غييدري سباسيفيتشوتا
لطالما كانت الثقافة الشعبيّة في مصر منصّة لمطالب الناس أو انتقداهم للطبقية أو الجندر أو الانتماءات القومية. في السنوات الأخيرة، تعرّضت هذه الثقافة لانتقادات عنيفة لترويجها لمفاهيم ذكوريّة سامّة طبّعت تعنيف النساء. وانطلق الجدل الدائر مع أغنية تميم يونس "سالمونيلا" الصادرة في 2020، والتي تتحدّث عن رجل عاشق يهدّد حبيبته بأن يسبّب لها أسوأ الآلام في حال رفضته، وهو جدل يجسّد الالتباس الغالب على تلقي الثقافة الشعبية في مصر. وفي حين اتخذ "المجلس القومي للمرأة" في مصر خطوات أدّت إلى إلغاء الفيديو من آلية البحث عبر "غوغل"، انقسمت آراء الجمهور بين من يعتبر أن الأغنية تؤيّد سلوكا ذكوريا عنيفا أو أنّها، على العكس من ذلك، تنتقد تلك التصرفات بأسلوب فكاهي. في تمّوز/يوليو 2020، وعلى خلفيّة الموجة المصريّة من تحرّك "أنا أيضا" [للناجيات من العنف] قرّر يونس إزالة الأغنية من حساباته كلها على مواقع التواصل الاجتماعي.
وتشكّل مساهمة الثقافة الشعبيّة في مصر في تعزيز، أو تقويض، الأعراف المعتمدة الراسخة والمتعلّقة بالسلوكيات الطبقية والاجتماعية والجندرية والسياسية، واحدا من الموضوعات التي يتناولها الكتاب الجماعي الجديد الصادر بالفرنسيّة "الثقافة الشعبيّة في مصر: بين التجاري السائد والاحتجاج" (2020)، والذي حرّره أستاذا الأدب العربي ريشار جاكمون وفريديريك لاغرانج. وينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء مواضيعية، يتخصص كل منها في مناقشة منصّة مختلف من منصات الثقافة الشعبية في مصر، وهي القصة، والفكاهة في التلفزيون والانترنت، والموسيقى، وثقافة الشارع. وهو يضمّ مجموعة متميّزة من الباحثين لمعالجة قضايا متنوعة مثل أدب التشويق، والمسلسلات التلفزيونيّة، والإعلانات، والبرامج الكوميديّة، والرموز المنتشرة عبر الإنترنت "ميمز" (internet memes)، ومنصّات الموسيقى البديلة في القاهرة، والثقافة الشعبيّة الحيّة في أحياء القاهرة. وانطلاقا من هذا التنوّع من الممارسات الثقافيّة، ينوي الكتاب المساهمة في النقاش الأنغلو أميركي حول الدراسات الثقافية عبر تقديم الحالة المصرية. وهو يسعى، تحديدا، إلى إعادة تعريف مفهوم الثقافة الشعبية من خلال استكشاف التنويعات المصريّة للمرادف المصري الذي يحمل المعنى ذاته، "الشعبي"، وتعبيراته من خلال الثقافة السائدة، وثقافة العالم السفلي (أندرغراوند)، والثقافات الفرعية وثقافة الشارع.
التحوّل الثقافي في الألفية الثانية
في ما يتجاوز الاعتبارات النظرية، يوثّق الكتاب للتحوّل العميق الذي شهدته الساحة الثقافية المصريّة خلال العقدين الماضيين. في مقدّمة الكتاب، يقارن لاغرانج بين هذا التحوّل وبين التحوّل الذي شهدته سبعينيات القرن الماضي، حين سمح ظهور الأشرطة الموسيقيّة (الكاسيت) بفتح السوق الثقافيّة أمام الثقافات البروليتاريّة التي أنتجت ما يعرف اليوم بالأغاني الشعبيّة ورمزها المطلق أحمد عدويّة. وتزامن التغيير التكنولوجي مع موت الرموز الثقافيّة للحقبة الناصرية- فريد الأطرش (1974)، أمّ كلثوم (1975)، وعبد الحليم حافظ (1978) - مما جرّد الثقافة رفيعة المستوى من مكانتها المتمّيزة. وجاءت نقطة التحول في مطلع الألفيّة على نحو مماثل، إذ أنها تحققت مع التوسّع الإعلامي الناتج عن انتشار الإنترنت والقنوات الفضائية العربية. ولكن، وإذا كانت السبعينيات قد أدّت إلى تعميق الحد الفاصل بين الثقافة "الراقية" والثقافة "الهابطة"، كسرت الأعوام الأولى من الألفية الثانية الحواجز بين الفئات والتصنيفات تماما. ويُظهر الكتاب، بطريقة مقنعة، كيف أن النهج القائل بأن الثقافة هي القوة المنظمة للمجتمع والذي شكّل الأرضيّة لمعظم الدراسات الثقافية في العقود الماضية، لم يعد صالحا اليوم خاصة في التفريق بين الفن الرفيع والفن الهابط، والعلماني والإسلامي، والحديث والتقليدي، والمحلي والعالمي. وعوضا عن ذلك، يفضّل المؤلفون تناول الثقافة الشعبية المصرية من زاوية حركتها، وتياراتها وتأثيراتها.
