ما لا يمكن إصلاحه: عن التعذيب في بينالي برلين

ما لا يمكن إصلاحه: عن التعذيب في بينالي برلين

ما لا يمكن إصلاحه: عن التعذيب في بينالي برلين

By : Rijin Sahakian

ريجين ساهاكيان

في "بينالي برلين الثاني عشر"، تم تكبير حجم صور ضحايا التعذيب والاعتداءات الجنسية العراقيين، ونسّقت داخل متاهة تعد فخاً فجّاً. تعيد جدران هذه المتاهة إنتاج الصور التي التقطها الجنود الأميركيون في سجن أبو غريب وسربت في 2004، بعد مرور عام على الغزو الأمريكي للعراق. ويقال إن هذه الدورة من البينالي تتمحور حول الالتزام بإنهاء الاستعمار، و "الإصلاح. . . على شكل فاعلية ذاتية" و"نقطة انطلاق.. لنقاش نقدي من أجل أن نجد معاً طرقاً للاهتمام بالآن". إلا أن البينالي اتخذ القرار بتسليع صور الأجساد العراقية المعتقلة والمعنفة بصورة غير قانونية تحت الاحتلال، وعرضها من دون موافقة الضحايا ومن دون استشارة للفنانين العراقيين المشاركين، والذين وضعت أعمالهم إلى جوارها من دون معرفتهم. لمن هي الفاعلية في هذا النوع من "الإصلاح"؟ قطعاً ليست للضحايا العراقيين الذين في الصور، ولا للفنانين العراقيين المشاركين في البينالي، ولا للزوار العراقيين الذي تعرضوا مجدداً للصدمة النفسية بسبب هذه الاستعادة القاسية لواحدة من أسوأ جرائم الحرب الأميركية سمعة. 

في متحف "باهنهوف" في هامبورغ، وهو واحد من مواقع عرض أعمال البينالي، دخلت إلى غرفة مع سجاد عباس وليث كريم، وهما اثنان من الفنانين العراقيين الثلاثة الذين يعرضون أعمالهم في هذه الدورة. كنت قد قدّمت أعمال عباس وكريم للبينالي، وأعرت لوحة للفنان رائد مطر للعرض، وساهمت في فهرسة نصوص عن أعمالهم. تعرفت على كل من هؤلاء الفنانين لأول مرة في بغداد، حيث عاشوا وأنجزوا الأعمال المختارة بين 2011 و2014، وهي الفترة التي تلت مباشرة انسحاب قوات الاحتلال الأمريكي. في مداخلاتهم العامة، وفيديوهاتهم ولوحاتهم، يتناول الفنانون بشكل لا لبس فيه إنهاكهم كبشر، واستحالة نقل ذلك الإحساس بشكل تام.

أشاهد أعمال عباس وكريم ومطر الحادّة والكاسحة، وستارة. النصف الثاني من أعمال عباس يقع عند الطرف الآخر؛ يجب أن أعبر الستارة لرؤية بقية تجهيزاته. وفيما أنا أقوم بذلك ذلك، يُعرض أمامي تجهيز لجان جاك لوبيل بعنوان "سم قابل للذوبان". وهو يتكون من صور مطبوعة بالحجم الواقعي: الجلد والأطراف المتفحمة، والوجوه المغطاة لرجال عراقيين تم الاعتداء عليهم وقتلهم في أبو غريب.

صور اللجم، والصعق بالكهرباء والاغتصاب الجماعي تعزز التمثيل المزمن للـ"عربي"، العراقي، كحيوان، يمكن التخلص منه وتتعين السيطرة عليه، ومحاربته في آن. لم ينجح هذا العمل إلا في تعزيز هذه التكتيكات وتضخيمها.

أرى الجندية ذات البشرة البيضاء تبتسم ابتسامة عريضة فوق كومة الأجساد المتراكمة جنباً إلى جنب، وعند مستوى نظري شخص بلا وجه مرغم على إمساك عضوه التناسلي. أرى جثة، الموتى ما زالوا ينتظرون. ما زالوا ينتظرون لكي يعطوا موافقتهم للمرة الأولى، للمرة الألف، وهذه المرة ليست استثناء. وأنا مرغمة على رؤيتهم مرة ثانية لمجرد أنني أود مشاهدة النصف الثاني من عمل عباس المقسوم. 

عند مخرج هذه المتاهة الوحشية يوجد عمل "أكدر أشوفك" (2013) لعباس، وهو عبارة عن مخطط لعينه مطبوع على لافتة ضخمة كانت بالأصل معلقة على بناء يواجه "المنطقة الخضراء" في بغداد، وقد زخرفت بكلمات العنوان. وهي تصدر حكماً قوياً بحق جيش الولايات المتحدة، وسفارتها التي كلفتها مليار دولار، ومتعهديها، وحكوماتها غير الشرعية، وسماسرة الشركات الكبرى الذين، وحتى اليوم، يحتلون وينهبون وينضبون كل قطعة من اللحم والتربة بإمكانهم عصرها لاستخراج أي شيء منها؛ دم، مال، شبع. عين عباس والمخاطر الجسدية والسياسية التي تكبدها لنصبها، تجسد إصراراً شرساً على المحاسبة واسترداد المبادرة. إنه نقيض المشاهد المقيتة المتلصصة التي خلف الستارة. أرى العين وألتفت إلى عباس. كل ما أستطيع قوله هو الإعراب عن أسفي. أنه كان يتعين عليّ أن أخمّن أنه لا يمكن الوثوق بعالم فني يجد الثقافة في لحمنا.

