من منّا لم يكن لديه رب عمل، أو مشرف، أو مرشد يستحق الشكوى؟ اعتادت مديرتي في وظيفتي الأولى، وكانت امرأة بيضاء، أن تناديني دوما بالـ "ضعيفة". وألقى مدير مديرها، وهو أبيض أيضا، خطابا أمام الشركة برمّتها يوما، توجّه فيه إلى أحد الأشخاص، وهو صديق طفولة، بنعت عنصري بشع. حين اشتكيت من خطابه، أُبلغت أنه لا داعي للتظلّم. كانت تلك، ببساطة، هي طبيعة مدير مديرتي. لم يكن أحد يشعر بالحاجة لتحديد معنى ذلك بالضبط. هم أشاروا فقط إلى طبعه الملتبس لتبرير سوء تصرّفه، والذي يمكن، خلافا لذلك، اعتباره شريرا- فادحا، وتاريخيا، وعنيفا- شيء يمكن، إذا سميّ باسمه، أن يستوجب تبعات. كرّرت شكواي مرتين: الأولى خلال ورشة عمل إلزاميّة عن "التنوع والإدماج"، تم خلالها تشجيع الموظفين على التحدث عن تظلماتهم مع الآخرين، ولاحقا بعدما قرّرت الاستقالة، خلال مقابلة المغادرة مع قسم الموارد البشريّة. في المرتين، بدا أن شكواي تختفي، فور التفوّه بها. ولكن الشكاوى، بحسب الباحثة النسوية سارة أحمد، لا تختفي فعليا أبدا. إذا كنت أنت المشتكي، فهي "تلاحقك إلى البيت"، كما تقول في كتابها الأخير "شكوى!"
ولدت سارة أحمد في بريطانيا في 1969 من أب باكستاني وأم إنجليزيّة. بعدها بفترة وجيزة، انتقلت العائلة للعيش في أستراليا، حيث نشأت أحمد قبل عودتها إلى المملكة المتّحدة لإنجاز دراسات الدكتوراه. وقد كتبت 11 عملا، وشكّلت أعمالها المُبكرة علامة ورمزا لدراسات ما بعد الحداثة النسوية، ولنظرية الانفعال، وللظاهرية الكويرية. ومساهمتها الأكثر شهرة هي شخصيّة "نسوية قاتلة البهجة"، وهو أيضاً اسم مدونة أحمد الالكترونية الرائجة، والتي بدأت تكتبها بالتزامن مع عملها الصادر في 2017، "أن تحيا حياةً نسوية". وفي ذلك الكتاب تقول أحمد أنّه "حين تكشف مشكلة، فإنك تشكّل مشكلة". وأن تكوني "نسويّة قاتلة للبهجة" هي قضية هويّة؛ وهي أيضا، كما تشرح أحمد عبر المدّونة الإلكترونيّة، ما تفعلينه وكيف تفكّرين، "فلسفتي وسياستي".
في "شكوى!"، تجمع أحمد شهادات شفهية ومكتوبة من عشرات الأشخاص الذين اختبروا اعتداءات جنسيّة، ومضايقات عنصرية، أو تنمرا داخل الجامعات، واختاروا إمّا التقدم بشكاوى عن طريق الإجراءات الرسمية المتّبعة في مؤسساتهم، أو تحدي هذه الإجراءات برّمتها. وعلى الرغم من أن كلّ الذين حاورتهم أحمد يعملون في المجال الأكاديمي، إلّا إنني أحسست أن تجاربهم تنطبق على الحياة المؤسساتية بشكل عام. والقصص التي ترويها أحمد مألوفة لأي شخص حاول السعي إلى الإصلاح (أو حتى مجرد الاعتراف) في مؤسّسة متمرّسة على مواجهته. مرارا وتكرارا، تُسقط الشكاوى قبل التقدّم بها، أو يتم الترحيب بها نظريّا وتُصنّف أنها فاقدة للمصداقيّة عمليا. وفي غضون ذلك، تلتصق الصفات السيئة للحادثة المشكو منها بالمشتكين أنفسهم. يتم تحجيم الحادثة كما المشتكي، وشيطنتهما. ومن جهة أخرى، توسم مخاوف المشتكين بأنّها غير منطقيّة- إنهم يحاولون افتعال شيء من لا شيء- ومن جهة أخرى، تصوّر الشكاوى على أنّها مُغرضة وتهديدية، كأنها قادرة، بمفردها، على الإطاحة بالمؤسّسة برمتها.