أوّلا، بدأ التمييز التقليدي الذي وضعه بيار بورديو بين الثقافة المشروعة والثقافة غير المشروعة، بالتلاشي. في الأدب، يرتفع عدد الكتّاب الذين يألفون سيناريوهات للسينما وللتلفزيون، وينخفض بشكل متزايد اهتمامهم بالحصول على اعتراف مؤسساتي، كما يناقش ريشار جاكمون وتيريزا بيبي كل في دراسته عن الكاتب الأكثر مبيعا أحمد مراد، وعن تحويل رواية "ذات" لصنع الله إبراهيم إلى مسلسل تلفزيوني. وعلى نحو مماثل، بات الموسيقيون يتعلّمون العزف من خلال دورات عبر الإنترنت، وينتجون أنغاما تمزج بين الفلكلوري والشعري والالكترو.
في دراستها حول منصّة العالم السفلي أو "الأندرغراوند" في وسط البلد في القاهرة والتي تبلورت خلال ثورة العام 2011، تتعقّب سيفرين غابري-تيانبون شاعر الفن الكلامي عبد الله المنياوي، الذي ينهل من الخزين الثقافي الراقي كما الجماهيري مثل قصائد الفصحى، والصوفيّة، وتلاوة القرآن. من جهته، يبيّن نيكولاس بويغ كيف أصبحت المهرجانات الموسيقية، التي كان يقتصر عرضها من قبل على المدن وتحاكي ثقافة الرجال من أبناء الطبقة المتوسطة الدنيا، تتلقى الدعوات والحفاوة في حفلات وسط البلد وفي المهرجانات العالميّة.
ويكتب كل من شهاب الخشّاب وعمرو كمال، على التوالي، عن ضبابيّة مماثلة في رسم الحدود في وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. ويناقش الخشّاب، محللا ظاهرة برامج الكرتون الرقميّة (ميمز) التي انتشرت كالنار في الهشيم عبر الانترنت في مصر مؤخّرا، أنّه لا يمكننا دراسة منتجي الثقافة بمعزل عن المتلقين. وهو يقترح النظر إلى الميمز على أنها امتداد بصري للأحاديث اليوميّة التي يتخلّلها تبادل "للقفشات"، ونكات الأفلام وتلاعب بالكلمات. بدوره، يتناول عمرو كمال سبل مساهمة المستهلكين الثقافيين في الإنتاج الثقافي، ملقيا الضوء على أحد منتجي الثقافة الشعبية في مصر، وهو مهمل على الرغم من أنّ طغيان انتشاره: قطاع كتابة ترجمة الأفلام الأجنبيّة بالعربية. ويركّز كمال على النسخة العربية من البرنامج الكوميدي الأميركي "ساترداي نايت لايف" ليكشف كيف حوّلت مهنة ترجمة البرامج الأجنبية إلى العربيّة، كل مصريّ إلى مترجم ضمني قادر على الانتقال من الإنجليزيّة إلى الفصحى ومن ثم إلى اللهجات الدارجة.
الفكاهة والشارع كمنصتين للتقويض
واحد من نتائج تماهي الحدود بين المستهلك والمتلقي الثقافيين-كما يتضح من خلال ظاهرة الميمز ومشاهدة الأفلام الأجنبيّة- كان بروز ثقافة أكثر تبادلية تحتّم إعادة النظر في النقاشات القديمة من جديد.
وتتغلغل قضايا الجند والطبقية والسياسة- مع سؤال ضمني عمّا إذا كانت الثقافة الشعبية تتسع للمقاومة أم لا- في غالبية المساهمات المنشورة في الكتاب. ولطالما كان ارتباط الفن بالمقاومة قضية ثابتة متداولة في الدراسات الثقافية العربية، وهي قضيّة حمّالة أوجه. وكما تبيّن حتّى الآن، فإن الصعوبة الرئيسية تكمن في تحديد المنطلق لتصنيف أي عمل فردي على أنّه تعبير مؤسساتي أو، على العكس من ذلك، انعكاس للبنية القائمة.
ويتعامل معظم الكتّاب مع هذا الموضوع بحرص شديد. وتعكس مقالاتهم ما جاء في دراسة ليلى أبو اللغد في 2005 "المسلسلات القوميّة: سياسات التلفزيون المصري"، من أن التلفزيون في مصر مازال وسيلة للتربية الوطنيّة. ويصف غايتن دي روي جهود التلفزيون للترويج للوحدة الوطنية بين الأقباط والمسلمين من خلال مسلسل يركّز على شبرا، الحيّ الذي يُمدح لكونه رمزا للكوزموبوليتانية المصرية الأصيلة. وكما يبيّن دي روي، يطرح المسلسل الطبقات الاجتماعية والدين كحدّين اجتماعيين متساويين يتعين عدم تجاوزهما تحت تهديد إثارة فتنة طائفيّة. وعلى نحو مماثل، تشير بيبي إلى الإشادة الحالية بالمسلسلات التلفزيونية على أساس أنّها "أدب تلفزيوني" راقي، على الرغم من أن البداية الثورية للعام 2011 سمحت، برأيها، لكاتبة السيناريو مريم نعوم بتقديم رؤية عن قصة "ذات، أكثر تعاطفا مع المرأة، نهايتها مفتوحة على الأمل.
