صبري جفتجي
(دار نشر جامعة تمبل ، 2021)
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟
صبري جفتجي (ص. ج.): بدأت العمل على الكتاب في 2013، وهي السنة التي شهدت عودة الأنظمة السلطوية والصراعات إلى معظم الشرق الأوسط، بعد عامين من الاحتجاجات وعمليات انتقال للسلطة. لقد قيل الكثير عن "الربيع العربي"، لكن لم يُقدّم إلا القليل عن ثقافة هذه الاحتجاجات الاستثنائية، بما في ذلك ركائزها الدينية. وبصفتي طالب في مجال الإسلام والديمقراطية، أنا فعلا مفتون بالخطابات الإسلامية المتعلقة بالعصيان وبالتحرّر. كتبت هذا الكتاب لأشرح كيف شكّلت الخطابات الإسلاميّة عن العدالة التفضيلات السياسية للمتدينين من رجال ونساء وأثّرت على تصرفاتهم منذ بداية التاريخ الإسلامي. كنت أرغب في فهم كيف يصيغ الإسلام مفاهيم المسلمين عن العدالة وكيف تؤثر تلك المفاهيم بدورها على نظرتهم للديمقراطية وللسلطوية. كتبت هذا الكتاب لتوفير رؤى جديدة عن العدالة والديمقراطية من منظار المسلمين والمسلمات المتدينين.
(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(ص. ج.): هناك العديد من الدراسات التي تشرح غياب الديمقراطية عن العالم الإسلامي مستندة إلى عوامل مؤسساتيّة واقتصاديّة أو تاريخيّة جامعة. وبعض هذه الدراسات تستخدم مقاربة الحضارات لتقديم الإسلام على أنه معاد للديمقراطية؛ وتحاول دراسات أخرى تقديم نظريات محليّة تبحث عن الجذور الإسلامية للتعددية. هذا الكتاب يركّز على [مفهوم] خلافة (وكالة) المسلم لدراسة "المسلمين والديمقراطية" عوضا عن "الإسلام والديمقراطية". ويستخدم الكتاب منظورا مستحدثا إذ يركّز على "العدل" وهو واحد من القيم العليا في الدين الإسلامي، لتفسير الجذور الدينيّة للتفضيلات السياسية للمسلمين. في الكتاب، أستكشف المسارات التاريخية لمفاهيم العدل الإسلامي، وأُظهر كيف أن الخطابات المتعلقة بهذه المفاهيم أنتجت أفعالا سياسية أو غيّبتها من الماضي وحتّى الحاضر. وهذه الفكرة الرئيسية مدعومة من زوايا مختلفة. ويوّفر الفصلان الثالث والرابع معالجة أولى منهجية لنظرية العدل الإسلامية من العصر الكلاسيكي إلى العصر الحديث. ويقدّم الفصل الرابع تفسيرا مبتكرا لإثنين من أكثر الفلاسفة الإسلاميين تأثيرا في القرن العشرين، وهما سيد قطب وعلي شريعتي، عن طريق إعادة تكوين الفلسفة السياسية لكل منهما والمتعلّقة بمفهومي الخلافة والإحسان الإسلاميين. وتوّفر هذه المقاربة إمكانيات نظرية جديدة حول الجذور السياسيّة للتفضيلات السياسيّة. أما الفصل الخامس، فيقدّم تحليلا لخطاب المنشورات الإسلامية لإثبات كيف أعاد الإسلاميين صياغة الخطابات عن [أهمية الحفاظ على] النظام لدعم الوضع القائم في وجه "الخطر الشيوعي" المفترض خلال الحرب الباردة. من جهة أخرى، يتتبّع الفصل السادس المتوارث المتواصل من مفاهيم العدل الإسلامي وتأثيرها على التفضيلات السياسيّة من خلال مقابلات شخصية مطوّلة مع أعضاء الحركات الإسلامية في تركيّا. وبذلك، يوّفر الفصلان الخامس والسادس السردية العملية الأولى عن الروابط بين مفاهيم العدل وبين الديمقراطية في العقلية الإسلامية. أخيرا، في الفصلين السابع والثامن، يقدّم الكتاب أيضا تقييما كميّا عن تأثير قيم العدالة مثل المساواة والآراء المتعلقة بالظلم السياسي على التوجهات الديمقراطية والسلوكيات الاحتجاجيّة.
