غييدري سباسيفيتشوتا
(جامعة سيراكيوز للنشر، 2021)
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟
غييدري سباسيفيتشوتا (غ. س.): حين وصلت إلى القاهرة لإجراء أبحاث من أجل كتابي هذا، فوجئت بالأهمية المحورية لمرجعية سيّد قطب في المعارك الفكرية المعاصرة. كانت بداية العام 2011، وأتاحت ثورة 25 يناير بعض المساحة لإعادة النظر في المكانة التاريخيّة للوجوه الوطنية الرئيسية. من جهة، كان هناك اهتمام متجدد في إرث قطب الإسلامي، وهو اهتمام كان يهدف، خلسة، إلى تذكير الجمهور بماضيه الإرهابي المزعوم وإلى ضرب مصداقية "الإخوان المسلمين" في الحكم. وكان الروائي الشهير علاء الأسواني يناقش سيد قطب في صالونه الأدبي؛ وكان الصحافي إبراهيم عيسى يستعيد سيد قطب باستمرار في برنامجه الحواري؛ وأعادت الصحافة نشر رسومات كاريكاتيرية وقصائد أنتجت في خضّم الحملة المعادية لقطب في الستينيات. ولكن، من جهة أخرى، كان هناك أيضا اهتمام "بتحرير" سيّد قطب من الأرشيف الإسلامي؛ ففي العام 2011، قامت "الهيئة المصريّة العامّة للكتاب" الحكوميّة، وللمرّة الأولى، بإعادة نشر كتاب "أشواك" لسيد قطب، الصادر في العام 1946، وقامت "دار الأهرام للنشر"، في العام 2014، بإصدار الأعمال الشعريّة الكاملة لسيّد قطب. ودلّت ردود الفعل العنيفة إزاء هاتين المبادرتين على الموقع الخاص لسيد قطب في التاريخ المصري كمفكّر منبوذ (رسميّا)، مازال يطارد الحاضر المصري. وصرت مهتمّة بأن أفهم لماذا يثير استحضار اسم قطب ردود فعل قويّة من هذا النوع في مصر، ولماذا يوجد رفض متعنّت بهذا القدر للاعتراف بماضيه الأدبي.
ولذلك، حفزّني هدفان أساسيّان على كتابة هذا الكتاب. أولا، أردت إعادة دمج سيد قطب في التاريخ الثقافي المصري وفهم ظروف تجريده من مكانته الثقافية ومحوه من التاريخ الأدبي المصري. وثانيا، أردت مراجعة الانقسام الشائع للتاريخ الثقافي المصري بين فئتين علمانية وإسلامية، عبر إظهار أن هذا الانقسام لم يكن بنفس الوضوح والحدّة خلال الحقبتين الاستعمارية وتلك التي تلتها.
(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(غ. س.): يسنج الكتاب معا ثلاث قصص رئيسية متداخلة. أولها قصة انتقال سيد قطب من النقد الأدبي إلى النشاط السياسي الإسلامي، وفيها مراجعة للتصوّر الشائع بأن ذلك شكّل تحوّلا عقائديا بالدرجة الأولى، من العلمانيّة إلى الإسلام السياسي. وعوضا عن اعتبار ذلك التحوّل انقطاعا عقائديا، يُظهر الكتاب وجود استمرارية بين مشاريع قطب الجمالية والسياسية. وكان ما يحرّك كلا من إنتاجه الأدبي ومشروعه السياسي الإسلامي، سعي غيبي لرفع البشرية من الناحية الوجدانيّة، إمّا عن طريق الشعر أو النشاط السياسي الديني. ولذلك، يعالج الكتاب مجموعة واسعة من إصدارات قطب الأدبيّة، من قصائد ونثر ونقد أدبي، والتي يتم إغفالها غالبا في الدراسات التي تتناول سيد قطب. والمؤكد هو أن تحوّل قطب كان انقطاعا، ولكنه لم يكن بين الأدب والإسلام السياسي كما هو سائد، بل انقطاع مع الأنظمة المصرية خلال الاستعمار وبعد.