يُعدّ "شكوى!" واحدا من أكثر الأعمال الشخصية التي كتبتها أحمد. وإلى جانب الدراسة المعنونة "عن أن تكون مشمولا" التي أجرتها في 2012 حول مبادرات الاندماج، فإنّه يبني قضية متكاملة وملحّة حول إمكانية استمرار الحياة المؤسساتية، على نسقها الحالي، على المدى البعيد. وعلى امتداد أكثر من عشرين عاما، عملت أحمد في المجال الأكاديمي، أولا كأستاذة في الدراسات النسائيّة في جامعة لانكستر، ثم كأستاذة في دراسات العرق والدراسات الثقافية ومديرة لمركز الأبحاث النسويّة في غولدسميثز، التي استقالت منها في نهاية 2016. وجاءت استقالتها احتجاجا على ثقافة المؤسّسة المتعلّقة بالتحرّش الجنسي، أي بناء على "قضيّة نسويّة"، كما كتبت أحمد في مدوّنتها الالكترونية. وهي كانت قد بدأت تعدّ الأبحاث لكتاب "شكوى!" قبل استقالتها، التي سمحت لعملها أن يتجدّد ويتوسّع عابرا أبواب الجامعة المغلقة وجدرانها المسدودة، ليدخل في حيز الخطاب العام المفتوح على مصراعيه.
المحاورة
كانت هناك تغطية إعلامية كبيرة لانفصالك عن الحياة الأكاديمية، ولكن لدي فضول لمعرفة المزيد عن علاقتك السابقة بها. ما هي الوعود التي كانت الجامعة تمثّلها لك في شبابك؟
سارة
لأنني نشأت في محيط ينتمي للطبقة الوسطى، كان يقال لي دائما أن الجامعة هي المكان الذي يتعين أن أرتاده. كنت، في البداية، مهتمّة جدا بالفنون الجميلة. كنت أرسم الكثير من اللوحات التجريدية المروّعة، وقُبِلت في كلية الفنون، إلا أنّ أبي قال إنّها لن تقود إلى مسار مهني لائق، لذلك منعت من ارتيادها. وكنت أيضا طفلة فلسفيّة، لذلك كان من البديهي أن أختار العلوم الإنسانيّة.
دخلت الحياة الأكاديميّة بكثير من الأمل، والاهتمام والاستمتاع. مازلت أذكر احساسي بالذهول-من أنّه من الممكن أن تبقى طالبا، وأن تبقى في موقع تعليمي، وأن تكون محاطا بالمعرفة. لم أكن أعرف تماما ما هي الوظيفة الأكاديميّة، إلّا أنّني كنت أحب كتابة المقالات، والقيام بأبحاث، والذهاب إلى المكتبة. حين كنت أعمل على الدكتوراه، أدركت أنه بإمكاني أن أكون معيدة محاضرة. وتصادف وجود وظيفة متاحة في الدراسات النسائيّة في لانكستر. لم يكن لديّ أي أبحاث منشورة، إلا أنّهم قابلوني، ووظفوني، جزئيا بسبب حماستي الكبيرة، على ما أعتقد. كنت محظوظة جدا. كانت وظيفة دائمة في واحد من أكبر برامج الدراسات النسائية في أوروبا، وكنت في بيئة شديدة الدعم لحقوق النساء. كنت متأثّرة جدا لأنني أصبحت جزء من ذلك. هذا لا يعني إنني لم أختبر الوجه الآخر للحياة الأكاديمية-تحجيم ما يمكن اعتباره معرفة، وكيف يمكن لما يبدو محيطا منفتحا ومحتضنا أن يكون، فعليا، محيطا معاديا وصعبا لمن لا يتكيّفون معه. وبدأت أعي، باكرا جدا، الهوة بين ما يبدو قائما وبين ما هو قائم فعليا. إلا أن ما كان يدفعني للذهاب إلى هناك كان الوعد بالمعرفة واهتمامي بها، وهي ما بقي معي منها. وحين قدمّت استقالتي، كنت أتخلّى عن الكثير.