(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟
(ص. ج.): معظم أعمالي السابقة تتمحور حول التدين الإسلاميّ والتوجهات الديمقراطية مستخدما مقاربة كميّة. فمثلا، في "التحديث، الإسلام، أو رأس المال الاجتماعي"، لم أجد أي تلازم بين التدين وبين دعم الديمقراطية في حين أنه في "الانقسام الإسلامي-العلماني"، وجدت روابط مجدية إحصائيا بين القيم الإسلامية وبين دعم الشريعة والديمقراطية. في كتاب "الإسلام، العدالة الاجتماعية والديموقراطيّة"، بدأت استكشف احتمالات تأثير قيم العدالة الاجتماعية الإسلامية على التوجهات الديمقراطية. هذا الكتاب ينطلق من أعمالي السابقة بأكثر من طريقة. أولا، وعوضا عن الاكتفاء بالتركيز على الورع والديمقراطية، يستكشف الكتاب قيما دينية وامكانياتها في توليد مزاعم تشرّع الديمقراطية والشمولية في آن. ثانيا، أستخدم مقاربة لها أساليب متعددة من خلال الجمع بين التحاليل الإحصائية لنتائج الاستطلاعات، مع مقابلات شخصية مطوّلة وتحليلات أرشيفية ونصيّة لكتابات الإسلاميين. وأخيرا، يذهب الكتاب أبعد من التفضيلات السياسية المعاصرة ويقدّم وقائع تاريخية منذ بدايات الإسلام، فالقرون الوسطى، والتيارات الدستورية في القرن التاسع عشر، وصولا إلى الربيع العربي من أجل تعقّب المسارات التاريخية للعدل، وتطور الخطابات المتعلقة بالنظام وبالحريّة، وبنى الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي.
(ج): من تأمل أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغب أن يخلّفه؟
(ص. ج.): في المقام الأوّل، آمل أن يكون هذا الكتاب محط اهتمام الباحثين والطلاب في دراسات الإسلام، والسياسة، والشرق الأوسط. بالنسبة لهذه الفئة، أود أن يكون هذا الكتاب نموذجا عن العمل العلمي الاجتماعي المتجذّر في المبادئ الإسلامية والتاريخ الغني للعالم الإسلامي. ثانيا، ونظرا للحجم الكبير من المعلومات الخاطئة والمضلّلة عن الإسلام والعقائد السياسيّة المختلفة، آمل أن يصبح الكتاب مصدرا للخبراء وللجمهور الأوسع موفرا معرفة موضوعية ومبنية على الوقائع عن الإسلام وعن السياسة. يجب أن يكون تصحيحيا لحجج [صراع] الحضارات التي تصوّر الإسلام وانعكاساته السياسية بطرق سلبية واستشراقيّة. ويدعو الكتاب الباحثين، والخبراء، وصناع السياسة الذي يركزون في العادة على عناصر بنيوية محددة في تفضيلات المسلمين السياسية، إلى التفكير بمفاهيم الخليفة والعدل والسياسات المسلمة.
(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعمل على إنجازها الآن؟
(ص. ج.): أوّد الإشارة إلى مشروعين أعمل على إنجازهما حاليا هما مرتبطان بالكتاب بطريقة ما. المشروع الأول، وهو اقتراح كتاب، يستكشف الركائز الدينية لبناء الدول في الشرق الأوسط. وبالتحديد، أقدم وجهة نظر مبتكرة عن بناء الدول من خلال استكشاف تفاعل الدراويش غير التقليديين مع الإدارة المركزية في الأناضول في القرون الوسطى وخلال العصر الكلاسيكي من الإمبراطورية العثمانية. وهذه الدراسة مبنية على فكرة أن الخطابات الإسلامية عن النظام والحرية تعارضت في التاريخ الإسلامي لصياغة السياسات المسلمة. هو يهدف إلى إظهار أن القيم الدينية أثّرت على السياسة، متجاوزا مفاهيم مثل الأطر القانونية، والأسس السنية، والعلماء التابعين، والركود السياسي. عوضا عن ذلك، أناقش أن عصيان الدراويش الخارجين عن السيطرة، و جاذبية المعتقدات الدينية التوفيقية أدت دورا في عملية بناء الدول في العالم المسلم.