وهذه هي القصّة الثانية التي يتابعها الكتاب. وهي تقترح أنّه من أجل فهم حياة سيّد قطب، عليّنا النظر عن كثب إلى الأعوام الممتدّة من الحرب العالميّة الثانيّة وصولا إلى تكريس حكم جمال عبد الناصر. فالفترة بين 1946 و1954 تقريبا أنتجت ذاتيات جذريّة، وسبل جديدة من ممارسة السياسية والفن، وطرق غير مسبوقة من ربط النفس الفردية بالدولة. وانهار المفهوم السياسي للشرعية الذي أرسي خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، والمرتكز على الانتخابات والديبلوماسية وتعدد الأحزاب، وحلّت محلّه السياسات الجذريّة. في الوقت ذاته، استُبدلت نماذج الإبداع الرومانسي في الأدب بمتطلبات الالتزام الأدبي، وأدّى بروز دول عربية قويّة إلى تحوّل جذري في الذاتيات السياسيّة. وحال الهيجان الثوري التي شهدها المصريون في أعقاب الحرب العالمية الثانية تسمح لنا بفهم التزام سيد قطب الإسلامي ليس كقدر فردي ناجم عن إحباطاته الشخصية أو اندفاع مفاجئ في فكره المحافظ المكبوت-كما تشيع القصة السائدة-بل كقدر جماعي صاغ إلى درجة كبيرة السياسات والفنون في العقد التالي. ولرؤية ذلك، يجب اعتماد نظرة شاملة إلى فترة ما بعد الحرب بما بتجاوز تقسيمها بين سرديات يسارية، وإسلامية، وأدبيّة.
وأخيرا، كان الكتاب أيضا محاولة لكتابة تاريخ علماني دنيوي للأدب في النصف الأوّل من القرن العشرين. وهو يتعقّب سيد قطب ومعه الحلقات الثقافية المتبدّلة التي ينتمي إليها، مثل مجموعة الشعراء الرومانسيين في "دار العلوم"، و"جمعية أبولو الشعريّة"، و"دار نهضة مصر للنشر"، ومجلّة "الفكر المعاصر"، والإخوان المسلمون" وغيرها. في الكتاب، سيكتشف القرّاء سيد قطب مثقفا فاعلا ومحبا للاختلاط بالناس، كان يتردّد على أكثر الدوائر حيويّة في الحياة الثقافية المصرية.
(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟
(غ. س.): إنّ كتابي عن سيد قطب هو مشروعي البحثي الأوّل، وقد بدأ كرسالة لشهادة الماجيستير ومن ثم تطوّر إلى أطروحة للدكتوراه. وأُنجز الاثنان في "مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية" في باريس.
(ج): من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغبين أن يخلّفه؟
(غ. س.): سيستميل الكتاب المهتمين بالتاريخ الثقافي المصري في فترة ما بين الحربين العالميتين وبدايات الحقبة التالية للاستعمار. ومحظّ تركيزه يجمع بين تخصصات عدة؛ وفيه تقاطع بين أدب السيرة وبين التاريخ الاجتماعي ويربط بين مسارات عدّة من التاريخ الثقافي، مثل تاريخ الأدب والناشطين اليساري والإسلامي. وآمل أن ينجح الكتاب في إلقاء الضوء على الترابط القائم بين موضوعات بحثية تُدرَس تقليديا بطرق منفصلة، وآمل أن يشجّع الباحثين في الأدب والنشاط السياسي اليساري والإسلامي على الجلوس معا والتناقش. وأتمنى أيضا أن يسمح لنا هذا الكتاب بتنويع دراسات الأدب عبر توسيع مجال التركيز إلى ما يتجاوز تحليل النصوص والاهتمام بالممارسات الاجتماعية التي ترافق إنتاجها.
(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعملين على إنجازها الآن؟
(غ. س.): أعمل حاليا على مشروع بحث يحقّق في ارتباط الممارسات الأدبية والخيال بالجندر والطبقة الاجتماعية في القاهرة المعاصرة. وهو يتبع عملي السابق عن سيد قطب في فهمه للأدب على أساس أنه "مكان آخر"، مساحة من أنماط الوجود الموازيّة التي تخفّف من وطأة الحياة العاديّة، التي تسودها الرتابة، والتقييدات والأدوار الاجتماعية الصارمة. وينطلق عملي الحالي من المنهجية التي اتبعتها في دراستي لسيد قطب؛ فعوضا عن العمل الأرشيفي، بت أعمل الآن بأساليب الدراسة المنهجية للناس والثقافات أو الاثنوغرافية.