المحاورة
يبدو أن الكثير من الناس يرتادون الجامعات معتقدين أنها ستكون نوعا من الملاذ لمساعيهم. ينتابني الفضول حول مدى تفاؤلك بأنه مازال من الممكن للباحثين أن يستمروا في إيجاد مورد فكري هناك.
سارة
أنا لا أستخدم، في الحقيقة، تعبير الملاذ. لا أعتبر أن الجامعات هي أماكن يقصدها المرء للحصول على فسحة للتنفّس، نظرا لأنواع الضغوطات التي يتعرّض لها الباحثون، ونظرا لحجم اعتماد هذه المؤسّسات على موظّفين غير ثابتين. كلّ ذلك يجعل الكفاح في سبيل إيجاد بدائل أمرا أشد صعوبة بكثير. في الوقت ذاته، تنتج الأعمال الأكاديمية الأكثر ابتكارا عن الذين يحتلّون مناصب غير ثابتة. ومعظم الأعمال المهمة فعلا- في دراسات السود، والجندر، والنسوية- تنتج عن معركة مع المؤسسات على شيء ما. وكلما ازداد إحساس الناس بالأمان في المؤسسات وتوّفرت لهم المزيد من الموارد، كلّما أصبحوا محافظين أكثر، وراغبين أكثر بالقيام، بما أسميه، عمل التلميع المؤسساتي- التزم بالقواعد، واجعل المؤسسة تبدو جيّدة- بسبب الفوائد المتأتيّة عن ذلك.
المحاورة
في السنوات الأولى من مسيرتك الأكاديميّة- حين كنت تركزين على ما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، والظاهراتية الكويرية، ونظرية الانفعال-كنت، بصورة رئيسيّة، تنتجين نظريات. ولكن، شهدت أبحاثك وأساليبك المنهجية تحولا في "عن أن تكون مشمولا" و "أن تحيا حياة نسوية". بدأت تشبه أكثر علم الاجتماع. وهذان الكتابان لم يكونا وصفيين أو تحليليين تماما- بل كانا أيضا جزء من عملك الفعلي على الأرض لمحاولة تغيير المؤسسة التي كنت تسكنينها. ما الذي استدعى ذلك التحوّل؟
سارة
على امتداد فترة من الوقت، كنت أجري أبحاثا عن العرق والغرباء- الذين يعتبرون مجموعة خارجة عن المألوف في أحيائهم- إلا إنّني مع الوقت كرّست اهتمامي إلى الجامعة نفسها. كانت لانكستر جامعة للبيض بشكل لا يصدّق، وكنت أعي ذلك من قبل أصلا، لأنّني، طبعا، كنت واحدة من قلّة من الأكاديميين من ذوي البشرة الملّونة العاملين فيها. ولكنّي بدأت أسمع تبريرات للحضور الطاغي للبيض في اجتماعات أعضاء هيئة التدريس. كانت أذناي تمتلئان بأصوات عن الآليات المؤسساتيّة. أصبحت مديرة للدراسات النسائيّة، ولم يكن وضعنا ثابتا بعد-كنا نكافح للإبقاء على استقلاليتنا، وبدأت أشعر بتراجع دعم المؤسسة. كنت أشعر بأنه لن يكون لنا أي مستقبل. لذلك، بدأت أشعر باليأس قليلا.
