فلاديمير نابوكوف
[فلاديمير نابوكوف أحد عباقرة الأدب في القرن العشرين، كتب بسوية واحدة بالروسية والفرنسية والإنكليزية. والروايات التي ألفها، ومن بينها لوليتا، ونار شاحبة، ودزينة نابوكوف تحتل موقعها بين أفضل الأعمال الإبداعية، المتقنة، والجميلة في أية لغة. ولد في سان بطرسبورغ، روسيا في 1899 وعاش حياة كوزموبوليتية في إنكلترا وألمانيا وباريس، والولايات المتحدة الأميركية حيث حصل على الجنسية في سنة 1945. توفي في سويسرا في سنة 1977].
عاصفة رعدية
في زاوية شارع من شوارع برلين الغربية الفقيرة، والمختلفة نوعاً ما، وفي ظل شجرة زيزفون في أوج إزهارها باغتني عطرٌ وحشيّ. تصاعدت كتل الضباب في سماء الليل، وحين ابتُلعَ آخر تجويف مليء بالنجوم، زحفت ريح منخفضة كشبح أعمى يغطي وجهه بكميه في الشارع المهجور. وفي ظلمة بلا بريق، فوق حانوت الحلاقة المغلق بمصاريع حديدية، بدأ الغطاء المتدلي يتأرجح كبندول.
دخلتُ إلى المنزل ووجدتُ أن الريح تنتظرني في الغرفة: خبطتْ النافذة وقامت بارتداد فوري حين أغلقتُ الباب خلفي. تحت نافذتي تبدت ساحة عميقة تلمع فيها من بين أغصان الليلك أثناء النهار القمصان المصلوبة على حبال غسيل متألقة في ضوء الشمس. ومن تلك الساحة كانت ترتفع أصوات بين فينة وأخرى: أصوات كئيبة لمتسولين، أو جامعي زجاجات فارغة، وأحياناً نواح كمان متقطع، ومرة توقفت امرأة شقراء بدينة في منتصف الساحة وغنّت أغنية جميلة ما جعل جميع الخادمات جميعاً يظهرن من النوافذ، ماطات أعناقهن العارية. ثم، حين انتهت، سادت لحظةُ هدوء غير عادية، ولم يُسمَع إلا صوت صاحبة منزلي، الأرملة القذرة، تبكي وتمخط في الممر. انتشرت كآبة خانقة في تلك الساحة، وحينها اندفعت الريح العمياء التي هبت بشكل بائس نازلة إلى أرضيتها إلى الأعلى مرة أخرى. وفجأة استعادت بصرها، واندفعت صاعدة، وفي الثقوب الكهرمانية للجدار الأسود المقابل، اندفعت الصور الظلية للأذرع والرؤوس الشعثاء، التي أمسكت النوافذ المتأرجحة وأغلقت أطرها بشدة مصدرة صوتاً كالرنين. انطفأت الأضواء.
وفي اللحظة التالية تحرّك حادور من صوت بليد، صوت رعد بعيد، وبدأ يتساقط عبر السماء المعتمة التي تخللها لونٌ بنفسجي. هدأ كل شيء مرة أخرى كما حدث حين أنهت الشحاذة أغنيتها ويداها تضغطان على صدرها الريان.
في هذا الصمت نمتُ، منهكاً من سعادة يومي، سعادة لا أستطيع وصفها كتابةً وكان حلمي مليئاً بكِ. استيقظتُ لأن الليل بدأ يتحطم إلى أشلاء، وحلق وميض وحشيٌ شاحبٌ عبر السماء كانعكاس سريع لبرامق عملاقة. وصدّع سقوط بعد آخر السماء. ثم تساقط المطر في غزارة وقوة. أسكرتني تلك الرعشات الضاربة إلى الزرقة، الحادة والمتطايرة. فمشيتُ إلى طرف النافذة المبللة وتنشقت الهواء غير الأرضي، الذي أنعش قلبي.
اندفعت عربة النبي عبر الغيوم مقتربة في ضباب متكاثف، وسطع ضوء كضوء الجنون، كالرؤى الثاقبة، بدد العالم الليلي، والمنحدرات المعدنية للسقوف، وأغصان الليلك الهاربة. إله الرعد، عملاق أبيض الشعر بلحية هائجة تدفعها الريح فوق كتفيه، يرتدي ملابس بيضاء متطايرة، ويقف متكئاً إلى الخلف في عربته النارية، ويكبح بذراعين متوترتين حصانين أسودين وضخمين لكل منها عرفٌ من لهب بنفسجيّ. لكنهما تحرّرا من سيطرة السائق وبعثرا شرارات من الزبد المفرقع، فمالت العربة، وشد النبي المهتاج العنان عبثاً. تشوه وجهه من العاصفة والجهد والزوبعة التي دفعت إلى الوراء طيات ثيابه، وعرّت ركبة جبارة، أما الحصانان فقد قذفا عرفيهما الملتهبين وزادا من عنف اندفاعهما منخفضين عبر الغيوم. ثم بحوافر مُرعدة، اندفعا بعنف عبر قمة سطح مشعة، تأرجحت العربة، فترنح إيليا، أما الحصانان اللذان جنّنهما لمس المعدن المهلك فقفزا نحو السماء مرة أخرى. طُرحَ النبيُّ جانباً. نُزعَتْ إحدى العجلات. ومن نافذتي شاهدتُ العجلة النارية الضخمة تتدحرج على السطح وتتمايل على الحافة ثم تهوي في الظلمة بينما أسرع الحصانان اللذان يجران العربة المقلوبة عبر الغيوم الأكثر علواً.