إلى اليمين من لوحة مطر، وتحت الجزء الأول من عمل عباس، تحذير تحريضي، يستهدف الذين يدخلون إلى "سم قابل للذوبان". والذين ثبتوا التحذير اختاروا وضع أعمال فنانين شبان يعيشون في بغداد من حول تجهيز لوبيل وفي ما يتجاوزه. دُعي هؤلاء الفنانون إلى معرض لا يستطيعون رؤية أعمالهم فيه، أو أعمال زملائهم، من دون أن يضطروا للمرور عبر مساحة اعترف المنظمون أنها من الممكن "أن تثير ردود فعل سلبية أو تعيد التسبب بالصدمة النفسية".

ليس في العمل ما يشير إلى معلومات مفقودة، إلى أي شيء لم نره من قبل. لم تسهم الصور التي سادت الإعلام العالمي قبل عقدين من الزمن سوى في الكشف عن قدرة الولايات المتحدة على دفع العالم على كره الجسد العراقي وامتهانه. صور اللجم، والصعق بالكهرباء والاغتصاب الجماعي تعزز التمثيل المزمن للـ"عربي"، العراقي، كحيوان، يمكن التخلص منه وتتعين السيطرة عليه، ومحاربته في آن. لم ينجح هذا العمل إلا في تعزيز هذه التكتيكات وتضخيمها.

شاركنا أنا وكريم في نقاش كان جزءاً من البرنامج العام للبينالي. وتناول حوارنا الأخير عمل الفيديو الذي أنجزه- مع أصدقاء وآخرين من سكان بغداد الذين يتشاركون تجاربهم في العيش في ظل شبح العنف الدائم- في مقابل عمل أبو غريب، الذي يعيد إنتاج القوة غير المتكافئة الكامنة في الصور الخالية من الاحترام أو من أي محاسبة. ويجيب كريم مخبراً الجمهور بهدوء أن أفراداً من أسرته اعتقلوا في أبو غريب. ويشير إلى ما هو غائب عن التحذير التحريضي بلونه الأصفر اللامع عند المدخل: "هم لم يمنحوا الإذن. لا أستطيع أن أقبل بهذا". بعد دقائق، يصل المنظم الرئيسي للمعارض في البينالي، قادر عطية إلى المسرح، مقدماً تعليلاً لتضمين العمل [في المعرض]: يجب أن نفهم أنه لا بد من رؤية الصور لكي يحدث تغيير سياسي.

ولكننا كريم، وأنا، والعالم بأسره، كنا قد رأينا هذه الصور من قبل. في ذروة انتشارها في السنوات الأولى لاحتلال التحالف للعراق، لم تكن هناك أي تبعات، سياسية أو غيرها، خارج العراق. والصور ما زالت متوفرة عبر الإنترنت وضمن سجل الجمهور للصور "الأيقونية". في برلين، هي فقط أكبر حجماً، وحتى أنها خارج سياقها أكثر. وهي مفسرة في التحذير على أنها "تحث على الانخراط في حركات معادية للعنصرية ومعادية للحرب". إنما، لا توجد أي بنية لنشاط سياسي في هذا الاستعراض للصور، ولا يوجد أي فهم للألم المستمر الذي لا يمكن قياسه الذي تتسبب به. لم تنشر أبداً صور النساء العراقيات اللواتي اغتصبن وعذبن في السجن نفسه. ربما كانت تلك الصور ستبدو فاضحة أكثر مما يجب، محولة الجمهور ضد الاحتلال بطريقة كانت ستحدث فرقاً. لو كانت صور هؤلاء العراقيات متاحة، هل كان سيسمح باستخدامها كـ "حافز"؟ هل كانت أيضاً ستستحق ثمن استخدام كارثة العراق وضحاياه كفن سياسي؟

لكل من الفنانين- سجّاد عباس، رائد مطر وليث كريم- أسلوب فني يستند إلى تجاربهم الواقعية جداً في مقاومة هذا العنف. ومع ذلك، استخدمت أعمالهم من قبل سلطة تنظيم في المعرض فشلت في اعتبارهم شركاء فيه، أو اعتبارهم مواطنين عراقيين لن يوافقوا أبداً على مشاركة المساحة مع ما حدث في أبو غريب. لم يتم احترام أصحاب هذه الصور، ولم يتم احترام الفنانين العراقيين الذين استخدمت أعمالهم ضمن مشهد التعذيب والذين خان البينالي ثقتهم. إن الربط بين فناني العرض العراقيين وبين حاجة هذا الحدث ليتضمن عراقيين يتعرضون لتعذيب جسدي وجنسي، حوّل أعمالهم الفنية إلى واجهة دنيئة لأجساد مواطنيهم المنتهكة. 

