(فواصل للنشر والتوزيع، دمشق، ٢٠٢٢)
[غنوة فضة كاتبة وروائية سورية، مواليد مدينة اللاذقية (1987)، تحمل إجازة في التربية وعلم النفس من جامعة تشرين السورية، ودبلوم في البرمجة العصبية اللغوية، صدرت لها رواية "قمر موسى" نظرة على واقع ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع السوري].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة الرواية؟ ما هي منابعها وروافدها ومراحل تطورها؟
غنوة فضة (غ. ف.): ظهرت فكرة الرواية قبل أعوام من كتابتها، وبدأت بشغفٍ تعلّقَ بنوعين من القراءات؛ بالرواية أولاً وبالتاريخ ثانياً. لكني منحتها الوقت حتى تبلورت. أعتقد أن الزمن ينضج النصوص، ويمنحها الحياة، لذا ومع الاتكاء على قراءات في التاريخ القديم، وبعد رفدها بمراجع ودراسات، كان لا بد للخيال من أن يتدخل ويقوم بدوره حتى تجسدت بشكل نهائي في مكان بين الواقع والخيال الذي يعوزه الفن الروائي.
(ج): ما هي الثيمة الرئيسة للعمل؟ وما هو العالم الذي يأخذنا إليه نصّ الرواية؟
(غ. ف.): تذهب رواية أرض الأرجوان بالقارئ إلى عالمين متباعدين زمنياً، يفصل بينهما 2200 عاماً، وهما عالمان على اختلافهما يقدمان معاً فكرة الانتماء؛ عن معناها وآثارها. ولكون النص يعتمد بصورة وثيقة على التاريخ، فقد كانت الثيمة الرئيسة هي "الميتا سرد" أو لنَقل السرد التاريخي الذي يُعنى بعوالم الحقيقة والخيال، مع الابتعاد عن المنهجية العلمية التي تقدمها الدراسات التاريخية، بل بتكريس ما يحتاجه العمل الروائي الذي ينأى بنفسه عن أسئلة من مثل: كيف ولماذا!
(ج): كتابك الأخير رواية، هل لاختيارك جنساً أدبياً بذاته تأثير فيما تريدين قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(غ. ف.): هذا يختلف تبعاً لنوعية الأفكار التي نودّ طرحها، وتبعاً لحجمها، ولنوعية الصوت الذي نؤثثُ له أثناء الكتابة. أعتقد أن الاختيار غالباً ما يقع على الجنس الأدبي الذي تلبي مساحته صوتنا ويشبع عرض أفكارنا بطريقة تؤتي ثمارها. لا شك نستطيع الحديث عن فكرة الانتماء في نوفيلا أو عبر مسرحية أو حتى في قصيدة، فالاختزال في النهاية فن عظيم، إلا أن خياري حينها تحيز للرواية، لأنها تلبي وتشبع عرض عالمين تاريخيين تفصل بينهما قرون طويلة.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(غ. ف.): في أرض الأرجوان كانت الفكرة حاضرة، وفي بعض من مراحل كتابة العمل كان النص يسير وحده نحو وجهات لم أتوقع أن أصل إليها، أعتقد أن سيطرة الكاتب على نصهِ وهمٌ، قد تسير النصوص نحو وجهات لا نحسب لها حساباً، لكن التحدي الوحيد الذي كنتُ أتعامل معه بحذر في جميع مراحل كتابة العمل؛ كان دقة المعلومة التاريخية والتأكد من مصداقيتها، مقابل قلة المراجع وضعف المترجم منها، في بعض الأماكن اعتمدتُ على دراساتٍ لطلبة ماجستير ودكتوراه في الجامعات العربية، فنحن لا نستطيع أن نحكي مثلاً عن موكب ملكيّ يرش بالأرز في منطقة وزمن لم يكن الأرز موجوداً فيه من الأساس، لذا كان الحذر من الوقوع في المغالطات التاريخية فيما يخص أدق تفاصيل الحكاية من أطعمة ومدن وملابس.. هو التحدي الوحيد.
(ج): ما هو موقع الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(غ. ف.): أرض الأرجوان، هي روايتي الرابعة، بعد روايتين ومجموعة قصصية.
