أماندا فيليبس
(أوكلاند: دار نشر جامعة كاليفورنيا ، 2021)
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟
أماندا فيليبس (أ. ف.): بالنسبة للكثيرين منّا من المهتمين بالثقافة الماديّة، فإنّ الأشياء بحدّ ذاتها-بصرية كانت أو تُلمس أو حتّى التي تُشمّ- هي أساسيّة بقدر الحكايات التي ترويها. وبناء على هذا المعطى، يسأل "بحر من التغيرات" عمّا تخبره الأقمشة- بموادها الخام، وعدد خيطانها، وبنى نسجها، وتزيينها- عن الناس الذين صنعوها وأولئك الذين استخدموها. كنتُ مهتمّة فعلا بمعرفة كيف تكمّل المواد التي مازالت موجودة حاليّا السجلات التاريخيّة المكتوبة، وحتّى إني كنت مهتمة أكثر بمعرفة كيف تناقضها. هل يتعين أن نصدق ما نراه وما نلمسه، أم ما نقرأه؟
بالنسبة للأنسجة العثمانية، كنت مقتنعة بأن التواصل مع كل من إيران والهند، عبر تجارة النسيج وأيضا من خلال تبادل الأنماط والأساليب، كان يضاهي بأهميته العلاقة مع إيطاليا في عصر النهضة، وهي علاقة يُبالغ بالتباهي بها. والكتاب هو محاولة أولى لرسم بعض من تلك الروابط المتعدّدة، وآمل أنّه سوف يشجّع على المزيد من الأبحاث والنشر حول الموضوع.
وفي السياق نفسه، يجرّد الكتاب تاريخ النسيج العثماني من جنسيته، بالاستناد إلى هجرة كبار النسّاجين وعمّال النسيج الآخرين من أماكن مختلفة، وبالأخذ في عين الاعتبار أشكال الاستجابات المحليّة للأنسجة المستوردة، وبالنظر لما هو أبعد من البلاط والنخب. أمضيت أكثر من عقد من الزمن وأنا أقوم بأبحاث- في مراكز الأرشيف، ومقتنيات المتاحف، والمكتبات- علّمتني أنه لا يوجد مسار مرتّب لتاريخ النسيج، بل هناك أنماط إنتاج واستهلاك متداخلة. في بعض الأحيان، كان أشخاص ينتمون إلى أديان وأعراق مختلفة يصنعون أو يشترون أو يبيعون الأنواع نفسها من الأشياء. ولكن ورش العمل المخصصة لإنتاج كسوة الكعبة، أو أقمشة مذابح الكنائس، أو عمليات تصنيع الصوف في محيط سالونيك في اليونان الحديثة، أو حتّى أنواع القطن التي تحمل طلاسم دينية، كلّها تشهد على دور عدد كبير من المجتمعات العثمانية المختلفة.
وأخيرا، فكرّت بأنه حان الوقت لتناول دراسات النسيج من خلال مقاربة متعدّدة التخصصات، وآمل أن يقدّم "بحر من التغييرات" بعض النماذج عن وسائل تمكّن المؤلفين في أيّ من الحقول الدراسية من دمج عدد من المصادر المتنوعة ومن مقاربات تاريخ الفن، ودراسات الثقافة المادية، والحقول ذات الصلة.
