تشاس واكر
لماذا يتعيّن على الاشتراكيين قراءة رواية "موبي ديك" لهيرمان ميلفيل.
قبل سنوات عدّة-لا يهم عددها بالتحديد- انضممت إلى مئات الأشخاص الآخرين في جلسة قراءة ماراثونية لرواية "موبي ديك" في متحف نيو بيدفورد لصيد الحيتان، وهي عبارة عن جلسة قراءة جماعية ومتواصلة على امتداد 25 ساعة لرائعة هيرمان ميلفيل، تنظّم سنويّا منذ 1997. بدأت جلسة القراءة في قاعة فارهة مشرقة تحتوي على نسخة عن سفينة صيد حيتان بنصف حجمها الطبيعي، تعجّ بالناس وبضجيجهم- متحلّقين حول هيكل السفينة، أو محشورين على سطح السفينة، أو يطلّون من على الشرفة للحصول على منظر عبر الأشرعة.
"ادعوني إشمايل". علا الهتاف وانطلقت الرحلة.
"بدأت الفكرة مع أستاذ محاضر يدعى إروين ماركس"، تقول مديرة متحف صيد الحيتان أماندا ماك مالن، شارحة أصل فكرة القراءة الماراثونية. "كان قد شاهد سباقا صيفيا لقراءة "موبي ديك" في متحف ميستيك سيبورت وقرر أنه يتعين على نيو بيدفورد القيام بذلك لأنّها موقع انطلاق القصّة. وتحوّل الأمر إلى مؤسّسة محليّة: يقرأ خلالها رئيس بلدية نيو بيدفورد كلّ عام، كما كان عضو مجلس الشيوخ عن مقعد ماساتشوستس (وهو بطل الاتفاقيّة البيئيّة الجديدة) إيد ماركيي قارئا في 2020.
تعقبنا إشمايل عبر طريق مرصوفة بالحجارة وصولا إلى داخل كنيسة صيّادي الحيتان البحّارة. كانت شواهد قبور رخامية تذكارية قد غرزت على الجدران، شواهد قبور فارغة نقشت على كل منها أسماء البحارة الذين فُقدوا في البحر. احتشدنا في مقصورات الكنيسة، وسط دمدمة الأحذية البحرية الثقيلة من بين المقاعد، مختلطة بصوت الحسيس الخفيف الصادر عن أحذية النساء." ظهر كاهن محليّ في الوقت المحدّد، ما هو إلا أبونا مابل، كاهن أبرشيتنا. صعد إلى منبر الوعظ، الذي جُهّز على شكل مقدّمة سفينة من القرن العشرين تتناسب مع توقعات محبّي "موبي ديك". ورافقتنا أنغام أورغ كئيبة تعزف نشيد صيد الحيتان، وهي الأنشودة الدينية التي يعتقد أن ميلفيل نظمها، ثم حذّرنا سفر يونس (يونان) الذي تلاه الكاهن مما سيتبع: كارثة بمعايير توراتية.
و"موبي ديك" عصيّ على الاختصار السهل. فهو في آن جدّي حدّ الهلاك، وآسر بفكاهته، ووجودي بثقله. فميلفيل يهدف إلى صلات قربى بين "المنبوذين" كما يسميهم، الشخصيات المستوحاة من الجزر العديدة في العالم. وفي حالات التوتّر أو الحنان، ينجح بحارة السفينة في إيجاد المعنى كل مع الآخر. وبين لدغ قيادة أهاب وافتتانهم بجاذبيته، يعملون ويعيشون معا على متن "بيكود"-ويفشلون في النهاية في وقف اندفاع قبطانهم في حملهم إلى موت محقّق.
لدى صدوره-وسط التوسّع المدمّر للرأسماليّة والامبراطورية، والانتفاضات الشعبية والسياسات الرجعية لخفض النفقات في أوروبا، والصراع القائم حول الرّق والعبودية والحرب الأهلية الأميركية الوشيكة- لم يحصل كتاب "موبي ديك" على أي حفاوة تذكر. لكن معالجته لقضية القضاء على الطبيعة، وتصويره للعمّال ولاستبداد أصحاب العمل، ونقده لنظرية تفوق البيض وللإمبراطورية تفاجئ قرّاء اليوم في نبوءتها ودويّها.
