(خطوط وظلال للنشر والتوزيع، الأردن، 2022)
[كاتبة سورية، ماجستير في الفلسفة والأدب، وطالبة دكتوراه. تكتب القصة القصيرة، وحائزة على جائزة منى الشافعي عام 2018 عن قصتها «كاميرا ملونة»].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة المجموعة القصصية، ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟
فدوى العبود (ف. ع.): كانت فكرة "تلة يسكنها الأعداء" قد سكنتني منذ وقت طويل، لكني أخفقت في نقلها للغة بسبب صرامة التفكير التقليدي الذي فرضته على نفسي، كنت معجبة بالقصّ الكلاسيكي، لكن يبدو أن بنيتي النفسية والذهنيّة كان لها رأي آخر. في النهاية اختارت النصوص الشكل الذي أرادت أن تعبر من خلاله عن فكرتها وعن ذاتها.
تتبع تلة أثر الواقع الذي نعيشه، من خلال محاكاة الأعمال الأدبية والفنية أو من خلال التخييل،
بالنسبة لتطورها فقد كُتبتْ النصوص متفرقة، ثم وجدتُ أنها ولدت لتكون معًا، وأن كل منها يكمل الآخر من حيث انقطع. اتبعت تقنية الطبيعة حيث كل أثر يقود للآخر. فالورقة تقود للغصن والأخير للشجرة. والشجرة للنهر.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسة للعمل؟ ما هو العالم الذي تأخذنا إليه نصوص القصص؟
(ف. ع.): وجود في الزمن الخطأ-الموت-الحياة-الحب-العزلة-هذه وغيرها. بالنسبة لي أحيانًا يجد الإنسان نفسه في مكان لم يختره، لم نختر أنا وأنت أن ننتمي لهذا المكان الذي يحطم الأمل ويقتل فينا الإنسان، الإنسان لا يموت فقط حين يتحول للعنف بل حين يخاف وحين يخفي وجهه، حين نغلق أبواب الداخل ونحتضر ببطء.
أما عالم النصوص فهو مزيج بين الواقعي والفانتازيّ. الخفّة هي ما كان يشغلني طيلة الوقت (أن نكتب عن الحرب بخفّة، عن الموت بخفة) الخفّة مرحلة سابقة للضحك، إنها بداية التحرر. اعتقد أننا مازلنا نكتب عن التجربة الأليمة التي مررنا بها في الحرب، لكن التحرر من التجربة يحدث عبر معرفتها، هذا ما طمحت له، حين تكتب عن المأساة تكتب بثقل، (الخفّة مرحلة أرقى من السخريــــــّة وأعمق من الضحك).
(ج): كتابُك الأخير مجموعة قصصية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريدين قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ف. ع.): ربما اخترت القصة في المرحلة الحالية كجنس أدبي لأنها أقرب إلى طبيعتي، الرواية تحتاج إلى نفس طويل، وأنا أنفاسي متقطّعة حاليًّا، عمومًا أنا أميل للنصوص العابرة للتخوم، النصوص التي يصعب تجنيسها، وسوف يرى قارئ تلة أنها ليست قصة بالمعنى المتعارف عليه، هي قصاصات متناثرة متداخلة وفي كل قصاصة أو نص نعثر على نقش يكمله نص آخر. ذلك يشبه رمي مكعبات بشكل عشوائي وكل منها سيعرض لك نقشًا مختلفًا لكن كلها تكمل بعضها البعض.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ف. ع.): تركت عملي وتفرغت للكتابة، لكني اضطررت للبحث عن عمل مجدداً، وهذه أهم الصعوبات التي واجهتني.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ف. ع.): هو الكتاب الأول، بعد ثلاثة كتب قصصية لم تنل رضاي، لذا آثرت التخلص منها. لذلك ولد قبله الكثير من الخدج لكنه الطفل الوحيد الذي استمر حتى النهاية وخرج إلى العالم
(ج): هل هناك نصوص كان لها تأثير خاص، أو قرأتيها أثناء إنجاز هذا الكتاب؟
(ف. ع.): أنا قارئة في الأساس، لم أتعمد التناص مع كتب معينة، لكن صوراً من كتب وروايات كانت تطفو بشكل عفوي أثناء الكتابة، كنت أكتب "مرآة مسننة الحواف" حين تداعت صور مختلفة ألحّت عليّ لكتابتها صور من مسخ كافكا، ومن جورج أورويل ورواية 1984، ألعاب العمر المتقدم للويس لانديرو، الشيخ والبحر لإرنست همنغواي. رواية اللجنة لــــــ صنع الله ابراهيم. صحراء التتار لــدينو بوتزاتي كانت مواقف الساردة تتصادى مع هذه النصوص وكأنها كانت تنتظر دورها في قاع اللاوعي ثم بدأت تخرج تباعًا إلى سطح الوعي. حين كتبت "يقظة" لم أستطع سوى أن أفكر بدعاء الكروان. هكذا كانت تلك النصوص تفرض نفسها في عملية الكتابة.
