في زمن الحروب يهمد الفن، ينهزم كما الضحايا الأكثر ضعفًا، ويصير ضحية مسكوت عن موتها. يغدو الفن فعلًا مؤجلًا بذريعة أن النجاة تكمن فقط عبر حماية الأرواح والفرار من بيئة الحرب، وأن الصمت والانكفاء عن متابعة السينما ولو في زوايا البيوت هو فعل إجباري وليس طوعي، وأن النسيان هو الأكثر أهمية وراحة وسكينة، وأن الفن بلا قيمة أمام قيمة الحياة. هنا يبرز سؤال خطابي: هل ينشغل الموتى أو أشباه الموتى بالفن! هل يهربون إلى فرجة مصطنعة أو مبسترة أو محضرة بعناية، تصير الآن في حضرة الموت بلا روح، والفرجة الواقعية للموت الحي ماثلة أمام العيون!
في زمن الحروب، استعاد نادي سينما البناء عروضه في مدينة دمشق سنة 2016، وهو الأكثر عددًا وحضورًا من المتابعين الأكاديميين والمنشغلين بالسينما والعشاق العتاق للفن السابع.
هنا، وبردة فعل لاشعورية، تنتقل إليك عدوى السخرية، فتسخر من نفسك! سينما؟ هل حقًا أنت ذاهب للسينما؟ والدنيا صارت مجرد أصوات قصف وهدم وروائح بارود، وشبح الموت وإغلاق الطرقات وأخبار الخسارات المتتالية والكثيرة، هم أصحاب الزمان والمكان، وأنت تتجه مسرعًا من شرق المدينة نحو غربها لتشاهد فيلمًا سينمائيًا! أهو فصل من فصول التغريب! أم إنكار مطلق لتفاصيل الموت اليومي! لا جواب يلبي حيرة السائل ولا قلق المتفرج.
قبل توقف السينما لأسباب عديدة غير الحرب، نشطت فكرة النوادي السينمائية، ولعل أولها، كان النادي السينمائي برعاية المؤسسة العامة للسينما والذي كان ينعقد في سينما الكندي في ثمانينات القرن الماضي، كل ثلاثاء من كل أسبوع.
كان جمهور النادي على موعد مع عرض خاص لفيلم يتم اختياره من قبل إدارة النادي، ولعله من الجميل أن أتذكر مشاهدتي عرض أول فيلم صامت وأعتقد أن اسمه كان السفينة البيضاء. وبعدها تعرف السوريون في دمشق إلى تجربة المنتدى الاجتماعي والتي واظبت على عرض أفلام خاصة كل يوم ثلاثاء أيضًا. وقد نمت هذه الظاهرة وتكاثر عدد روادها، حتى أن عدد المشاهدين في بعض عروض المنتدى الاجتماعي كان يفوق سعة القبو الصغير في حي الطلياني بدمشق.
حظيت تجربة النادي السينمائي في جامعة دمشق وتحديدًا على أحد مدرجات كلية الهندسة المدنية بقبول ومتابعة كبيرة، خاصة أنه كان يتلو الفيلم نقاشًا مميزًا للفيلم يتداخل فيه الخاص بالعام والفني بالاجتماعي. ولابد من الإشارة إلى أن النادي عرض حينها أفلامًا عالمية مميزة وذات مضمون تحرري واستشرافي يسبق بأشواط العروض الرسمية ويؤسس لمناخ ثقافي متقدم، وغير نمطي، ويمكن بطريقة أو بأخرى اعتبار نشاط النادي السينمائي المذكور بقعة ضوء استقطبت شريحة واسعة من الطلاب والطالبات وساهمت في تأسيس وتشكيل ذائقة سينمائية متفردة ونوعية بين صفوف الطلبة وساهمت في تحولهم إلى مجموعات متقاربة فكريًا وشخصيًا أيضًا.
في دمشق وريفها الآن خمسة نواد سينمائية، يمكن وصفها بالخاصة لأنها لا تتم في صالات عرض عامة بل ضمن أماكن ليس لها صفة رسمية ولها جمهورها الخاص، والسادس خطا خطوته الأولى حديثا في رحاب مكان رسمي هو سينما الكندي.
يوجد أيضاً ناديان في مدينة السويداء وناد في مدينة طرطوس، إضافة إلى عدة منتديات أون لاين، دعا إليها جمهور محدد يتشابه في ذائقته وخياراته السينمائية والفنية مع أذواق وخيارات مؤسسي هذه المبادرات.
تقوم فكرة المنتديات السينمائية على قاعدة كسر النمط العام للسينما، وذلك عبر اختيار أفلام غير معروضة أو معروفة سابقًا لأسباب عديدة، منها الرقابة أو عدم توفر الترجمة أو صعوبة الحصول عليها على مواقع العرض الالكترونية بسبب حقوق الملكية، أو لحساسيات فنية أو ثقافية أو فكرية، كما أن الهدف الأكثر أهمية، هو خروج عروض هذه النوادي من قالب وهيمنة الأفلام المشهورة ذات الشهرة والسمعة الجذابة، أو أفلام هوليوود والمسابقات والمهرجانات العالمية والرسمية.
