ريجين ساهاكيان
في "بينالي برلين الثاني عشر"، تم تكبير حجم صور ضحايا التعذيب والاعتداءات الجنسية العراقيين، ونسّقت داخل متاهة تعد فخاً فجّاً. تعيد جدران هذه المتاهة إنتاج الصور التي التقطها الجنود الأميركيون في سجن أبو غريب وسربت في 2004، بعد مرور عام على الغزو الأمريكي للعراق. ويقال إن هذه الدورة من البينالي تتمحور حول الالتزام بإنهاء الاستعمار، و "الإصلاح. . . على شكل فاعلية ذاتية" و"نقطة انطلاق.. لنقاش نقدي من أجل أن نجد معاً طرقاً للاهتمام بالآن". إلا أن البينالي اتخذ القرار بتسليع صور الأجساد العراقية المعتقلة والمعنفة بصورة غير قانونية تحت الاحتلال، وعرضها من دون موافقة الضحايا ومن دون استشارة للفنانين العراقيين المشاركين، والذين وضعت أعمالهم إلى جوارها من دون معرفتهم. لمن هي الفاعلية في هذا النوع من "الإصلاح"؟ قطعاً ليست للضحايا العراقيين الذين في الصور، ولا للفنانين العراقيين المشاركين في البينالي، ولا للزوار العراقيين الذي تعرضوا مجدداً للصدمة النفسية بسبب هذه الاستعادة القاسية لواحدة من أسوأ جرائم الحرب الأميركية سمعة.
في متحف "باهنهوف" في هامبورغ، وهو واحد من مواقع عرض أعمال البينالي، دخلت إلى غرفة مع سجاد عباس وليث كريم، وهما اثنان من الفنانين العراقيين الثلاثة الذين يعرضون أعمالهم في هذه الدورة. كنت قد قدّمت أعمال عباس وكريم للبينالي، وأعرت لوحة للفنان رائد مطر للعرض، وساهمت في فهرسة نصوص عن أعمالهم. تعرفت على كل من هؤلاء الفنانين لأول مرة في بغداد، حيث عاشوا وأنجزوا الأعمال المختارة بين 2011 و2014، وهي الفترة التي تلت مباشرة انسحاب قوات الاحتلال الأمريكي. في مداخلاتهم العامة، وفيديوهاتهم ولوحاتهم، يتناول الفنانون بشكل لا لبس فيه إنهاكهم كبشر، واستحالة نقل ذلك الإحساس بشكل تام.
أشاهد أعمال عباس وكريم ومطر الحادّة والكاسحة، وستارة. النصف الثاني من أعمال عباس يقع عند الطرف الآخر؛ يجب أن أعبر الستارة لرؤية بقية تجهيزاته. وفيما أنا أقوم بذلك ذلك، يُعرض أمامي تجهيز لجان جاك لوبيل بعنوان "سم قابل للذوبان". وهو يتكون من صور مطبوعة بالحجم الواقعي: الجلد والأطراف المتفحمة، والوجوه المغطاة لرجال عراقيين تم الاعتداء عليهم وقتلهم في أبو غريب.
أرى الجندية ذات البشرة البيضاء تبتسم ابتسامة عريضة فوق كومة الأجساد المتراكمة جنباً إلى جنب، وعند مستوى نظري شخص بلا وجه مرغم على إمساك عضوه التناسلي. أرى جثة، الموتى ما زالوا ينتظرون. ما زالوا ينتظرون لكي يعطوا موافقتهم للمرة الأولى، للمرة الألف، وهذه المرة ليست استثناء. وأنا مرغمة على رؤيتهم مرة ثانية لمجرد أنني أود مشاهدة النصف الثاني من عمل عباس المقسوم.
