يتخذ القاصّ محمد حاج حسين، سبيلاً مختلفاً في تناوله لموضوع الحرب السوريّة الراهنة في قصصه. اختار أن يتحدّث عن ذاكرة مدينة وطأتها الحرب، هي سراقب، حيث وُلد وعاش عقدين ونصف، قبل أن تضطرّه الحال المأساويّة للهجرة، فالتصقت بروحه وحبره. وسراقب، لمن لا يعرفها، هي قرية تطوّرت إلى ناحية فمدينة إسوة بقرى سوريّة عديدة، تتبع لمحافظة إدلب، تربط عديداً من المدن السوريّة فيما بينها، في جهاتها الأربع. وذُكرت في كتب عديد من المؤرّخين والرحّالة.
احتطب القاصّ حكايات مدينته الكليمة، انتزعها من تحت الأنقاض، ومن موتها ومواتها، ليدوّنها في قصص ضمّها كتاب "حطّاب الحكايات"، الصادر عن دار موزاييك، اسطنبول(2021.) وهو الكتاب القصصيّ الثاني للكاتب، بعد صدور "اعترافات المسخ" الحائز على جائزة الشارقة للإبداع العربي للعام(2016).
في هذه القصص، تنفلش الذاكرة، ويتدفّق الحكي/السرد في نصوص وردت على شكل متوالية قصصيّة. تجري الأحداث في مكان واحد هو سراقب، في زمنين: الماضي، وله الحضور الأوسع والأبهج، والحاضر، الذي تقلّص وانقبض شاحباً، ساكناً في انتظاراته. وتحضر شخصيّات كثيرة هم من أهل المدينة، يتكرّر حضور بعضها هنا، وهناك. يقود السرد سارد يتحدّث بضمير المتكلّم المفرد(أنا)، هو الحطّاب/القاصّ ذاته، يطغى حضوره في القصص، الشخصيّة الرئيسة فيها تارة، الشاهد تارة أخرى، وأيضاً العارف بمجريات الأحداث التي سبقت ولادته عبر ما روته العائلة أو الأهالي. أطلق على نفسه صفة الحطّاب، لما خلّفته حرائق الحرب من يباس الحياة، وحطبها. أهدى الكاتب قصصه هذه إلى أبطالها، فهؤلاء وغيرهم من أهالي القرى، هم "علب حكايات لا تنتهي". يقول عن قصصه في المقدّمة:" قد تكون متخيّلة، قد تكون واقعيّة، لا فرق: القرى حين تسكن الغربة تصبح نسج خيال بعيد. تحاول جاهداً أن تحيكه في ستراتك وملابسك، كي لا يضيع، أن تجعل من قلبك خيوطاً من حكاياتهم لكي لا تغادرك كلّ هذه الطيبة والبساطة."
في أولى القصص "حكايات الأراضي والمنازل"، يختصر حال سراقب، بدءاً بزوال عهد الإقطاع، فيقول:" كان الإقطاع كسوء الأيام الحاليّة، ضارباً جذوره كشجرة لعينة لا يرجى منها خير، أخبروني جميعاً بأنّهم التحفوا ببطانية مهترئة، في بيت من طين تدخله الريح من كلّ مكان، وتمسك القلب." وقد "رافقهم الفقر أكثر مما رافقتهم رحمة الله." كما قالت العمّة التي قتلتها الحربُ. في القصّة سرد لتعب العائلة وكدحها وتضامنها للنهوض من الفقر والجهل، عبر عقود شهدت خلالها نجاحات وتحوّلات مجدية كادت تكون المرجوّة، لولا الخيبات من الحكومات المتعاقبة. يعلّق الجدّ قائلاً لحفيده: "بس بدنا نعرف نعيش."
تتدفّق ذاكرة القاصّ/الحطّاب لتدلق مزيداً من سراقب ومشاهد الحياة التي كانت فيها، يرويها في قصص بعناوين تشير إلى مضامينها، تحكي عن: الأراضي والمنازل والشرفات ، أعراس القرية، البيادر والبساتين، حمار الحيّ، وعن الرفاق، وصورة أبيه، عن حكايات العيد، وحكايات الشاي، عن الروابط الأسريّة والعلاقات الاجتماعيّة، العادات والتقاليد والمعتقدات الشعبيّة، عن طقس أيّام الجمع وما بعد صلاة الظهيرة، وعن طقوس الأفراح والأتراح والمناسبات الدينيّة، الأغاني التراثيّة والمواويل، وغيرها.. ليختم حكاياته بنصّ قصير، بعنوان "آخر صوت"، قائلاً:" كلّ هذه القصص صنعت مدينتنا، وما أكتبه، حتى في سنيّ الحرب هذه وويلاتها، ما إن ترفع الأنقاض حتّى تجد كمّاً هائلاً من الآهات والمواويل الجميلة التي لن تفسدها الحربُ ولو بقيت دهراً بيننا، جاثمة فوق صدورنا، نصعد إلى السماء مواويلَ وحبّاً."