(ج): ما هو التحدّي الأكبر الذي واجهك في كتابة هذا الكتاب؟
(غ. س.): كان التحدّي الأكبر هو العمل على موضوع "ساخن" (جدلي) مثل هذا، وهو، علاوة على ذلك، مصّنف موضوعا محوريا في الدراسات الإسلامية. بدأت بحثي عن قطب في وقت كانت شعبية الدراسات الإسلامية في ذروتها، ولكن السنوات العشر التي أمضيتها في البحث وكتابة هذا الكتاب كانت بمثابة رحلة طويلة بعيدا عن الدراسات الإسلامية. وعلى الرغم من أنّ هذا الموضوع مازال، على الأقلّ في فرنسا، يلقى تقديرا كبيرا، إلّا أنّه مصحوب بانفعالات سياسيّة، ومسارات هوياتيّة، وشخصيات سلطوية. من نواح عدّة، وفّر قراري باستكشاف حياة قطب الأدبية ملاذا يقي من الانفعالات المحيطة بموضوع الإسلام السياسي، ويسمح لي بمقاربته من زاوية غير متوقّعة هي زاوية الأدب.
مقتطف من الكتاب: العدالة الاجتماعية في الإسلام
مما لا شكّ فيه أن التزام سيد قطب بالنشاط السياسي الإسلامي شكّل تغييراً هائلاً في سيرته المهنية الثقافية. وهو لم يكتفِ بالدعوة إلى الإسلام كحلّ سياسي واجتماعي لعلل مصر والعالم، ولكنه أيضاً ألقى بنفسه في سياسات المعارضة وأعاد صناعة شخصيّته كمثقف ثوري. ولكن، كيف أثّر هذا الالتزام على مواقفه السابقة من السياسة والفنّ والدين؟ ما هو نوع التحوّل الذي تؤشّر له عملية الانتقال هذه؟ هل هو تحول سياسي أو ديني؟ للإجابة على هذه الأسئلة، يتعيّن النظر عن كثب إلى عمل سيد قطب الأوّل والرئيسي عن الإسلام والعدالة الاجتماعية: "العدالة الاجتماعية في الإسلام".
وكتاب "العدالة.." الذي صدر عن "دار نهضة مصر للنشر" في 1949 ضمن سلسلة "هيئة النشر لخريجي الجامعات"، هو كتاب سيد قطب الأكثر نجاحا في فترة حياته. وبين نشره للمرة الأولى في 1949 وموت قطب في 1966، أعيد طبعه ست مرات، وقد قام قطب بمراجعة بعض النسخ بدأب. وبعد مراجعة الكتاب من منظور كتابات قطب الأولى عن الإصلاح الاجتماعي، التي نشرت على وجه خاص في "مجلة الشؤون الاجتماعية" وهي المجلة الرسمية الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية، يقترح آلان روسيون أن العنصر الجديد في كتاب "العدالة.."، مقارنة بمواقف قطب السابقة من التغيير الاجتماعي، هو السبل التي يقترحها قطب لتحقيق هذا التغيير. وعوضا عن إعطاء الأولوية للعلم كوسيلة لإنهاء كل من التخلّف المتجذّر في المجتمع، والاحتلال البريطاني، كما يفعل في نصوصه الأولى، يبدأ قطب مع كتاب "العدالة.." في الدعوة إلى تحوّل ديني كشرط مسبق لنجاح أي إصلاح. وبحسب روسيون، فإن التغيير الجوهري الذي يحمله كتاب "العدالة.." هو انتقال قطب من العلم إلى الوجدان كوسيلة لتحديث المجتمع.