المشروع الثاني يبحث في التجليات المعاصرة للقيم الدينية في صلتها بالتفضيلات السياسية. هذا المشروع ينظر في كيفية قيام الظواهر الطبيعة، والأمراض، والآفاق الدينية بصياغة شكل التديّن المسلم، الذي يؤثر بدوره على الفردية كعنصر محدد في التوجهات الديمقراطية. ولي مقال حديث يوفر تقييما عمليا شاملا عن وقع انتشار الأوبئة وهيمنة الإسلام على التدين والإطار الجماعي- الفردي، ينشر في العدد المقبل من "مجلة الدراسة العلمية للأديان".
(ج): هل يساعدنا كتابك على فهم السياسات الإسلامية المعاصرة؟
(ص. ج.): نعم. يقترح كتابي أن الفتنة الأولى أو الحرب الأهلية الأولى في بدايات التاريخ الإسلامي أدت إلى خطابات متباينة عن النظام (الركود السياسي) وعن الحرية (العدالة السياسية).
اليوم هناك الكثير من الأنظمة التي تستخدم الخطابات الدينية المتعلقة بالنظام لتبرير الحكم الاستبدادي. فمثلا، حين انطلقت احتجاجات الربيع العربي في 2011، لجأت السعودية والإمارات إلى خدمات الباحثين الدينيين وخطابات النظام لمنع الاحتجاج. واستخدام مراجع دينية في وجه مخاطر الاضطرابات والصراعات على أنها تشكل تهديدا لمصلحة رفاه المجتمع الإسلامي ليست استراتيجية جديدة. فقد استخدمت خطابات النظام أيضا لمواجهة ما يسمى "بتهديد الشيوعية" في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين على امتداد العالم الإسلامي. في ذلك الوقت، وصم الإسلاميون الشيوعية بأنها عقيدة خطيرة تهدد نظام المجتمع المسلم وأخلاقه. واستعمل الرئيس التركي أردوغان خطابات مماثلة عن النظام في وجه تحدي كبير واجهه حكمه (احتجاجات غيزي في 2013). وهو وصف هذه الاحتجاجات بأنها مظاهرات شغب ينفذها "لصوص" يهددون نظام المجتمع، ويسيئون إلى الدين، ويخلقون فتنة. ومع ذلك، كانت هناك مجموعة من الإسلاميين المعارضين لأردوغان من بين المحتجين. ويشرح كتابي هذه المواقف المتناقضة من خلال المسارات المتباينة للخطاب الديني والتفضيلات السياسية المرافقة لها.
مقتطف من الكتاب
يعد ثبات الناس العاديين الذين نزلوا إلى الشوارع خلال الربيع العربي ورغبتهم القوية بالديمقراطية استثنائيا بالنسبة لمنطقة معروفة بالاستبداد المحكم. وعكست هذه الاحتجاجات أيضا توقا إلى العدل، وهو القيمة العليا الأساسية في العقيدة الإسلامية. وشكك العديد من المراقبين بدور الدين في الربيع العربي. وكما سابقاتها، لم تكن الاحتجاجات في الميادين والزوايا المتعددة في العالم العربي، بمثابة ثورات دينية، ولكن كان للدين دور هام في هذه الانتفاضات. ذلك لأن الإسلام كان دائما قوة اجتماعية هائلة تشكّل القيم، والمواقف والتصرفات على امتداد قرون من الزمن. كانت العدالة هي أبرز القيم في خطاب محتجي الربيع العربي. وللسخرية، كان الخطاب المضاد في وجه الربيع العربي يستخدم أيضا تصورات دينية عن العدالة بهدف تقويض الاحتجاجات. كيف يمكن للعدالة الإسلامية أن تكون في آن مصدرا للخطابين الديموقراطي والشمولي؟
بعد عامين من انتفاضات "الربيع العربي"، بدت مشاركة بعض المجموعات الإسلامية في احتجاجات منتزه غيزي ضد حزب إسلامي يحمل كلمة "العدالة" في اسمه، في تركيا، محيّرة جدا. فخطابات هذه المجموعات عن الحريّة تستند بقوة على المفاهيم الإسلامية للعدالة. إلا أن "حزب العدالة والتنمية" استخدم أيضا بدوره مفهوم العدالة لتقويض شرعية احتجاجات غيزي. من القاهرة إلى إسطنبول، كان سعي الناس إلى الديمقراطية، كما قمع هذه المطالب كلاهما مبرراً بالاستناد إلى المفاهيم الإسلامية عن العدالة. هذا الكتاب هو عن "الإسلام والديمقراطية"، وهي أحجية هائلة شغلت العديد من المفكرين والباحثين والخبراء على امتداد سنين. ويناقش الكتاب أن الخطابات المتعلقة بالعدالة هي جوهر هذه الأحجية، محفزّة مزاعم شرعية متنافسة حول الحوكمة. وحاول هذا الكتاب فهم هذه الخطابات، وعلاقتها بالديمقراطية عبر دراسة انعكاسات مفاهيم العدالة على توجهات الخلافة الإسلامية وسلوكها.