(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(أ.ف.): بديهيا، يتناول "بحر من التغييرات" المنسوجات وموقعها في بداية التاريخ الحديث. هناك، بالطبع، أعمال عن الموضوع، أساسا من منظورات اقتصاديّة-اجتماعيّة ونطاق تاريخ الفن. في البداية، نتج الاهتمام بالموضوع وتعزز لدى فتح الأرشيف العثماني للعلن، والذي تزامن مع نشوء "مدرسة الحوليات" وتركيزها على التاريخ الاجتماعي طويل الأمد، وعلى البيانات الكميّة. وسمح العمل الممتاز الذي أنجز وفقا لهذه الصيغة وما يتجاوزها بدفع هذا الحقل إلى الأمام. ويضيف "بحر من التغييرات" إلى كلّ ذلك سائلا عمّا يمكن للمحفوظات المادية أن تخبره مما لا تخبره السجلات المكتوبة، أو أنّها تعجز عن إخباره. ويتبيّن أن ذلك ليس بقليل. فمثلا، حين تفيد حالة موثّقة في المحاكم الشرعيّة أنّه يتعيّن على نسّاجي المخمل الالتزام ببعض الأشكال الماديّة وبعدد محدد من كثافة الخيوط، يتبين من المخمل الباقي حاليا أنه لم يتم الالتزام بالمعايير المنصوص عليها. وهذه النتيجة تصحح بصورة مفيدة النهج الوضعي أحيانا الذي يتّبعه المؤرخون لتغذية المصادر الأرشيفيّة. والأهم من ذلك، تظهر الأقمشة المخمليّة ذاتها، القماشة الفعليّة-بعد تحليلها كما ينبغي- كيف قاوم الحرفيون السلطات المحليّة كما المركزية دفاعا عن سبل عيشهم. وتتضاعف أهمية ذلك نظرا لأن النساجين والحرفيين الآخرين لم يخلفوا إلا اليسير من المعلومات عن أعمالهم. بالإضافة إلى ذلك، يسمح التركيز على وكالة الحرفيين بالابتعاد عن الأعمال الوسطية، التي تركّز على البلاط، والتي تقترح في معظم الأحيان أن السلطان العثماني وأفراد حاشيته هم الذين قادوا التغيير كلّة وسيطروا على مجمل الإنتاج الفنّي.
وأيضا في ما يتعلّق بموضوع التركيز على البلاط، غالبا ما ينشر مؤرخو الفنون الذين يهتمون بالفنون التزينيّة، أعمالا عن المنتجات الفاخرة-التي تشكّل ربما نحو اثنين بالمئة من مجمل الإنتاج. والأمر ذاته ينطبق على دراسات النسيج أيضا؛ وترتبط هذه الميول بسوق الفن، حيث لا يمكن للسلع المنتجة بكميات كبيرة أن تجلب أسعارا عالية إلّا من خلال ارتباطها ببلاط ما أو ما يشابهه. تصبح هناك قضية أكثر أهميّة هنا، طبعا، تتعلّق بالثمانية والتسعين بالمئة المتبقيّة. هل يمكننا فعلا خصمها؟ ما تأثير ذلك على نقاشاتنا -وبالأهمية ذاتها، كيف تفاعل الاثنان بالمئة والثمانية والتسعين بالمئة معا في السياق التاريخي؟ بصفتنا مؤرّخين للثقافة المادية وحتى كمؤرخين للفن، نحن بحاجة لتخطي مسألة الجمال، وأن نسأل لماذا قام الناس بصناعة وبيع وشراء ما هو بسيط وغير جميل ورديء الجودة أو الغريب المتعمّد. هذا موضوع أكثر إلحاحا، على الرغم من أنه، بكل تأكيد، لا يخاطب المعارض الكبرى أو فهارس الإشادة والمدح.