في العام 1953، توقّع المفكّر الاشتراكي الترينيدادي سي. إل. آر. جايمس، أنّ "رواية موبي ديك إمّا ستُحرق عالميا أو ستُعرف عالميا باللغات كلّها على أنّها الشهادة الأدبية الشاملة الأولى عن شروط وتصورات سبل استمرار الحضارة الغربية." بالنسبة لاشتراكيي اليوم، ووسط الكوارث المتراكمة التي تضع المستقبل نفسه في دائرة الشك، يرفع "موبي ديك" شارة تحذير، وسؤالا ملحّا: ما العمل في مواجهة الكارثة؟
حالة هيجان
بالعودة إلى المتحف، اتّخذ القراء أماكنهم تحت لوحة عملاقة لمرفأ نيو بدفورد، متبادلين الأدوار في القراءة على مراحل ترافقها كلمات شكر مهذّبة من المتطوعين. البعض يقرأ بلغات مختلفة، فيما آخرون يقرأون بلهجات نيو انغلاند الغليظة. وكان يمكن التعرّف على المخضرمين بسهولة، من طريقة لفظهم لبعض الكلمات المتعلقة بتفاصيل السفن. وكان عدد قليل من القرّاء يؤدّون بواقعية، مغيرين أصواتهم في حوارات البحّارة، ومثيرين التصفيق بين الحين والآخر.
أحضر معظم من في الحشد نسخهم الخاصة من الكتاب، يتتبعون ما يقرأ من خلالها، كل في انتظار دوره أمام مكبّر الصور. نظرت من فوق كتف أحد الأصدقاء أتأمّل النقوش الخشبية المذهلة في نسخته التي رسمها روكويل كنت. اتّخذ رجل مسن مكانا بالقرب منّا، وفي يده عصا للمشي حُفرت قبضتها ولونّت على شكل حوت أبيض-لم تكن قراءة ميلفيل تلك هي الأولى له (كما للكثيرين في الحشد). ولكن، وكما يعرف الأساتذة الفعليون والوهميون، فإن "موبي ديك" يستمر في استقطاب أجيال جديدة من القرّاء.
"لقد مضت أعوام طويلة، طويلة على تركيز الطلاب، في المقام الأوّل، على القراءة الدينية للرواية"، كما تقول هستر بلوم، أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة "ولاية بنسلفانيا"، والرئيسة السابقة "لجمعية ميلفيل". تضيف أنّه إلى جانب اهتمامهم بالقضايا البيئية في الرواية، فإن طلابها اليوم "يذهلون بمدى التحرر الجنسي في القصة، وبمدى فكاهتها. هم لا يصدّقون كم النكات الجنسية المتواصلة، كما أنهم متمسكون بزواج إشمايل من كويكغ أكثر من تمسّكه هو به". ويمكن لموبي ديك أن يكون مشوشا وبريّا، إلا أنّ ذلك سمح له بـ، أحم، الولوج بعمق في مجتمعنا.
وأخبرني مؤلف الخيال التخميني شينا ميافيل- الذي تتضمن أعماله مغامرة لشاب بالغ مستوحاة من موبي ديك- أن "فيض المراوغة" الذي يجذبه إلى النص "يتعلق، نوعا ما، بطبيعة الكتاب الموسوعيّة، بالإحساس بأنّه يجهد باستمرار للخروج عن شكله، وللخروج عن شكل الأنواع الأدبية، من أجل أن يتضمن كل شيء، لكي يكون كتابا ليس "عن" [شيء] بل يدمج بطريقة ما كل شيء. ومن البديهي إنه يفشل بذلك، إلا أنه يفشل بطريقة رائعة." ومعتبرا أن موبي ديك "هو عمل متميّز بطموحه وعبقريته"، يشجّع ميافيل القرّاء الجدد على قراءته، حتّى إن كان حجمه الكبير يصيبهم بالرهبة.
أحد المداخل السهلة لذلك هو كتاب "موبي ديك" السمعي، وهو مشروع يشمل قراءات من كل من تيلدا سيونتن، وبينيديكت كامبرباتش، وميافيل نفسه، مداورة. وغالبا ما يكون هناك رابط مرح بين القارئ وبين الموضوع.
ويتناول دايفيد أتنبورو الفصل الذي يعالج الإفراط في الصيد واندثار الحيتان. ويجهد طوني كاشنير لاستخلاص كلّ المعاني الممكنة من "ضغط اليد"، وهو أكثر فصول الكتاب ابتكارا، حيث يعتصر إشمايل ورفاقه بلورات زيت حوت العنبر بين أصابعهم. ويعالج جون واترز فصل "رداء القس"، حيث يعدّ عدّد من البحارة رداء واقيا من جلد قضيب الحوت، يرتديه عامل المفرمة حين يكشط صفحات الإنجيل الجلدية لتصبح رقيقة.
