بين سلسلة جبال جودي، كانت غابة أشجار النزوح، مخيمٌ يظهر كأكفان متراصة فيبدو تلويثًا للخريطة، ومَسكنًا لأشباح البرد المسافرة من الجبال، والتي تحيي الشتاء في عظام ساكني المخيم، بعد تهشيم العظام، وبناء مدينة للبرد من فتاتها.
كانت ليلة اليوم العاشر من نوفمبر، انتشرت رائحة لحم الأطفال المحترق، مصاحبة للدخان الأبيض المتصاعد من شارع الخيم، ولوَّنت صافرات سيارات الإسعاف والشرطة ليل مدينة الخيم باعثة الفزع في قلوب الحشود المتّجهة نحو الحريق، كان الليل في منتصفه، تلوّث حلكته رمادي الغيوم المحمّلة بالأمطار.
عشر خيم احترقت بسبب تماس كهربائي. حينذاك، وكأغلب الحاضرين، سارعت بملء دلاء الماء ورش النيران بها، محاولة إخماد الحريق حتّى وصول سيّارة الإطفاء المتأخرة دومًا. بعد ثلث ساعة حملوا رجلًا على النقّالة، وقرب سيّارة الإسعاف وقعت ذراعه المتفحمة على الطين، ما تزال الرائحة تنبعث من شعره وجلده، وقد ذابت سترته الجلدية وسالت على جسده مختلطة باللحم وفي مناطق أخرى كاشفةً عن عظام هزيلة، هبت نسمة حملت رمادًا منه على جنح الليل، علّها تسافر به إلى مكان أفضل من مقبرة الأحياء.
مع انتشار المتجمهرين كالبعوض في شوارع المخيم، لاحظت أنَّني أسير إلى جانب شاب أقصر مني بقليل، قوي البنية ويرتدي ثيابًا خفيفة.. أحاول تركيب جملة تصلح للتعبير عمّا يراودني، لكن، أسمح لنفسي بالاختباء وراء استعارةٍ أدبية: في الفجائع يكون التواصل فوق مستوى الكلام.
قال وهو يدنو مني بتكاسل، لا يليق بمظهره، وصوت خطانا في الطين نشاز في سمفونية صمت الليل. الليل الذي يخبئ جبننا، لم أقل شيئًا، دعاني الغريب إلى شرب الشاي، فقبلت الدعوة.
أوقف ولوجنا إلى الخيمة، وأنفاسنا المتسارعة، حديث الكتب الجاثمة والمرمية بإهمال في صناديق مختلفة، أقتربت من سجون الكلمات التي اكتسبت هالة من القدسية بعد إشعاله الشموع في أرجاء الخيمة. اقتربتُ وحملت قصص إدغار آلن پو، القط الأسود وقصص أخرى، حملق فيّ الشاب الذي قدم نفسه لاحقًا باسم كايرو. جزمت أنّه استعاره من أحد الكتب، قال فيما هو يسخِّنُ الشاي في إبريقٍ أقدم من الأهرامات.
- مسؤولية الإنسان الأخلاقية الأولى، أن لا يكون ابن قحبة، والثانية، هي أن يقرأ لإدغار آلن پو، هذا الرجل عبقري..
- هل هو للبيع؟
- كل شيء للبيع.
- أجاب وهو يدلق الشاي في فنجانين.
- كم سعره؟ سألتُ وأنا أتفحصه على ضوء الشمعة.
- كمبادرة لتكون زبوناً دائمياً لمكتبتي المتنقلة، سيكون هدية، لكن لا تفكِّر أنَّني أقلِّلُ من شأن پو.
لن أفكر، قلت في سري، وأنا ارتشف من الفنجان شاياً شعرت بقطار الحرارة يزحف نحو معدتي.
**
استيقظت صباحًا، لأجدني تحت أغطية تفضل علي بها كايرو، وهو يشخر بلطف على مقربة مني، زرقة الفجر تضفي هالة من الطمأنينة والكآبة على الخيمة، حاولت تسليم جسدي لمورفيوس والاستسلام لدفء الأغطية، وحين فشلت، كتبت رقم خيمتي على قصاصة ورق وتركتها على مرأى العين وخرجت دافنًا الكتاب تحت سترتي.
كان المخيم يرقد تحت رمادي الغيم، ومفضوح الجسد لبردٍ تصطك له الأسنان وتتقلص الأعضاء التناسلية، سِرت شرقًا، تخنقني رائحة الزبالة المحترقة حول المخيم، حتّى صدمتني لافتة معلّقة على سياج حديدي يحيط بخيام كبيرة، قرأت العنوان بالانكليزية وتذوقته (war child)، سألت نفسي: كيف يكون للحرب أطفال؟ دفعت الباب الذي كان مواربًا، وخطوت على درب من حجارة تحيط بها أشجار تخلّت عنها الأوراق، ثلاث خيم كبيرة، رفعت سحابة الأول، نفد ضوء رمادي إليها سامحًا لعيني الناعستين بتميز محتوياتها: كراسٍ صغيرة مرتبة بمجموعات ثنائية حول طاولات سمائية اللون، ولوحة إعلانات معلقة في نهايتها، خرجت ودخلت الثانية، كانت مشابهة للأولى، الثالثة كانت مغلقة.
