(أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، 2022)
[ولد الشاعر والناقد الكردي المقيم في السويد لقمان محمود في مدينة عامودا السورية، عام 1966، وعمل في مجال الصحافة الثقافية كمحرر في مجلة سردم العربي، ومجلة إشراقات كردية، كما عمل كمحرر في القسم الثقافي لجريدة التآخي.
نُشرت مجموعته الشعرية الأولى "أفراح حزينة" في العام 1990 في دار دانية بدمشق. ثمّ صدرت له مجموعته الثانية "خطوات تستنشق المسافة: عندما كانت لآدم أقدام" في العام 1996 عن منشورات النسر الأبيض ببيروت. كما ترجم من الكردية أنطولوجيا الشعر الكردي. يقيم حاليا في السويد، وهو عضو اتحاد الكتّاب السويديين].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة الكتاب؟ ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
لقمان محمود (ل. م.): كنتُ قد قررت زيارة السليمانية قبل جائحة كورونا، لكني أجلّت هذه الزيارة، -فيما بعد-، بسبب وضعي الصحي. هكذا بدأ يتراكم الحنين، وهكذا بدأت الذكريات الجميلة والحزينة والقلقة والناضجة والمتعبة تظهر بشكل جلي على حياتي، وكأنّ للحنين حفيف وحشي يبلغ سريعا درك الحقيقة والوجع.
أما بالنسبة لمنابع وروافد هذا الكتاب، يمكنني القول إنّ منابع وروافد هذا الكتاب هو الشاعر شيركو بيكس، فنادراً ما نُصادف من يُدافع عن شاعر، أو من يُدافع عن الشعر عموماً.
استطراداً، وفي أفق ما تقدّم، أقول: إن الغوص في ذكرياتي مع هذا الشاعر سواء في العمل في تحرير مجلة "سردم العربي"، أو في الرحلات التي قمنا بها سوية في ربوع كردستان جعلني أحب شعره الذي يثير في النفس خشوعاً وطمأنينةً وينقل الإنسان إلى عوالم ملأى بالصفاء الروحي والمحبّة.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسة التي يتضمنها الكتاب؟
(ل. م.): ربما هذه الذكريات محاولة لاعادة قيمة شعر هذا الشاعر في حياتنا.. أي إعادة شيركو بيكس
من النسيان إلى الذاكرة.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(ل. م.): يتأرجح جنس هذا الكتاب بين الذكريات والمذكرات.. لكنه يطمح أن يكون بمثابة حوار مثمر وفعّال بين الشاعر والمكان.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ل. م.): الكتابة بشكل عام صعبة، لكن تكمن صعوبة هذا الكتاب في أن تحبس نفسك في ماضٍ أبديّ،وأن يتجه هذا الماضي إلى خلق حاضر يساعد في الكشف عن ملامح أخرى تختلف أو تتقاطع مع سكون الماضي.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ل. م.): "يوميات السليمانية" هو كتابي الثالث والعشرون.. أحب هذا الكتاب كما أحب بقية أعمالي.
(ج): هل هناك مواقف أو نصوص أو مراجع كان لها تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ل. م.): لا شك في أن القراءة و الاطلاع الواسع هو طريقنا للكتابة الجيدة. ففي زمن الانفجار الثقافي تكون القراءة شبه يومية حتى عندما يكون هناك كتاب جديد يُكتب.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب ومن القراء الذين تأمل أن يصل إليهم؟
(ل. م.): لم يعد يهمني الجمهور، لقد صار الجمهور حقيقةً افتراضيِّةً بالنسبة لي. لذلك بالكتابة أصنع السعادة لنفسي بالدرجة الأولى.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ل. م.): لديّ مجموعة شعرية ستصدر قريباً، عن دار آبيك في السويد. وهي بعنوان "الصمت الذي لا يتوقف عن الكلام".
مقتطفات من كتاب يوميات السليمانية
جذبت مدينة السليمانية الأنظار حينما صارت عاصمة لأول حكومة كردية في العشرينيات من القرن الماضي. فالحديث عن مدينة السليمانية شيق وخاصة إذا كان هذا الحديث محاولة لتفسير سحر هذه المدينة التي تحرسها من كل الجهات جبال كويزة وأزمر وقرداغ وبيره مكرون.
في هذه المدينة ولد شيركو بيكس، وما أود قوله هو إن القصيدة الكردية شهدت طفرة جمالية على يده، إذ انطلقت من عمقها الكردي إلى الفضاء الإنساني بكل مناحيه.