وكان يمكن لعامل المفرمة أن يتحوّل إلى قارئ جيد هو نفسه، إذ كانت الأجزاء الجلدية تقع في سلّة المهملات التي تحته "بسرعة [وقوع] أوراق خطيب مستغرق في عمله من على مكتبه".
سمكة مخلاة
أخذنا استراحة في ردهة الاستقبال، حيث وزعت القهوة وكاسات من الحساء المجاني تقدمة من مطعم مأكولات بحرية محلي. حدقت في هيكل حوت أزرق ثبّت في السقف. كانت آثار زيت العظام قد خلّفت نقطا على أرضيّة الردهة، في تذكير واضح لتلك الصناعة التي كانت يوما رائجة ومميتة.
"بحق الله، اقتصد في قناديلك وشموعك!" يتوسّل إشمايل، لأنه "في كلّ غالون تستهلكه، هناك قطرة دمّ بشريّة واحدة على الأقل سُكبت للحصول عليه."
لقد أدّى صيد الحيتان إلى شبه انقراض فصيلة بأكملها، في حين أن حصيلة خسائرها البشريّة أكبر بكثير مما يمكن تعداده على جدران كنيسة صغيرة. دُفع ملايين الناس إلى ما يتجاوز حدود الإنهاك فيما كان زيت الحيتان لازما لتشغيل آلات غزل القطن، ولإنارة المعامل، بما يسرّع الإنتاج الصناعي ويطيل دوام يوم العمل، ويؤدي إلى ارتفاع حاد في الطلب على القطن، وعلى عمالة العبيد، وعلى الاستيلاء على أراض مأهولة. أعدّ زيت الحيتان الأرضيّة لتوسيع صناعة الوقود الحجري ورفع وتيرتها، وللمركز الرئيسي الذي تحتله في الرأسمالية العالمية اليوم.
لا يغيب عالم الاستغلال والاستملاك عن تطورات قصة "موبي ديك". يقرر إشمايل شبه المفلس الإبحار على متن "بيكود" ويوافق على الحصول على حصة ضئيلة من الإيرادات غير المؤكّدة للرحلة. "من منا ليس عبدا؟" يسأل مجازا لتبرير خضوعه الشخصي لأرباب عمل صيد الحيتان.
لاحقا، نسمع قصة مجموعة من "البحارة الفقراء، لوّحتهم الشمس"، الذين يتعين أن يجعلوا حوتا اصطادوه يخضع لأحد النبلاء لأنه-وبحسب القوانين البحرية- "ملكه". وهذه القوانين نفسها السمكة الموّثقة [المربوطة بسفينة] والسمكة المخلاة" [يملكها الأسرع في اصطيادها] استخدمت لتبرير مطالبة إنجلترا بالهند واستيلاء الولايات المتحدة على المكسيك.
هذه الفصول الإضافية تعرض ما ناقشه كورنيل ويست في كتابه الصادر في 2004 "الديموقراطية تهمّ" من أن: ميلفيل أسس تقليدا من "النقد شديد القسوة" للإمبريالية الأميركية، فاضحا "الأفكار الحربيّة والمبادئ الملَكيّة الكامنة في اللغة السلمية والترويج الديموقراطي الحميد". ويبني ويست على الفكرة السابقة لتوني موريسون، التي ناقشت في كتابها "أشياء لا تقال لم تقل" في 1988 أنّ "موبي ديك" يجد ميلفيل مصارعا شبح عقيدة تفوّق البيض وتأثيرها المشوّه للعالم الاجتماعي. "كان بياض الحوت هو أكثر ما يروّعني"، كما يعترف إشمايل.
ينتهي مشهد "منتصف اللّيل، أعلى مقدّمة السفينة"، والذي تؤدّيه فرقة تمثيل محليّة في صالة العرض التابعة لمعرض صيد الحيتان، فيما يقذف ملّاح أبيض إهانات عنصرية في وجه الصيّاد الأفريقي داغوو؛ تلوح عاصف عنيفة في الأفق فوقهما وبينهما، وبيب، فتى القمرة الشاب الأسود، يصلّي لـ "إله أبيض كبير عال في مكان ما هناك في العتمة" من أجل الخلاص. تحذير يفسد النهاية: لن تستجاب الدعوات.