وتقوض النتيجة مغزى أعمالهم الأصلية كما جسامة الفظائع، ما يوفر مجرد دليل إضافي على أن الكفاح مستمر لإعطاء قيمة للحياة العراقية في السياسة وفي الثقافة. ونتيجة ذلك كله هو حزن مألوف. هل يتعين على الفنانين العراقيين أن يسألوا، حين تتم دعوتهم إلى معارض، إذا كان المنطق التنظيمي يطالب بوجود ضحايا تعذيب بجوار أعمالهم؟ 

قبل أن ندخل إلى المتحف، كنا سعداء بمشاركة أعمالنا في برلين، حيث يعيش الآن العديد من عراقيي الشتات وحيث سمعنا كثيراً عن دعم العاصمة الألمانية للفنانين. ولكننا، وكل عراقي قابلناه وشاهد العمل المعني، شعرنا بكدر عميق وشعرنا بالخيانة باشتراك هذا العمل. بسبب هذا الإصرار على عدم مراعاة، وتحقير التجربة العراقية المعاشة. تجربة شكلها تحالف دول شن عقوداً من العنف المشرعن دولياً ضد المدنيين، أدى إلى أكثر من مليون قتيل عراقي ومليون ممّن فروا من البلاد. ومناقشة هذه الصور وإرث الحرب التي شنت على العراق تتجاوز هذا الحدث الواحد بأشواط، ولكن بعد الكثير من التفكير والتأمل، فإن مشاركتنا تتطلب هذا الرد على سؤال البينالي عن كيفية إنجاز لـ "الاهتمام بالآن". 

نعرف على الأقل منسقة معارض واحدة، أنا تيكسيرا بينتو، استقالت من فريق بينالي برلين بسبب اعتراضها على عرض أبو غريب. نجح سجّاد عباس في إخراج أعماله من ذلك المتحف بعد شهر من المفاوضات. وهو يعرض للعلن في مبنى آخر في الجهة الثانية من المدنية. وطلب رائد مطر بدوره نقل أعماله الفنية أيضاً. ولم يكن أي من ذلك كافياً لقيادة البينالي لإعادة النظر في ضمهم للعمل أو الاعتراف بحق الفنانين العراقيين بأن يصار إلى استشارتهم وأن يُسمع رأيهم. ولكن أصوات العراقيين موجودة، وكما أفاد الفنان ليث كريم، هو واحد منها. ونحن كذلك. ونحن نقف بحزم ضد إعادة إنتاج جرائم الغزاة.

الموقعون:

ريجين ساهاكيان
سجاد عباس
جنان العاني
ريم القاضي
باسم الشاكر
سنان أنطون
عمر ديوچي
علي عيال
عبدالرحمن حميد
ليث كريم
سارة مناف
رائد مطر
علي ياس

[نشرت في «آرتفورم». ترجمتها هنادي سلمان].

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • It Is What It Is

      It Is What It Is
      A call by the Hayward gallery has been circulating regarding a second installment of the Jeremy Deller piece, It Is What It Is. The call, an excerpt of which follows, was sent out to look for partici

أفضل الأوقات الصعبة: رجولات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان

غوستافو باربوزا 

(دار نشر جامعة سيراكيوز، 2022)

جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟

غوستافو باربوزا (غ. ب.): أعتقد أن أيّ كتاب هو عبارة عن الالتحام المؤقّت والمعقّد بين دوافع متنوّعة: شخصية، وبحثيّة، مختلطة، وأحيانا متضاربة، وموتّرة، وتطارد للتعبير عنها. تعود صلتي الأوّلى بشاتيلا، مخيم اللاجئين الفلسطينيين الواقع في إحدى ضواحي بيروت، حيث عشت لمدّة عام وأجريت أبحاثي، إلى سنوات مراهقتي. كنت أرغب بأن أصبح صحافيّا، ومارست ضغوطات على أهلي للاشتراك بالمجلة الإخبارية الأولى في البرازيل. وانتظرت بفارغ الصبر العدّد الأوّل، ولمّا وصل كانت صورة الغلاف من مجازر صبرا وشاتيلا في 1982. ما زالت تلك الصورة حيّة في ذاكرتي.

لاحقا، بعد بلوغي، عملت لفترة وجيزة في تل أبيب، حيث طلبت من صديقة برازيلية من أصل فلسطيني أن تعدّ لي زيارة إلى غزّة. وهو ما فعلَته. كانت غزّة لكمة في معدتي. غزّة أمرّ لا يمكن قبوله: نحن لا نتعايش مع ذلك إلا بسبب الجهود المبذولة لإخفائه. بمعنى ما، مازلت عالقا في غزّة. وكان عليّ القيام بشيء للتمكّن من تجاوز الأمر.

خلال عملي على أطروحة الدكتوراه، كنت أعرف أنّني أريد القيام بأبحاث بين الفلسطينيين. وحين بدأت أزور شاتيلا، قبل الانتقال إلى العيش هناك، ومع تعرّفي على "الشباب"، شباب المخيم، صار واضحا بالنسبة لي أنّني أريد الكتابة عنهم. ولأنّهم رجال مجرّدين من أي قوّة اقتصادية أو سياسية-عسكرية، فقد تجاهلتهم الأدبيات النسوية والأدبيات الوطنية الفلسطينية إلى حدّ تغييبهم في معظم الأحيان. وذلك على الرغم من أنّ أصواتهم تستحق أن تُسمع، حتّى حين يغنّون. ولقد خصّصت أحد فصول كتابي أساسا لموسيقى الراب التي ينتجونها.

