسباب غياب هذه القضية هو طغيان هموم معيشية مباشرة أشد أثراً على مستوى الحياة اليومية، بالإضافة إلى غياب الممارسة السياسية التي تخرج منتجات معبرة عن المجتمعات في الدول العربية، إلا أن ذلك لا يمنح عذراً لصناع القرار وأصحاب المسؤولية في البلدان العربية للغياب شبه التام للقضايا البيئية عن الأجندة السياسية.

في معظم البلدان العربية، يعتبر ملف البيئة ملفاً هامشياً، ولا يتمتع وزراء البيئة بسلطات حقيقية تسمح بتنفيذ مشاريع أو حتى تقديم رؤى، فباستثناء ستة دول، توكل معظم الدول العربية ملف البيئة إلى وزارات البلديات أو الإدارة المحلية أو المياه، ما يضعف الاهتمام بالملف البيئي، وينزل بقضية البيئة من مستوى الاهتمام بالطاقة النظيفة وتقليل الانبعاثات وغيرها من الأخطار، إلى اختزالها بنظافة الشوارع الرئيسية. وحتى في البلدان العربية التي أنشأت وزارات مختصة بالبيئة، فإن تلك الوزارات لا تتمتع بسلطات حقيقية، حيث يصنف وزير البيئة باعتباره وزيراً من الدرجة الثالثة بعد وزراء السيادة ووزراء الخدمات، ومساوياً في الوزن السياسي لوزراء الدولة (الوزراء بدون حقائب) ولا تمتلك الوزارات في غالب الدول العربية صلاحيات تنفيذية، أو آليات لتطبيق قراراتها، ويقتصر دورها في تقديم المشورة في القضايا البيئية. 

إن الكلف السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية والصحية المتوقعة لآثار التغير المناخي على المنطقة العربية كبيرة جداً، وتستدعي اهتماماً خاصاً عبر استراتيجيات وطنية و أخرى إقليمية تتعاون فيها الدول العربية فيما بينها لمواجهة الآثار الناجمة عن التغير المناخي

رغم ما يظهر من إلحاح للقضايا الأمنية والاقتصادية الأخرى، إلا أن الدول العربية ترتكب خطأ استراتيجياً في إهمالها للقضايا البيئية، وذلك لتأثيرها الكبير في جميع المجالات، فالمنطقة العربية من أكثر المناطق تأثراً بالتغيرات المناخية، ومهددة بحالات طقس متطرفة بدأت تطل برأسها في السنوات العشر الأخيرة. إن التحول المفاجئ للمناخ بشكل قاسٍ سيقود بكل تأكيد إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية، وآثار اقتصادية، فالطقس العنيف وغير الاعتيادي مثلاً سيسهم في المزيد من التدمير للبنية التحتية مثل الطرق والجسور، وهذا سيقود إما إلى استنزاف المالية العامة للدول العربية عبر انفاقٍ أكبر وغير متوقع على البنية التحتية الأساسية بما يقلل الإنفاق على المشاريع التنموية والخدمية الأخرى، أو أنه سيقود إلى استياء عام من غياب الصيانة للمرافق الحيوية بما يمثل بدايةً مناسبة للاضطراب السياسي والاجتماعي، ناهيك عن الكلفة الاقتصادية الأخرى المتمثلة في طرد الاستثمارات كنتيجة لتهالك البنى التحتية والكلفة البشرية المتمثلة بازدياد الحوادث المرتبطة بسلامة الطرق والمنشآت. إن السيناريو السابق بأكمله هو واحد فقط من بين التبعات التي سيتسبب بها التغير المناخي، الذي يمتد تأثيره إلى جميع مناحي الحياة، فتأثيره الكبير على وفرة المياه -الشحيحة أصلاً في منطقتنا- وعلى الزراعة، سيقود إلى تهديد الأمن الغذائي في المنطقة العربية، بكل ما يعنيه ذلك من أثر على سلامة السكان وصحتهم، وتحريك للاضطرابات الاجتماعية والسياسية، كذلك تؤثر جودة الهواء على صحة السكان بما يؤدي إلى خيارين: ضرورة إنفاق المزيد على الرعاية الصحية بما يزيد العبء على موازنات الدول بشكل قد يعطل المشروعات التنموية، أو إهمال الإنفاق الصحي بما يفاقم عدد ضحايا التلوث الذي يتسبب بنحو أربعمئة ألف وفاة مبكرة كل عام في منطقة شرق المتوسط. 