إن المتوارث عن العدالة الإسلامية يوّلد مطالب شرعية متنافسة حول الحوكمة. ففي حين يمكن للقيم الإسلامية عن العدالة وما يرتبط بها من تفضيلات وتوجهات أن توّفر ركيزة ثقافية للتفكير الديموقراطي، فإن العوامل الفاعلة ذاتها يمكن أن تبرر السلطوية. في الواقع، تُستخدم مفاهيم العدالة الإسلامية أيضا لإضفاء الشرعية على الحكم المستبد، وهو نموذج الحكم الذي ساد على امتداد معظم التاريخ الإسلامي. وكانت تلك المحصلة ناجمة عن مجموعة من العوامل، بما في ذلك تحالف النخب السياسية والدينية واحتكار الممارسة القانونية كادعاء للحقيقة في سبيل السيطرة على المجالات الاجتماعية والدينية والسياسية في وجه البدائل الفلسفية والصوفيّة. ومع اعترافه بأن الخطابات الإسلامية المتعلقة بالحكم والطاعة يمكن أن تتيح طريقا إلى الحكم السلطوي، إلا أن هذا الكتاب لم يتعامل مع هذا التاريخ المعقّد، وتركه لدراسات مستقبلية كونه مجهود بحثي مثمر بحد ذاته. إلّا أنّ الكتاب طرح قضية الدور الذي يمكن أن تؤديه مفاهيم العدالة الإسلامية في تحفيز الميول الديمقراطية الجماهيرية في عملية إرساء الديمقراطية المسلمة.
هذه الخلاصة عن إمكانية أن يؤدي الإسلام إلى إرساء الديمقراطية تستند إلى توجهين متشابكين ضمن التقليد الإسلامي. أولا، وانطلاقا من العقيدة القائلة بإن الإنسان هو خليفة الله، أتاح أحد الآراء الإسلامية الكونية المجال للتفكير النقدي، والتفسيرات المرنة للدين، والموقف السياسي في وجه الظلم-وكلّها ناتجة عن فهم محدد للعدل في الإسلام. ثانيا، وعلى امتداد التاريخ الإسلامي، أصبحت هذا الرأي الكوني أساسا للعديد من الانتفاضات وعمليات العصيان والثورات- أبرزها في العصر الحديث وفي ما يتعلّق بالديمقراطية.