(ج): هل هناك نصوص كان لها تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(غ. ف.): كان لقراءتي المبكرة في التاريخ، واهتمامي بحكايات المنطقة التي تدور فيها أحداث الرواية تأثير لا بأس به، إلا أن المتعة كانت في تركيب تلك الخلطة الساحرة، وذاك التمازج بين التاريخ والخيال، وهو ما تمنحني إياه الكتابة الروائية؛ كأن يقول لك الباحث التاريخي: "تزوج القائد سلوقس من امرأة فارسية"، فيما تمسّ الكتابة الروائية ما هو أعمق من ذلك عندما يخبرك الروائي "أن رجلاً عظيم الشأن، بهي الطلعة وصلب الطباع، وقع تحت سحر أجمل بنات فارس..".
(ج): ما الذي يجب أن تحققه الرواية بحيث يمكن القول أنها رواية إبداعية وتشكل إضافة في جنسها الكتابي؟
(غ. ف.): أعتقد أنه حتى نقول عن رواية ما إنها عمل إبداعي، علينا أن نرى مدى حيازتها على اهتمام القارئ وما تمنحه من متعة ومعلومة. أظن أن الرواية اليوم لم تعد مجرد جنس أدبي يعتمد السرد والربط والبناء، إنها تتحول ليسمها ثراء معرفي يربط كل ما سبق دون أن يغفل عامل اللغة واتساع المخيلة. ربما تمسي الموسوعية في الكتابة سمة الروايات التي تشكل عالم النشر مستقبلاً.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(غ. ف.): مشروعي القادم في بداياته، وهو رواية أشبه بسيرة ذاتية.
مقتطف من الكتاب
(١)
شاطئ راميتا 299 ق.م:
ما الذي يمكن أن يصدرَ عن جوادٍ حُبس ثلاثة أشهرٍ في خنقة الزرائب وعتمة زكائب السفن؟ تجمح الأحصنة السود، تهيم حال حصرها مثل أعاصير غاضبة، لا سيما بعد أن تنسى أجسادُها لجمَ السياط وبرودةَ الأرسان اللاذعة، إلا أنّ الفرسَ هابوبو بدت أكثر وداعة وكياسة، فما إن فُتح باب الحظيرة منتصف ذلك النهار، حتى عذرها الجميع، إذ كان خروجها الأولَ بعد شهورٍ قضتها المسكينة خلف السراديب وداخل بطون السفن، ومؤخراً بين جدران الإصطبلات الجديدة حيث قرر سيدها العجوز بارسينو، تاجر العطور الجابالي، أن يقضي آخر أيام حياته.
طلعت الشمس عالياً، ارتفع صوتُ الأمواج بحنوٍ شبيهٍ بأغاني صبيان المراعي، عندما اندفعت أماليا على صهوة جوادها، وقد منعتها عنه كثرةُ الأسفار بصحبة والدها. كانت سعيدة أيما سعادة بانطلاقها وعودتها لما كانت عليه. وبتحررها من ثقل ملابس النساء والأغطية المزركشة بالنباتات، ومن أساور العاج وقلائد الياقوت التي أهداها والدها عبر رحلاته الرابحة.
كان العجوز التاجر يافعاً حين غادر قريته الصغيرة "جابالا". غادرها مع ذويه، وَاستقر في جزيرة كريت، تزوج هناك والدتها التي رحلت مبكراً. وقد دفعه الفقدُ للوقوع فريسةً للترحال والتنقل. مرت السنوات وهو يصغي لتلك الرغبة المشتعلة بالعودة إلى أرض الأجداد. عزم العقد على الرحلة الأخيرة؛ باع ما يملكه من عطور وأقمشة وحليّ، جائلاً بين المدن والبحار قبل الوصول لمحطته الأخيرة على شواطئ راميتا. فقد أشيع بعد الحرب بعودة مينائها للعمل على السواحل الكنعانية.
في تلك اللحظات الصيفية المنعشة، آثرت أماليا ألا تفكر بالأيام القادمة وتركت لنفسها الانتشاء بالنسيم، مستمتعةً بلذّة العَدْو على ظهر فرسها. لقد عادت أماليا، الفارسة، ترتدي رداء الفرسان، تهزأ بنظرات النسوة اللاتي جَرَيْنَ بألسنتهنّ على جسدها. لم تعتد ستره، ما خلا سروالاً جلدياً غامقاً حتى الركبتين، مع حزامٍ نحاسيّ توسّط خصرها الناحل، إلا أنّها، وعملاً بنصائح أبيها، ومراعاةً لجدّة المكان وغرابته، فقد أطالتهُ هذا الصباح. رفعت قصبة حذائها حتى غطت بياض جلدها الناعم، وخرجت جامحة راضية، مثل برق هبط على السهوب والشواطئ المطلة على البحر الكبير.
