(دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، 2022، دمشق)
[عدي الزعبي، قاص وصحفي سوري، حاصل على دكتوراه في فلسفة اللغة من جامعة ويست أنجيليا في لندن].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النصوص، ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
عدي الزعبي (ع. ز.): تضم هذه المجموعة القصصية اثنتي عشرة قصة عن سوريا قبل الثورة.
لسنوات وأنا أفكر في الحياة في سوريا قبل الثورة، وما تعنيه وما تحمله وما تختزنه. اخترع النظام بروباغندا ذكية وحيادية، أطلقت شعار "كنّا عايشين"، أي أننا قبل الثورة (أو المؤامرة بحسب مصطلحات النظام) كنا نعيش حياة عادية، وما حصل من خراب يقع مسؤوليته على الثورة.
على العكس تماماً، يتكلم الكثير من مؤيدي الثورة عن البلد قبل 2011 كأنها سجن كبير، ويصفونها بأبشع الصفات، بل قال بعضهم إننا لم نكن نقع في الحب ولم تكن لدينا صداقات حقيقية وكانت العوائل مفككة وغير ذلك. يبدو لي ذلك غير دقيق، كأننا نتخلى عن ماضينا وحياتنا ونهديها للطغيان. الأدق القول بأننا كنا نحيا، كما يحيا كل الناس تحت الطغيان، محاولين أن نحب، على الرغم من الطغيان.
هذه القصص عن تلك الحياة. وببساطة، أعتقد أننا "كنا عايشين"، بشكل صعب ومعقد وجميل ومؤلم. نقاوم أو نستسلم أو ننافق أو نترك الحياة تأخذ مجراها؛ ولكننا عشنا تلك الحياة، حياتنا نحن!
(ج): ما هي الثيمات الرئيسية الواردة في المجموعة؟ ما هي العوالم التي تأخذنا إليها النصوص؟
(ع. ز.): على العموم، عوالم الناس العاديين، عوالم شخصيات غير ملتزمة دينياً أو سياسياً، محافظة أو وسطية تسعى لأن تحيا ضمن عالم غريب ومعاد وقاس.
القصص تتوزّع على شخصيات مختلفة جداً: صديقٌ لإرهابي يذهب إلى العراق ليحارب الشيعة والأمريكيين، وزير فاسد، امرأة تقوم بعملية تجميل، امرأة تترك زوجها ثم تضطر إلى العودة إليه... إلخ.
(ج): كتابُك الأخير مجموعة قصصيّة، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ع. ز.): أنا لا "أختار" القصص القصيرة. في الحقيقة، أنا عاجزٌ تماماً عن كتابة الرواية، أو حتى القصص الطويلة، أو الشعر. أشعر أنني مرتاحٌ في القصة القصيرة؛ أحب قراءة القصص وأحب كتابتها. يبدو أن القصة القصيرة هي التي اختارتني كي أكتبها.
كما أنني لا أريد أن "أقول" شيئاً. الأدب الذي أميل إليه، هو الذي يعرض للناس مواقف مختلفة تسمح للقارئ بالولوج إلى دواخل الأبطال.
ربما، في هذه العملية، يقول الأدب شيئاً، وربما لا يقول.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ع. ز.): الصعوبة الرئيسية دوماً كتابة أدب واقعي صادق ويقدم رؤية فنية خاصة ومتجددة.
في هذا الكتاب، واجهتُ صعوبة أخرى، تتعلق بالموضوع. أن ننظر إلى سوريا قبل الثورة، اليوم بعد عشر سنين من ثورة خاسرة، يعني أن نحاول فهم ما حصل، بالمنظور الجديد الثوري، وبدونه، في نفس الوقت! أقصد أنني لا أريد أن ألوّن تلك الفترة بمشاعري الحالية، ولكنني لا أريد أن أتكاذب وأتظاهر بأنني لستُ مدركاً تماماً أنني أكتب بعد الثورة، وما تعنيه لي على الصعيد الشخصي ولنا جميعاً على الصعيد العام.
في الكتاب، حاولتُ أن أكون أقرب إلى التوجه الأول، أي أن أكتب بعيداً عن مشاعري الحالية. ولكن، معنى الكتاب، وظروف كتابته، وأسباب كتابته، والأثر الكلي له، متعلقة بالتوجه الثاني: سوريا سنة 2022، سوريا الثورة!