وعرضت فصول سابقة من الكتاب براهين من نصوص إسلامية، واستطلاعات للرأي العام، وأبحاث إثنوغرافية لتثبيت أن المفاهيم الإسلامية عن العدل تصيغ السلوكيات المؤيدة للديمقراطية والتوجهات القيمية بين الرجال والنساء العاديين في العالم الإسلامي. بناء على هذه الوقائع، فإن واحدة من المساهمات النقدية لهذه الدراسة هي أن المسلمين المتدينين يؤيدون الديمقراطية ويريدونها بسبب تفضيلاتهم وتوجهاتهم المنبثقة عن الفهم الإسلامي للعدل. ولكن، تتعين الإشارة إلى تحفظّين. أولا، إن تأييد مفهوم الخلافة للديمقراطية مشروط بمفهوم الديمقراطية كنظام له تفضيل نسبي في تطبيق العدالة الاجتماعية والسياسية من قبل المواطنين الأكثر تدينا ضمن نظام حكم محدّد. ويرتبط تصوّر من هذا النوع بالدور الرئيسي للعدالة في الإسلام وبقدرة الديمقراطية على إنتاج مشاورات عامة وفقا للمنطق العقلاني-المدني، بما يسمح بتحقيق العدالة الإسلامية وتشريعها. ثانيا، وعلى الرغم من الآراء الإيجابية والموجات المتعددة من التحركات الجماهيرية المطالبة بإحلال الديمقراطية على الأراضي المسلمة، إلا أن القوى المحلية والدولية منعت تحقيق هذا الهدف. وقد تصدى للميل المركزي للجماهير لإرساء الديمقراطية قوى النبذ المركزية المتمثلة بالحكام المستبدين المحليين والمتعاونين الدوليين معهم، بما أنتج حكومات سلطوية، وفاسدة، وتفتقر إلى الكفاءة في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة. ولم يدرس هذا الكتاب شخصيات النبذ المركزية هذه بالتفصيل، والتي، ومن بين استراتيجيات أخرى، تستخدم خطابات العدالة ذات التوجه المتعلّق بالأمن والنظام للإبقاء على أنظمة سياسية سلطوية في العالم المسلم. ويوّفر استكشاف هذه الروابط بين الإسلام، وخطاب العدالة، وقوى النبذ هذه موضوعا خصبا للدراسة في أبحاث مستقبلية.
واستند الإطار التفسيري لهذا الكتاب على التمييز في الأسلوب بين العدالة الاجتماعية والعدالة السياسية. فالمفاهيم الإسلامية عن العدالة نتجت عن منعطفين حاسمين رئيسيين أديا إلى إرث متواصل في السياسة المسلمة. وطبع هذين المنعطفين أحداث سياسية هامة رافقتها نقاشات نظرية، وفقهية، وعقائدية. وجاء المنعطف الحاسم الأول بعد موت محمد. وأدت خلافة النبي وقضية القيادة إلى انقسام المجتمع المسلم الأول، الذي ينظر إليه على أنه مجتمع مثالي على الرغم من الخلاف المحتدم والمستتر في الخلفية. ونتج عن هذا الخلاف الحرب الأهلية الأولى بين مؤيدي علي وبين مؤيدي معاوية وبين مجموعات أخرى لم تتحالف مع أي منهم. وزعمت هذه الأطراف تمسّكها بالعدالة وقدّمت تبريرات عن أحقيتها في حكم المجتمع المسلم. وكان مصدرا الوحي هو نفسه بالنسبة لها كلّها، القرآن ومحمد. ومع ذلك، توصل الأطراف إلى آراء متباينة حول ماهية العدالة وكيف يجب تطبيقها في مجتمع من المؤمنين الخالصين المفترضين. كان الأمر سياسيا برمّته في البداية، وتركّزت النقاشات على قضايا مثل الحق في الحكم، والشرعية، وأخلاق الحاكم الحكيم الرشيد. وطغى الخطاب السياسي على النطاق الفقهي\الشرعي، واستطاع هذا الأخير في نهاية المطاف، لاحقا، من تشكيل الأوّل مع الوقت فيما تكرّرت الانقسامات الأوليّة مع لاعبين آخرين خالقين صدمات جديدة مع مرور الزمن.