مضى الوقت سريعاً، ولم تأخذ بالاً لتحذيرات بارسينو بعدم الابتعاد خارج الحدود المرسومةِ للمدينة، تلك التي ينتظر كثيرون الغدَ لوضع لبناتها الأولى. بينما انشغل الميناء العتيق، وما يحيط به من أراضٍ وقرويين وسكان ووافدين، بالقداس المقبل، كانت شواطئ راميتا تعج بالقادمين الجدد. رست السفن محملةً بأرفع العائلات اليونانية والمقدونية نسباً. ترافقهم قوافل من تجارٍ وعطارينَ وصنّاع ودباغي جلودٍ ونجارين وشعراء وفلاسفة. وحيث كانت الفرس تعدو بعيداً كان ثمة فوضى طرقت أبواب السماء وأعماق البحار. فقد وصلت وفود الزنوج والعبيد: من نساء للنخاسة والرقص والخدمة، تلحقُ بهنّ أقفاص قرود مخصصة للترفيه والتسلية، إلى جانب فيلةٍ جيء بها عبر البرّ؛ من فلول قوافلَ شاركت القائد سلوقس معاركه وحروبه.
مالت شمس الغروب على بقعٍ غزيرةٍ من العشب، وحولها تسامقت أشجار البلوط ذوات الرؤوس العريضة، والأغصان الوارفة. فكرت أماليا باحتمال أن تكون تلك النباتات قد شهدت الزحف الوئيد لجنود الإسكندر، وخاضت مع البقاع من حولها معارك عنيفة حتى وطئتها اليوم بعد أن أخذ الإنهاك منها كلّ مأخذ. كانت تلك الأشجار تتدلى بأذرعها الملتوية على بساطٍ سميك من عشب أخضر رائع الجمال، وفي بعض المواضع اختلطت بأشجار الصنوبر والسنديان متباين الأشكال، حتى بلغت من الكثافة حدّاً جعلها تحجب أشعة الشمس الغاربة. مساحاتٌ زاهية من الأخضر القاني، تشق طريقها وسط تلك الرقاع، وفي بقعةٍ غير بعيدة، بدا لها مكانٌ رحبٌ غير مستور، ظهر كما لو أنه كان مخصصاً لأداء بعض طقوس العبادة قبل زمن بعيد، بينما سكنت على تلك الربى القريبة تلالٌ من صخور خشنة، ضخمة وغير مشذبة، انتصبت مثل شواهد تقتفي دعسات الفرس الجامحة.
كانت غارقة في البهجة، فالمشاهد المتمازجة بين الساحل المعشوشب والبحر المترامي إلى جانب السهول الفسيحة، منحتها أحاسيس مقدسة تشبه ما تشعر به أثناء تقديمها النذور للآلهة، وها هي، تنطق باسم إله المراعي الخصيبة "بان" العظيم، تتذوق لذة الحرية المقدسة. مرّ الوقت سريعاً حين بدأت الرهبة تتسلل إلى دواخلها. نظرت جنوباً من حيث أتت، وكانت فرسها تلتف وتدور. لم تقدّر المسافة التي قطعتها، ولم تدرك كم من الوقت مضى عليها. نظرت عالياً نحو السماء، لاحظت أنّ الشمس بدأت بالهبوط. لم تلحظ الجميلة قدوم غروبٍ رفقةَ ظلامٍ طرح ستاره على زرقة المكان. عادت تنظر نحو الجنوب، لم تجد سوى سهول خضراء، وعلى الرغم من سيرها بمحاذاة الساحل، إلا أنّها لم تنتبه إن كانت قد غامت قليلاً بين غابة هنا أو دغلٍ هناك، فقد أخذتها المشاهدُ، وغدرَها الوقتُ، وبدت مع فرسها تدرك حقيقة ما حلّ بها. أمعنت في تقدير المسافة من عدد ساعات غيابها، فطنت إلى وقوعها فريسة الجموح والتهور، في وقتٍ سلبها ذاتَها جمالُ الأمكنة وصوتُ الغدران وتراقص الأمواج.