(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟

(غ. ب.): على مستويات متعدّدة-بحثيّة، وشخصيّة، وسياسيّة- أنا ملتزم بهؤلاء الناس، هم، محاورينا في الحقل الدراسي أو في "قائمة المراجع"، أي باحثون آخرون، طمست وجودهم وأسكتت أصواتهم ديناميكيات القوّة، أكاديميّة كانت أو غيرها. وأنا لا أدّعي أنّني في موقع يخوّلني التحدّث باسمهم، بل أقول إن أصواتهم تستحقّ أن تُسمع، وأن يتم الاعتراف بوجودهم.

قبل انتقالي إلى لندن لدراسة الدكتوراه في "جامعة لندن للاقتصاد"، درست علم الأجناس البشرية ("أنثروبولوجيا") في جامعات البرازيل الأقلّ تشدّدا أكاديميا. والانثروبولوجيا في البرازيل متأثرة جدا بالفلسفة لأن سكّاننا الأصليين فلسفيون؛ وهم، مثل اللاجئين الفلسطينيين، لا يعتبرون أن الوجود هو من المسلمات. في المملكة المتّحدة، تعرفت إلى اختصاصات يمكن تسميتها بـ "الصارمة"، وقد ترسخّ تأثيرها وسلطتها: الدراسات الماركسية، ودراسات الإحصاء، والدراسات النسوية. وصرت مقتنعا بشكل متزايد بأن الدراسات النسويّة تستحقّ أيضا أن تصنّف ضمن "الاختصاصات الصارمة".

ومن ثمّ وجدت طريقي إلى شاتيلا، حيث تزعزعت أسس مدونات تخصصاتي الثلاث - الماركسية والإحصاء والنسوية. بدأت تحقيقي بسؤال ماركسي الوجهة: ماذا يحدث للرجال العاجزين عن تأمين حاجات أسرهم المستقبليّة؟ هذا هو حال شباب شاتيلا. في فلسطين، قبل العام 1948، كان الرجل يصبح راشدا ويقوم بما يمليه عليه انتماؤه الجنساني، فيتزوج في عمر مناسب وينجب ابنا ذكرا. أمّا بالنسبة للشتات الفلسطيني في لبنان، وخلال السبعينيات من القرن العشرين، صار الانخراط في العمل الفدائي هو وسيلة بديلة تدلّ على بلوغ سن الرشد وإظهار الانتماء الجنساني. هكذا، تحوّل سؤال بحثي ليصبح: كيف يبلغ شباب اليوم سن الرشد ويثبتون انتماءهم الجنسانيّ؟

والإجابة على هذا السؤال ليست بديهية، لا سيما في ضوء معطيين. أولا، وبسبب ما أسميه "العنف المؤسساتي" الناجم عن التشريعات اللبنانيّة، ليس للاجئين الفلسطينيين حق الدخول إلى سوق العمل بحريّة، كما أنهم لا يملكون الحق القانوني بامتلاك عقارات في لبنان. وتبقى معدلات البطالة مرتفعة، ملحقة الضرر الأكبر بالشباب، وبقوة. هكذا، لم يعد المسار الاقتصادي لبلوغ سن الرشد وتأدية المهام الجنسانيّة مباشرا وواضحا كما كان قبل 1948. ثانيا، وبعد حلّ "حركة المقاومة الفلسطينيّة" ببعدها العسكري في لبنان، لم يعد المسار السياسي-العسكري يقدّم حلا بديلا للدلالة على بلوغ سن الرشد وتأدية المهام الجنسانيّة، كما كان الأمر بالنسبة للفدائيين.

وهنا، بدأت أسأل نفسي: ماذا يحصل للرجال المجردين من أي قوّة اقتصادية أو سياسية-عسكرية؟ والجواب الذي توّفره الأدبيات التقليديّة هو أن هؤلاء الرجال يعيشون "أزمة في رجولتهم" تحوّلهم إلى مشاريع إرهابيين. ولكن ذلك لا ينطبق على شباب شاتيلا. وهكذا، وعوضا عن تصنيفهم كمجردين من رجولتهم، قرّرت أن ألتفت إلى أزمة أخرى، أزمة لها طبيعة معرفية: أزمة دراسات الجندر نفسها. ماذا يحصل للجندر كمفهوم- يعرّف على أنّه التمييز بين قدرة الرجال والنساء في امتلاك القوة- فيما نحن أمام رجال مجردين من أي قوّة، أو أن قواهم محدودة؟ 

والدراسات الجندريّة، كأداة تحليليّة، تنفع في وصف سِيَر الفدائيين. هي سير مليئة القوّة، وبالرجولة بما يتماشى تحديدا مع خطاب القوّة، وهي عامّة وفيها استعراض. وتدمج سيرهم كلّ ما تمثّله السبعينيات البطوليّة: القوميّة الإقليمية، العالمثالثيّة، الاشتراكيّة. إلا أن بعض استعارات السبعينيات وخيالاتها أصبحت مستحيلة لمن جاؤوا بعدها، مثل الشباب أو مثلي. 