يسلس السرد في النصوص، ويسترسل بعفويّة وعذوبة شائقة، مؤثّرة بأسىً بالغ. سرد تقليديّ أغلب الأحيان، يجنح إلى الرمزيّة حيناً. ويعلو إلى فضاءات شعريّة، تحلّق اللغة به، وقت يذوب القلب عشقاً وشوقاً لسراقب التي كانت، وحنيناً مقهوراً لفقدها، ودمارها، كأنّما تنهضها للحياة والامتلاء من جديد. تتخلّل السرد بعض فقرات من أغاني الأعراس التراثيّة والمناسبات الأخرى، أُدرجت في مواضعها المناسبة. يعود السرد أغلب الأحيان إلى ما قبل هذه الحرب غير العادلة، بضفّتيها المتقاتلتين، والغارقتين في الخسران، إذ قُتل من الأهالي بقذائف أصابت حاجزاً عسكريّاً لهذه الضفّة، في حين، قُتل آخرون إثر سقوط براميل متفجّرة على الضفّة الأخرى، وبينهما تدكّ بيوت ومعالم أخرى، تطير أرواح وتطوف في حنايا المدينة وفي سماء عاتمة.
أُدرجت في السرد حوارات قصيرة رشيقة، تتباين تباين قائليها، ورد قليل منها باللهجة العاميّة، قدّر القاصّ موضعها ببراعة، تأكيداً للمصداقيّة وقوّة التأثير. بينما تتدفّق اللغة عذبة حانية، كمن ينتشل شروقاً من قلب الأفول، فخلف ظاهرها الذي يبدو أنشودة حبّ هائل لحياة كانت تضجّ وتزهو في المدينة، تتخفّى مرثيّة لها. لينضح السرد حبّاً لما كان في سراقب وانقضى، وشوقاً موجعاً لأهاليها، ولمن بقي من أفراد العائلة في البلاد. يمكثون، اليوم، أمام عيني السارد، يتحدثون إليه ويبلغونه بجديد أخبارهم، يتمازحون، ويتضاحكون، بينما ضحكات أمّه تبتلع دموعها من خلف شاشة التواصل "الشاشة التي أصبحت برواز نزوح".
تقود السرد لغة بسيطة أنيقة تارة، وأخرى شفيفة شاعريّة، وبمهارة تجنّب فنيّة القصّ عراقيل الافتعال والإقحام والخطابيّة، فيصدق السرد وينساب انسياب نهر رقراق حزين في كبرياء على فراقه النبع، يمضي في جريانه حاملاً معه ذاكرة المدينة، بتفاصيل كثيرة: الأمكنة والبشر وحيواتهم، أفراد من العائلة، من الجيران، ومن أهالي المدينة ومختلف أحيائها، بمن فيهم دراويشها السذّج أولئك الذين لا خوف عليهم ولا خوف منهم، "الذين بهم بركة لا تنضب." وايّام الطفولة واليفاعة وما حصّل شباب الحطّاب/السارد/القاصّ من الحياة في حناياها. وكذلك الحيوانات والأشجار والأعشاب، إلى درجة معها يكاد القارئ يلهث مع (فاء الاستئناف) وهي تتكرّر مرّات ومرّات، تصوّر بدقّة وتسجّل فلا تنسى تفصيل هامّ هنا أو هناك، ويشعر بغصّة مع تتالي (واو العطف) والظرف الزماني (أيضاً) في سعيهما الحثيث لجمع ما يمكنهما جمعه من الحكايات والأحداث. غير أنّ أكثر ما يؤلم القارئ، ويحفر في نفسه أسىً عميقاً، هو الفعل الماضي الناقص (كان)، فليس في استخدامه هنا وصف لمجريات أحداث كانت تستمرّ نابضة حيّة في الماضي، فحسب، إنّما له وقع ألم القطيعة وحرقة الفراق. وللظرف الزمني (دائماً) رهبة توقّف حركة الحياة الضاجّة بالحياة، وأسى العجز القاهر، وللصفة (كلّ) طعم النقصان المرّ؛ كان هناك ما يحدث حقّاً أيضاً، ولدى الأهالي ما يفعلونه دائماً، كلّهم، بلا نقصان.