إلّا أن الكوميديا وثقافة الشارع على وجه خاص، هي ما تسمح اليوم بتخطّي الدور التربوي للتلفزيون. يركّز لاغرانج على الترويج لنماذج من الرجولة وانتقادها، في تحليله للإعلانات الفكاهية لبيرة "بيريل" الخالية من الكحول، التي تحثّ الرجال المصريين "للاسترجال" عبر استهلاك المشروب مرّ الطعم. وفيما يمكن فهم أن هذه الإعلانات ترّوج لفكرة الرجولة السامّة-مثلما تلقى البعض شريط فيديو "سالمونيلا" ليونس- يشدّد لاغرانج على غموضها المتعمّد المستمدّ من الصراع النسوي الليبرالي ضد التحرّش الجنسي، كما من مضايقة الرجال بشكل متواصل لكي "يسترجلوا" في وجه الادعاءات بخسارة "القيم الذكورية الأصيلة". والدور المتمرّد للفكاهة أساسيّ أيضا في الميمز عبر الإنترنت، التي تقوض الخطاب الرسمي عن الأجانب، في حين أن قائمة المصطلحات المتعدّدة التي خلقها قطاع ترجمة الأفلام تسمح بتقديم كلام صريح ومباشر على الشاشات المصريّة.
والشارع هو موقع آخر للتمرّد على الخطابات الرسميّة. تحدّد الينا شتيّ ثقافتين شعبيتين حيتين متنافستين عبر تتبع آثار أسطورة "ريّا وسكينة" المصريّة المؤثّرة، في النسيج المديني للقاهرة وللإسكندرية. وتعد قصة القاتلتين المتسلسلتين الأكثر شهرة، اللتين عاشتا في المدينة الساحليّة، معيارا لقياس تقارب مجتمعات من مدن مختلفة من الخطابات المؤسساتيّة المتعلقة بالجندر والانتماء الوطني. في مساهمة ميّ تلمساني، نواجه الشارع مجددا والذي يخدم كساحة لعروض فرقة اسكنديريللا المصرية. ونجحت الفرقة بإعادة إحياء الأغنية السياسيّة من خلال تأديتها لأغنيات الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم.
اتجاهات إرشادات إضافية
تكمن المساهمة الأكبر للكتاب، بدون شكّ، في نطاقه العملي الذي يسمح بالتعرّف على منصّات متنوعة من الثقافة الشعبيّة. الأدب الأكثر مبيعا، التلفزيون، الإعلانات، البرامج الكوميدية، ميمز الانترنت، الموسيقى، والشارع-كلّها تبرز كميادين لإنتاج الثقافة الشعبية واستهلاكها. ولم يكن من الممكن الحصول على هذه النتائج لو أن المساهمين اختاروا مدخلا نظريّا للموضوع يميل إلى الخلط بين الثقافة الشعبية والطبقة الشعبية. والتحليل الذي يتناول سبل انتقال المحتوى الثقافي ذاته بين طبقات اجتماعية مختلفة-منتقلا من الأندرغراوند إلى الثقافة الرديفة والسائد- يعتبر تجديديا للغايّة في الدراسات الثقافية العربية.
ويميل الكتاب إلى المقاربة المتّبعة في الدراسات الأدبية والإعلامية، وتركّز غالبية المقالات على تحليل المحتوى. وهذه المقاربة قيّمة، ولكن يمكن درس استنتاجاتها من خلال توجهات أقرب إلى علم الاجتماع. فمثلا، يبدو أن الكتاب يقترح أنه في حين أصبح الجندر موضوعا ساخنا في الثقافة الشعبية، مازالت الطبقية بعيدة عن الاهتمام. ويمكن متابعة هذه الفكرة بعمق أكبر في المستقبل، مثلا، من خلال تحليل كيف واجه منتجو المهرجانات الضجّة المفاجئة التي أثيرت حول إنتاجاتهم في دوائر ناشطي وسط البلد، لرؤية إذا كانت هذه الثقافات البديلة تؤدي دور وسيلة للتمييز في معنى النشاط السياسي والهوية الطبقية. وعلى نحو مشابه، فإن الرابط بين الطبقات الشعبية والأغنيات السياسية\الثورية التي تؤديها "اسكنديريللا"، كما تعريف السلطة كحامية لمصالح البرجوازية، يمكن أن توسيعها من خلال دراسة أعمق للهويات الطبقيّة ضمن مشهد الأغاني الملتزمة. يقدم "الثقافة الشعبية في مصر: بين السائد التجاري والاحتجاج" سردا منعشا عن الثقافة الشعبية ويجب قطعيا أن يقرأه كل الراغبين بتحديث معلوماتهم حول التطورات الأخيرة في الساحة الثقافيّة المصريّة.
[نشرت على جدلية. ترجمة هنادي سلمان].