(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟
(أ.ف.): يتخطى "بحر من التغييرات" كتابي السابق "منتجات فخمة لكل يوم يومية" (متاحف برلين الوطنية وفيرلاغ كيتلر، 2016)، ويحدّ دائرة اهتمامه. يتناول ذلك الكتاب مجموعة أكبر من المنتجات، من الخزف إلى السجاد إلى المخطوطات المصوّرة. إلا أن العملين يعالجان مشاهد واسعة النطاق من الاستهلاك والإنتاج. من جهة، كان الرعايا العثمانيون محاطين بأنواع عدّة من السلع وكان لديهم إمكانية اختيار المواد الخام للبضائع، وألوانها وحتى طرزها. إذا كانوا من الميسورين، كان بإمكانهم اختيار من بين أشياء مستوردة من حول العالم، من الخزف الصيني إلى المخمل الإيطالي وصولا إلى السجاد المصري. من جهة أخرى، كان الحرفيون العثمانيون-إن كانوا من صانعي الفخّار أو النسّاجين أو المزخرفين- يعملون ضمن أطر محليّة وهم محاطين بهذه البضائع الآتية من كلّ مكان، والتي كان يتعين على منتجاتهم منافستها. "بحر من التغيير" يطبّق هذه الأفكار على المنسوجات، مع إعارة انتباه أكبر لتقنيات الإنتاج. كما أنه يواصل التركيز على تجارب على المواد- مثلا، كيف ناسبت الأقمشة خفيفة الوزن أنواعا جديدة من الملابس وشجّعت على إنتاجها، أو كيف صار ارتداء الحرير المطرّز بآيات قرآنية جزء من ممارسة تقوى شخصية قويّة لا يضاهيها شيء آخر.
(ج): من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغبين أن يخلّفه؟
(أ.ف.): يتعين على الجميع قراءة هذا الكتاب! وبعيدا عن المزاح، آمل أن يكون تأثيره الرئيسي هو نقل بعض الأفكار من التاريخ الاقتصادي والاجتماعي إلى الدراسات التاريخيّة، الفنية والتقنية، للنسيج. من النقوش على مساجد القرون الوسطى، التي تفيد بأن أوقافها مدعومة من أرباح تربية دود القز، إلى احتفالات الخلعة أو رداء الشرف، إلى النساء اللواتي يقدّمن ويتلقين هدايا من الكتّان المطرّز، إلى الرسوم الجمركية التي تحصّل في الموانئ أو من القوافل، من الواضح أن الأنسجة كانت تحمل العالم التحوّل. وآمل أيضا أن يصبح الكتاب، وبفضل تداخل تخصصاته، نموذجا أو نقطة انطلاق للعاملين على موضوعات أخرى ضمن الثقافة الماديّة، مثل تجليد الكتب أو الخزف، أو الذين يعملون على الأنسجة المصنوعة في أنحاء أخرى من العالم. وإذا لم تتحقق أي من هذه الأهداف الإيجابية، على الأقل فإن الفهرس سيعين الباحثين على إيجاد مصادر أوليّة.
(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعملين على إنجازها الآن؟
(أ.ف.): مازال هناك الكثير مما يستحق الدراسة حول المنسوجات العثمانية، وعن تاريخ المنسوجات بشكل عام. أخطط لأن يتبع "بحر من التغييرات" مقالات مكمّلة عن بعض المواد والمسائل التي تستحق المزيد من البحث. أحدها، وهي معلّقة عملاقة صنعت للسلطان بايزيد الأولّ (نحو العام 1400)، تعد المنسوجة العثمانية الأولى المكتشفة – أو أنّها فعليا المنتج أو العمل الفني الأوّل من أي أنواع- وهي تستحق المزيد من الأبحاث والنشر. ولأنه يمكن للمرء أن يتوسع، ويجب أن يتوسع، حين يفكّر بالنسيج، أعمل حاليا أيضا على مشروع عن العلاقة بين حياكة المخمل و حياكة الأقمشة المدمجة المخصصة للتجفيف (المناشف)، وكيف أنهت الثورة الصناعيّة انتقال التكنولوجيا بين الامبراطوريّة العثمانية، والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. بالنسبة لمشروعي المقبل، وهو أطول وأكثر توسّعا، سوف أعود إلى الامبراطوريّة العثمانية خلال فترة مجدها في القرن الثامن عشر وأتعمّق أكثر في كيفية تفاعل الفنون التزيينية، مع إيلاء اهتمام بعلم النباتات.