كان الانقسام الطائفي المجتمعي الأول والفروقات الناتجة عنه في الفقه والقانون والتفسيرات الإسلامية بمثابة الركائز لبناء نظريات سياسية متنوعة حول مفهوم العدالة. وأعقب هذا المنعطف الحاسم الأول موروثان. البعض آمن بالإرادة الحرة، والخيار الفردي، ومسؤولية الإنسان كخليفة لله في تشكيل معارضة لها مبادئ والتعبئة في وجه الاستبداد للتأسيس لعدالة سياسية. وانطلق موقف آخر من ضرورة إرساء النظام والأمن للمجتمع الغارق منذ زمن في الفتنة والصراع. وبالتالي، فإنه من غير الأخلاقي ومخالف لعدالة الله التمرد على الحاكم، وإن كان ظالما. وخلّف هذان الموقفان بصمة دائمة على التجربة السياسية المسلمة الهادفة لصياغة القيم، والتفضيلات والمواقف على امتداد قرون. وأفضى الموقف الأول إلى توجهات ديمقراطية في حين أدى الثاني إلى أخرى سلطوية. في مطلع القرن العشرين، بنت الحركات الدستورية الأولى على هذا الموروث لتطوير حلول ديمقراطية في مواجهة انهيار السلطة ولمنع التدخلات الأجنبية. وكانت خطابات العدالة الإسلامية أساسيّة للوصول إلى الجماهير وتعبئتهم في سبيل هذه القضية. وكان إضفاء غطاء العدالة الإسلامية على الأفكار السياسية العصرية هو الاستراتيجية الأساسية لحركات الاستقلال، والتعبئة العمالية، والانتفاضات الشعبية منذ القرن التاسع عشر. وليس الربيع العربي إلا النموذج الأخير عن هذه المقاربة كما رُصدت في التحركات الخلافية المطالبة بالعدالة والحرية في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا. في المقلب الآخر، بنت القوى السياسية التقليدية بشكل مواز على العواقب السلطوية لمسار العدالة السياسية. وكانت تبريراتهم لقيام نوع من الاستبداد المستنير يرتكز على خطابات القدر المحتوم والنظام والأمن، وحكمة الحاكم، والصبر. وعلى الرغم من توفر الرأي العام الإيجابي، وانتشار التحركات الجماهيرية الشعبية المطالبة بنظام ديموقراطي إلا أن عوامل متعددة محليّة وخارجية حالت دون تجذّر الديمقراطية في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة. والخلاصة الرئيسية لهذا الكتاب تبقى، مع ذلك، أن المتدينين المسلمين يتوقون إلى الديمقراطية ويتحركون بانتظام من أجل إحلالها في بلادهم.
جاء المنعطف الحاسم الثاني حين كان العالم المسلم يواجه التفكك والمعاناة من جراء غزو المغول. وفي حين كانت خطابات العدالة السياسية مازالت سارية في ما يتعلّق بصفات الحاكم والقيود التنفيذية التي تفرضها حتميات الشريعة الإسلامية، كان أكثر ما يقلق العلماء هو الخطر المحدّق بالمجتمع. وفي مواجهة سلطة سياسية ضعيفة، باتت الأولوية هي حماية المجتمع: يتعين على السلطة أن تحمي الأرواح، والأملاك، والدين، والذريّة لضمان النظام والأمن. وكانت أولوية العلماء في ذلك الوقت هي الرعاية الاجتماعية والمصلحة العامة. ولمنع استغلال السلطة ولتطبيق العدالة الاجتماعية، هدف العلماء إلى إبقاء الحكّام تحت السيطرة بما يتوافق مع الأهداف النهائية للشريعة. إلا أن هذا التدبير السياسي أدّى، في الواقع، إلى منح الحكّام المزيد من السلطة وإلى استيعاب للعلماء. هكذا، شرّع إطار نظري جديد للعدالة الاجتماعية الحكم السلطوي إلى درجة أن المفهوم المجرد للمصلحة العامة تجاوز أولوية خير مصلحة الفرد وكرامته الإنسانية. وأدت خطابات العدالة عن النظام، والأمن، والمصلحة العامة إلى تعزيز قبضة "المستبدين الصالحين". مادام الحاكم يوفر الأمن، والنظام، والمصلحة العامة أو أنه يحمي الدين، فإن فوائد إطاعته تفوق كلفة العصيان في سبيل الحرية والعدالة. بمعنى آخر، فإن تسلسل معين من المناداة بالعدالة الاجتماعية تفوّق على التسلسل الميال إلى الحرية المنادي بالعدالة السياسية من أجل تشريع الاستبداد.
[نشر في جدلية. ترجمة هنادي سلمان].