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ع. ز.): هذه مجموعتي القصصية الرابعة. أعمل في الترجمة والنقد الأدبي أيضاً. ولكن مشروعي الرئيس يبقى القصص القصيرة. كما أكتب مقالات أدبية، أراها تتقاطع وتتكامل مع مشروع القصص القصيرة.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص، ما هي وما طبيعة تأثيرها؟
(ع. ز.): هناك مجموعة من كتّاب القصة القصيرة الذين تأثرت بهم، أهمهم سعادات حسن مانتو وإسحق بابل وأوسامو دازاي. ولكن، ليس بالضرورة في هذا الكتاب أو في غيره بشكل مباشر. أقصد أن تأثيرهم علي عام، ويتعلق بمعنى الكتابة القصصية وجوهرها.
في هذا الكتاب، استفدتُ بشكل ما من كتابات أولئك الذين عاشوا في ظل الديكتاتورية. على سبيل المثال القاص الروسي (الاستثنائي والمميز ولكن غير المشهور) فاسيلي شوكشين والروائي الروسي فالنتين راسبوتين. كما شاهدتُ بعض الأفلام السوفيتية، شوكشين نفسه أخرج بعض الأفلام الحساسة والعميقة، وهناك أفلام أخرى قد يكون وقعها العام أخف، ولكنها تحكي عن تلك الحياة بصدق، مثل "Autumn Marathon" للمخرج "Georgiy Daneliya" و"Family Relation" للمخرج "Nikita Mikhalkov" وغيرها. كما قرأت بعض الأعمال الصينية المعاصرة مثل أعمال مو يان، ويو هوا، وغيرهما. ولدينا بالطبع أعمال محمد خان وداوود عبد السيد، ونجيب محفوظ وإبراهيم أصلان، وكل أعماهم أُنجزت في ظل القمع.
هذه الأعمال ليست لمنشقين عن الأنظمة القمعية، ولكن الأعمال نفسها ليست خاضعة لهذه الأنظمة. وقد استفدتُ منها ومن أمثالها كثيراً.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ع. ز.): على العموم، لا. أفكر بنفسي، وبأن أكون راضياً عن القصة التي أكتبها.
ولكن، ربما هناك مبالغة في ذلك. عندما تُرجم القليل من قصصي، سألني المترجمون عن بعض التفاصيل، وهي التي أعتبرها مسلّماً بها للقارئ العربي، ولكنها قد تكون غامضة للقارئ الأجنبي. أي أنها الخلفية المشتركة بيني وبين القارئ المفترض. بهذا المعنى، أنا لا "أفكر" بقارئ محدد، ولكن يبدو أنني أفترض وجوده!
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ع. ز.): مجموعة قصصية عن الشعراء العرب القدامى، أبي تمام والبحتري والمتنبي وغيرهم. فيها تجريب أكبر من حيث الشكل، فحجم القصص سيكون أصغر من العادة. وفيها تجريب من حيث المضمون، أي أنني أريد أن أفهم حيوات أولئك الشعراء، كما عاشوها في سياقهم، وشخصياتهم المستقلة والمتعددة، وفلسفاتهم وتقواهم وعلاقتهم بأنفسهم وبالسلطة؛ بدون ما أعتقد أنه يلوّث الأدب التاريخي عموماً: إسقاطات مباشرة مملة على الحاضر، وأسطرة لبطولات وهمية.
هذه ستكون المرة الأولى التي لا اكتب فيها أدباً واقعياً، بل تاريخياً. وأنا متحمس جداً لهذا المشروع!