وبناء على ذلك، أصبحت شديد الاهتمام بحالات الإعراب عن الجندر-إن كنا نرغب بالاحتفاظ بالمصطلح- التي لا تترافق بالضرورة مع مظاهر القوة. وهكذا، لفت انتباهي انخراط الشباب (أو حبهم، إّذا جاز القول) للحمام. ولقد أطلقت على الفصل الذي يتناول تربية الحمام عنوانا استفزازيّا هو "صراع ديوك بلا ديوك". وبالفعل، يوجد، بالنسبة للشباب، ما هو أكثر بكثير من الصراعات على القوة في هذه الارتباطات مع حيوانات قادرة على التحليق، وهي حرّة. لا تتعلّق الصراعات كلّها بالديوك.

(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟

(غ. ب.): كان عملي البحثي الطويل الأوّل بيبليوغرافيا، يستكشف كتب بيار كلاستر ومقالاته، وهو عالم إثنوغرافيا كان شغف سنوات مراهقتي، وقد طمست المؤسسات الأكاديمية أعماله على نطاق واسع، منصاعة لقراءة دوركهايمية صارمة، قاسية (وغير مبرّرة برأيي) لإنتاجه. ويقوم أحد آراء كلاستر الأساسيّة على أن بعض مجتمعات السكان الأصليين في أميركا الجنوبيّة تتجيّش لمنع قيام الدولة: هي مجتمعات مناهضة للدولة.

وعلى الرغم من أنني لا أعتبر وجود تطابق بين الحالتين، إلّا أنني فوجئت بآلية حكم المخيّم، الذي أعتقد أنّه يمكن وصفه، هو أيضا، بأنّه كيان معاد للدولة لا يسمح، اليوم على الأقلّ، لأي فصيل سياسي بأن يصبح المسيطر وبأن يفرض إرادته على غيره. وبالفعل، لا يوجد مصدر واحد للسلطة في شاتيلا، معترف به وله طابع مؤسساتي.

وقد قادني ذلك إلى سؤال مثير للاهتمام: هل للجندر كمفهوم-وكونه يرتكز على فكرة القوّة- أي ارتباطات بآلة الدولة؟ ما هو نوع العلاقات الخطيرة التي يمكن أن تنشأ بين الجندر وبين الدول؟ وماذا يحصل لهذا المفهوم حين لا تكون الدولة بديهيّة أو من المسلمات، كما في شاتيلا؟

(ج): من تأمل أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغب أن يخلّفه؟

(غ. ب.): سأسعد إذا قرأ الكتاب من ينوون العمل في حقل الاثنوغرافيا، والباحثون والناشطون النسويون، وطلاب دراسات القوميّة، بما فيها القوميّة الفلسطينية. أعتبر أن "أفضل الأوقات الصعبة" هو نشيد قوّة دراسات الاثنوغرافيا، ويُظهر، بلغة متاحة للجميع، كيف يمكن تجنيدها لإرغامنا على الانفتاح على الاختلاف ولتفكيك بعض الخطابات والممارسات الراسخة، بما فيها تلك المتعلّقة بالنسوية الليبرالية. ولأن الكتاب يُظهر أن الجندر-كمفهوم تشكّل متأثرا بصراعات سياسية هامة ولكنها في الوقت ذاته محدّدة جغرافيا- لا يمكن تعميمه أو تطبيقه في كل مكان، فإنّه يتحدى بعض مدونات النسوية الليبرالية كما أعتقد أنّ بعض الباحثين والناشطين النسويين، سيجدون قراءته مستفزة بشكل مثير للاهتمام. وأخيرا، يضيف الكتاب إلى تعقيدات مفهوم الوطنية الفلسطينية أحاديّة الصوت، وهو ربما يشكل، بهذا المعنى، مرجعا بيبليوغرافيا مفيدا للباحثين في دراسات القومية.

قبل كلّ شيء، أحاول أنسنة الشباب، هؤلاء الرجال الذين يعنّفهم الإعلام وبعض الأدبيات البحثيّة. إذا كان نجح الكتاب، عبر عمليّة الأنسنة هذه، في التخفيف من توتر الناس، في لبنان وغيره، وخوفهم من هؤلاء الرجال وفهم بعض مآزقهم، فسيكون قد حقّق هدفه السياسي.

(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعمل على إنجازها الآن؟

(غ. ب.): بدأت الخطوات الأولى باتجاه مشروع بحث جديد: "الإنجاب بمساعدة" بين الرجال المثليين في إسرائيل. وهذه المرة أيضا، سيركّز عملي على رجال مهملين، في هذه الحالة بسبب السياسات الإسرائيلية المتعلّقة بالإنجاب بمساعدة، والتي مازالت تمنع هذا النوع من الإنجاب وترغمهم على اللجوء إلى تأجير الأرحام من الخارج*. وعلى عكس الشباب، يمتلك المثليون الإسرائيليون القوة الاقتصادية والسياسية-ولذلك عليّ العمل على مفهوم القوة بحزم هذه المرّة- إلّا أنّهم يبقون مهملين.