في القصص لا سرديّة للمعارك، ولا توثيق لها، لا أحقاد أو رغبة في الانتقام، بل ثمّة فنّ يصوّر بعض آثار هذه الحرب في حاضر شبه مشلول، ويروي حكايات عن مدينة باتت تغصّ بالمفاتيح وبالخشب يحفظ القلوب، القلوب التي أودعها أصحابها في أدراج خزائن البيوت وأُقفل عليها، قبل الرحيل في يوم لا يُنسى. يوم حَملت حقائبُ ما استطاعت حمله، بينما خرجت أياد فارغة من أيّة حقيبة. يوم هرب السارد إلى مهجره والكرب، غادر مدينته، (القرية في أساسها، وعليه فإنه يذكرها بوصفها مدينة تارة، وتارة أخرى بوصفها قرية.) غادرها شابّاً، تسكنه حكاياتها منذ طفولته المبكرة، يقول:" مع خطواتي الأولى في زوايا الحارة والقرية، كانت تكبر في داخلي ألف حكاية، كأنّني إبرة تلتقط خيوطاً، ثمّ ما تلبث أن تطرّز مختلف الأماكن التي كانت تمرّ بها، وتمرّ بي."
وفيرة هي حكايات الفقر والكدّ والصبر وحبّ الحياة. حكايات البيادر والأشجار المثمرة، وتلك غير المثمرة الجميلة الخضراء، المحمّلة بأسماء الأولاد وأمنياتهم وحكاياتهم الصغيرة. حكايات أيّام الخميس وسهراتها المختلفة، ووجبتيّ الغسيل الأبيض والملوّن، في نهاراتها، تغسل بها الأمّهات باقي أيام الأسبوع. يقول: "في القرى التي تربي خوفها من كلّ شيء، في أولادها وعليهم، لن تجد متنفّساً سوى بسهرات خاطبيّ البنات." وعادة ما تكون الخميس. بعد العرس، عادة ما تنكشف دماء العذريّة للعلن، واليوم تظهر دماء أخرى غزيرة لا تكفيها وجبتا غسيل. وحكايات كلاب الرعاة المسمّاة كلّها "بوش"، كرهاً ببوش أمريكا وحزناً على العراق التي يشرب الأهالي أغانيها وأحزانها. في ليالي كانون كان أبوه يقول له: "ناقص حبٍّ من لا يسمع العراق." وحكايات رفاق الدرب وكرة القدم والملعب وأفراح الفوز، و:" كانت سراقب أكبر من كلّ شيء، أكبر من المرمى الذي سجّلنا فيه أهدافنا، وأكبر من الحارس الذي رحل بدوره ككلّ الذين رحلوا بعد سنوات، نقول عنها اليوم: "آخر سبع سنين."
يتحدّث السارد عن أبيه الذي توفّي قبل الحرب، لكنّ وجهه ظلّ يلتصق به، سواء في مدينته، أو في غربته، ولشدّ ما افتقده في أوقات صبّ الماء على جسده أثناء التعذيب، بين القضبان. لم يكن أبوه الحطّاب "يقطع بفأسه غير الفرح ويعيد وصله." في موته أخذ معه روحَ العيد وقهوتَه المرّة. وخلال سنوات من الحرب، أيْ:" منذ سبعة أعياد لا رائحة قهوة مُرّة تعلن بدء التكبيرات." ثمّ يتذكّر أمّه، يناديها "يُومْ"، فهو لم يعرف قول "ماما". كان يناديها "يُومْ" ليطلب مثلاً "كجّوجات" الدبس والزعتر مرفقة بالشاي. لوجه أمّه رسم أكثر من ألف مرّة لوحة:" إنّما مرّة كانت لوحة رمل ابتلعها البحر، ومرّة كانت لوحة من ألوان مائيّة غسلها المطر، ومرّة كانت من فحم أحرقته الحرب وغربتي."