مقتطف من المجموعة
يسألني الجدّ:
- أنت كنت حاسس أنو ممكن عبد الله يعمل هيك؟
منذ سماعي بالخبر وأنا أفكِّر في ذلك. أعتقد أنّني كنت أعرف. لا أقصد أنّني كنت أعرف بأنّه سينضمُّ إلى تنظيم "القاعدة"، ويذهب كي يحارب الأمريكان والشيعة في العراق. لا، ولكنّني كنت أعرف أنّه سيصبح متطرّفاً. كنت أرى ذلك بوضوح، وأعتقد أنّ معظم الناس حولنا كانوا يرونه: الأصدقاء المشتركون، وخالتي وزوجها وأبناؤهم، وأخوته. عبد الله تطرّفَ بالتدريج. في المدرسة الإعداديّة بدأ يُصلّي الفروض الخمسة، ثمّ أصبح يصوم كلّ اثنين وخميس في المدرسة الثانويّة، بعدها، كنت ألتقيه مرّةً كلّ شهرين أو ثلاثة، وتتغيّرُ لغته ومفرداته مع كلّ لقاء. يتكلَّم مزيجاً من العاميّة الهادئة والفصحى، بصوتٍ نقيٍّ تقيٍّ مطَمْئن. شكله الخارجيُّ أيضاً كان يتغيّر تدريجيّاً: تخلَّى عن الكنزات التي طُبِعَت عليها عباراتٌ أجنبيّة، ثمّ أطال اللحية، وبعدها لبس الجلباب الأبيض، ثمّ قصَّره، وفي النهاية حفَّ الشوارب. التغيير الأهمُّ كان في المضمون. عبد الله كان ينصحني بأن أفعل شيئاً كي أحسِّن حياتي، شيئاً لوجه الله تعالى. كان عبد الله يعرف تماماً آرائي اللا-دينيَّة ولا-أدريتي العميقة ونفوري العصابيّ تقريباً من كلِّ أشكال الدين المنظَّم. كان يعرف ذلك جيّداً، ولم يناقشني يوماً في الدين. أخبرني البعض أنَّه كان مُتشدّداً جدّاً في أحكامه على الأصدقاء والعائلة والجيران وزملائه في الشركة، مُتشدّداً بقسوة. كما كان فظَّاً غليظ القلب، ويعلُّق بوقاحةٍ على كلِّ كبيرةٍ وصغيرة: على ضرورة الاحتشام، على ما يراه فساد النصارى وإفسادهم لنا، على ترك الصلاة، على اختلاط البنات والصبيان في المدارس الابتدائيّة، على البرامج والمسلسلات التلفزيونيّة، وأشياء أُخرى كثيرة؛ أمّا معي أنا، ولسببٍ لم أفهمه، لم يكن فظَّاً. كان يُطالبني فقط بأن أفعل شيئاً، ولكنّه لم يُحدِّد ذلك الشيء.
- "ما بعرف. لأ، ما كنت حاسس". أجيب بهدوء.
يقول الجدُّ إنَّه كان يعرف، والأمُّ تعرف، والزوجة تعرف، والإخوة.
تعود الطفلة، لتلعب مع أخيها الصغير، الذي يتركنا فور دخولها الغرفة.
يسألني الجدُّ لماذا لم يأتِ أحدٌ من الأصدقاء.
كان لعبد الله الكثير من الأصدقاء في المدرسة الإعداديّة. الطالب المجدُّ اللّطيف تمتَّع بشعبيّةٍ كبيرة. ولكنّه خسر معظم الأصدقاء لاحقاً. حتّى المتديّنون ابتعدوا عنه، لم يرتاحوا لتطرُّفه. بالطبع لم يأتِ أصدقاؤه الجُدد المتشدِّدون. هل خافوا من المخابرات؟ هل هُم متورِّطون في أشياء أُخرى؟
- بتعرف يا عمّو، الناس مشغولة وهيك.
- خايفين يجو؟ هلّق بيتنا يلي كان مفتوح لكلّ الناس، يلي ما فضي بعمرو، يلي ربّينا فيه تلات ولاد، صار بيخوّف؟
تطلب الطفلة من جدِّها أن تشاهد التلفاز. يفتح التلفاز لنشاهد "توم وجيري": معركةٌ أبديّةٌ، لا معنى لها ولا هدف.
يتردَّد قليلاً، ثمَّ يقول:
- أنا لسّا ما فهمت كيف هيك صار. أخدوه درّبوه بحلب وبعتوه للعراق. هدول يلي معنا وبيناتنا أخدوه ع العراق. لا إله إلّا الله. معقول يا الله؟!