أيضا، أتصارع منذ فترة مع فكرة الأمل. ومهما كان مستعصيا، يبدو أن الأمل مازال يأسر خيال الشباب، كما يظهر من تربيتهم للحمام وتدريبها على الطيران. وعلى الرغم من أنّني لم أبدأ بعد بأي عمل ميداني مع الرجال المثليين الإسرائيليين، أتوّقع أن الأمل سيفسّر محاولاتهم للتكاثر، حين يجتازون الحدود بحثا عن أطفال يرغبون بهم بشدّة. ولقد حاولت الحصول على تمويل لتنظيم ندوة عن الأمل إلا أنني لم أنجح في ذلك حتى الآن: ربما هناك مغزى لإمكانية الحصول على المال للتحقيق في مآسي الناس ومعاناتهم، ولكن ليس لالتزامهم بالأمل. الآن وبعدما قلبت الجائحة عوالمنا رأسا على عقب، كفّ الأمل عن أن يكون بديهيا حتى في الأجزاء الأكثر ثراء من العالم، ربّما سأتمّكن من الحصول على هذا التمويل... 

(ج): ما هي التحديات التي جابهتك في عملك الميداني؟

(غ. ب.): يذهل الناس لأنّني أسكن في مخيم للاجئين، ولكن مردّ ذلك في الغالب هو أنهم يعتقدون أنّه مجرّد مكان بائس. أنا لا أريد أن أضفي طابعا رومانسيا على الحياة في شاتيلا، على الإطلاق، لأنها حياة صعبة. ولكن، بالنسبة لي، كان المخيم هو أيضا مساحة من الإمكانيات ومن الابتكارات السياسية التي تتيح آفاقا ذهنية متداخلة لبناء مستقبلات (غير سيادية).

وبطريقة ما، يعيدنا ذلك إلى الأمل. لم يكن التعامل مع المستقبل أمراً بديهياً أبداً في شاتيلا. ولقد أخبرني بعض الشباب أنهم يعيشون يوماً بيوم، فيما تحدّد حياتهم عناصر خارجة عن سيطرتهم. ولقد أزعجني هذا الواقع- صعوبة انخراطهم في أي معنى مستقبلي بسبب وضعهم الحالي. وكان ذلك هو سبب مغادرتي للمخيم بعد سنة: وقعت ضحية ما يسميه الشباب بـ "مرض نفسي". كان أحدهم قد توقّع بأنني سأغادر المخيّم، لافتا بصورة مؤلمة إلى الفروقات بيننا: "أنت تحب شاتيلا، غوستافو، ولكنك في الواقع، لا تقدر على تحمّله. أنت تحبّ شاتيلا لأنك تعرف أنك تستطيع المغادرة. بالنسبة لي، شاتيلا ليس لعبة أستطيع الخروج منها بسهولة."

*سلّمت هذه المقابلة في تشرين الثاني 2021، أي قبل التغييرات الأخيرة في التشريعات الإسرائيلية التي تسمح للرجال المثليين باستئجار أرحام في البلاد.

مقتطف من الكتاب: ورشة عمل عن "أل-جندر"

"أكره اضطراري للقيام بذلك، غوستافو".

كان صديقي العزيز جهاد (28 سنة) يتذمّر من ورشة عمل إضافية عن "الجندر" كان عليه تنظيمها. وجهاد هو عامل اجتماعي في إحدى الجمعيات الأهلية الفلسطينيّة المحليّة التي كانت تنظّم سلسلة محاضرات عن الصحة الإنجابيّة لسكان شاتيلا من الشباب، فتيانا وفتيات، بالتعاون مع جمعية إيطاليّة رديفة. والجمعيّة الأهليّة الإيطالية التي تموّل النشاط، زوّدت المرشدين الاجتماعيين بمواد داعمة-قرص الكتروني وكتيب إرشادات بالعربية وبالإنجليزيّة- تحدّد إجراءات ورشة العمل. فكرّ جهاد أنّه من الأفضل إجراء بعض التعديلات على الإرشادات العامّة لجعلها مناسبة للثقافة المحلية: "أقول للمشاركين أن إحدى زوجات النبي محمد كانت ربّة عمله وإنّه لا توجد مشكلة في وجود نساء في مواقع قيادية. والمديرة المحليّة لمركزنا هنا في شاتيلا هي امرأة. ولكن الحقيقة هي أن فهم ما هو "الجندر" تماما تتطلب حتّى مني وقتا طويلا".

ولجأ جهاد إلى استراتيجيّة أخرى لمساعدة المشاركين على استيعاب مفهوم "الجندر" المحيّر. كتب الكلمة بالإنجليزية على اللوح الأبيض و"عربها" بإضافة "أل" التعريف إليها: ال-جندر. ثم دعا المشاركين لمشاركة ما فهموه عن المفهوم مع الآخرين: "كان الناس يقدّمون أكثر التفسيرات غرابة. خلال إحدى ورشات العمل، قال أحد المشاركين أن الجندر هو مرض مميت".

ندمت على عدم اشتراكي في نشاط جهاد: وكما حصل معي كثيرا خلال بقائي في شاتيلا، فوّت فرصة ذهبيّة جديدة. لذلك، قمت بما يتعيّن على باحث في دراسات الاثنوغرافيا القيام به: دعوت نفسي إلى ورشة العمل اللاحقة عن "الجندر" والتي كان جهاد ينظّمها بعد شهرين.