إن الكلف السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية والصحية المتوقعة لآثار التغير المناخي على المنطقة العربية كبيرة جداً، وتستدعي اهتماماً خاصاً عبر استراتيجيات وطنية و أخرى إقليمية تتعاون فيها الدول العربية فيما بينها لمواجهة الآثار الناجمة عن التغير المناخي، ويشرف على تنفيذها أجهزة وهيئات ووزارات ذات صلاحيات حقيقية، وإصلاح القوانين والتشريعات المتعلقة بالبيئة بما يمكن الوزارات والهيئات المعنية بالملف البيئي من تنفيذ برامجها، وتقديم مشورات ملزمة عندما يتعلق الأمر بصلاحيات وزارات أخرى يتقاطع عملها مع الملف البيئي. إن التمكين القانوني والسياسي لوزارات البيئة يجب أن يكون في مقدمة أي إصلاح سياسي أو اقتصادي، وذلك لضرورة وجود جهة نافذة وذات قرارات ملزمة تضمن السلامة البيئية للمشاريع الاقتصادية من النواحي الفنية والهندسية، وتشجع المشاريع التي تصب في طريق بناء اقتصاد مستدام، وتعرقل المسارات الاقتصادية التي تهمل البيئة والسلامة العامة في سبيل أرباح آنية. 

رغم التجاهل، إلا أن أمام الدول العربية فرص كبيرة لإتمام التحول في الوجهة، من تقديم الملفات الاقتصادية والأمنية وغيرها إلى إعطاء الملف البيئي أولوية على أجندة الحكومات، خصوصاً مع وجود مناسبة مناخية عالمية ستعقد في المنطقة، حيث تستضيف مصر المؤتمر السنوي للأمم المتحدة المعني بتغير المناخ في شرم الشيخ في نوفمبر المقبل، مما يجعل هذا الحدث فرصة للفت انتباه الحكومات العربية لأهمية القضايا البيئية، وضرورة التفكير في وضع التغير المناخي على سلم الأولويات، من أجل العمل على مواجهة آثاره، والتي تشير كل التوقعات إلى أن المنطقة العربية ستعاني منه أكثر من غيرها، خصوصاً مع غياب التخطيط للتعامل مع تبعاته.

البيئة والنقل: ما الحل مع القطاع الأكثر تلويثاً؟

من بين جميع القطاعات التي تتسبب في انبعاث غازات الدفيئة، يعد قطاع النقل المساهم الأكبر في الاحتباس الحراري، والقطاع الأكثر استهلاكاً للوقود بجميع فروعه، من الشحن البحري والطيران، إلى النقل البري. وعلى الرغم من أن معظم القطاعات المتسببة في انبعاثات الكربون قد خفضت انبعاثاتها، إلا أن النقل زاد من مساهمته في الانبعاثات، فقطاع النقل هو أكثر القطاعات الملوثة للبيئة نمواً، حيث من المتوقع أن يأتي ما يصل إلى 50% من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من قطاع النقل بحلول 2050، مقارنةً بنحو 30% حالياً.

تؤثر الانبعاثات الناتجة عن وسائل النقل على المناخ من خلال أربع آليات، الآلية الأولى هي انبعاث غازات الدفيئة المباشرة، وخاصةً ثاني أكسيد الكربون، حيث تتسبب هذه الغازات باحتجاز الحرارة في الغلاف الجوي بشكل يرفع من درجة حرارة الأرض، والآلية الثانية هي انبعاث غازات الدفيئة غير المباشرة، وهي الغازات التي تؤثر في قدرة الغلاف الجوي على الأكسدة، مثل أكاسيد النيتروجين، حيث تؤثر هذه الغازات في التفاعلات الكيميائية التي تحدث في طبقة التروبوسفير وبالتالي طبقة الأوزون، أما الآلية الثالثة فهي انبعاث الهباء الجوي مثل الكربون العضوي ومركبات الكبريت، بالإضافة إلى الآلية الرابعة وهي التأثير غير المباشر للهباء الجوي.

إن تقييم التأثير المناخي لقطاع النقل يعتمد على كيفية تقييم الآثار المستقبلية من منظور طويل الأمد، فعلى سبيل المثال تقوم مركبات الهباء الجوي مثل الكربون العضوي وأكاسيد الكبريت بحجب جزء من أشعة الشمس، وبالتالي تساهم هذه الآلية في التبريد، بينما يعمل التأثير غير المباشر للهباء الجوي على إحداث تغييرات كبيرة في توزيع وخصائص السحب بشكل يؤدي إلى حالات طقس عنيفة، وبالتالي فإن المهمة تبدو صعبة لمقارنة كل هذه التأثيرات.