(ج): ما هو الأمر المميّز لهذه الدرجة في النسيج؟
(أ.ف.): في الزمان والمكان اللذين يتناولهما البحث- تقريبا بين 1400-1800 في النصف الشرقي من الكرة الأرضيّة- كان النسيج ثاني أكثر السلع تداولا، مباشرة بعد تجارة القمح. وكان النسيج يقود التجارة العالمية. على الصعيد الإقليمي، لمست المنسوجات الجميع، من دون استثناء، من النساء اللواتي يرعين ديدان القزّ، إلى الدراويش الذين يرتدون، متعمدين، عباءات صوفية متواضعة، وصولا إلى مطرزي الخيوط الذهبية الذين يوظفهم السلطان مباشرة. ضمن فئة الأقمشة، فإن مقدار الأنواع هائل. هناك العشرات من وسائل الإنتاج، والمنتج النهائي يخضع لمئات الأنواع من الاستخدامات، مثل الأشرعة، أو أكياس التخزين، أو للتنجيد وصناعة الأثواب الدينيّة. ومعظم قطع القماش أيضا، كان يعاد استخدامها مرارا وتكرارا؛ وقصصها في انتقالها من مالك إلى آخر أو من وظيفة إلى أخرى، تخبرنا الكثير. ولكن، ومهما تعددت فئاتها، تبقى الأنسجة لمسية وجسدية ومنتشرة في كل مكان... كأنما هي متواريّة أمام العيان، لاسيما مع غياب الأبحاث الكافية عنها في معظم دراسات تاريخ الفنون. ولكن لهذا السبب، فإن هذا الحقل مفتوح على مصراعيه. يمكن أن نسأل، لماذا دراسة النسيج؟ والجواب هو، لأنه حقل مفتوح على مصراعيه. يمكن للمبتدئين فيه أن يوّجهوا اهتماماتهم نحو مئات الوجهات المختلفة، وعبر اختصاصات متعددة، ومن حول العالم، وعلى امتداد التاريخ.
مقتطف من الكتاب
تأريخ فني وفئات تاريخيّة: معبّر ومفيد، وطني وعالمي
تبدو المفروشات المنزلية ومواد التنجيد، وحتى الملابس وكأنها السلع الأكثر عادية في الفنون التطبيقية أو التزينية، وذلك يعود جزئيا لتوفرها في كل مكان. والأقمشة التي يتناولها هذا الكتاب كانت غالبا مخصصة للاستخدام الفعلي: للتأطير، للتغطية، لتوفير مساحات مريحة، للتبطين أو للعزل. حتى الأقمشة التي كانت مخصصة للتجميل-مثل الحرير الذي كان يغطّي قبّة مسجد السلطان أحمد الأول، أو الجلدّ المضاعف الذي صنع لتغليف الكتب في مكتبات محمد الثاني وبطريرك الأرثوذوكس في الفنار، أو المعلقات الحريرية المطرّزة المرسلة إلى مكّة والمدينة- كانت، إلى جانب غيرها من السلع، أو الفضاءات أو المواد، ذات وظائف تستثنيها من معظم تعريفات الفن من أجل الفن.
إلّا أنّ فئتي المفيد والتعبيري ليستا متعارضتين و لا تلغي إحداهما الأخرى. فمعلّقة بايزيد وستارة المذبح من توقاد يسميّان الأفراد الذين صنعا من أجلهم. وصمم الاثنان للاستخدام في فضاءات حيث يمكن لجمهور مختار رؤيتهما، من أجل أن يحصل صنّاعهما أو مالكيهما على التقدير. وتحمل ستارة المذبح في الغالب صورا لإيصال رسالتها الأساسيّة، في حين أن المعلّقات تستخدم شرائط للتزيين وفن الخطّ. وافتراض أن صورة ما، أو منسوجة تحمل صورة، هي أكثر تعبيرا من قماشة بلا صورة ليس خاطئا فقط، بل هو أيضا رجعي. فهو يستبعد تلقائيا الفن الذي لا يقلّد الطبيعة، وفقا لتسلسلات هرمية، وضعت قبل قرون، للفن في أوروبا الغربية. حتّى لو استبعدنا واقع أن فن الخط هو رمز محقّق للإسلام (وفي هذه الحالة، انتشاره في منطقة البلقان)، فإن حجم معلّقة بايزيد، وموادها الخام، وشكلها وأنماطها وزخارفها تجعل منها تعبيرا قويا عن قوّته كسلطان وشرعيته كحاكم مسلم.