الحراسة الليلية الأولى
مع امتداد المساء ليمسي ليلا، يصغر الحشد في جلسة القراءة الماراثونية. البعض يناوب حياء: صدر الشخير الأول عند التاسعة و43 دقيقة، حين غفا رجل تحت لوحة لعين حوت وحيدة ولا ترمش. أبقينا أنفسها مستيقظين من خلال المزيد من القهوة ولفحات صقيع كانون الثاني/ على سطح ظهر مركب المتحف، جاهدين لإلقاء نظرات خاطفة على النجوم فوق أضواء المرفأ. بعيد الواحدة صباحا، أنهينا منتصف الكتاب وزجاجة صغيرة من "الروم" تقاسمناها في أكواب قهوتنا بعدما غسلناها.
يشكّل هذا المقطع نقطة تحوّل في النبرة التي يستخدمها الكتاب في نقده لتفوّق البيض وللعبودية: نحن الآن عبرنا مئات الصفحات، ولقد قام أفراد طاقم "بيكود" للتو بقتل حوتهم الأوّل. وبعدما أرهقتهم عملية المطاردة وسحب الحوت لربطه بالسفينة، يغرق معظمهم في النوم. يجوع ستاب، المساعد الثاني للقبطان، ويأمر إثنين (من أصل ثلاثة في الكتاب) من الشخصيات السود بأن يعدّوا له قطعة من لحم الحوت: يُرسل داغوو إلى البحر ليقطعها من الجيفة؛ أمّا طبّاخ السفينة، وهو رجل مسنّ أسود اسمه فليس، يوضح ميلفيل أنّه استُعبد، فعليه تحضير الوجبة في تلك الساعة المتأخّرة من الليل.
لا تعجب نوعية الطبخ ستاب الذي يوبّخ فليس، ويهينه بجعله يلقي موعظة على أسماك القرش. ويقول إشمايل أن أسماك القرش هذه، هي أيضا "مواكب المرافقة الثابتة لسفن الرقّ كلّها التي تعبر المحيط الأطلسي": تتغذّى من الموت الجماعي لملايين الأفارقة المستعبدين خلال عبور "الممرّ الأوسط"، الذين ماتوا أو قتلوا على متن سفن الرّق، أو الذين قفزوا إلى البحر هربا من ظروفهم المريعة. بعد إجباره على الإنحناء قبل انصرافه، يبتعد فليس وهو يعرج، متمتا بينه وبين نفسه (بلكنته وأخطائه اللغوية) بأن ستاب هو "قرش أكثر من السيّد قرش نفسه".
في شخصيّة ستاب، تتجسّد إدانة تراتبيات السلطة ومنطق الرأسماليّة العنصريّة. في مرحلة سابقة من القصّة، يهين أهاب ستاب بكلمات جارحة لدرجة أنّه لم يكن متأكّدا إذا كان القبطان قد ركله. ومع ذلك، لا يجابه ستاب أهاب أبدا، باستثناء في أحد أحلامه حين يتم تبليغه بأنّ "تعرّضه للركل من قبل رجل عظيم.... برجل جميلة مصنوعة من العاج" إنّما هو شرف. لدى استيقاظه، يقوم بتبرير خضوعه وطاعته، ويقوم بتوتير فليس والآخرين بدوره. حين يقفز بيب من على متن السفينة مذعورا بعد ارتطام الحوت بها، يهدّده ستاب بالتخلي عنه-ويذكّره بأن "ثمن الحوت يساوي ثلاثين مرّة ما تساويه، يا بيب، في ألاباما".
لدى تجريده من إنسانيته على اعتبار أنه ملكية خاصة تدرّ الربح، وتقييمه بأنّه أقلّ قيمة من الحيوان المصطاد أو السلع الناتجة عنه، يقرّر في النهاية القفز مجددا. بعد ساعات من تواجده وحده في المدى الشاسع للمحيط، يصبح، جسديا، بلا مرساة.
الارتطام الكوني
ينتقل السرد إلى الجحيم الصناعي للاختبارات بتحويل الحيوان المذبوح إلى وقود. كانت طاقتنا الشخصية قد بدأت تذوي. انتقال شاق عبر الساعات، نجابه حدود أجسادنا الهارمة واجتماعها المطوّل بالكراسي التي لا ترحم. تحوّلنا عن "الروم" وعدنا إلى القهوة، وعدنا للتناوب أمام مكبّر الصوت، نبحر عبر الفصول بإيقاع متعمّد-الإحساس المتناغم الذي يطفو لدى العمل مع آخرين للوصول إلى هدف مشترك.