عن طريق الصدفة، حصلت إيلاين سوان، وهي زميلة في كليّة الإدارة، على تمويل لإجراء أبحاث عن التنّوع في التعليم العالي. سألتني إذا كنت أرغب بالعمل معها على المشروع ووافقت، أساسا لأنها كانت وسيلة لتزويد المؤسّسة بالمال. كنت واقعيّة، فعلا، ولكني حين بدأت أعمل على البحث، تغيّر كلّ شيء. انتهى بي الأمر مع مجموعة تعمل على صياغة سياسة مساواة عرقيّة. كانت كتابة تلك السياسة هي الدرس المؤسّساتي القاسي الأول بالنسبة لي. أدخلنا عليها ما كنت أعتقد أنّه لغة نقديّة، إلا أن الجامعة تمكّنت من استخدام هذه السياسة-التي كانت تتعلّق بسبل التعبير عن العنصرية في المؤسّسة- كدليل لتظهر كم هي جيّدة في المساواة بين الأعراق. ما تعلمته من ذلك هو مدى سهولة أن يتم استغلالك. لا يتعلّق الأمر فقط بوجود هوّة بين ما يعلن عن الشمول والتعدّدية وبين ما يحصل فعلا. بل هناك أيضا قيامنا بالعمل لإنتاج مظهر خارجي عن شيء ليس قائما.
المحاورة
استحوذ علي ما أثرته، في "عن أن تكون مشمولا"، من أن مصطلح التنوّع "يمكن أن يستخدم كوصف لشيء أو كتأكيد على وجوده"- وأنه يتعبر عادة "كلمة ‘جيدة‘ تحديدا لأنّه يمكن استخدامها بطرق متنوّعة".
سارة
أحب أن أسمي ممارسي التنوع بسبّاكي المؤسّسات. عليك معرفة أين تنسد الأمور، وكيف يمكن تسليكها. وفي بحثك عن ذلك، يجب أن تكون مبتكرة. هناك طريقة تسمح بإفراغ "التنّوع" من أكثر مكوناته تضاربا-أي فحواه كلّها- ولكن يمكن لذلك الإفراغ أن يستخدم بطريقة استراتيجيّة. كنت أدرك تماما كيف يمكن للإداريين المكلّفين بمبادرات التنوّع أن يحاولوا فرض أقصى قدر من المسافة بينهم وبين المشتكين. هؤلاء لن يستخدموا لغة عنصريّة، تلك الكلمات التي تسمى "سلبية" والقادرة على جعل المؤسسة تخضع للمساءلة حول إعادة إنتاج العنف. في بعض المرات، يستخدم الناس كلمات مثل "التنّوع"- كلمات أكثر وديّة، وسعادة-لأنّهم يحاولون فقط تسليك الأمور. يعتقدون أن تلك الكلمة قادرة على تمكين بعض الأشخاص من الجلوس معهم على الطاولة نفسها.
حين كنت أقوم بالأبحاث لكتاب "شكوى!"، أصبحت أكثر وعيا لحدود تلك الاستراتيجيّة. إذا كان علينا التخلّي عن هذا الكم الكبير من مصطلحاتنا-ومن أنفسنا- لإيصال الناس إلى الطاولة، فيمكن لذلك أن يعني أنه يجب أن تبقى الطاولة كما هي. أخبرني العديد من الناس كيف أنّه، حين كانوا يحاولون تقديم الشكاوى، كان برنامج التنّوع ذاته هو الذي يستخدم ضدهم في غالبية الأحيان-كأنّما هم لا يقومون بذلك بالطريقة الصحيحة، كأنّهم لا ينجحون بأن يكونوا مقنعين بما يكفي، كأنما هم، وبمجرد استخدامهم لكلمات معيّنة، يصعّبون حياة الناس الآخرين، بمن فيهم الموظفين الآخرين المصنفين كأقليات.
ومع ذلك، لم يكن من الواضح دوما، في سياق حياة الناس الفعلية، كيف يمكن تقديم شكوى بشكل فعّال. من الممكن، مثلا، أن يكون لديك شكوى تتعلّق بأن العنصريّة تتيح لأندادك من البيض الحصول على وقت إضافي لإجراء الأبحاث. ولكنك أصلا الشخص الوحيد غير الأبيض في القسم، ولذلك، وفي سعيك لمنح نفسك فرصة للحصول على ما تحتاجه، سوف تسعى كي لا تبدو وكأنك تثير المشاكل. ذلك النوع من التسليم للمؤسسة لا يتعلق بالتماهي مع البيض أو السلطة، وهو حتما لا يتعلّق باستخدام لغة إيجابيّة من أجل الوصول إلى المراد. الأمر يتعلق ببساطة بمحاولة أن تبقى آمنا. لذلك، يمكننا التحرّك ضمن القيود الإدارية. يمكن أن نرفض أحيانا أن نكون إيجابيين لأن ذلك يجرّدنا من الكثير، ويمكن أن نقرّر ألّا نكون سلبيين لأن ذلك أيضا يجرّدنا من الكثير.
