إنهم يضحكون عليه منذ الابتدائية، حين سألته المعلمة سؤالاً عادياً: "كم يوماً في الأسبوع؟"، فأجاب: "ثمانية". تعجَّب حينها من سخرية أصدقائه ومن إجابة المعلمة. عاد إلى البيت وأمسك قلماً وورقة وصار يؤرِّخ أيَّام الأسبوع بأحداثها كي يتأكَّد من عددها: "أوَّل يوم في الأسبوع زرنا بيت جدي"، "في اليوم الثاني ذهبت مع أبي إلى الصيد"، "في الثالث مدرسة وعرض مسرحي"... وهكذا إلى أن وصل إلى اليوم الثامن، "في اليوم الثامن فزت بجائزة أفضل رسَّامٍ في المسابقة".
-إذاً أنا محقٌّ وهم مخطئون.
في الثانوية ضحك من قلبه وقهقه عالياً وهو يمسك برنامج الحصص الدراسية الأسبوعي ليجده يضمُّ خمسة أيام فقط، وراح يتمتم: "ثلاثة أيَّام عطلةٍ أفعل فيها ما أشاء". وكزه أخوه الجالس بقربه وهو يردِّد بسخرية: "ما أشدَّ غباءك! من أين اخترعت يوم العطلة الثالث؟".
عاش يوم العطلة الثالث طيلة السنوات الدراسية يلهو ويمارس فيه هواياته غير مكترثٍ بأقاويل من حوله.
لم يكن الأمر مزعجاً قبل أن يعمل رساماً في إحدى دور النشر، في الأسبوع الأوَّل أعطاه صاحب الدار أجرة سبعة أيامٍ، فاعترض بغضبٍ: "لكنِّي عملت ثمانية أيام". ضحك صاحب الدار وأدار ظهره ومضى وهو يردِّد: "لطيفٌ مزاح هذا الرسام".
شعر بالظلم لكنَّه بلع مرارته بصمت، وانتظر اليوم الثامن التالي ليؤكِّد لصاحب الدار أنَّه يعمل ثمانية أيَّام، في اليوم الثامن وفي فرصةٍ ذهبيةٍ للدار وللرسام زار الدار كاتبٌ مشهورٌ وبين يديه مخطوط رواية يريد طباعتها، اتَّفق مع صاحب الدار على عدد الصفحات ونوع الورق وأجرة الطباعة وموعد استلام العمل، ثمَّ توجَّه الكاتب إلى غرفة الرسام مثنياً على إبداعه في لوحاته التي شاهدها وسمع عنها. اتَّفقا على صورة غلاف الرواية التي سيرسمها له بأجرٍ محترم، كان طلب الروائيِّ فرصةً لا تعوَّض، فروايته ستتصدَّر الصحف بغلافٍ من تصميم الرسام الذي سينال بفضله شهرةً واسعة.
في اليوم التالي والذي يصادف بداية الأسبوع أعطاه المدير أجرة سبعة أيَّامٍ، فاعترض مؤكِّداً عمله يوماً إضافيَّاً، مذكِّراً المدير بالكاتب الذي زار الدار بالأمس واتَّفق معهم على طباعة روايته دليلاً على وجود يومٍ ثامن. دهش المدير من قصَّة الكاتب هذا الذي لم يطأ البلاد منذ سنين، أكَّد له أنَّه مسافرٌ وأنَّ ما يدَّعيه محض أوهامٍ ليس إلا.
- لكن.. غلاف روايته الذي أعمل على تصميمه؟
صاح بأعلى صوته غاضباً: "ثمَّة يوم يسقط من أسابيعكم، أنتم خاسرون...".
فكر طويلاً كيف يثبت للجميع أن ثمَّة يومٌ ثامنٌ في الأسبوع، خطرت له فكرة أن يرسم لوحةً في كلِّ يوم ثامن، أسبوع بعد أسبوع وهو يرسم لوحات كثيرة ويتركها دليلاً على وجود يومه الذي لا يشعر به أحد.
بعد عدَّة شهورٍ أقام معرضاً للرسم سمَّاه معرض اليوم الثامن، دعا الناس لحضوره وهيَّأ جميع لوحاته التي رسمها في اليوم الناقص من الأسبوع، اجتمع الناس في المعرض أوَّل يوم والدهشة تغمرهم، تنقَّلوا بين زوايا المعرض يطالعون لوحاتٍ بيضاء فارغة، سألوه عمَّا يقصد من حشد لوحاتٍ فارغةٍ في معرضٍ، فأكَّد لهم وجود رسوماتٍ في لوحاته، رافقهم وهو يشرح لهم موضوع كلَّ لوحةٍ، والناس يستمعون إليه ويضحكون.
في اليوم الثاني ازداد عدد الزوَّار الذي سمعوا عن معرض للوحاتٍ فارغةٍ يقيمه رسامٌ فيه مسٌّ من جنون، كانوا يمرُّون بلوحاته مندهشين غير قادرين على إخفاء قهقهات ضحكاتهم المتعالية. توالت الأيام والزوَّار يزدادون وكاميرات الصحف توثِّق حدثاً غريباً لرجلٍ غريبٍ في هذا المعرض.
في اليوم الثامن من المعرض جلس وحيداً يائساً ينتظر زائريه، مرَّ النهار ببطءٍ شديدٍ لم يزره فيه أحد، عند المساء دخلت فتاةٌ فاتنة الجمال ألقت عليه التحية وتجوَّلت في أنحاء المعرض، وقفت قبالة كلَّ لوحةٍ دقائق تطالعها والبسمة تغمر وجهها، اقترب منها يسألها: "ما الذي ترينه؟"، راحت تشرح له انطباعها عن موضوع كلِّ لوحةٍ بإعجاب، طار فرحاً وهو يراها ترى رسوماته التي عجز الجميع عن رؤيتها، صاح مندهشاً: "إذاً أنت ترين رسوماتي؟" أجابت بـ: "نعم"، سألها محاولاً التأكُّد: "ما ترتيب اليوم من الأسبوع؟" فأجابت: "اليوم هو اليوم الثامن"، راح يضحك ملء قلبه وقد وجد من يصدقه، أمضى نصف ليله معها في أرجاء المعرض وهما يتنقَّلان من لوحةٍ إلى أخرى ويشرح لها موضوعات لوحاته، راجياً من ليلة اليوم الثامن ألا تنتهي، وأمضى النصف الثاني في رسم لوحته الأخيرة.
في الصباح ضجَّت الصحف بخبر موت رسامٍ عشيَّة سابع أيَّام معرضه، المعرض ذي اللوحات الفارغة الذي وثَّقته كلُّ الصحف، والذي عُثر فيه قرب جثَّة الرسام على لوحةٍ وحيدةٍ ناطقةٍ تضمُّ لوحات المعرض جميعها المليئة برسوماتٍ جميلةٍ تقف قبالتها فتاةٌ جميلةٌ تطالعها بأعينٍ مفتونة.