يصوّر الكتاب العمل المجهد لصيد الحيتان بتفاصيل حيّة، منضبطة ومنتظمة. والانعتاق منه موضع شك؛ فكل عمليات العصيان المحتملة في الكتاب تولد ميتة، من تفكير ستاربك باغتيال أهاب إلى القصة التي داخل القصة أي "قصة تاون هو"، حيث تقوم مجموعة من "البحارة الباريسيين بالتحصن خلف المتاريس" قبل خيانة انتفاضتهم وسحقها.
يصارع سي ال آر جايمس فكرة أن أفراد طاقم السفينة- وهم الشخصيات التي في عنوان كتابه الصادر في 1953 "الملّاحون والمرتدّون والمنبوذون"- ليسوا عاجزين فحسب، بل أيضا غير راغبين بالتمرّد على أهاب. وعوضا عن ذلك، يصبح مسعاه هو مسعاهم. مفتونا دوما بديناميكيات العلاقة بين الزعماء وبين الجماهير، يكتب جايمس بأن تجربة ميلفيل بالعمل في البحر سمحت له بمراقبة "كيف يعقلن الناس خضوعهم للاستبداد"، وأيضا كيف يلزم الطغاة الناس بأهدافهم هم.
يعتبر جايمس، الذي قرأ "موبي ديك" خلال حكم أدولف هتلر وجوزيف ستالين، أن أهاب هو "أخطر نموذج اجتماعي وأكثرهم تدميرا عرفته الحضارة الغربية". وهو يناقش أن عبقرية ميلفيل تكمن في عملية خلق شبه نبوية، توقعت مجيء شموليي القرن العشرين من خلال إدراكه وفهمه للتغيرات العالمية المدمّرة التي ستنتجهم، كما للكوارث التي سيخلفونها. وبالنسبة لجايمس، فإن جوهر "موبي ديك" يتمحور حول السؤال الرئيسي التالي "كيف يمكن لمجتمع قائم على الفردية الحرّة أن ينتج الشمولية وأن يعجز عن الدفاع عن نفسه في مواجهتها؟"
وهو يوجّه نقدا مدمرا للمساعدين الرئيسيين في سفينة بيكود- الذين "يمثّلون الكفاءة ورجاحة العقل والتقاليد"-ولمساعيهم الخجولة والمتعثّرة (والمألوفة) لوقف أهاب. وكأنّهم لا يفهمون مدى خطورة الوضع الذي هم فيه.
ويكتب جايمس قائلا "كل احتجاج كان يعقبه استسلام".
لم ينحسر طوفان نوح بعد
اقتربنا من الفجر. ظهرت حزمة من الكعك المحلّى على الطريقة الأزورية واختفت بالسرعة ذاتها بين أفراد الحشد الصباحي المتيّقظ مجدّدا بعدما ارتاحوا- جاهزين للمتابعة الأخيرة سريعة الإيقاع. كنت أشعر بأنّني مشوش وأهذي، أشبه أهاب حين "ومض البرق عبر جمجمتي؛ وبؤبؤي عيني يؤلمانني ويؤلمانني، ودماغي المضروب بالكامل يبدو كأنه قطع عن جسدي ويتدحرج على أرض تصيب بالدوار."
أطبقنا على الحوت-وهو أطبق علينا.
يتأرجح "موبي ديك" باستمرار على حافة الكارثة: التخلّي عن بيب في البحر، غرق تاشتيغو الوشيك داخل رأس حوت، مرض غامض كاد يقتل كويكغ. الكتاب يهدد، تكرارا وتكرار، أن الأشياء يمكن أن تصبح أسوأ بعد، إلى أن تصبح كذلك فعلا. ربّما وجد ميلفيل الغفران هنا، معترفا لنثانييل هاوثورن "لقد كتبت كتابا شريرا، وأشعر بأنّني بريء كحمل". في وقت لاحق، يشير هاوثورن إلى أن ميلفيل "كان قد قرر على الأغلب أن يهلك."
ولكن ما هي السياسة التي يمكن أن تنتج عن اليأس؟ بالنسبة لرحلة إشمايل سعيا وراء "تلك الألغاز التي نحلم بها" فهي تؤّدي إمّا إلى "متهات مغلقة" أو إلى سفن بخاريّة. والفكرة الافتتاحية عن الرغبة البشرية بالاقتراب من الماء تتعارض مع ستارة النهائية وهي تنسدل على إشمايل، يجرفه المحيط وهو متعلّق بالحياة من فوق النعش الفارغ لعشيقه الذي غرق. الهروب-كما فعل ميلفيل نفسه مرّة في جزر ماركيساس – أو مجرد البقاء على قيد الحياة، ربما هذا أفضل ما يمكن للمرء تمنيه.
