سلافوي جيجك: من السذاجة الاعتقاد بأن الـ«NFT» والبيتكوين يمنحاننا الحرية

[سلافوي جيجيك] [سلافوي جيجيك]

سلافوي جيجك: من السذاجة الاعتقاد بأن الـ«NFT» والبيتكوين يمنحاننا الحرية

By : Slavoj Zizek

ترجمة أحمد نبوي

في عالم أصبح فيه التحكم والتلاعب الرقميان هما المعيار، يعتقد كثيرون أن العملات المشفرة والرموز غير القابلة للاستبدال، أو الـ«NFTs»، تمنحان الحرية. لكن هذا ليس صحيحًا تمامًا.

أفضل مؤشر على التغيرات التي تؤثر على نظامنا المالي هو ظهور ظاهرتين جديدتين مترابطتين: العملات المشفرة والـNFTs. كلاهما انبثق عن فكرة تحررية لتجاوز أجهزة الدولة وإقامة اتصال مباشر بين الأطراف المعنية. 

ومع ذلك، في كلتا الحالتين، نرى كيف تحولت الفكرة إلى نقيضها، حيث تمتلك البتكوين والـNFTs الآن 1٪ الخاصة بها والتي تهيمن على المجال وتتلاعب به. وهنا ينبغي لنا أن نتجنب كلا النقيضين: فلا نُثني على البيتكوين أو الـNFTs على أنهما يقدمان لنا حرية جديدة، ولا نرفضهما باعتبارهما أحدث جنون رأسمالي مُضارب.

ففي تجربتنا المعتادة للنقود، يتم ضمان قيمة دفعها من قبل بعض سلطات الدولة، مثل البنك المركزي، ويمكن للدولة أيضا إساءة استخدام سلطتها، عن طريق طباعة النقود والتسبب في التضخم، إلخ. 

قيمة البيتكوين، وهي عملة رقمية أو عملة مشفرة، غير مضمونة من قبل أي مؤسسة عامة مملوكة للسلطة. حيث يتم تحديد هذه القيمة من خلال ما يرغب الناس في دفع ثمنه الآن. وهم على استعداد لدفع ثمنها وقبولها كأموال إذا كانوا يؤمنون، ويثقون بها. 

هنا، في مجال المضاربة المالية البارد والقاسي، تأخذ الثقة مكانها على المسرح: فالبيتكوين مثل المسبب الأيديولوجي الذي يُوجد كقوة حقيقية فقط إذا كان عدد كافٍ من الناس يؤمنون به – بدون الأفراد الذين يؤمنون بالقضية الشيوعية، على سبيل المثال، لم تكن هناك شيوعية.

هناك تشابه بين هذا وكيف يتم تسعير الأسهم: إذا كان عدد الأشخاص الذين يرغبون في الشراء أكثر من الراغبين في البيع، فمن المرجح أن ترتفع الأسعار، في حين أنه عندما يكون هناك عدد أكبر من الراغبين في البيع، فإن سعر السهم عادة ما ينخفض. ومع ذلك، فإن أحد الاختلافات –على الأقل، من حيث المبدأ– هو أن قيمة الأسهم ليست ذاتية المرجع بطريقة بحته، فهي تشير إلى الاستثمارات التي من المتوقع أن تولد ربحًا من الإنتاج "الحقيقي". 

الحد الأقصى لعدد عملات البيتكوين التي يمكن إصدارها أو سكها محدود. وقد حددها مخترع العملات المشفرة ساتوشي ناكاموتو ب 21 مليون (تم بالفعل استخراج حوالي 19 مليونًا). وهذا يجعل البيتكوين مشابهة للذهب والمعادن الثمينة الأخرى، ولكن ليس لها "قيمة حقيقية" جوهرية. 

كيف يُمكن هذا؟ يجب تسجيل البيتكوين في البلوك تشين وهي "سجلات لامركزية بشكل أساسي". مكان لتخزين المعلومات، والأهم من ذلك، نظرًا لأنها لامركزية، لا يمكن تحريرها دون معرفة المستخدمين الآخرين على البلوك تشين. الفكرة هي أن سلاسل الكتل (البلوك تشين) قادرة على تخزين سجلات المعلومات دون الحاجة إلى أطراف ثالثة (على سبيل المثال، البنوك والمؤسسات المالية)، بحيث يكون النظام في الأساس مكتفياً ذاتيًا ومنظمًا ذاتيًا. كبنية تحتية رقمية، وتتمثل الفائدة الإضافية في تجنب الرسوم القانونية الضخمة التي تضيفها الأطراف الثالثة،" وفقًا لمقال نشره موقع Aesthetics for Birds. 