***

ينطلق هذا الفصل من فرضية أن المشارك في ورشة عمل جهاد والذي عرّف "الجندر" على أنّه مرض مميت، ربّما يكون لديه وجهة نظر محقّة، حتّى وإن لم يكن التعليق مقصودا على الأرجح. على الرغم من أن مفهوم الجندر يتوافق مع موازين القوّة التي عرفها الجيل السابق من اللاجئين، الفدائيين، إلا أن استخدامه لا ينطبق كثيرا على خلفائهم، شباب اليوم، وافتقارهم لأي قوّة فعليّة. في هذا الفصل، أبني على ورشة العمل التي نظّمها جهاد، والتي حضرتها في وقت لاحق، للدلالة على آراء الجمعية الأهلية الممعنة في النمطيّة والتي تحمل أحكاما أخلاقية عما تسميه بأنظمة الجندر في أوساط تعدّ محافظة، مثل شاتيلا. ثم أقدّم نشاطا اجتماعيا كان يسمح لشباب شاتيلا بتأدية أدوارهم الجنسية حتى مؤخرا: تربية الحمام واصطيادها. وأستكشف الفروقات بين "مصارعة الديوك بلا ديوك"- تربية الحمام بين الشباب- وبين "مصارعة الديوك الباليّة" (غيرتز 2000): على الرغم من وجود رجال وطيور في الحالتين، إلّا أنّ النشاطين يختلفان كليّا، وأحد الأسباب العديدة يكمن في أن شاتيلا يحتوي اليوم على تيارات عدة مناهضة للدولة، في حين تعد بالي "آلة للدولة". لذلك، أسأل "ماذا يحدث في غياب دولة "تنظّم" نوعا من "نظام جندري- جنسي" على المستوى المحلي وأقترح أن هناك حاجة للمزيد من الأبحاث لتحديد طبيعة العلاقة بين "الجندر" وبين "آلات الدولة".

"متاعب الجندر"

على عكس ما حدث في ورشة العمل السابقة التي نظمها جهاد، لم يقدّم أحد تعريفات غريبة حين كتب كلمة الجندر على اللوح الأبيض في الورشة التي حضرتها. وكان كتيّب الإرشادات الذي أعدّته الجمعية الأهليّة الإيطاليّة يتوقّع أن يكون بعض المشاركين لا يعرفون ما يكفي عن المفهوم، مفيدا أنّه في إحدى الدورات التجريبية خمّن البعض أن "جندر" هو نوع من الهواتف، أو اسم، أو قانون، أو استفزاز، أو مسابقة-ومجدّدا، أعتقد أنّه في الحالات الأخيرة الثلاث، لم يكن المشاركون مخطئين تماما. وأسرّ لي جهاد أن مساهمة مؤسّسته في الورشة كانت فاترة، تفتقر إلى الحماسة في أفضل الأحوال. وفي إحدى المرّات، عبرّت له مديرته، وهي من سكّان شاتيلا أيضا، عن إحباطها إزاء الموضوع: "آخ، هؤلاء الأوروبيون! يجب أن يعطونا حياتهم إذا أرادوا أن نطبّق برامجهم. ما نحياه يختلف كثيرا عن حياتهم!".

لم يكن التعامل مع المستقبل أمراً بديهياً أبداً في شاتيلا. ولقد أخبرني بعض الشباب أنهم يعيشون يوماً بيوم، فيما تحدّد حياتهم عناصر خارجة عن سيطرتهم.

وقد شارك نحو عشرين شخصا من سكّان المخيّم في ورشة العمل، من الفتيان والفتيات، بعضهن يرتدين الحجاب، تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين. تجمّع الشبان عند طرفي الطاولة، والفتيات في المنتصف. وقامت رولا، وهي مرشدة اجتماعية، بالعمل مع جهاد على توجيه النقاش. مشترك واحد فقط، شاب، تطوّع قائلا إن الجندر يتعلّق بالأدوار، وهو ما كتبه جهاد بجدّية على اللوح. كان الآخرون أكثر جرأة نوعا ما، معترفين أنهم ببساطة لا يعرفون ما هو الجندر، أو أنّهم يسمعون بهذا المصطلح للمرّة الأولى أو أن الجندر هو الجنس.

كان النشاط الثالث في الورشة هو الأكثر ملائمة لأهدافي التحليلية الحالية. وزّع جهاد ورولا بطاقات زرقاء وأخرى خضراء على المشتركين، بغض النظر عن أجناسهم. ثم شرح جهاد: "لا يستطيع من معهم بطاقات زرقاء إلا البقاء جالسين. أمّأ من معهم بطاقات خضراء فبإمكانهم فعل ما يحلو لهم." [...] اختار شاب معه بطاقة خضراء أن يغيظ فتاة سيئة الحظ تحمل بطاقة زرقاء. ثم قالت رولا "الآن ستتبادلون البطاقات". جاء دور الفتاة لتثأر.