عند مخرج هذه المتاهة الوحشية يوجد عمل "أكدر أشوفك" (2013) لعباس، وهو عبارة عن مخطط لعينه مطبوع على لافتة ضخمة كانت بالأصل معلقة على بناء يواجه "المنطقة الخضراء" في بغداد، وقد زخرفت بكلمات العنوان. وهي تصدر حكماً قوياً بحق جيش الولايات المتحدة، وسفارتها التي كلفتها مليار دولار، ومتعهديها، وحكوماتها غير الشرعية، وسماسرة الشركات الكبرى الذين، وحتى اليوم، يحتلون وينهبون وينضبون كل قطعة من اللحم والتربة بإمكانهم عصرها لاستخراج أي شيء منها؛ دم، مال، شبع. عين عباس والمخاطر الجسدية والسياسية التي تكبدها لنصبها، تجسد إصراراً شرساً على المحاسبة واسترداد المبادرة. إنه نقيض المشاهد المقيتة المتلصصة التي خلف الستارة. أرى العين وألتفت إلى عباس. كل ما أستطيع قوله هو الإعراب عن أسفي. أنه كان يتعين عليّ أن أخمّن أنه لا يمكن الوثوق بعالم فني يجد الثقافة في لحمنا.
إلى اليمين من لوحة مطر، وتحت الجزء الأول من عمل عباس، تحذير تحريضي، يستهدف الذين يدخلون إلى "سم قابل للذوبان". والذين ثبتوا التحذير اختاروا وضع أعمال فنانين شبان يعيشون في بغداد من حول تجهيز لوبيل وفي ما يتجاوزه. دُعي هؤلاء الفنانون إلى معرض لا يستطيعون رؤية أعمالهم فيه، أو أعمال زملائهم، من دون أن يضطروا للمرور عبر مساحة اعترف المنظمون أنها من الممكن "أن تثير ردود فعل سلبية أو تعيد التسبب بالصدمة النفسية".
ليس في العمل ما يشير إلى معلومات مفقودة، إلى أي شيء لم نره من قبل. لم تسهم الصور التي سادت الإعلام العالمي قبل عقدين من الزمن سوى في الكشف عن قدرة الولايات المتحدة على دفع العالم على كره الجسد العراقي وامتهانه. صور اللجم، والصعق بالكهرباء والاغتصاب الجماعي تعزز التمثيل المزمن للـ"عربي"، العراقي، كحيوان، يمكن التخلص منه وتتعين السيطرة عليه، ومحاربته في آن. لم ينجح هذا العمل إلا في تعزيز هذه التكتيكات وتضخيمها.
شاركنا أنا وكريم في نقاش كان جزءاً من البرنامج العام للبينالي. وتناول حوارنا الأخير عمل الفيديو الذي أنجزه- مع أصدقاء وآخرين من سكان بغداد الذين يتشاركون تجاربهم في العيش في ظل شبح العنف الدائم- في مقابل عمل أبو غريب، الذي يعيد إنتاج القوة غير المتكافئة الكامنة في الصور الخالية من الاحترام أو من أي محاسبة. ويجيب كريم مخبراً الجمهور بهدوء أن أفراداً من أسرته اعتقلوا في أبو غريب. ويشير إلى ما هو غائب عن التحذير التحريضي بلونه الأصفر اللامع عند المدخل: "هم لم يمنحوا الإذن. لا أستطيع أن أقبل بهذا". بعد دقائق، يصل المنظم الرئيسي للمعارض في البينالي، قادر عطية إلى المسرح، مقدماً تعليلاً لتضمين العمل [في المعرض]: يجب أن نفهم أنه لا بد من رؤية الصور لكي يحدث تغيير سياسي.