سأترك الحديث عن "يوميات السليمانية"، لأقول إن رفقة شيركو بيكس كانت فرصة ثمينة لمعرفة إنسان نادر وشاعر مرهف، ومبدع شديد الوفاء والتواضع.
هنا، فقط ذكريات مبعثرة، كأنها مرايا وأطياف ملوَّنة، عن شاعر أفخر أني كنت واحداً من أصدقائه.
**
ألا يزال بإمكاننا الكتابة عن شيركو بيكس (1940 - 2013)؟ ماذا يمكن أن نضيف إلى كل ما كُتب عن هذا الشاعر الذي رثاه الكرد بلهجاته المتعدّدة عند وفاته؟
في الرابع من أغسطس منذ سبعة أعوام تحديداً توفي الشاعر الكردي الدائم الحضور والتجديد، عن ثلاثة وسبعون عاماً، وهو الذي حين سألته عن رأيه في ترجمة قصائده للغات أخرى أجاب: "أشعر بسعادة كبيرة، لأن قصائدي قد أصبحت وسيط غير مكلّف لإيصال معاناة الكرد للآخرين". وهو بلا شكّ أحد أهم وأبرز الشعراء الكرد المعاصرين، ممن لهم حضور وإنتاج شعري كبيرين على المستويات كافة.
وعلى الرغم من اهتمام بيكس النوعي بمهارات صناعة القصيدة وتجربتها وتثقيف أدواتها وتحسين عملها وصولاً إلى تشيكلها، إلا إن اندلاع النزعة الإنسانية الشفيفة في كونها الشعري يعمل على تذويب شكلانية الصناعة الشعرية في كثافة إنسانية جامحة تمجد الإنسان والأرض والطبيعة والحق، وتدافع عن المقهورين والمهمشين دفاعاً شعرياً لائقاً يحلم بتحويل الكون الإنساني إلى كون شعري.
**
تعرّض شيركو بيكس في مسيرة حياته للنفي إلى جنوب العراق، و ذلك عقب إخفاق الثورة الكردية في عام 1975.. إذ نلاحظ أن النفي لم يزعزع من عزيمته، بل زاده اصراراً وابداعاً، حيث أصدر في تلك الفترة - فترة النفي - مجموعة شعرية جديدة في عام 1978، وكانت بعنوان (الشفق).
بيكس بهذا المعنى جزء من معركة المقاومة بالشعر، فبعد مرور أربعة أعوام على منفاه عاد بيكس إلى مدينته - مدينة السليمانية عام 1979، ليسجل بمجموعته الشعرية الجديدة "ملحمة العقاب الأحمر" عام 1984، منعطفاً جديداً في مسيرته الشعرية.
**
الخامسة والعشرين من عمره مع متظاهرين آخرين وزج بهم في السجن.
فهذا الشاعر (والد الشاعر شيركو بيكس) نظم بين جدران تلك الغرف رائعته التي تقول:
يا وطني أنا متيم بهواك
وخلال الحبس وتكبيلي بالأغلال
تذكرت محياك
ولكني لم أغفل ذكراك
ولا تتصور بأن السجن
والإذلال يجعلاني أنساك.
اشتهرت قصائد فائق بيكس بالثورية وبحب الأرض والشعب، حيث نظم عدة أناشيد رائعة حفظها التلاميذ ورددوها جيلاً بعد جيل.
توفي هذا الشاعر العظيم في الثامن من كانون الأول عام 1948 في مدينة حلبجة التي كان معلماً في إحدى مدارسها تاركاً محفظة خاوية وزوجة وأطفال دون معيل، ولكن ضمن تركته هذه كان هناك أجمل تذكار قدمه لشعبه هو ابنه الشاعر المبدع شيركو بيكس.
**
الطفولة عند الكثيرين مبعث نشوة أو ذكريات حلوة ملوَّنة ذات أجنحة ملائكية، ولكن طفولة شيركو بيكس كانت دوّامة من الحرمان والتشرد والضياع. ففي البدء مات والده وهو صغير، وبعد سنوات تزوجت أمه. كانت تلك الزيجة أول مفاجأة هزت مشاعر الطفولة، وحوّلته إلى إنسان منطوٍ وحساس وضائع بين بيوت الأقارب.