فور انتهاء النشاط، حث جهاد المشاركين على مشاركة الآخرين بما شعروا به لمّا كانت معهم البطاقات بالألوان المختلفة. ومتبّعا بإخلاص إرشادات الكتيّب، قسّم جهاد اللوح إلى جزئين، أحدهما بعنوان "ضعيف"، والآخر "قوّة". وأفاد المشاركون أنهم حين كانوا في موقع القوّة شعروا بأنّهم مميزين، حاصلين على حقوقهم، وقادرين على التعبير عن أنفسهم. [...] وكان المحتوى في فئة "ضعيف" مؤثر إلى حدّ كبير. حين حملوا البطاقة الزرقاء، قال فتيان شاتيلا وفتياتها أنّهم شعروا بالملل، والذل، والقيود، والانفعال، والغضب، والاحتقان، والصمت. في النهاية، كان جهاد ورولا قد أنجزا النشاط تماما كما هو مقرر، وحقّقت الجمعية الأهلية الإيطالية هدفها. وبالفعل، يقول الكتيّب "أثيروا موضوع أن علاقات الجندر هي علاقات قوّة، وأنه يجب استبدال الإخضاع (القوّة من فوق) بالتعاون (القوة مع) وبالتمكين (القوّة لـ).

لدى خروجي من المركز، التقيت، في أزّقة المخيم، بصديق آخر هو عمر، بائع خضار في الثامنة والعشرين من العمر. كان قد كبر وهو يسمع عن ورشات عمل مثل التي ينظمها جهاد، وسألني أين أمضيت صباحي.

أنا: حضرت ورشة عمل في جمعية أهلية.

عمر: آه، عما كانت؟

أنا: الجندر.

عمر: وما هو هذا؟

أنا: (تحت تأثير ورشة عمل جهاد، مجيبا بعبارة هي على الأرجح أكثر غرابة بالعربية منها بالانجلزية) الجنس الاجتماعي.

عمر: (بالإنجليزية) آه ذلك الهراء (آه! ذات بولشيت) 

***

الاختلاف لا يؤدي حكما إلى تأسيس هيكليّة تراتبيّة، وحتى حين يفعل، فإن ترتيب التفوق يمكن أن يناقض توقّعات من ينظر من الخارج، ويتغير مع الوقت وبحسب الوضع، حتى ضمن المجتمع الواحد. لا يحتاج أهل شاتيلا إلى ورشة عمل تعلّمهم ما هو مجرد حشو بالنسبة إليهم: أن النساء والرجال مختلفون، جسديا واجتماعيا، سواء كان لهم دور اجتماعي أم لا. عوضا عن ذلك، ربّما يحتاج بعضنا إلى ورشة عمل لنفهم كيف يرى أهل شاتيلا ذلك الاختلاف ويمارسونه.

خلال اجتماع سابق حضرته في الجمعية الأهلية حيث يعمل جهاد، جاءت مجموعة من تلامذة التصوير النروجيين للتعرف على سكّان المخيم للمرّة الأولى، قبل أن يتجولوا في شاتيلا ملتقطين الصور لمعرض يقام في بلادهم. بعدما تأخروا لنحو ساعتين، وصل التلامذة أخيرا، وهم حوالي خمسة عشر فتى وفتاة: وسط ذهول الجميع، وفي موقف يكاد يكون محرجا، كانت الفتيات النرويجيات كلّهن محجّبات، في حين أن أقل من نصف مضيفاتهن الفلسطينيات كنّ كذلك. ولم يتمكن عوّاد، وهو في منتصف العشرينيات، من مقاومة النكتة البديهية، وهمس لي قائلا "لم أكن أعرف أن النرويج بلد مسلم!" لاحقا، شجّعت إحدى المنظِمات، بتكتّم، إحدى الفتيات النرويجيات على خلع الحجاب: تلتها الأخريات كلّهن، كاشفات عن مهرجان من التسريحات بأشكال وألوان مختلفة-بما فيها اللون الزهري- وهو أمر كانت بمثابة تسلية لأهل شاتيلا.

أمّا ورشة العمل عن الجنس\الجندر، التي وصفت سابقا، فتدّل على بعض توقعات الجمعيات الأهلية الدوليّة المتعلّقة بأنظمة الجنس\الجندر. أولا، كانت ورشة العمل جزء من سلسلة عن "الصحة الإنجابيّة": حوّلت الجنس إلى موضوع طبّي في وسط يعتبر محافظا مثل شاتيلا. ثانيا، اتبعت نشاطات الورشة كلّها منطقا تقسيميا بين شيئين متباينين--- جنس\جندر، جاد\هلا، قوة\ ضعيف، وكأنمّا الاختلاف يملي بالضرورة التعارض وخلق هيكلية تراتبية. وأخيرا، قدّم استخدام البطاقات الملّونة فكرة الجندر على أنه عدم مساواة في امتلاك القوة. وفي ذلك تبديل متسرّع في مفهوم للجندر مبني على الصراعات السياسية الهامة، ولكنها مع ذلك محدّدة جغرافيا، في أوروبا وأميركا. إن الزرع التلقائي للمفهوم في أوساط مثل شاتيلا، حيث قدرة الرجال، كما النساء، للوصول إلى القوّة محدودة، يطرح أسئلة جديّة. وبالفعل، ليست كل الصراعات صراعات بين الديوك.

[نشر على جدلية. ترجمة هنادي سلمان].