المحاورة
في "شكوى!" تكتبين، مستعيرة جملة أودري لورد الشهيرة، أن "إجراءات التقدم بشكاوى يمكن أن.. تعتبر ‘أدوات السيّد‘". في الوقت ذاته، وكما تشيرين، فإن التقدّم بشكوى رسميّة يمكن أن يكون مسيِسا، لأنّه يُظهر للمشتكيّة كيف تحط المؤسّسة بانتظام من قدر تظلّماتها. هل تعتقدين أن محاولات تغيير الأمور، في أي جامعة، بالامتثال للإجراءات التي تنص هي عليها، ستؤدي في الغالب دوما إلى الفشل؟
سارة
يمكن للشكاوى الرسمية أن تبدو مثل "أدوات السيّد "-بيروقراطيّة وجافّة ومملّة- إلا أنّها أيضا تتيح التعرّف على الآليات المؤسساتيّة واختبارها، كيف تعيد المؤسسات إنتاج نفسها.
إذا لجأنا إلى طرح لورد، فأن الجهود لإعادة بناء "دار السيّد" بحيث يستوعب من لم يكن قد بني من أجلهم أساسا، لا يمكن فهمه على أنه مشروع إصلاحي فحسب. فهو ينطوي على احتمال أن يكون ثوريا. فمعظم ما تحقّقه الثورات ينتج عمّا تتعلّمه خلال محاولاتك لبناء عالم أكثر عدلا إلى جانب الآخرين. إن ما يقود الشكوى إلى مسار يشبه الاحتجاج هو التآلف الاجتماعي. تجد الذين يشاركونك شكواك، الذين يفهمونها، الموجودون في الأصل، رفاقك. لا يقدر بعض الناس على الاستمرار في الحياة هذه المؤسسات. بعضهم يعجزون عن الحياة فيها. لذلك، يصبح بناء مؤسّسات لا تعتمد على الانتقاص من قدرات الحياة لدى الآخرين، مهمة جوهريّة للتوكيد على الحياة.
في جامعتي السابقة، تقدّمت مجموعة من الطلاب بشكوى جماعيّة، من دون الإفصاح عن هوياتهم، تتعلّق بالتحرش الجنسي وبتجاوزات سلوكية. واضطرار الناس للتحرّك جماعيا هو معيار لما ينتظرهم. كنت أسمع ما كان يقوله الآخرون في المؤسّسة عن هؤلاء الطلاب، كنت أسمع كيف كان يُنعت المشتكون بأنّه مرضى، ويتّهمون التذمّر من أشياء ثانوية، وبأنهم لا يرغبون بالسماح للمؤسّسة بالتعافي من- أي، التغطية على- المشكلات التي يحاولون معالجتها. حين تشتكين من التحرّش المتفشي في الجامعة، تضعين نفسك في مواجهة مع الذين لا يريدون أن يُصار إلى الاعتراف بتلك المشكلة. وتُمارَس ضغوطات هائلة على الناس لسحب شكاويهم. يقال لهم أنها ستقضي على مساراتهم المهنيّة، كما أنها ستقضي على المسارات المهنية لمن يفترض أن يتحالفوا معهم ويعتمدوا عليهم، يقال لهم أنها ستقضي على كلّ شيء. هناك شيء من الحقيقة في تلك التوقعات السوداوية. حين تتم مأسسة التنمّر والتحرّش، يصبح من الصعب جدا تحديهما من دون تحدّي كلّ شيء. وهكذا، يبدأ كلّ شيء بالتداعي.