(ج): ما الذي يجب أن تحققه القصة القصيرة بحيث يمكن القول إنها قصة إبداعية وتشكل إضافة في جنسها الكتابي؟
(ف. ع.): القصة القصيرة فن مرن، ولا نهائي التكوين، والسرد هو شكل الروح ولغتها. لذلك ستبقى تدهشنا بالجديد شكلاً ومضمونــــًا. أعتقد أن أهم ما يجذبني في القصة القصيرة وفي الفن عمومًا أن يحمل رؤيا أو موقفًا من الوجود. ألا تقتصر على رواية حكاية، أن تمزق الحكاية إن استلزم الأمر. ألا تثقل أنفاسها بالوصف أو الحبكة. بل أن تستجيب للحقيقة حتى لو تطلبت منك الأخيرة أن تمزق شكل السرد. الإضافة الحقيقية للفن والأدب ألا يخون خيارات الحياة عبر أدلجتها أو ترتيبها. (لنمزق السرد إن استلزم الأمر. لنقوض السرد لأجل الجمال والخفة).
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ف. ع.): أعمل على إنهاء "آلهة من تمر" وهو كتاب ينتمي للأدب الشخصي، لكنه قراءة في مرحلة عشناها جميعًا. قراءة تجمع بين الفلسفة والأدب والسيرة الذاتية قراءة في القيم التي آمنا بها يومًا واكتشفنا أنها كانت كذبة كبيرة. (تختصر آلهة من تمر في عبارة: في الصباح كانت لدينا أحلام رائعة وفي المساء دفناها).
مقتطف من الكتاب: مِــــــرآة مُسنّنـــــــــة الحَـــــــواف
لا بدّ أنّه حلم!
هذا الصدى، لا يمكن أن يكون إلاّ لحلم. أعرف كيف تبدو أصواتنا في الأحلام. يبدو أني دخلت حيّاً من تلك التي وصفها أحدهم في كتاب ما-سأحاول التذكر-وفي هذه الأثناء يجدر بي حلّ المشكلة التي أوقعت نفسي بها لقلّة فطنتي. (في الأحلام يجب ألا تترك المشاكل بدون حلول)
الفتاة الشبيهة بالنساء الصارمات في قصص ديكنز طلبت مني أن أتبعها.
نظرات الاتهام والازدراء في عينيها.... اللون الرمادي للجدران... وأبواب المكاتب المتشابهة... الهواء البليد، وشعور بالعار يتسرب كالوهن من كل جانب...
هكذا إذن! الآن أستطيع تحديد العالم الذي دخلته بالخطأ، إنّه يخص كاتباً يدعى كافكا، فمُدنه تفور بالازدراء والتشابه اللذين يعطيان المرء انطباعاً بأنّه حشرة!
لكني والشكر للرّب لست حشرة، أعرف ذلك من قدرتي على التفكير والتحدث مع الفتاة؛ التي تقول بأنها سكرتيرة المدير العام. (لاحظت أن شعرها قد صُبِغ باللون الأصفر بينما لوّنت أظافر رجليها -اللتين تظهران بشكل فج من مقدمة الحذاء-بالأحمر الفاقع)
كانت تضع في فمها علكة وتصدر كل دقيقتين طرقعةَ مُفرقعات ناريّة.
لكن، وبما أنها تسير أمامي في الممرّ الضيق وبما أننا في حلم؛ فيمكنني سماع الصوت دون الجزم بذلك.
كانت الجدران المدهونة بالرماديّ كجدران السجون، لا بدّ أنيّ وبسبب القراءة المتواصلة قد بدأت أخلط بين الحدود كما كنت أفعل في الطفولة وهذه عادة سيئة.
تقول والدتي: أنني لا أملك أيّ كونترول ولا قدرة على بناء الجدران بين الأشياء، ويبدو أنها كانت محقة في مقارنتها بيني وبين أخواتي وإخوتي، فهم عرفوا كيف يبنون حياتهم وأنا إلى الآن أتخبط. وأول علامات تخبُّطي أنني كما أخبرتكم لا أعرف بالضبط، إذا كنت في حلم أو تحت تأثير كتاب. ربما كنت أقرأ حين غافلني النوم فدخلت بين سطور كلمات لا تخصني.
بالأمس قالت صديقتي بعد أن أعرتها كتاباً لكافكا، أننا نحن نُحبُّ الغرباء ولا نهتم بواقعنا، وقالت بعد أن تصفحته بضجر: أنّه يتوجب عليّ قراءة كتب تنتمي لعالمي فما نفع القراءة عن مدن الآخرين، وعن حياة الآخرين، وعن موتهم
معها حق وهذه هي النتيجة التي انتهيت إليها (عيناي أخذتا تضللانني، وفقدت قدرتي على فهم الأمور)
وصلنا مكتب المدير، أدارت الموظفة الشابة أُكرَة الباب ودخلتْ دون استئذان، هذه بداية مبشرة، ولا داعي للفهم ولا للشرح عن كيفية سير الأمور هنا.