وإعادة الأنسجة، والحرف الأخرى، إلى مركز الدراسات لا يعد مجرّد اعتراف بأن الأشياء هي بعض من الدلائل القليلة على أفعال صانعيها ومستخدميها ونواياهم، بل هو أيضا اعتراف بأنها تؤكّد على وجود قيم يمكن أن تبقى غير مبيّنة لأكبر جمهور ممكن. فالمفروشات، والستائر، والملابس تعكس وتعيد تشكيل، بوضوح أو بشكل مضمر، مفاهيم التسلسل الهرمي، والثروة، والتديّن، والشرعية، والمكانة وربما أيضا تفضيلات شخصية أخرى. قرار السلطان سليمان بالاكتفاء بارتداء الصوف والقطن وارد مع شرح في التأريخ المعاصر، ولكن رداء صوفيا بلديا خشنا عليه كتابات كوفيّة يوازيه أهميّة، على الرغم من غيابه من السجلات المكتوبة.
وبعيدا عن قدرتها على أن تحكي قصص المنتجين والمستهلكين على حدّ السواء، وبالعودة إلى دورها كسلع، أقترح أيضا أن فئة المنسوجات كانت متشابكة بعمق في التبادلات العالمية أكثر من أي نوع آخر من المنتجات الفنيّة أو الحرفيّة. لم تكن تجارة أي شيء آخر-خزفا كان، أو فخّارا أو معدنا أو عاجا أو أحجار كريمة- على القدر ذاته من الاتساع في النطاق والمسافات والتنوّع. ولأن المنسوجات كانت في كلّ مكان، وتباع عادة بالجملة، كانت تلك المستوردة من أماكن بعيدة، إن كانت نادرة أو جميلة أو شديدة الرتابة، تشكل جزء من المشهدين البصري والمادي الأوسع للإمبراطوريّة، كما في أي مكان آخر. على الأراضي العثمانية، كانت الأقمشة من جميع أنحاء العالم تشكّل جزء من نسيج الحياة، على الرغم من أن أنواعها ومصادرها تغيّرت عبر القرون.
كان القطن وأنواع أخرى من الأقمشة، تتنقل بكميات من ولاية غوجارات وعبر البحر المتوسط في القرن الثاني عشر. وبعض المقتنيات الباقية، مثل جزء من غلاف كتاب محفوظ في مكتبة متحف قصر طوب قابي (توبكابي)، تشي أيضا بأن السلع كانت ترسل غربا من الصين إلى القسطنطينية في القرن الثالث عشر. وتتفق المصادر المكتوبة على أنّ: كتب ابن بطوطة عن القفاطين التي أعطيت له في الأناضول الغربي نحو العام 1332، محدّدا أنها صنعت من أصناف قماش قمحة من تبريز ومن نيشابور ومن الصين. ولكن ليس من الواضح إذا كان ابن بطوطة قد تفاجأ بذلك. لأن الأنسجة كانت تتنقل بيسر وبكثرة، كما رأينا، ومن الوارد أن حتى تلك الآتية من أماكن بعيدة لم تكن استثنائيّة. وربما أنّها لم تكن التجسيد لرمز التبادل العابر للثقافات الذي افترضه المؤرخون اللاحقون، بل كانت في مرات كثيرة مجرد جزء من الحياة اليومية.