إن إرساء نظام نقل نظيف عبر استخدام الكهرباء في منظومة النقل البري هو أكثر الحلول نجاعةً فيما يتعلق بتقليل انبعاثات هذا القطاع

تعطي الكثير من الدراسات مؤشرات واضحة حول مسؤولية قطاع النقل عن الانبعاثات، فالنقل البري مسؤول بشكل أساسي عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى التي تؤثر في طبقة التروبوسفير، بينما يتسبب الشحن بالنسبة الأكبر من انبعاثات الميثان والكبريتات، وفي ظل اقتصاد يعتمد نموه بشكل رئيسي على حركة السلع والبضائع والأفراد بين مختلف المدن والبلدان حول العالم، فإن الخيارات أمامنا محدودة: إما وضع الحلول والبدء جدياً بتنفيذها عبر آليات ملزمة قانونياً، أو أن نترك الأجيال المقبلة تواجه الآثار المدمرة للاستهلاك غير المحدود واللامبالاة تجاه قضايا الأرض البيئية.

على الرغم من أن النقل البري هو أكبر مساهم في الانبعاثات مقارنةً مع باقي فروع قطاع النقل، إلا أن المسؤولية عنه والقدرة على اجتراح الحلول وتقديمها كبرنامج تنفيذي خلال فترة زمنية معقولة أمر ممكن، لكن القطاعات الأخرى مثل الشحن البحري والطيران يصعب فيها تحديد المسؤولية عن الانبعاثات وبالتالي فمن غير الممكن مطالبة جهة محددة بالتزمات مناخية تخص هذين القطاعين.

إن إرساء نظام نقل نظيف عبر استخدام الكهرباء في منظومة النقل البري هو أكثر الحلول نجاعةً فيما يتعلق بتقليل انبعاثات هذا القطاع، وبحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن استخدام الكهرباء في النقل البري سيخفض انبعاثات قطاع النقل بنسبة كبيرة تصل إلى 72% بحلول عام 2050.

لا تتوقف الحلول النظيفة لقطاع النقل عند استخدام الكهرباء، إن مدناً مصممة بشكل يوفر مرافق آمنة للمشي وركوب الدراجات، ووسائل نقل عامة نظيفة تعتمد على الكهرباء ستؤدي إلى تحسن كبير ليس على مستوى الانبعاثات بشكل مباشر فحسب، بل على صحة السكان عبر تقليل تلوث الهواء، إذ يؤثر التلوث بشكل كبير على الصحة العامة، حيث يؤدي التلوث بحسب منظمة الصحة العالمية إلى أكثر من 7 ملايين حالة وفاة مبكرة سنوياً.

ينظر البعض إلى قضايا البيئة باعتبارها "قضايا العالم الأول"، لكن بالنظر إلى تأثيرها السلبي على البشر في كل مكان، تتعزز القناعة بأن البيئة وتلوث الهواء هي قضية كل إنسان على كوكب الأرض، ففي إقليم شرق المتوسط يتسبب التلوث في 400 ألف حالة وفاة مبكرة سنوياً، ويسهم بشكل واضح في أمراض القلب والأوعية الدموية وأمراض الرئة والجهاز التنفسي.

إن تطبيق الحلول البيئية مثل كهربة النقل ليست مجرد تضحيات من أجل الكوكب، بل تمثل فرصاً اقتصادية كبيرة من خلال تقليل تكاليف النقل وتوفير آلاف فرص العمل في مشاريع التحول نحو النقل الكهربائي، وتنعكس بشكل إيجابي على صحة وسلامة السكان عبر تقليل التلوث في المدن، بالإضافة إلى أن تهيئة البنى التحتية في المدن لدمج نظام نقل حديث ومستدام من الحلول القابلة للتطبيق في غضون سنوات قليلة، ولذلك تدعم الأمم المتحدة برنامجاً يضم خمسين دولة من الدول متوسطة ومنخفضة الدخل بهدف التحول نحو التنقل الكهربائي، لتكتمل دائرة الحوافز فيما يتعلق بالتحول نحو اقتصاد أخضر ومستدام، يراعي قضية البيئة التي تستحق لتأثيراتها الكبيرة أن تكون قضية الإنسان الأولى.