ولكن ماذا عن الناس كلّهم؟ الكوارث فوقنا: حرائق الغابات الفتّاكة، ارتفاع مستويات البحار، نهضة الحركات السياسية السلطوية اليمنية المتطرفة، واللامساواة الوحشية السابقة للجائحة والمتفاقمة مع استمرارها. يتسابق أصحاب المليارات للسفر خارج الكوكب تجنبا لقدر حكمونا بها (على الرغم من أنّه، وكما قد يقول ميلفيل بمتعة، لم ينجحوا حتى الآن بأكثر من التوجه إلى الفضاء). وتلوح في الأفق كوارث أعظم، ونحن نستعد لكل الجبهات العاصفة المتتالية، خائفين من فقدان السيطرة، فعليا ومجازا.
يعرف الاشتراكيون أنه من الممكن أن يكون هناك عالم أفضل. أحيانا، يمكن إيجاد المواساة في الاعتقاد بأن الأمور مقدّرة سلفا. إن انتصار الطبقة العاملة أمر حتميّ، هكذا أعلن يوما كارل ماركس وفريديريك إنغلز في البيان الشيوعي. قراءة موبي ديك مزعجة لأنه يتبنى الرأي المعاكس: إن قوس العالم لا ينحني باتجاه العدالة؛ عوضا عن ذلك، فإن القوس في طريقه إلى القاع.
في المقطع المفضّل لدي، يصف إشمايل كيف يهدد حبل صيد الحيتان، وقد ثبت رمح في مقدمته، بالإيقاع بالبحارة على متن سفينة الصيد لدى رمي الرمح، "بربطاته المعقّدة، وهو يتعرّج ويلتوي في الاتجاهات كلّها تقريبا". السفينة هي الحال البشرية، ويخبرنا بأنه:
لا يمكنك البقاء بلا حراك في قلب هذه المخاطر، لأن السفينة تتأرجح كالمهد، وأنت تُقذف في هذا الاتجاه وذاك، من دون أدنى إنذار؛ وحده نوع من العوم بضبط النفس وفعل متزامن مع عزم شديد، يمكّنك من الهروب من قدر "مازيبا" الذي يصارع حيوانا جامحا، والهرب إلى حيث لا يمكن للشمس حتى أن تخترقك.
لم نخسر كل شيء بعد، ولكن ميلفيل يشير إلى مدى سهولة ذلك. ومع ذلك، يمكن لهذه المواجهة المخيفة أن تكون محرّرة، لأننا نتعلّم أنّه لا يمكن البقاء بلا حراك: نحن بحاجة إلى الحركة.
على الاشتراكيين، كما أي شخص آخر، أن يقرأوا موبي ديك لأنه عمل أدبي فوق العادة. مستوياته مدوّية ومزعجة، حاملة مرآة تعكس ماضينا وحاضرنا. ولكن، وعلى عكس خاتمة الكتاب، لم يتشكّل مستقبلنا بعد. فيما الرياح والأمواج تعصف بنا، مازالت لدينا خيارات والقدرة على الفعل، بما أنّنا أقدر من "المنبوذين"، لنحدّد معا كيف نوجّه الدفة ونجذّف باتجاه الأفق الذي تصعب رؤيته، ناهيك عن رؤية ما بعده.
عالمنا المأهول يدمّر على أيدي قوى هائلة يبدو أنّها تعمل من خارج السيطرة: وحوش وعوارض سقيمة علينا أخذها بعين الاعتبار. ولكن يمكن لهذه التحذيرات أن تحفزّ الفعل، عوضا عن إغراقنا باليأس. مغلّفة بحبل صيد الحيتان، تشتد الرسن المسلطة حول أعناقنا إحكاما-ومع ذلك مازلنا نتوق للتنفّس. نستفتي بعضنا البعض-بحثا عن المعنى، والرفقة والتنّور والتحوّل-عبر الضباب.
وكما يذكّرنا إشمايل فيما هو يتأمّل تداخل أشعة الشمس وضخ الرذاذ الذي ينفثه الحوت، "إن أقواس القزح لا تزور الأجواء الصافية؛ هي تشّع عبر البخار فقط."
[نشر المقال في مجلة جاكوبن. ترجمة هنادي سلمان].