إلا أنّه من الممكن اقتراح قراءة مغايرة لنوع التحوّل الذي عاشه قطب مع التزامه بالنشاط السياسي الإسلامي. وهي قراءة تبرز عندما لا نكتفي بالنظر إلى كتاباته الإسلامية من منظور خبرته في مجال الإصلاح الاجتماعي، بلّ أيضا من منظار أعماله الأدبيّة. وكما رأينا في الفصل الثاني، لطالما اعتبر قطب أن الوجدان، الذي يُعرّف عموما بأنّه نطاق اللامنطقي ويحدّده الإحساس، هو الوسيلة للوصول إلى المعرفة ولتسامي الحالة البشرية. ومهمة الكاتب أو الشاعر، الذي يتمتّع بمواهب وقدرات حسيّة استثنائية، هي المحافظة على صلة البشرية بنطاق الأبديّ. وسمح التمييز الحاد بين العقل وبين الوجدان الذي بنى عليه قطب فهمه للوجود، بنوع من تجزئة للوظائف المنوطة بكل من هاتين الملكتين: العقل مكلّف بمهمة إدارة شؤون الحياة اليوميّة، فيما يضمن الارتباط الوجداني بالعالم الآخر (الآخرة) راحة نفسيّة روحيّة. وكما رأينا سابقا، سمحت تجزئة الوظائف لسيد قطب باستخدام نظريات معرفية متمايزة في مجالات مختلفة من النشاط الفكري؛ فقد اعتمد على الفلسفة الوضعية في كتاباته الإصلاحية واستند إلى الماورائيات الرومانسية في عمله الأدبي. ولكن هذه التجزئة هي تحديدا التي تمنعنا من رؤية أن أهمية الوجدان لم تظهر فجأة مع التزام قطب السياسي الإسلامي، بلّ كانت عنصرا جوهريا في مشروعه الجمالي طوال الوقت.
وعوضا عن اعتبار ذلك انتقالا من الأدوات العلمية إلى الأدوات الروحانية، أنا أعتبره نابعا عن استيائه من السياسة المؤسساتيّة والتزامه اللاحق بالنشاط المعارض. وكما الأفنديّة الآخرين، كان قطب معنيا دائما بالإصلاح والتغيير الاجتماعيين؛ وإلا لما انخرط في السياسة الحزبية في صفوف حزب "الوفد". ولكن، في الفترة السابقة للحرب العالميّة الثانيّة، سلّم الإصلاح للسياسة المؤسساتيّة والممارسات المرتبطة بها-الانتخابات، المفاوضات، الديبلوماسيّة، وإصلاحات إدارية من القمّة إلى القاعدة. ويوضح تسليمه قضيّة الإصلاح للسياسة المؤسساتيّة سبب محدوديّة ما كتبه في السياسة قبل الحرب العالمية الثانية: كانت السياسة تتم عبر الانتخابات، وليس عن طريق بذل جهود لصياغة الرأي العام من خلال نشر كتابات تحريضيّة. وسمح تسليم مسألة الإصلاح للسياسة الشرعية بأن يطوّر سيد قطب مشروعه الفنيّ بمعزل عن معاناة العالم الحسيّ وبما يتوافق مع الاستخفاف الرومانسي العام بالبعد المادي للوجود البشري. ببساطة، فيما كان دور السياسة المؤسساتية هو الاهتمام بالحاجات الاجتماعية للسكان، فإنّ دور الشعر كان تلبية حاجات نمّوها الوجداني.
إلا أن التطورات التي تلت الحرب هزّت توزيع الأدوار هذا بصلبه. فقد أثبتت السياسة المؤسساتية عجزها عن إيجاد حلول للأزمات المتعدّدة للعالم الحسي، كما بدا أن الأدب المنقطع عن المجتمع قد ساهم في تعميقها. وأوجد هذا الوضع أرضية خصبة لانتشار صيغ متنوعة من الالتزام الفكري، وهي فرصة التقطها قطب بشغف، وأعاد صياغة نفسه من خلالها. في الواقع، كان قطب نفسه شاعرا منقطعا عن المجتمع (أو حتى أنّه كان في برج عاجي) خلال فترة ما بين الحربين العالميتين. وكان ذلك موقفا طبيعيا لشخص يعبّر بقوة عن ارتيابه بالفكر البشري وازدرائه للعالم الواقعي. بعد تحوله، في أعقاب الحرب، من أولوية المعرفة إلى ألوية الفعل، أحاط سيد قطب نفسه بشباب جامحين، واتخذ موقفا معارضا للسياسة البرلمانية، وتخلّى عن ابداعه الشعري المتقوقع في سبيل السياسة الثوريّة.