مع حب الوالد الذي لا رجعة له، وحنان الأم المفقود، نما نوع من العدوانية لدى بيكس تجاه والدته بعد زواجها للمرة الثانية. إذ لم يكن يرى تلك الزيجة طبيعية، واعتبرها حينها نوعاً من الجريمة!
وخلافاً لكل التوقعات، يكتب هذا الشاعر العظيم في عام 2012، قصيدته الطويلة "النحت من اللون إلى الجذر" ويهديها للنساء في يوم المرأة العالمي، وفيها نقرأ:
منذ الآن..
أنا لستُ رجلاً
بل أصبحتُ امرأة.
سأضع اسم أمي
مكان اسم أبي.
هكذا...
أنا الآن لست شيركو فائق بيكس
بل أنا شيركو شفيقة صبيحة.
**
نستعيد هنا حلم إبراهيم باشا بابان ببلوغ حريته عبر بلوغ عالم المُثل، وذلك ببناء مدينة السليمانية في الموقع الذي كان يسمى ب (ملكندي). لقد كانت استجابة باشا بابان لحلمه المتكرر الذي أرشده إلى نقل إمارته كي تصبح عاصمة للإمارة البابانية.
إذ كان من الطبيعي بالنسبة إلى ابراهيم باشا بابان أن ينجذب إلى هذا الحلم. ففي عام 1784 بنيت مدينة السليمانية لتصبح بحكم موقعها محط أنظار العلماء والشعراء، حتى صارت هذه المدينة الوليدة مركزاً ثقافياً هاماً يزورها طلاب العلم والثقافة من أجزاء كردستان الأخرى.
فمرة جذبت هذه المدينة - مدينة السليمانية - الأنظار حينما صارت عاصمة لأول حكومة كردية تشكلت في العشرينيات من القرن الماضي وكان قد توج الشيخ محمود الحفيد ملكاً عليها.
**
في عام 1991، عاد بيكس إلى كردستان العراق من المهجر السويدي (بعد الإنتفاضة الشعبية)، ورشّح نفسه على "قائمة الخضر" كشاعر مستقل، فأصبح في 19 أغسطس/آب 1992، عضواً في أول برلمان كردي، وعن طريق البرلمان أصبح أول وزير للثقافة في أول حكومة تشكلت في اقليم كردستان، وبقي في هذا المنصب سنة وبضعة أشهر ومن ثم قدم استقالته من منصبه بسبب ما وصفها "الخروقات الديمقراطية"، فنشر استقالته ورجع مرة أخرى إلى السويد.
وفي عام 1998، أسس مع نخبة من الأدباء الكرد مؤسسة ثقافية في مدينة السليمانية، وهي "مؤسسة سردم للطباعة والنشر"، إذ أصبح رئيساً لها منذ تأسيسها ولغاية رحيله. ولاشك أن "مؤسسة سردم" من خلال ما أصدرته من كتب ودوريات، جعلتها في طليعة المؤسسات الثقافية في كردستان من جهة خدمة المثقفين، ومن جهة ما تصدره من دوريات ومنشورات، فهي تطبع حوالي مئة كتاب كل عام وتصدر عنها ستة دوريات، منها مجلات شهرية وفصلية متخصصة، وعلى سبيل المثال: (سردم الأطفال)، و(سردم الكردي) و(سردم العلمي) و(سردم العربي).
**
في الرابع من أغسطس/آب 2013، توقف قلب الشاعر في إحدى مستشفيات العاصمة السويدية ستوكهولم. وتلبية لوصيته دفن في حديقة "آزادي" الواقعة في قلب مدينة السليمانية.
يقول شيركو بيكس:
سوف أبقى في النهارات
المشمسة والصافية
شاخصاً حتى زمن بعيد
تمثالاً على شارع المستقبل
أتأبط حقيبتي
وأوجه بسمتي إلى الجبل.
**
قبل رحيله بفترة قصيرة أجريت معه حوارا طويلا، نشر في مجلة "سردم العربي"، ومجلة "إشراقات كردية". هنا مقتطف من الحوار:
لنكن دائماً أصدقاءً للمحبة الشعرية، و لنكن دائماً بجانب الشعوب المضطهدة، و أن نكتب بدمائنا و أرواحنا. فالإبداع لا يأتي من فراغ، و الأشياء الجميلة قليلة، و أنا أعتبر نفسي أحد الشعراء في هذا العالم، و أريد أن أتواصل بحبي مع الآخرين خارج المألوف، و بنفس الوقت أعتبر نفسي مسؤولاً عن ما يجري في هذا العالم.