هنا تواجهنا مشكلة فيما يتعلق بالبلوك تشين: على وجه التحديد نظرًا لعدم وجود طرف ثالث ولأن النظام مكتفٍ ذاتيًا في الأساس ومنظم ذاتيًا، فإن كل تسجيل/نقش لعملة بيتكوين جديدة ينطوي على قدر هائل من العمل الذي سيتم من خلاله جلب عملة البيتكوين الجديدة إلى "معرفة المستخدمين الآخرين على البلوك تشين". نظرًا لعدم وجود طرف ثالث يمكن لكل مالك بيتكوين الرجوع إليه، يتعين على كل مالك جديد تطوير نسيج معقد من الخوارزميات والرموز التي تضمن أن الهوية المحددة للبيتكوين الجديدة سيتم إدراكها بوضوح من قبل كل الآخرين دون تحويلها إلى شيء يمكن الاستيلاء عليه من قبل الآخرين. 

تحتاج البلوك تشين – بما أن فكرة "الآخر الكبير"[1] غير مُعتمدة في هذا السياق – إلى الكثير من العمل أكثر من النقش من طرف ثالث منفصل، وهو ما يخلق "البروليتاريين" الجدد لهذا المجال الجديد من "عمال المناجم" الذين يقومون بهذا العمل. ننتقل من عمال المناجم القدامى الذين يقومون بعملهم الصعب في أعماق الأرض باعتبارهم البروليتاريين القدامى في القرن التاسع عشر، إلى عمال المناجم الذين يكدحون لبناء وتأمين المساحة للبيتكوين في "الآخر الكبير" الرقمي. 

المفارقة هنا هي أنهم لا يعملون على إنتاج قيم استخدام جديدة، بل لخلق مساحة جديدة لقيمة الصرف. ومن أجل ضمان أن البيتكوين لا تحتاج إلى سلطة قانونية خارجية والرسوم القانونية المصاحبة، يلزم بذل جهد يستغرق الكثير من الوقت ويستخدم الكثير من الطاقة (الكهرباء) وهو ما يشكل عبئًا بيئيًا ثقيلًا.

وبالتالي فإن الفكرة التقدمية المحتملة للبيتكوين على أنها عالمية ومستقلة عن أجهزة دولة معينة، تتحقق في شكل يقوض افتراضاتها. وهذا يجعلها مشابهه لـNFTs.

وقد أعلن قاموس كولينز كلمة NFT كلمته لعام 2021. وتم نحْتُها أيضًا كمحاولة ليبرالية لا مركزية معادية للدولة لإنقاذ استقلالية الفنانين من براثن المؤسسات. الثمن الذي ندفعه مقابل هذه الفكرة هو أن "إنشاء NFT هو محاولة لخلق ندرة مصطنعة حيث لا توجد ندرة. إذ يمكن لأي شخص إنشاء NFT لأصل رقمي، حتى لو لم يكن هناك أصل فعلي وراءه!".

التحكم الرقمي والتلاعب ليس شذوذاً، وانحرافاً، عن المشروع الليبرالي اليوم، بل هو إطاره الضروري، والشرط الرسمي لإمكان حدوثه. لا يمكن للنظام أن يوفر مظهر الحرية إلا في ظل ظروف رقمية وغيرها من طرق التحكم التي تُنظم حريتنا – لكي يعمل النظام، يجب أن نبقى رسميًا أحرارًا وننظر إلى أنفسنا على أننا أحرار.

المفارقة في الـNFTs هي أنها تُدخل الندرة في مجال العناصر فيه بالأساس في متناول الجميع مجانًا. لهذا السبب، تُجبرنا على إعادة التفكير في مفهوم الملكية، وفي معنى امتلاك شيء في الفضاء الرقمي:

من خلال خدمات الاشتراك، يُصبح لدينا مدخل مؤقت، لكن بدون أن نمتلك أي شيء على الإطلاق. وبمنطق في غاية الأهمية، ربما نسأل، إذا كنا نمتلك شيئاً ما، فماذا عساه يكون؟ تُحفة أصليّة من فيلم أو لون موسيقى؟ ربّما. لكن في الحقيقة كل ما يمكننا القول أننا نمتلكه هو خاصية الوصول المؤقت أو خاصية التحميل. ومن المحتمل أن يكون التنزيل مطابقا تماما لكل تحميل آخر يتم. وبعبارة أخرى، فإن امتلاكنا للشيء الذي قمنا بتحميله لا يمنع الآخرين من امتلاكه بعملية تحميل مشابهة. هذا هو السبب في كون فكرة امتلاك قطعة فنية عبر الإنترنت تُعتبر سخيفة بشكل ما. إذا كانت الأغنية موجودة كملف، فيمكن أن توجد بشكل متطابق في عدد لا نهائي من المساحات الرقمية. لكن الـNFTs توفر نوعًا من "الحل": الندرة المصطنعة. فهي تُعطينا مقتنيات رقمية في عالم لا تكلف فيه عملية النسخ أي شيء. 

ما يثير الاهتمام في الـNFTs هو فكرة أخذ أصل رقمي يمكن لأي شخص نسخه والمطالبة بملكيته. لا يكاد يكون للـNFT أي قيمة استخدام (ربما تجلب بعض المكانة الاجتماعية للمالكين)، وما تحافظ عليها هو قيمة الصرف المستقبلية المحتملة. إنها نسخة بثمن، عنصر من الملكية الرمزية البحتة التي يمكن أن تجلب الربح.

تتمثل الرؤية الهيجلية الرئيسة هنا – تمامًا كما هو الحال في البيتكوين – في أنه على الرغم من أن البيتكوين والـNFT يظهران على أنهما نوع من الاختلاف، كانحراف مَرضِي عن الأداء "الطبيعي" للمال والسلع، فإنهما يحققان فعليًا إمكانات موجودة بالفعل في مفهوم السلع والمال نفسه.

مثال على ذلك هو شخصية بيتر ثيل، الملياردير الألماني الأمريكي والمؤسس المشارك لموقع PayPal لتبادل الأموال، الذي  أعلن  أن "[الذكاء الاصطناعي] شيوعي والعملات المشفرة تحررية". لماذا؟ لأنه مع الذكاء الاصطناعي، "ستحصل على عين سورون الكبيرة[2] التي تراقبك في جميع الأوقات وفي كل الأماكن".

"تطبيقات الذكاء الاصطناعي الرئيسة التي يبدو أن الناس يتحدثون عنها تستخدم بيانات ضخمة لمراقبة الناس،... حيث يمكنهم معرفة ما يكفي عن الناس الذين يراقبونهم أكثر مما يعرفون هم عن أنفسهم، وهو ما يُعتبر تمكين للشيوعية من العمل، ربما ليس بقدر ما هي نظرية اقتصادية، ولكن على الأقل كنظرية سياسية. لذلك فهو شيء لينيني بالتأكيد. وبعد ذلك، هو شيوعي حرفيًا، لأن الصين تحب الذكاء الاصطناعي..." يقول ثيل.

هذا يبدو واضحاً و مقنعاً ومع ذلك، كما لاحظ توم دان في حينه:

"يبدو أن نقد ثيل الكبير هنا يتعلق بالاستخدام الاستبدادي للبيانات والمراقبة. حسناً، رائع، أوافقك الرأي، هذا فعلًا يدعو للقلق. أنا لا أعرف ما علاقة ذلك [مع] حزب طليعي ثوري ُيشكل دولة انتقالية من أجل إنشاء مجتمع بلا طبقات ولا قيادة، ولكن، نعم، بالتأكيد. من الناحية الفنية، تُطلق الصين على نفسها اسم الحكومة. لذلك أعتقد أنني أفهم ما يقوله هنا. لكن فقط لنكن واضحين: هذا هو الرجل الذي ساعد في تأسيس Palantir. شركة تحليل البيانات الضخمة التي حرفيًا قامت بتعليم شركة ICE كيفية تنظيم تكتيكاتها الاستبدادية. وبيتر ثيل هو نفسه الذي أسس أيضا شركة Anduril للمراقبة، واستخدم ملياراته لتدمير مؤسسة إخبارية ناجحة قامت بانتقاده. وهو خائف من الذكاء الاصطناعي بسبب... الشيوعية؟".