كان انتقال التقنيّات والتغيير أمرا مختلف. بالنسبة للحرير تحديدا، أقترح أن تطور عمليات النسج في بورصة وضواحيها، ومراكز أخرى، لم يتم في مسارات مستقيمة. بلّ تسارعت وتيرة صناعة أنواع مختلفة من الأقمشة بوتيرة غير منتظمة، يعزّزها الوضع في المدينة، واستيراد أنماط مختلفة من المعرفة، ورعاية السلطنة العشوائيّة، والابتكار الحرفي. في سالونيك، ساهم وصول حرفيين يهود من شبه الجزيرة الإيبيريّة في إحداث تحوّل في حياكة الصوف. في أنقرة، ربّما ساهم توحيد جهود السلطات المحليّة في تشجيع هجرة عدد من العمّال من كيليكيا. وكان لدور الحرفيين الفرس، الذين دفعتهم اضطرابات 1720 للهجرة غربا، تأثير شبه مؤكد على الحياكة في كلّ من بورصة وإزمير. ويساوي ذلك أهميّة خسارة المهارات واليد العاملة الناتجة عن عناصر خارجية: حرق بورصة ونهبها في 1402 ومجددا في القرن السابع عشر، الشدائد الاقتصادية في 1590، عدم انتظام توريدات الحرير والصباغة والأحجار الكريمة بسبب التغييرات المناخية، والحروب والمنافسة والأمراض وأسباب أخرى؛ الأسواق غير المستقرة؛ وتدخلات السلطات.
والرواية التي تفيد بوجود تطور متواصل ومنتظم لتقنيات الحياكة والإنتاج الثابت للمواد الخام وللأقمشة المكتملة تحجب تنوّع الناس المنخرطين في العملية، كما تغيّب وجود مواد غير ملحوظة دراسيا. وفي إسهام مفيد يزيد من تعقيد السرديات المهيمنة التي تتحدّث عن فخامة القرمزي والذهبي، تبرز أقمشة الكتان المطبوعة بالذهب، والتفتا المخططة، ونوع من قماش المخمل والحرير على أرضية من الديباج، مطرزة بأزهار في غاية الروعة. وعلى المنوال عينه، وفيما كان الحرفيون الفرس الذين أحضرهم السلطان سليم الأوّل من تبريز يخيمون على مخيلة تاريخ الفن، كانت ورش العمل الواقعة خارج البلاط تعج أيضاً برعايا أتراك، ويونانيين وأرمن ويهود. وتشير سجلات المحاكم الشرعية إلى هنود وفرس وسوريين وغيرهم. وسرديات العديد من أنواع الأقمشة على امتداد أربعة قرون هي عبارة عن قصص تساوي بين الرعايا العثمانيين والزوار، وتتناول من جهة الطبيعة متعددة الأعراق واللغات والأديان للسلطنة، ومن جهة أخرى الهجرات في نطاق يوراسيا.
أربعة أبعاد وخمس حواس: المنسوجات كمواد لأبحاث إضافية
بالإضافة إلى قدرتها على المساعدة في رواية أوجه جديدة من التاريخ ومن تاريخ الفن في الإمبراطوريّة العثمانيّة، أنادي أيضا بمكانة الحرف والثقافة الماديّة في النقاشات الأوسع لتاريخ الفن، وبمكانة المنسوجات في المقام الأوّل. والمنسوجات، كصنف، فريدة في طرق إنتاجها وأيضا استهلاكها. وكما أشرنا في المقدّمة، ليس لأي مادة أخرى هذا التنوّع الواسع من طرق الإنتاج-من النساجين في منازلهم إلى ورش العمل عالية المهنية التي توظف عشرات العمّال بخبرات مختلفة. وليس هناك نوع آخر من السلع المنتجة التي تحمل كل هذه الإمكانيات من الاستخدام وإعادة الاستخدام كما الأقمشة: ما إن تخرج من آلة النسج، يمكن لقطعة من التافتا من توقاد أن تستخدم كقفطان أو كغلاف لكتاب. وفي حين أن أشكال الجاتما المقصوصة على قياس أغطية للأرائك مصممة بوضوح للاستخدام في المفروشات، إلا أن بعضها الآخر كان يستخدم في الملابس وأغطية الأرضيات، والستائر، والمعلّقات وحتى العمائم. فالمنسوجات كفئة، تشكّل تحديا، بسبب التنوّع الواسع في مواد انتاجها وطرق تصنيعها، وأعدادها الهائلة، وتعدد المصادر التي تفسّر كيفية استخداماتها وتلقيها، ولكنها أيضا تقدّم للباحثين أساليب جديدة للتفكير في الميزات الحسيّة للمواد، كما في سيرها ومساراتها.