تسللَ ظلامٌ داكن. أوشك الأفق الأزرق أن يبتلع قرص الشمس حين بدأت تنعي طيشها ورعونتها، لم يؤرقها الضياع، ولولا حلول المساء لقفلت عائدةً غيرَ آبهةٍ، إلا أنّ الحرب بين ورثة الإسكندر كانت قد انتهت بالأمس، ومثلما قدم إلى السواحل تجارٌ وصنّاعٌ وسادة، فقد جاءها أيضاً العبيد والمرتزقة وبقايا فلول الإخمينيين. علمت من أبيها أنّ ثمة قرىً مأهولة بين التلال الشرقية، أحجمت عن المضي قدماً، سيما عندما لاحت بخاطرها صورة والدها غاضباً بين الخدم والحواشي، حانقاً بسبب تأخرها. لن يجد من يستمع لشكواه عن ابنته الطائشة، ولن يحظَى بالمعونة في وقتٍ ينهمك فيه الجميع بالتحضيرات لاحتفالات الغد. ساءها حالها، شدت أصابعها على اللجام بارتباك، وبدا أنّ هابوبو أحستْ بفداحة الوضع، فراحت تصهل وتنشج مبتعدة هنا وهناك. ربتت بيدها على صدغ الفرس في محاولة لتهدئة روعها، همست لها: "هسس... هس...". وهكذا سقط الليل من دون أن تلحظ منفذاً للنجاة، مثلما لم تلحظ التماع بؤرتي ضوءٍ تحدقان فيها مثل شاهدين متربّصين.
غشيها الخوف، وأصابها الوجل برعشةٍ خرجت من معدتها لقمة رأسها. كان رجلاً يانعاً، بل ونصف عارٍ، يستر وسطه برداء يخبر عن صيادٍ أمضى يومه بين الأمواج. وقف أمامها كواحد من تماثيل المعابد بنظراتٍ ملؤها التساؤل، وجسدٍ يبلغ ثلاثة أضعاف جسدها. تسمّرت هابوبو. صمدت أمام الغريب وهمدت، الأمر الذي أثار حفيظتها في وقت كانت بأمسّ الحاجة لمن يعيد لها القوة. وضعت يدها على سيفها بحركة خاطفة، لكنّ الشاب رفع يديه عالياً، وأدار لها ظهره بحركةٍ تشي بالطمأنينة، ثم خطا أمامها نحو الشمال. لم يكن على رأسه غطاء، بل حماهُ شعرٌ كثيف بان تحت أشعة القمر الفضية ملفوحاً بلون الشمس فصار بلون الصدأ، ومالت لحيتهُ إلى اللون العنبريّ. لاحظت أماليا أنّ ما بقي على جسده كان جزءاً واحداً لرداءٍ جلدي بالٍ، ولحظة يقظتها لوحدتها في مكان ناءٍ ومعتم، خرجت عن صمتها ملهوفة بلهجته: هيه... أيّها الشاب!
استدار عائداً، ورغم تمنّعه لما منحتهُ من انطباعٍ بانتماءٍ غريب، إلا أنّ تحدَّثها بلغته أعاده إليها مجيباً بصوت أجش عميق:
- من أين قدمت الغريبة؟
أشارت بيدها نحو الجنوب...
- إذن قدمتِ مع الوافدين الجدد؟
هزت برأسها موافقة...
- مالك لا تنطقين؟
تصاعد الدم إلى رأسها، تحسّست غيظاً جرّاء بلادتهِ، لكنها تماسكت مجيبةً بسكون: أرشدني لطريق العودة نحو الميناء العتيق.
- في الليل لا يوجد طريقٌ للعودة...
- ولم لا؟
-التجوال تحت وطأة الظلام فخ كبير، والموت يخطف كلّ من يصدفه. والقتلة خارجاً أكثر عدداً من عصافيرٍ في حقلِ قمح، فالغابات تعجّ بلصوصٍ لن يوّفروا جميلة مثلك.
أدركتْ صعوبة الموقف، وغزاها القلق. تساءلت كيف تأمن رجلاً غريباً لقيته مصادفة؟ ابتلعت ريقها بصعوبة، ثم همست باستياء: أرجو منك مساعدتي فوالدي عجوز لن يحتمل غيابي.
- تستطيعين المبيت هناك حتى مطلع الشمس حيث أُرسلكِ مع أحد الرعاة إلى الميناء. أشار نحو الشرق بيد تنمّ عن صلابة صياد عتيق.
نظرت أماليا حيث تتّجه أصابعه. كان الخوف قد منعها من ملاحظة كوخ قصبٍ غير بعيدٍ يطلّ بين وهدتين بعيدتين. نظرت حولها بلا أدنى حيلة، اكتشفت أنها وضعت نفسها في مأزق جديد، وما من مهرب سوى في إبقاء يدها على سيفها، والانصياع لما يقوله الشاب الذي تفوح منه رائحة البحر والصدق والأسماك الطازجة.