[شاعر سوري، صدر له "مدارات المكان والتحول" و"هلوسات لموائد العقل"].
فناء
-1-
أرضٌ تدورُ كالحربة في عين الأفق
طفلٌ ينزع مسمار التاريخ
سقطت نقطةُ البدء إلى برزخ اللحظة العارية
سقطت الكونُ في نومه المغناطيسي
وأضاءت شموسٌ عنكبوتيةٌ، في زاوية هذا الفراغ اللانهائي.
-2-
سماءٌ مرهونةٌ بمفردات الضرورة
أرضٌ تنامُ في سرة الغيب
أيدٍ تشحنُ النبوءات..
لحظاتٌ تتطاير من فوّهة شهيقٍ يتأكسد
أرضٌ منقوعةٌ بمحلول الميتافيزيقا الحار
ماذا بوسعك أن تقرأ أيها البياض؟
إلا تلك الاجتياحات التي تركها قراصنةُ هذه المدارات
ماذا بوسعك أن تكتب
إلا قصاصاتِ دمٍ وظلال أنقاض.
ليس لك إلا هذا التشرد بين هذه الخلوات الممرغة بالغيب.
كشف
-1-
كما يسقط طيرٌ في جناحيه، يسقطُ في لجةٍ تتهاوى.
تقاسميه أيتها الرياح، تبنّيه أيها الذرى.
ها هو يقرأ تاريخه ويهبطُ فيك أيها الجسد
خفيفاً كالهواء، لطيفاً كالموج
كأنه خرج للتو من غبار حرفٍ، كأن بين يديه كوكبٌ يتلاشى.
-2-
أعلى نحو نقطةٍ حبلى بطينه الأول، يقرأ نبضه
يستوضحُ صداه في شهوةٍ تتوهج، يخالط قلقاً، يساورهُ ليلٌ
وعلى عتبةِ فجرٍ يرقصُ وترقصُ معه أشباحه.
-3-
نسيَ غابةً تشتعلُ في سريرته، فيما هو راكضٌ خلف فراشته
الآن يستجمعُ نثاره، مزهواً بما ينقصهُ، ويأخذُ شكل جنينٍ نائم.
قيامة
-1-
للريح رايةٌ تتكسر
للسماء أضلع تتفسخ
رمادٌ يسقفُ هذه العين، جنازاتٌ تعبرُ النخاع الشوكي.
ما من أعداءٍ لكِ أيتها اليد سوى هذه الأصابع.
أخونكِ أيتها التهويماتُ وفاءً لكِ، ومن حنجرةِ هذا الصمت، أتلعثمُ.
-2-
هنا أبثُ خلافاتٍ ودسائسَ، وأعانقُ الفتنة.
من هذا الطين، هذا الصلصال، أصنعُ عجينة الضحك
وأخلقُ ضجراً بديلاً.
أتقمصُ حالة الموج، وألاطمُني.
آخذُ هيئةَ القبر، وأضعُ زهوراً فوق المخيلة.
أغيّرُ ملامحي كي لا أصاب بالشكل
وحين يباغتني الظل أعتذرُ لموعدٍ طارئٍ، مع اللاشيء.
برزخ
إذ نھیئُ لليل قصبة الرَّغبة اِرتفاعاً
وندعو الدهشة عرشَ الجوار
إذ ثمة ریحٌ تقصي انتباھھا دماً
وتطوي كوكبھا سراباً سرابا
إذ نھیئُ عدَّةَ المخَاض
وزيتَ الاستعارة
احتفِ بنا أیّھا العدم
الوقت.. الوقت
أصغِ لقيءِ الحوافرِ أیُّھا الوھمُ الزَّفیر
ھذه شارة زحفِ الأوعية
تشي بالجلْدِ الذي يتقشر
و تظفرُ بقداسها
ھا ھو الموتُ ینمو
البخارُ ینسحب
الأفقُ یستجیب
ھا ھو العِناقُ ینسجُ الرؤيا
انضوِ بمعناكَ أیُّھا الخالقُ المخلوقُ، المخلوقُ
الخالقُ
تآخي یا بروجَ الطیف
تحقّقي أیّتھا المشاهدة
واصل تبعثركَ یا حجرَ الولهِ فوق نشیدِ المتاهة
واصطفيني لنفسكِ أیّتھا النّھایةُ البدایةُ النھایة
سحابةً كأنّھا
الكوكبُ الیتیمُ
لا تحظى إلا بیتمھا
كأنَّھا طبیعةٌ من طبیعةٍ ثانیةٍ تبحث عن
مدارها
إذ نعقدُ تھاویلنا، إلیكَ یا غيب
كل صرخةٍ فضاءٌ
ما أوسعكَ أیٌّھا السديم، ما أثقلكَ أیّھا
الأثير،
والأرض تضيقُ، تضیقُ
ملطَّخةٌ بكَ أوصالي
كل كلمةٍ طعنةٌ، كلُّ طعنةٍ فجرٌ في جنازته
.. یا حلم، عانق جثَّةَ الرّیحِ مثواك
وأنتِ أیَّتھا الحفرةُ البيضاء یا رايتي، اندملي
فيَّ
إنَّني أتكسَّرُ فیكِ
احتشدي بي، إنَّني أتطاير جھةً.. جھةً
أیَّتھا المعصیةُ، ھا أنا ھبوط
ھذه شارةُ زحفِ الأوعية
تشي بالجلد الذي يتقشر، وتظفَر بقداسها
تقدَّمي أیَّتھا الجيوش
یا حواسي.