من خلال الجماعة، يمكنك التجمّع والضحك وتناول الطعام والشرب، وتذكير نفسك بأن المؤسّسة ليست كلّ شيء. الجماعة هي ما يمكّنك من الاستمرار. وأنا ممتنّة للغاية لكل من ليلى ويتلي وتيفاني بايج وكريسيا سادروليا وغيرهن-لكتابة إحدى خلاصات "شكوى!" حول العمل الذي بدأنهن به حين كنّ طالبات. أنا ممتنّة لأن جماعتهن أصبحت جماعتنا.
المحاورة
تأثرّت كثيرا بقصة الطالبات اللواتي تقدمن بشكوى دون الكشف عن هوياتهن، وكيف أنهن، وحين أدركن أن شكاويهن الرسمية من أحد الأساتذة لن تتم معالجتها، قرّرن الكتابة على نسخ كتابه كلّها التي في المكتبة تنويها بأن الكاتب اتُهم بالاعتداء الجنسي. دفعني ذلك للتساؤل: متى يصبح لازما أن تتحوّل الشكوى إلى عمل تخريبي. هل من الممكن فعلا تغيير مؤسّسة من دون أن نسرق منها، أن نشوهها، أو أن نخرّبها؟
سارة
هناك عدد قليل من الحالات المختلفة في الكتاب يمكن اعتبارها تخريبا، وهي نتيجة لمقاربات خلّاقة، في الغالب، للبعض في سعيهم لإذاعة المعلومات. حين تعبر الشكاوى تحقيقات رسمية، يتم احتواء المعلومة عادة. وتلجأ الجامعات إلى تبريرات مثل "السرية"- الحاجة لحماية هويات المشتكين- لتبرير ذلك الاحتواء، وهناك وجه حقّ في ذلك. ولكن هدف السريّة أيضا يساء استخدامه. يصبح وسيلة لإخفاء الأسرار. في بحثي، قال كثيرون أن المطاف انتهى بهم داخل ملف. يوضع الملف جانبا في خزانة، والخزانة في غرفة، وباب الغرفة مقفل، وينتهي الأمر. يمكن أن تكون متواجدا في مناسبة ما، محاطا بأنداد لك، وربما تكون قد وقعت على عقد سريّة، أو أن المؤسّسة التي تستضيف المناسبة هي المؤسسة حيث حصلت الحادثة-هناك قيود على ما يمكنك قوله حول ما حدث. لذلك، فإن الملف ليس الأوراق المحتجزة في مكان ما من المؤسّسة فحسب- تصبح أنت هو الملف. عليك إبقاؤه مقفلا. ويثقل ذلك عليك، يكبح جماحك. يمكن أن تكون معرفة ما حصل مؤلمة للغاية، معرفة ما عانيت منه، ومع ذلك، لا يمكنك القول، لا يمكنك إخراجه.
وهكذا، تكون الكثير من الأعمال التخريبية هي ما يتعين عليك فعله لإخبار الحكاية. وللمؤسسة طرقها في التعامل مع أعمال العنف هذه وجعلها تختفي، تماما كما تحتوي الأسرة العنف الحاصل بين أفرادها كما الهيكل العظمي داخل خزانة. وجزء كبير من وظيفة الشكوى هو تحرير القصة من ذلك العنف وإطلاقه نحو عالم أوسع ومراقبة ما سيحصل لها.
المحاورة
في أحيان كثيرة، هناك نوع من المحاكاة الصوتيّة في اللغة المستخدمة لوصف المسارات الملتوية التي يتعين على الناس اتباعها للاشتكاء. في كل من "شكوى!" و "عن أن تكون مشمولا"، يبدو أحيانا أنك تحاكين، أسلوبا، ذلك الإحساس برهاب الأماكن المغلقة، بالاحتجاز. وتبدو جملك وكأنها حلقة مغلقة، حيث تستمر العبارات ذاتها في التكرّر-ولكنها سرعان ما تتحوّل بحيث تضيء إمكانيات جديدة. بمعنى أخر، هي ترسم خطة للخلاص. أتساءل إذا كان أسلوبك النثري قد شهد تحوّلا مع وصول أفكارك ومناقشتها- من خلال " نسويّات قاتلات للبهجة " وكتبك الأخيرة- إلى القراء من خارج الحياة الأكاديمية؟
سارة
أعتقد أن أسلوبي في الكتابة بدأ يتغيّر قبل ذلك. هو تغيّر نوعا ما حين كتبت "فينومولوجي الكوير"، وهو يعد بطريقة ما، أكثر أعمالي اتباعا للتقليد الفلسفي. صرت مهتمة بمفهوم "طاولة" في فلسفة هاسرل، والتي كانت إشارة عابرة بالنسبة له. كان من المفترض أن أتجاوزها، لأن الهدف من الطاولة كان الإشارة إلى شيء آخر. لكنّني صرت مبهورة تماما بها. أحضرت مسجلا للصوت، وصرت أقرأ بصوت عال ما أفكر به بشأن الطاولة. رفعت الطاولة، تحسست الطاولة، ولم تكن أفكاري كلمات بقدر ما كانت أصواتا. أصبحت كتاباتي مرتبطة أكثر فأكثر بالصوت، ومن ثم، وفيما كنت أكتب المدوّنة و "أن تحيا حياة نسوية"، بدأت تصبح أكثر مرونة.