رغم فشلي في العثور على القفل، إلّا أنَّني عثرت على النافذة، رفعت الغطاء عن الثقب المربع وقرّبت وجهي، لفحتني رائحة طيبة، لاحظت ضوءًا خافتًا ينبض في نهاية الخيمة، عزمت على الدخول، لا يهم كيف.
كان البرد قد لوّن جلدي بالأزرق الداكن، عثرت على قطعة زجاج حادة، مزقت جانب الخيمة وولجتها.
تقدمت نحو الشمعة تجذبني بخيوط خفية الرائحة الزكية، وفجأة، شعرت بدفءٍ يعيد ليدي الحياة، ولشفتي، حين بلغتها، كانت توشك على الانتهاء غارقة في دموعها.
أحسست بحركة خلفي فاستدرت، على جانبي الخيمة، انتشرت شواهد قبورٍ صغيرة، تنبئ تربتها التي بدأت بالاهتزاز بزلزالٍ قادم، كلّما ازدادت الذرات بالحركة، ازددت ثباتًا، حتّى اشرأبت تسع أجساد من القبور لفتيات مراهقات، شعرهن مشعث، واستدارت في الآن ذاته نحوي، حاولت الحركة، غير أنّ الدهشة شلّت حركتي، كانتِ الخيمة الثالثة مقبرة لأطفال الحرب!
هرعت بأقصى سرعة وركضت إلى الخارج، دون إغلاق الباب، تلفظني الشوارع كقيء من جسدها، تصاعد الطين حتّى ركبتيّ، حين بلغت خيمتي، كان الضوء الرمادي قد بدأ باختراق الغيوم، سارعتُ إلى سريري البارد، وتدثرت تحت الأغطية، أرتجفُ من رأسي حتّى أخمص قدمي.
**
استيقظت إثر هزّات عنيفة من أبي، يخبّرني بحضور صديقٍ لي، ويسألني عن الطين على بنطلوني، وسبب تأخري. لم أجب. الآباء يسألون أسئلة كثيرة، ويطلبون تفسيرات لكل شيء، غير مدركين أن العالم غير قابل للتفسير.
خرجتُ والكتاب ما زال تحت سترتي، كان كايرو يزيل الطين عن جزمته في انتظاري، أبتسم حين رآني، وخرجنا.
في المخيم، سألته محاولًا تصنع عدم الاهتمام هل سبق لك ورأيت منظمة اسمها war child؟
- نعم، هناك منظمة بهذا الاسم، مقرّها قريب من خيمتنا، هل هناك مشكلة؟
-لا. قلت منهيًا الموضوع.
كان الليل يصطاد الأضواء بصنارة البرد، وينشر سمومه في المخيم. اتّجهنا نحو خيمته، سألني إن كنت أحمل مالًا، أجبت بالإيجاب، فأنا عملتُ لسنتين في قرية سياحية في إحدى المدن الكردية، ولم أعرف كيف أصرف نقودي، فاحتفظت بها. شربنا شاياً وحدَّثني عن پو.
- هذا الرجل، قرَّر العيش من الكتابة وللكتابة. مات على مقعد في الشارع لأسبابٍ مجهولة، أبٌ لكتّاب القصة وخصوصًا البوليسية، له قصيدة أسمها الغراب، عليك بقراءتها.
هززت رأسي. حين انتهينا أمرني أن أتبعه، كان الليل في منتصفه، دلف إلى سوقٍ للمواد الغذائية، ملأ كيسًا بالمواد الغذائية، دفعت ثمنها، وخرجنا. عدَّ الخيمَ حتّى بلغ رقمًا فرديًا أعجبه، طرق على الخيمة طرقات متتالية، ترك الكيس هناك، وأختفينا تحت ستارة الضباب ترتجفُ شفاهنا. حين بلغنا خيمته سألته عن سبب فعلته.
- أفعل ذلك أنّى امتلكت نقودًا، لأنَّ الإنسان لا يحتاج إلى عين ثاقبة ليرى الشرور، أؤكد لك أنَّه هناك الآلاف من الناس ممن سيتطوعون لإظهارها، بل يحتاج عيونًا كثيرة حادة البصر ليرى الخير، أو أي شيء خارج سياق الحرب، لذلك، حين لا يمكنك أن ترى الأشياء الجيدة، أصنع بعضها.