وكان هذا الترتيب الفكري المستجّد، والذي حدّدته ضرورة التحرّك الملّحة، هو أيضا مصدر توتّر لقطب. لم يكن، فعليا، يشعر بالراحة وسط التيارات الفكرية التي رافقت عصيانه ووّفرت قاعدته النظرية الأساسيّة: اليسار، الأدب الملتزم، الواقعية الاشتراكية، وتيارات أخرى كان قطب يعتبر أنّها نتجت عن الخلفية المعرفية للمادّية. وهذا التوتر واضح في تقدير قطب المتردد، وحتى المتناقض، للتيارات اليسارية. في بعض كتاباته، يبدو قطب مقدّرا لقدرة التيارات الشيوعية على توجيه الطاقات البشرية ضد الرأسماليّة والتبعية الاستعمارية، والظلم الاجتماعي. إلا أنّه، في كتابات أخرى، ينتقد الشيوعيين بسبب طموحاتهم المحدودة بتلبية الحاجات البشرية الأساسية مثل الطعام والمسكن والملبس.
ربّما تقدّم مراجعة سيّد قطب لكتاب "مليم الأكبر" لعادل كامل، التي افتتحت هذا الفصل، التجسيد الأوضح لموقف قطب المتناقض من اليسار. ففي حين يمدح قطب الرواية لقدرتها على إثارة السخط إزاء الظلم، وهو ما يعتقد أنّه هيأ لتحقيق أفعال ملموسة ضد النظام القائم، إلّا أنّه يبدو في الوقت ذاته مترددا تجاه القيمة الفنيّة للرواية. في تقديره لها، يبقى قطب مخلصا لفهمه السابق للفن، الذي كان يرى أنّه يتخطّى الحدود المكانية والزمنيّة للعالم الحسيّ وصراعاته المؤقّتة. وتحفل أعمال قطب الإسلاميّة اللاحقة، التي نشرت قبل سجنه، بارتباطات فكرية مشابهة-ولو أنّها تنمّ عن ثقة أكبر- مع اليسار، الذي كان يشعر أنّه في المعسكر السياسي نفسه معه، مع ان الطرفين، من زاوية معرفية أشمل، ينتميان لعوالم مختلفة. ونتيجة لذلك، كان قطب يواجه معضلة: كيف يستمر في مهمته الأدبية الهادفة إلى تسامي الروح البشرية فيما أصبح هذا النوع من الأدب مرادفا للفكر المحافظ اجتماعيا وسياسيا؟ وكيف، في الوقت عينه، يمكنه تسخير الأدب لتحقيق هدف التقدّم الوطني والاجتماعي من دون الانتقاص من هدف التعالي الأسمى.
قدّم الإسلام السياسي الحلّ لهذه المعضلة. فالإسلام، كونه مجموعة من الرموز القابلة للتفسير، قدّم العناصر التي مكّنت قطب من بلورة صيغة ما من علم الوجود والنظام الاجتماعي-السياسي، وأنماط من الممارسات السياسيّة. وسمحت التطورات التي تلت الحرب لقطب بإدراك أنّه من المستحيل إعلاء الروح البشرية من دون تقليص آلام الناس الجسدية. ويشرح في كتاب "العدالة.." أن "البطون الخاوية لا تعرف معان سامية". فهي تسحب الناس نحو الاستعباد العقلي وتقودهم مباشرة إلى الحظيرة الشيوعيّة كما يحذّر في "معركة الإسلام والرأسماليّة". وتوصّل قطب إلى خلاصة مفادها أنّ هناك حاجة لنظام متكامل للاعتناء بمستويي الوجود، الوجداني والمادي، من خلال تطبيق العدالة الاجتماعية على الأرض مع الاحتفاظ في الوقت عينه بالرابط الروحاني مع العالم الآخر. وجاءت عملية إعادة الصياغة هذه في أعقاب مراجعة رئيسية لنظريته السابقة عن المفهوم البشري المبنية على الفصل بين العقل وبين الإحساس. ومراجعة صلة الإحساس\العقل التي شكّلت المبدأ الجوهري لمشروعه الجمالي تظهر بوضوح في معارضته الحادّة لفهم الإسلام على أنّه معني حصرا بالمجال الوجداني (في معزل وجداني وعالم الضمير) مما يجعله يقتصر على ممارسة طقوس العبادة (العبادات). ولكن قطب يتمركز بحزم أيضا في مواجهة النقيض المقابل: أي تصنيف الإسلام حصرا ضمن مجال التفكير العقلاني وتحويله إلى علم أو إلى فلسفة. ما يقترحه قطب، عوضا عن ذلك، هو صهر هذين المستويين من الإدراك عن طريق نظريته حول الدولة الإسلامية وجعل ممارساتهما المتبادلة الشرط الأساسي لنجاحها.
[نشر على جدلية. ترجمة هنادي سلمان].