وجدير بالقول إن جلسات النقاش التي تتلو هذه العروض تكرست لدرجة باتت جزءًا أساسيًا من الفيلم نفسه وتحولت إلى مصدر مهم لتخزين خبرة فنية عدا عن نجاحها الملموس في إنتاج تلاقح وتلون رغم الحفاظ على تفرد الذائقة السينمائية لدى المشاهدين والمشاهدات، لدرجة أن أحد الأفلام (الحبة الحمراء) استدعى انعقاد ندوة خاصة حول النسوية ومفاهيمها بعد عرض الفيلم.
درج مشرفو النوادي السينمائية على اختيار عناوين شهرية لعروض أنديتهم، متبعين أسلوب الملفات الشهرية، كأن يكون شهر آذار من كل عام شهر لعروض سينما المرأة. والأهم أن ناد معروف يقيم معرضًا موازيًا عن النساء كملف صور مخرجات أو مؤلفات أو ممثلات، أو صور عن النساء في أماكن عملهن. وهكذا تتحول الأندية السينمائية على قلتها إلى مساهمة واسعة للفن والفعل الثقافي وليس مجرد عروض دورية وتقليدية.
كما بادر مشرف ناد آخر إلى عرض فيلم خاص عن الفضاء والكواكب والاكتشافات الجديدة في علم الفضاء، وتبع العرض زيارة رصد لكوكب مكتشف جديدًا ولا يُرى إلا في يوم محدد ومن مكان محدد في قرية معرة صيدنايا بريف دمشق، فامتزجت المشاهدة بالمعرفة والسينما بالعلم الواسع وتقنيات الرصد الفلكي.
تعرف جمهور النوادي السينمائية إلى سينما البوسنة والهرسك وآليات العدالة ما بعد الحروب وخاصة قضايا النساء من خلال أفلام عن النساء البوسنيات وعن الفقدان والغياب وضحايا الاغتصاب وبناته وأبنائه وتقبل المجتمع لهم ولأمهاتهم، والسؤال عن جدوى الحرب ومعنى المجزرة، أفلام لن تعرضها دور سينما عامة بسبب تشابه الواقع والدلالات الرمزية وتشابه الحالات والمآلات والضحايا.
وخلال شهر تم فيه عرض أهم أفلام السينما الكوبية تعرف جمهور المنتديات على العالم المخفي للمجتمع الكوبي عبر قصص مواطنين بسطاء يخفون طبيعة أعمالهم القذرة وبنفس الوقت يعيشون صراعًا داميًا ومدمرًا. وخلال شهر آخر خُصص لأفلام السينما الإيرانية تم عرض فيلم صُور بكاميرا شخصية محمولة. وخُصص ملف شهري آخر لسينما الشباب من الوطن العربي.
تتميز عروض منتديات السينما بجمعها لحضور غير مختص بالسينما، جمهور كان عاشقًا لكلاسيكيات السينما وأفلام المهرجانات، لكنه فجأة وجد نفسه أمام أبواب جديدة لم يفتحها من قبل وربما لم يكن عارفًا بوجودها. في حوارات المنتديات يتمازج النقاش الفلسفي مع الفني مع التاريخي وأحيانا المحلي، مع مرجعية سينمائية وموسيقية مختصة ومطلعة، وهنا تكمن الأهمية البالغة، أن ينخرط الجمهور العادي المستبعد عن خيارات الثقافة وصنعها والمشاركة فيها، بالإطار العام عبر رأيه في جلسات النقاش.
والأكثر انتعاشًا وجمالًا وجدوى هو العلاقة التي تنمو بين المشاهدين والمشاهدات، والأجواء الاحتفالية التي تلي العروض، حيث تصير السينما رابطًا حياتيًا وذات معنى وصدى وفعالية.
يتساءل الجميع، هل تغير السينما العالم؟ لا أحد يمتلك إجابة جازمة، لكنها ترسي قاعدة للتحالف المجتمعي وهو فعل يتفوق على السينما ويبني بها وعبرها بنفس الوقت. إذن الإجابة نعم! تُغير السينما العالم.
هل جربتم أن تقطعوا المدينة من شرقها لغربها لتشاهدوا فيلمُا سينمائيُا وأصوات القصف والرصاص هي الموسيقى التصويرية لحياتك اليومية! إنه فعل معاند للموت وجالب للقوة.
هل جربت أن تُجيب عسكريًا على أحد الحواجز حين يسألك عن وجهتك المقصودة، بالإجابة بأنك تقصد السينما لحضور فيلم مثل "سينما براديسو"! ستهرب حتمًا من سخريته ورده الحاسم واللائم حينها: "نحن نموت هنا، وأنتم تتفرجون على السينما." وتجيب جازمًا: "أبي بالمشفى ومضطر لزيارته."
سينما الحرب هي تفصيل في لوحة الموت ولكنها الأقدر على الانتشال من حفر الفناء.
وبغض النظر إن تزايد عدد المنتديات السينمائية أم تناقص، أو إذا ازداد عدد روادها أم تضاءل، فهي تبقى شمعة في عتمة الحرب، وفعل مقاومة من أجل حياة كريمة وعادلة.
الأندية السينمائية هي مشاركة بصناعة الحياة والعناد على جعلها أجمل وأقل همجية.