تمنيت أن يفعل خيرًا وأن يعفيني من الشاي، لكنَّه لم يفعل.
شربنا فناجين كثيرة، بدأت بالقراءة وهو يرتب الكتب.
كانتِ الساعة تقارب الواحدة، حين دخل عنصران من الشرطة، كبّلانا بالأصفاد واقتادانا إلى السيارة.
- هل تتلذذ بحرق الخيم يا ابن العاهرة؟ شوهدتما في منتصف الليل خارجًا تلهثان، هذه جريمة قتل، ولا أعتقد أنّك تجهل ما ترتكبه.
سأل الشرطي كايرو وقطرات لعابه تغسلنا وتخرج من فمه أكثر من ثنائي أوكسيد الكاربون والكلمات، ودفن قبضته في أمعائه. خرج الألم آهات ودمًا سال على وجهه. أنتهى من طقس التعذيب وهو يلهث كالثور، تناوب في ضربنا، لمّا فشل في إرغامنا على الاعتراف، أحضرَ سطلًا فيه تيزاب، ورمى فيه قطعة لحم.
- هل تفكِّران بما أفكِّرُ به؟
نظر إلي كايرو والفزع يتملّكه، آنذاك طرق أحد العناصر الباب، أدّى التحية وهمس في أذن الضابط، أمر بإخراجنا على مضض. سمعنا على الطريق رجلين يتهامسان فيما بينهما عن أضرار التماس الكهربائي واحتراق الخيم النايلونية بسببه! كان عليهم بإلقاء التهمة على أحد -غمغم كايرو- أو الشك به، حتّى لا يشعرون أنَّهم لا نفع منهم أكثر من الأعضاء التناسلية لعجوزٍ في التسعين من عمره اعتاد على الاستمناء أكثر من عشر مرات يوميًا في شبابه.
لا أعرف كيف وصلنا إلى خيمته، رست سفينة الضوء على شاطئ الوقت وأعلنت بدء يوم جديد.
**
رأيت في الحلم نهرًا من العشب يموج في أبدية، تحوّل عشب إلى دماءٍ مراقة تطفو عليها تسعة جثث لفتيات مراهقات، تجرفها الأمواج نحوي، ورصاصات السماء المائية تمزق الهواء لتخترقني، حاولت الركض عبثًا، إذ ثبتت قدميّ مراهقتين. صرختُ دون صوت واستيقظت غارقًا في عرقٍ نضح من كل مسامات جلدي واختلطَ بالدماء المتخثرة على وجهي.
كان الضحى ينبئ بجوٍ عاصف، قرر كايرو الذي استيقظ متأوهًا أن جو هذا البلد الخرائي وطموحات الطبيعة الأم العاهرة في إغراق العالم بأمطارٍ لا تتوقف لا تسمح له بممارسة عمله في بيع الكتب.
فكّرت بالعودة للخيمة ثم أنسحبت متجنبًا استجوابًا متوقعًا من أبي.
بعد أن رويت لكايرو ما جرى، خرجنا نقصد مقر منظمة war child
- إن أشباح پو تمكنت من عقلك المعطوب يا صديقي، أرجو أن لا تكون مصاباً بالشيزوفرينيا!
فشلتِ الريح في تكوين بشر من الطين الذي تراكم في الشوارع، بدتَ أنّها للغرق أكثر من المشي.
مقر المنظمة مقفر كما تنبأتُ. رفعت السحابة وسمحت للضوء باحتلال عزلة الخيمة الثالثة. رأيت موظفًا يجلس إلى مكتبه لمعاينة بعض الأوراق ويدوّن الملاحظات على ضوء ذهبي مغبر تبعثه شمعة على طاولةٍ من خشب السنديان، فحصنا بنظرة متسائلة:
- مرحباً، كيف يمكنني مساعدتكما؟
أنا كايرو، وصديقي هنا يرغب في السؤال عن تسع مراهقات عرف عنهن في الأرجاء.
كان الموظف مليئًا بالحياة، ولكثرة تعامله مع الأطفال، أمسى واحدًا منهم، مدّنا بتقرير مكتوب للمنظمة نفسها، بحروف كبيرة:
" تم العثور على تسع فتيات أسيرات لدى داعش مقطوعات الرؤوس في حاوية للقمامة في سوريا"
شكرناه وخرجنا، بللنا المطر حتّى أمعاءنا، كلانا يعرف أن الآخر يبكي، لكن لم يجرؤ أحد منّا على سؤال الآخر. افترقنا يتجهٌ كلٌ مِنّا إلى خيمةٍ يمكن أن تحترق في أية لحظة، تاركين غابة أشجار النزوح تعاني تحت المطر الذي يعزف سمفونية الجوع على سطح الخيم.
[النص جزء أول من سلسلة قصصية]