لا أعتقد أن ذلك تمّ بقرار واع، ولكنه حين حصل، بت أكثر اهتماما بالكتابة نفسها وبما كنت أفعله بها. فالمدونة تسمح لك بالوصول إلى الناس بطريقة مختلفة. تتحرر من الهيكلية الجامعية- الصف أو الحلقة الدراسية. أصبحنا معتادين على ذلك الآن، ولكن في وقتها كان الأمر مازال جديدا بالنسبة لي، فكرة أن يكون بإمكاني كتابة شيء ما، وأن ينتشر، ويصل، وأن أحصل على رد فوري ممن قرأه. كان هناك ارتباط بين مرونة أسلوبي في الكتابة- محاولة التوصل إلى تأثير ما أصفه والصوت المناسب له- وبين الإحساس بالارتباط بطريقة مباشرة أكثر مع القرّاء.
المحاورة
هل هناك أشخاص آخرون أثروا بك وأنت تنجزين هذا التحوّل، تخفيف التزامك بنوع الكتابة الأكاديميّة؟
سارة
أعمل حاليا على إنجاز "كتيب إرشادات للنسويات قاتلات البهجة"، وفيه فصل عن نسوية قاتلة للبهجة النسوية وهي شاعرة. استخدم عبارة في غاية البساطة، "أن ترخي" تلين. أن ترخي يعني أن تعبّر عن نفسك. من الممكن أن يعني ذلك أن تفقد أعصابك. ولكن يمكن أن يعني ببساطة أن ترخي من سيطرتك على الأشياء. علمّتني لورن برلنت الكثير عن تخفيف السيطرة على الأشياء. وكان لها طريقة مذهلة من إفساح المجال في وصفها للتعلق بالأشياء، وهو أمر، برأيي، صعب التحقيق. وعمتي، غولزار بانو، وهي شاعرة نسوية، علمتني شيئا، هي أيضا. كانت تكتب أشعارا غاضبة، في أحد مستوياتها، ولكنها كانت أيضا أشعار محبة جدا، جدا. حين أفكر بكل من غولزار ولورن أفكّر كيف يمكن لضيق الكلمات وصرامتها-الضمائر مثلا- أن تجعلك تشعر وكأنها لا تفسح لك المجال. عليك الاختبار عن طريق التركيب، الجمع بين الأشياء. هناك ترابط بين التنقل مع الكلمات وبين جعل الحيوات تنفتح.
هناك جملة في عمل أودري لورد "قوة"، وهي قصيدة شديدة الصعوبة ومؤلمة، عن القوة المتمددة، فضفاضة ومتعرّجة، كأنّها سلك غير موصول. أنا مهتمة بفكرة اللغة كسلك موصول. تبقيه متصلا حتّى يمر شيء عبره. يمكن أن يكون ذلك الشيء هو الكهرباء. حين أفكّر بالكهرباء، أفكر بطقطقة، طقطقة، طقطقة، أزيز. يجب أن تسمحي بدخول العنف (إلى داخلك) من أجل إخراجه، من أجل التعبير عنه. في مقابلة مع أدريان ريتش، تحدثت لورد عن كتابة تلك القصيدة بعدما أوقفت سيارتها لدى سماعها بتبرئة ضابط شرطة أبيض من تهمة قتل طفل أسود. تقول أنّها اضطرت إلى إيقاف السيّارة، وإلا كانت ستتعرض لحادث. كان عليها أن توقف السيارة، وحضرت قصيدة. كان عليها إيقاف السيارة لكي تخرج القصيدة. ذلك هو الرابط، برأيي بين عمتي، ولورين، وأودري- الاستعداد المطلق لتسجيل وطأة العنف، لكي يخلق ذلك التسجيل إمكانية أن تصبح الأشياء مختلفة.