قالت أمي مرةً "أنّ علّتي هي محاولة فهم كل شيء، وأن هناك أشياء في الحياة لا تحتاج للتوقف عندها"
كنت أحاول أن أفهم، لماذا نكره بعد الحب، ولماذا نحب رغم الكره؟ وأن أفهم لماذا يوجد الله ولا يتدخل! لماذا تنبت عشبة كل بضعة أمتار على الطريق السريع الذي يمر من أمام بيتنا؟ ولماذا يجلس أبي شارداً فوق الصخور؛ وبجانبه هيكل شجرة أشبَه بسمكة همنغواي!
في النهاية فمن يريد أن يفهم، عليه أن يدفع الثمن.
المهم هنا، أن تنقل السكرتيرة احتجاجي للمدير العام؛ الذي وافق على إعطاء الجميع إجازة ما عداي. أريد أن أحظى بسنة واحدة لأُنهي مسوّدة كتابي والسلطات هنا -أقصد في الحلم-ساخطة عليّ لسبب مجهول-، لقد رُفِضَت طلباتي كلها، رغم أني لم أفتح فمي يوماً بحرف؛ إلاّ إذا كانوا يسمعون أفكاري كما حدث لسميث بطل 1984، لقد تعلمت منه تجنبّ الجيران وعدم كتابة الأسرار والأفكار فوق الأوراق.
(الرسائل والجيران، وشاة محترفون حين يتعلق الأمر بالأفكار السيئة)
أخبرتني سيدة رأتني أكتب عذري، أنه يمكنني ادعّاء أنيّ حامل فذلك أقل إثارة للرِّيبة من تأليف كتاب؛ لكن الموظفة قالت: إنّ عليّ -في هذه الحال-التبول فوق جهاز شبيه بميزان حرارة صغير؛ حتى يظهر الخطان الورديان؛ فهنا لا بّد من مستندات وبراهين.
(كنت أريد إنهاء الكتاب، الذي بدأ كرغبة عارمة. وسينتهي مثلي فوق أرفُفٍ باردة)
لا بدّ أن نبوءة والدتي قد تحققت، قالت إني لكثرة ما أقرأ هذه الكتب سأغدو مثل أصحابها، الذين يعزلون أنفسهم ويمشون كالبُلهاء ولهم وجه بومة.
والدتي تتحدث كزوجة خيل في ألعاب العمر المتقدم، ومع أنها والدتي لكنها تشبهها؛ فهي تتكلم فقط حين تجد الظروف مواتية لتكسير معنوياتي. وحين رحلتْ لم تترك لي سوى ماكينة خياطة قديمة وبضع لفائف من الصوف.
أردت أن أُثبتَ لها في عالمها العُلوي أنني سأكتب أشعاراً دون أن أنتحر، أو أضع رأسي في فرن غاز؛ ولن أضطرَّ لقتل أحدهم أو الفرار بين القرى مثل الشحاذين، ولن أسير في الشارع كالبلهاء. بل سأقف فوق المنصة وألقي خطبةً كبيرةً عن الحياة.
لكن خطواتي المتعثرة خلف الموظفة وصوتي المرتجف ثم طلبها مني الوقوف خارجاً يبرهنان على العكس؛ ونظرات الموظفين الذين يبدون مرتابين بي؛ تضطرني للترديد كل خطوتين "أنا مواطنة، وكدت أقول جيدة ومثالية"
لا بدّ أني تأثرت بالمحاكمة لذلك المسخ كافكا. أول شيء سأفعله حين أخرج من هذه المعمعة أن أتخلص من سطوة كتبه؛ بحرقِها وبعثرةِ رمادها حتى لا تتناسل عوالمه ومدنه وشوارعه في وجهي كيفما التفتّ.
لكن ماذا لو حدث العكس؟ وتحولت مدنه الكابوسيّة إلى مدنٍ لا نهائية.
أين قرأت هذا؟
أين؟
تذكرت.
في كتاب الرمل لبورخيس الفيلسوف الأعمى، يحظى البطل بكتاب سحريّ عبر مقايضة عادلة؛ "الكتاب بصفحاته اللا نهائية مقابل الكتاب المقدس"
لكن اللانهاية تثير الذعر، فقد بدأ الكتاب يصبح كابوساً حقيقيّاً، وحين قرر التخلص منه بإحراقه أفزعته فكرة: أن يثير الكتاب دخاناً لا نهائياً.
إذاً، ماذا لو حدث العكس؟
ماذا لو تناسلت مدن كافكا وخرج منها آلاف المسوخ!
وماذا لو وقف-كما في المحاكمة-محققان أمام كل بيت؟ وماذا لو تكاثر موظفو القصر بسحناتهم القاسيّة ومكاتبهم الرماديّة المبقّعة بالدّسم!