كنَّا نعرف ذلك، كلّنا، كلّ السوريِّين: النظام يدين الإرهاب، النظام يعتقل الإسلاميّين، النظام الذي "طربق" البلد على رؤوسنا بعد حربه مع "الإخوان" في بداية الثمانينيّات، النظام المتحالف مع إيران التي تخوض حرباً ضدّ الجماعات السنيّة في العراق، هذا النظام نفسه كان يُدرِّب إرهابيّين تحت رعاية المخابرات السوريَّة، ويرسلهم إلى العراق كي يُحاربوا الشيعة الذين تدعمهم إيران. يريد النظام أن يضغط على الأمريكيّين، وأن يكون له دورٌ في العراق.
يقف الابن الأكبر فجأة، ويغادرنا.
يتجوَّل الجدُّ في غرفة الجلوس، كعصفورٍ في قفصٍ صغير.
يقول إنَّه أمضى عمره في خدمة الحزب. حتّى حين عمّ الفساد، لم يتخلّ عنه. "تذكّرْ أنّ للحزب إنجازاتٍ كثيرةً، وأنَّ الفساد أتى تدريجيَّاً". يشرح بثقة: "لم أرَ الفساد في البداية، وحتّى عندما رأيته، اعتقدتُ أنّنا نستطيع إصلاحه. أقنعت نفسي بأنّ الأعداء أخطر من الفساد: الإخوان، وأمريكا، والصهاينة. ثمَّ أتى الحصار والغلاء في الثمانينيّات. لم نلتقط أنفاسنا، والبلد تغيّر حينها بطريقةٍ متسارعةٍ لم نفهمها، ولكنّني كنت دوماً مع الحزب".
- هاد الحزب قتل ابني. هاد الحزب قتل ابني، يا رفيق.
تُفلتُ منّي ابتسامةٌ بريئةٌ عند سماعي كلمة "رفيق".
ولكنَّني كنت "رفيقاً". انتميتُ إلى الحزب كنصير، تحت ضغط المدرِّسين والرفيق الحزبيِّ الصارم الذي أتى كي يتأكَّد من أنَّ نسبةً كبيرةً منّا ستنتسب. لاحقاً، أصبحتُ عضواً عاملاً بإرادتي؛ لأنّني أستطيع أن أهرب من المدرسة كلّ يوم أربعاء مُدَّعياً أنّني سأحضر الاجتماعات الحزبيّة. إضافةً إلى مزايا أُخرى، منها الوصول إلى غرفة الحزب في المدرسة، وقضاء بعض الوقت هناك كي ألعب الورق.
نسيتُ الأمر كلَّه مع دخولي الجامعة، ثمّ تخرُّجي منها.
وقف عند النافذة، ينظر إلى دمشق.
لم يكن فاسداً. أعني له علاقاتٌ كثيرةٌ تساعده في تأمين حياته وحياة أبنائه. ولكنَّه لم يكن فاسداً.
رنَّ الهاتف. أجاب الجدّ. أحد الأقارب يعتذر عن الحضور. "مريض. آه، مو مشكلة". "المهم صحتك بخير". "هيك الدنيا". "الله يرحم أمواتكم"...
- كلّ الناس خايفة. الناس ما بدها تجي لأنّو خايفة من المخابرات. النظام نفسو يلي بيبعت ولاد العالم ع العراق بيراقب أهلهم، وإزا حدا من الولاد رجع بيعتقلو. عمتفهم؟
أهزُّ برأسي.
أنا أيضاً خائفٌ من هذا الكلام.
يأتي صوت الأمِّ منادياً الجدّ. يتهامسان خلف الحائط.
أقف وأتجوَّل. في مكتبة البيت كتبٌ حزبيّةٌ كثيرة: بعض المنطلقات النظريّة، ومجلَّة المناضل، وأعمالٌ اشتراكيّةٌ كثيرة، لماركس وإنجلز ولينين، والياس مرقص وسمير أمين وغيرهم. روايات حنّا مينه، ونجيب محفوظ، أشعار محمود درويش وسميح القاسم ونزار قبَّاني. أذكارٌ وأدعية، وعذاب القبر، "في ظلال القرآن"؛ خليطٌ غريبٌ من كتب الجدِّ والأب.