وتضاهي أهمية الحيوات الثانية للأنسجة أهمية استخداماتها الأولى أو تلك التي حيكت من أجلها. واستخدام الأقمشة الإسلامية كأكفان لملوك الإفرنج وقدسيهم هو نموذج معروف عن هذه الظاهرة. في الحقبة العثمانية، تم تعديل استخدام عدد من أغطية الأرائك المصنوعة من الجاتما لتتحوّل إلى ملابس طقسية كهنوتية في إيطاليا وفي روسيّا مع الإبقاء على خصائصها التزيينية كما هي. وبيعت أجزاء من كسوة الكعبة وحرائر أخرى أرسلت للاستعمال في مكة والمدينة، وتم توزيع بعضها على المؤمنين، الذين احتفظوا بها كتذكارات أو حوّلوها في بعض الأحيان إلى أشياء جديدة.
والرداء في شكله المتعرّج التقليدي الظاهر في الصورة 3.1 هو نموذج جميل ولكنه يبقى عاديا بالنسبة لنوعه، حتّى ينكشف شكل التحول الذي شهده: تم تحويله إلى سترة (الرسم 7.1). وتشي آثار التلف على طول الياقة والتشققات على مستوى الكتفين بأن هناك من ارتداه، ولكن ليس من الواضح في أي ظروف. ونموذج هذه العباءة- المصنوعة من أقمشة مصممة للاستخدام في الأماكن المقدّسة والمفعمة ربما ببركات الحجّاج والمصلّين- يطرح عددا من الأسئلة، معظمها يدور حول نوايا صانع السترة ولابسها، ولكن ما يوازيها أهمية هي هيكلية المعتقدات التي كانت تحيط بالذين يستخدمونها. بهذه الطريقة، تشرح السترة أيضا أن الأنسجة يمكن أن تخبرنا بما لا تخبره المصادر المكتوبة أو أنها تعجز عن اخباره: هنا، عن أنماط الزخرفة المقدّسة والحامية، والأشكال، والمواد الأوليّة؛ المكانة ضمن القصر أو في هيكليات تراتبيّة أخرى؛ أو تجربة الحج، إن كانت قد أنجزت شخصيا أو تمت عبر شخص آخر، أو أنّه كان هناك مجرّد توق لها.
وبالعودة إلى طبيعة الأنسجة كأداة، تمثّل السترة أيضا وجها آخر مما تقدّمه الأنسجة، بحدّ ذاتها، كموضوع للبحث: خصائصها اللمسيّة والجسدية. والسترة مخططة بقطع من حرير التافتا البنفسجية وفستقية اللون، مزيّنة ببساطة على طراز منطقة تاراكلي- وعلى الأرجح أنها صنعت في ورشة القصر المخصصة لحياكة القفاطين. ومثل العديد من الملابس المصنوعة من مجموعة من الحرائر الفاخرة، فهي ضخمة، وجامدة ومصممة خصيصا كي لا تأخذه شكل الجسد الذي تحتويه. بهذه الطريقة، تخفي أقمشتها وقصّتها بعض الخصائص الجسدية للابسها، ويجعله (على الأرجح) يبدو أقل فرادة ويقلص القدرة على التعرف عليه أو تحديد هويته. بسبب مادية النسيج وقصته وحياكته، كان اللابس يلتزم بالمثل التي تحكم الأشكال والأثواب والتصرفات للموظفين في المراتب العليا في القصر وأفراد آخرين من النخب.
[نشر على جدلية. ترجمة هنادي سلمان].