تلاشى الصخب، وانطفأ اللهب العاصف في شقوق مزرقّة.
إله الرعد، الذي سقط على السطح، نهض بتثاقل. بدأ صندله ينزلق، كسر روشناً بقدمه، نخر، وبحركة من ذراعه استند إلى مدخنة ليوازن نفسه. أدار وجهه العابس ببطء وبحثت عيناه عن شيء ما، ربما عن العجلة التي طارت عن محورها الذهبي. ثم نظر على الأعلى، بينما أصابعه تمسك لحيته المنفوشة، وهزَّ رأسه بنزق (ربما حدث هذا سابقاً) ثم، وهو يعرج قليلاً، بدأ هبوطاً حذراً. ابتعدتُ عن النافذة باهتياج كبير، وأسرعتُ كي ألبس ثيابي، ونزلت راكضاً على الدرج المنحدر مباشرة إلى الساحة. خمدت العاصفة لكن شيئاً من المطر لا يزال في الجو. وفي الشرق بدأ امتقاع شديد يغزو السماء.
إن الساحة التي بدت دامسة من الأعلى لم تحتو في الحقيقة إلا على ضباب رقيق ذائب. في رقعتها المركزية ذات المرج المظلم وقف عجوز هزيل، محدودب الظهر، في عباءة مبللة، تمتم شيئاً ما وهو ينظر حوله. حين رآني رمشت عيناه بغضب وقال: "هل هذا أنت يا إليشا؟"
انحنيت. حرك النبي لسانه مصدراً صوتاً، حاكاً لبرهة رأسه الأصلع المسفوع.
" فقدتُ عجلة، اعثرْ عليها، ألن تفعل ذلك؟"
توقف المطر واحتشدت غيوم ضخمة بلون اللهب فوق السطوح. وعامت الشجيرات، والسراج والقناة المتلألئة في الجو الضارب إلى الزرقة حولنا الذي يشجع على النوم. بحثنا فترة طويلة في زوايا عديدة. تابع العجوز النخر، رابطاً الحاشية الثقيلة لردائه، مطرطشاً في البرك بصندله ذي الأصابع المستديرة، وثمة قطرة متألقة تتعلق على رأس أنفه الضخم والناتئ العظام. وحين أزحت جانباً غصن ليلك منخفضاً، رأيت على كومة قمامة، بين الزجاج المكسور، عجلة حديدية ذات حواف ضيقة لا بد أنها لعربة طفل. استنشق العجوز نفساً معبراً عن ارتياحه فوق أذني.
بسرعة، وببعض الفظاظة دفعني جانباً، والتقط العجلة الصدئة. وبغمزة مرحة قال:" إذن، تدحرجت إلى هنا".
ثم حدّق بي، اجتمع حاجباه معاً في تقطيبة، ثم، وكأنه يتذكر شيئاً ما، قال بصوت مؤثِّر:
"اذهب بعيداً يا إليشا". أطعته، حتى أنني أغمضتُ عينيّ. وقفت هكذا لمدة دقيقة، ثم لم أعد أستطيع أن أسيطر على فضولي. كانت الساحة فارغة إلا من كلب عجوز أهلب بخطمه المائل إلى الرمادي دفع رأسه خارج وجاره ونظر كشخص بعينين عسليتين خائفتين. نظرتُ إلى ذلك. كان إيليا قد تسلّق إلى السطح والعجلة الحديدية تومض خلف ظهره. خلف المداخن السوداء حامت سحابة جعداء شفقية كجبل بلون برتقالة، وخلفها ثانية وثالثة. راقبتُ أنا والكلب الصامت، بينما النبي الذي وصل إلى السطح خطا بهدوء وبعدم استعجال على السحابة وتابع التسلق، وهو يدوس ببطء ثقيل على كتل من النار الخفيفة...
انطلق ضوء الشمس عبر عجلته التي أصبحت عندئذ ضخمة وذهبية، وبدا إيليا نفسه الآن مكتسياً باللهب، مندمجاً بسحابة الفردوس التي سار عليها نحو الأعلى إلى أن اختفى في أحد ممرات السماء المهيبة. عندئذ فحسب انفجر الكلب العاجز في نباح صباحي أجش. تجعّد السطح المتألق لبركة صنعها المطر. وحرّك النسيم الخفيف نباتات ابنة الراعي على الشرفات. استيقظت أرملتان أو ثلاث. منتعلاً خف النوم المبلل، وفي ردائي الممزق، ركضت خارجاً إلى الشارع كي ألحق بعربة الترام الأولى البطيئة، شاداً حواشي ردائي حولي، ضاحكاً وأنا أركض متخيلاً كيف بعد بضع لحظات سأصلُ إلى منزلكِ وأبدأ بإخباركِ عن الحادثة التي وقعت في الجو ليلاً، وعن النبي العجوز النزق الذي سقط في فناء منزلي.
[ترجمة أسامة إسبر، المصدر: Collected Stories].