رحيق عابر
من حق الأسماك أن تنتحرَ على الشواطئ
من حق الموج أن يغرق
من حق الخيول أن تُضربَ عن الصهيل
من حق الفراشةِ أن تختار شمعتها وتحترق
من حق الشجرةِ أن تفكر بالسفر
من حق الشمس أن تأخذ قيلولة على سرير الغيم
من حق القصيدةِ أن تحلم بجناحين، وتطير
من حق الشاعر أن يكتب البرق كما هو
أو أن يكون ساعي بريد الضباب.
حلم
أريدُ أن أتغير
أحلمُ أن أتغير
حتى لو أصبحتُ تمثالاً في حديقةٍ عامة
حتى لو أصبحتُ سياجاً يعرّشُ على حديدهِ التوت
حتى لو صرتُ مظلةً في يد مراهقةٍ عابرة
حتى لو صرتُ سكةَ حديدٍ تدهسُها قطاراتُ المدينة
حتى لو صرتُ عش حمامةٍ يطوقهُ الحرُ أو الصقيع
حتى لو صرتُ حقيبة سفرٍ أو ذيل طائرة
حتى لو صرتُ فراشةً خذلها الضوء
حتى لو صرتُ وردةً يابسةً في كتاب
أو باب حديقة
أريدُ أن أصبح أي شيءٍ
ينسيني خراب هذه المدينة.
إذا لم يكن
إذا لم يكن بوسعك أن تغنَّي أغنيتك اليوم
لا تيأس
من صوتك أو حنجرتك أو الأغنية
فلربما كان الطقسُ سيئاً
ولربما كان المزاج أثقل إيقاعاً
أو أكثر خروجاً عن النوتة
أو أكثر بساطةً من مهارة العازفين
ولربما كان من يصغي إليك اليوم لا يصغي إلا لأخطائك
ولا يبحث إلا عما يكسر رغبتك في الغناء
ولربما كان ثمة غصةٌ في لحن قلبك
تطغى على صوت الكمان
إذا لم يكن بوسعك أن تغني أغنيتك اليوم
ستغنّيها غداً.
أنا وحيد وبخير
أنا وحيدٌ وبخير
هادئٌ ومستريح
لي بيتٌ بعيدٌ عني وعنكِ
لي شرفةٌ ينامُ على حافتِها الحمام
لي معطفي ومِظلتي ومواعيدي
مع السراب.
أسمعُ الموسيقا
وأذهبُ إلى السينما
وأحبُ الغناءَ والبكاءَ أحياناً
أنا وحيدٌ بصحبة نفسي.
لا شيء يدلُ عليكِ
لا شيء يدلُ على نقصانكِ
لا النبيذ ولا شموع المساء
لا الذكريات التي تهطلُ كالمطر الخفيف
لا القصائد التي يكتبها بقايا عِطرك ِعلى ثيابي
لا الأغاني التي تضربني كالبرق
لا نصف ضحكتكِ الخجولة
لا ضوء عينيكِ الذي يلمعُ كاللؤلؤ في الليل
لا شيء يدلُ عليكِ
لا قميص نومكِ معلقاً في الخزانة
لا صوتكِ يتجول في الممر
ولا أحد يسأل عنكِ
لا ياسمينة الحي
ولا قهوة الصباح
ولا العصافير التي تنقرُ خبز غيابكِ.