حكي عن "العتابا": "أجمل ما يمكن أن تسمعه في سراقب، يعرفون من قاله وكيف قيل ولمن." وعن "عدّاويّات العرايس" (مواويل تقال في عرس النساء في الأرياف،) و"التعاليل" و"الموليّا" أغان وأشعار خاصّة بالأعراس، الأعراس التي يُقدّم فيها الزبيب والقضامة فقط. كما حكى عن الداية (أمّ وائل) التي ظلّت بلا وائل، المرأة العذراء ربّما، وقد بدت شخصيّة في حكاية أسطوريّة، الداية التي تعرف من تشققات يديها أعمار أولاد القرية، فعليهما، قبل أن تسرق المشافي دورهما، وعلى وقع شتائمها الممازحة، تدحرج أطفال الحيّ جميعهم وقفزوا إلى أرض سراقب، ليكونوا: "طعاماً للفقر والشوارع والتكتّلات السياسيّة والدينيّة." على يديها جاء جميع أنواع الرجال: "جنود، قتلة، سارقين، أطبّاء، صيّادي حيوانات ووقت." وجميع أنواع النساء: "عاهرات وتقيّات، وكلّ ما يمكن إصلاحه مع الأيّام." حكى عن البيوت تلك التي ما إن كانت تعبق برائحة طبيخ "الحويش" المكوّن من الأعشاب البريّة كالخبيزة والدردار وغيرهما، حتّى يخضرّ البيت وتندحر ليالي الجوع. وعن كؤوس الشاي التي تبذخ بها العتبات والأرصفة، تقدّم للزائرين وللعابرين. الشاي الذي "كانت فيها أنفاس أمّه تدفئه ببخارها وتكسر برد الشتاء وعزلة الدراسة." أمّا اليوم، يقول حطّاب الحكايات:" أعتّق هذه القصص مع كلّ إبريق شاي وحيداً، كما تفرّق كلّنا لوحدة ...لا سكّر يحلّيها ولو كانت هناك." هناك في مدينته البعيدة.
تنضح القصص بحبّ باذخ للمدينة ومنها، حبّ تتكفّل عبارة واحدة بتكثيفه، يردّدها الأهالي:" عراسي أخوي." العبارة التي تغنيهم عن كلّ شيء، وتعني التفهّم والرضى، التضامن والمؤازرة. آثر القاصّ أن يكون موضوعيّاً بعيداً عن المبالغة، وذلك في إظهاره الحبّ والتفهّم مرّة، في حديثه عن جريمة قتل ابن لأمّه، عرض فيها بجماليّة فنيّة، تبريرات لظروف القاتل الاجتماعية والنفسية البائسة، بؤسها كان أكبر وأقسى من أن تردع وقوع الجريمة. ومرّة أخرى، في إظهاره اللّا تفهّم واللّا حب، لا يعرف كيف يبرّره كما ذكر، مثل شعور الأهالي إزاء إحدى العائلات الغريبة عنهم، فهم لا يعرفون أصلاً لها، ولا كيف ولماذا جاءت إلى حارتهم، أو إلى أين رحلت، بعد أن أقامت بينهم ردحاً من الزمن. لم يأسفوا على مغادرتها الحيّ. لم يحبّوها يوماً.
غزيرة هي المواضيع والأفكار التي أوردها القاصّ بانسجام وإقناع فنّيّ جاذب، حافظ فيه على وحدة الخلفيّة، وعلى وحدة التأثير والانطباع لدى القارئ. يقول حطّاب الحكايات:" أصبحت حطّاباً لا يهتف في وجه الأشجار، حطّاباً لا يملك موقد خشب، دخلت الغابة لأوّل مرّة كما خرجت منها أوّل مرّة، عارياً أبحث عن الكهف وأنثى الغابة." ولعلّه في بحثه هذا، كان يعيد ترتيب سراقب حيّة في القصص، بما احتطبه من حكاياتها.
لينتهي إلى قول: "أنام وأصحو، وأجد عمّاي رحلا، وتركا في الزاوية مزمار غربتي، ونباح الأيّام التي أسميتها لبلادة سيرها، ولحرب مررنا بها: "بوش."
تمكث سراقب في قلب الكاتب، وبفنيّة لافتة ماتعة يهدهدها بالحكاية، وبحنان باذخ يمسّد على الأرواح المفجوعة المنهكة فيها. إنّما محظوظة هي مدينته بابنها الذي حفظ لها ذاكرتها في قصص جميلة، لعلّ الأجيال اللّاحقة تقرأها مثل قراءتها للوثيقة والخريطة وأناشيد الانبعاث، فتعيد للمدينة وجهها الضالّ، تعيد سراقب إلى سراقب معافاة بهيّة ببساطتها وطيبتها وحبّها للغناء والحياة. ويجدر القول هنا، إنّ الفنّ القصصيّ السوريّ محظوظ، هو الآخر، بحضور القاصّ محمد حاج حسين.