ولكننا كريم، وأنا، والعالم بأسره، كنا قد رأينا هذه الصور من قبل. في ذروة انتشارها في السنوات الأولى لاحتلال التحالف للعراق، لم تكن هناك أي تبعات، سياسية أو غيرها، خارج العراق. والصور ما زالت متوفرة عبر الإنترنت وضمن سجل الجمهور للصور "الأيقونية". في برلين، هي فقط أكبر حجماً، وحتى أنها خارج سياقها أكثر. وهي مفسرة في التحذير على أنها "تحث على الانخراط في حركات معادية للعنصرية ومعادية للحرب". إنما، لا توجد أي بنية لنشاط سياسي في هذا الاستعراض للصور، ولا يوجد أي فهم للألم المستمر الذي لا يمكن قياسه الذي تتسبب به. لم تنشر أبداً صور النساء العراقيات اللواتي اغتصبن وعذبن في السجن نفسه. ربما كانت تلك الصور ستبدو فاضحة أكثر مما يجب، محولة الجمهور ضد الاحتلال بطريقة كانت ستحدث فرقاً. لو كانت صور هؤلاء العراقيات متاحة، هل كان سيسمح باستخدامها كـ "حافز"؟ هل كانت أيضاً ستستحق ثمن استخدام كارثة العراق وضحاياه كفن سياسي؟
لكل من الفنانين- سجّاد عباس، رائد مطر وليث كريم- أسلوب فني يستند إلى تجاربهم الواقعية جداً في مقاومة هذا العنف. ومع ذلك، استخدمت أعمالهم من قبل سلطة تنظيم في المعرض فشلت في اعتبارهم شركاء فيه، أو اعتبارهم مواطنين عراقيين لن يوافقوا أبداً على مشاركة المساحة مع ما حدث في أبو غريب. لم يتم احترام أصحاب هذه الصور، ولم يتم احترام الفنانين العراقيين الذين استخدمت أعمالهم ضمن مشهد التعذيب والذين خان البينالي ثقتهم. إن الربط بين فناني العرض العراقيين وبين حاجة هذا الحدث ليتضمن عراقيين يتعرضون لتعذيب جسدي وجنسي، حوّل أعمالهم الفنية إلى واجهة دنيئة لأجساد مواطنيهم المنتهكة.
وتقوض النتيجة مغزى أعمالهم الأصلية كما جسامة الفظائع، ما يوفر مجرد دليل إضافي على أن الكفاح مستمر لإعطاء قيمة للحياة العراقية في السياسة وفي الثقافة. ونتيجة ذلك كله هو حزن مألوف. هل يتعين على الفنانين العراقيين أن يسألوا، حين تتم دعوتهم إلى معارض، إذا كان المنطق التنظيمي يطالب بوجود ضحايا تعذيب بجوار أعمالهم؟
قبل أن ندخل إلى المتحف، كنا سعداء بمشاركة أعمالنا في برلين، حيث يعيش الآن العديد من عراقيي الشتات وحيث سمعنا كثيراً عن دعم العاصمة الألمانية للفنانين. ولكننا، وكل عراقي قابلناه وشاهد العمل المعني، شعرنا بكدر عميق وشعرنا بالخيانة باشتراك هذا العمل. بسبب هذا الإصرار على عدم مراعاة، وتحقير التجربة العراقية المعاشة. تجربة شكلها تحالف دول شن عقوداً من العنف المشرعن دولياً ضد المدنيين، أدى إلى أكثر من مليون قتيل عراقي ومليون ممّن فروا من البلاد. ومناقشة هذه الصور وإرث الحرب التي شنت على العراق تتجاوز هذا الحدث الواحد بأشواط، ولكن بعد الكثير من التفكير والتأمل، فإن مشاركتنا تتطلب هذا الرد على سؤال البينالي عن كيفية إنجاز لـ "الاهتمام بالآن".
نعرف على الأقل منسقة معارض واحدة، أنا تيكسيرا بينتو، استقالت من فريق بينالي برلين بسبب اعتراضها على عرض أبو غريب. نجح سجّاد عباس في إخراج أعماله من ذلك المتحف بعد شهر من المفاوضات. وهو يعرض للعلن في مبنى آخر في الجهة الثانية من المدنية. وطلب رائد مطر بدوره نقل أعماله الفنية أيضاً. ولم يكن أي من ذلك كافياً لقيادة البينالي لإعادة النظر في ضمهم للعمل أو الاعتراف بحق الفنانين العراقيين بأن يصار إلى استشارتهم وأن يُسمع رأيهم. ولكن أصوات العراقيين موجودة، وكما أفاد الفنان ليث كريم، هو واحد منها. ونحن كذلك. ونحن نقف بحزم ضد إعادة إنتاج جرائم الغزاة.
الموقعون:
ريجين ساهاكيان
سجاد عباس
جنان العاني
ريم القاضي
باسم الشاكر
سنان أنطون
عمر ديوچي
علي عيال
عبدالرحمن حميد
ليث كريم
سارة مناف
رائد مطر
علي ياس
[نشرت في «آرتفورم». ترجمتها هنادي سلمان].