المحاورة
عمليا، كل الذين أعرفهم والذين يكسبون معيشتهم في وسط مؤسساتي فكروا بمغادرته. معظمهم لا يغادرون. ويصبح من الصعب فصل فكرة الفرار عن الصعوبات التي يمكن أن تنتج عنها-تقلّص الإمكانيات الماديّة، كما القدرة في الوصول إلى المجتمع وغيرها. ولكن يبدو أن استقالتك قدمت نموذجا عن أنه يمكن للأشياء أن تكون مختلفة. كتبتِ تقولين إنها مكّنتك من إيجاد دور كانت الحياة المؤسساتية قد كبحته، وهو أن تكوني "أذنا نسوية" بالنسبة للآخرين. هل يمكنك قول المزيد عن ذلك، المجتمعات أو وسائل التواصل التي تفتحت أمامك فور مغادرتك؟
سارة
[ضحك].
المحاورة
أو أنّها لم تنفتح؟
سارة
ربما لم تنفتح. إنّه سؤال وجيه! لا أريد أبدا أن أستخفّ في وصف مدى صعوبة المغادرة. ولكن بالنسبة لي، لم يكن الأمر يشبه القرار. كان شيئا يجب أن أقوم به. لم يكن بإمكاني الاستمرار. وكنت أفكر بأنه يمكنني أن أصبح كاتبة وأن أعمل بشكل مستقلّ. سيكون من الصعب جدا بالنسبة لي الآن أن أحصل على وظيفة في المملكة المتحدة. لا أعتقد أنني كنت أعي ذلك تماما حين غادرت. لكن الاستقالة غيّرت طريقة انجازي للعمل. لم أدرك في البداية كمّ شكلت استقالتي فارقا بالنسبة للناس. معنى استقالتي بالنسبة للناس. فقد قادت الناس إليّ، وقادت إلى الإحساس بأن التكلم معي لا يعني التكلّم مع المؤسسة. كنت في مكان آخر، في بيتي الريفي الصغير في وسط كامبريدجشاير، وخروجي كان يعني أن القصص كلها ستخرج معي. لا أعتقد أنه كان سيمكنني أن أكتب "شكوى!" لو أنّني بقيت في المؤسّسة.
هناك الكثير مما افتقده في الجامعة. تمكنّا من خلق التضامن في "مركز الدراسات النسويّة" في غولدسميثز، وأنا أفتقد ذلك بشدّة. كان في ذلك الفضاء إحساس ملحّ. لم نكن نجلس نتحدّث مثلا، ما أدراني، عن نظرية الانفعال-وذلك لا يعني أن الجلوس والتحدّث عن نظريّة الانفعال ليس مثيرا للاهتمام! ولكن الذي كنّا نشعر معا بأنه ملح كان نوعا آخر من النقاشات. كنا نحاول تغيير ظروف امكانياتنا العملية. أشتاق إلى الصف الذي كنت أعطيه عن العرق، والذي درّسته سنويّا منذ بداية حياتي الأكاديميّة في 1994. أشتاق إلى التلاميذ. ولكن حيثما كنت ومهما كنت تفعل، ستفقد إلى شيء. وافتقاد كل ذلك أعطاني فرصا أخرى كثيرة للمشاركة، والتواصل والتفكير مع أشخاص من خارج هذه المساحات المؤسساتية. لذلك، أنا مستعدّة لافتقادها.
[نشر في موقع "باريس ريفيو" في١٤ كانون الثاني\يناير، ٢٠٢٢. ترجمة هنادي سلمان].