من المستحيل أن تمر المفارقة هنا مرور الكرام: ثيل التحرري المناهض لللينينية يعتمد على آليات الذكاء الاصطناعي "اللينينية" التي يشجبها. وينطبق الشيء نفسه على مستشار ترامب السابق ستيف بانون، الذي يُزعم وهنا (مفارقة أخرى) أنه وصف نفسه بأنه "لينيني":

كانت مغامرة بانون في البيت الأبيض مجرد مرحلة واحدة من رحلة طويلة في هجرة اللغة والتكتيكات والاستراتيجيات الثورية الشعبوية من اليسار إلى اليمين.. قال بانون بصيغة تقريرية: "أنا لينيني. لينين... أراد تدمير الدولة، وهذا هو هدفي أيضًا. أريد لكل شيء أن ينهار، وأن أدمر كل المؤسسات القائمة اليوم" يُذكرنا ثيل.

بانون هذا نفسه الذي يظهر مشوشًا في مواجهة الشركات الكبرى التي، جنبا إلى جنب مع أجهزة الدولة، تُسيطروتستغل العمال الأميركيين العاديين، يزعم أنه نوى أن يستعمل الذكاء الاصطناعي أثناء الحملة الانتخابية في 2016. تم الكشف عن أن Cambridge Analytica) CA)، وهي شركة استشارية سياسية كان بانون نائبًا لرئيسها بين عامي 2014 و2016، قد قامت بعمل مسح لكميات كبيرة من بيانات مستخدمي فيسبوك لتوفير معلومات عن السكان المهتمين بالحملات السياسية حول العالم.

تم إغلاق الشركة في عام 2018، بعد أن كشف كريستوفر وايلي، وهو موظف سابق في كامبريدج أناليتيكا، عن كيفية مشاركة الشركة في عمليات استخراج البيانات. وايلي، وهو نباتي كندي مثلي الجنس، في الرابعة والعشرين من عمره، توصل إلى فكرة أدت إلى تأسيس كامبريدج أناليتيكا والتي وصفتها صحيفة الجارديان بأنها "أداة حرب نفسية لبانون." عند نقطة معينة، كان وايلي مذعورًا بشكل حقيقي: "هذا جنون. أنشأت الشركة ملفات شخصية نفسية لـ 230 مليون أمريكي. والآن يريدون العمل مع البنتاغون؟ فيما يُشبه ما فعله الرئيس نيكسون في فضيحة ووترجيت".

ما يجعل هذه القصة مذهلة للغاية هو أنها تجمع بين عناصر ننظر إليها عادة باعتبارها متعارضة. يقول اليمينيون إن ذلك يعالج مخاوف الناس العاديين البيض، الذين يعملون بجد، المتدينين بعمق والذين يدافعون عن القيم التقليدية البسيطة ويكرهون الغرباء مثل المثليين جنسيًا والنباتيين، ولكن أيضًا المهووسين بالعالم الرقمي - ثم نتعلم أن "حربهم النفسية" تم شنها من قبل هذا المهووس بالضبط الذي يدافع عن كل ما يعارضونه. هناك أكثر من قيمة قصصية في هذا: فهي تشير بوضوح إلى فراغ الشعبوية اليمينية المتطرفة، والتي يتعين عليها أن تعتمد على أحدث التطورات التكنولوجية للحفاظ على جاذبيتها الشعبية.

لا يوجد تناقض بين معاداة ثيل للينينية ولينينية بانون: إذا فهمنا ما وراء هذه "اللينينية" من ممارسة للسيطرة الرقمية الكاملة على السكان، وهو ما تتم ممارسته مع الحفاظ على وجه ليبرالي. يكمن الاختلاف فقط في حقيقة أن اللينينية تعني، بالنسبة لبانون، تدمير الدولة وأجهزتها (بالطبع، دون أن تنوي ذلك). 

في الختام، إن التحكم الرقمي والتلاعب ليس شذوذاً، وانحرافاً، عن المشروع الليبرالي اليوم، بل هو إطاره الضروري، والشرط الرسمي لإمكان حدوثه. لا يمكن للنظام أن يوفر مظهر الحرية إلا في ظل ظروف رقمية وغيرها من طرق التحكم التي تُنظم حريتنا – لكي يعمل النظام، يجب أن نبقى رسميًا أحرارًا وننظر إلى أنفسنا على أننا أحرار.

هوامش:

[1]: يُعتبر مفهوم  "الآخر" المفهوم الأكثر تعقيدًا في أعمال جاك لاكان، حيث يشير مصطلح "الآخر" إلى نوعين من الآخرية (otherness) متوافقة مع النظامين: "الرمزي" و"الواقعي". النوع الأول والذي يُشير إليه جيجك هنا هو "الآخر الكبير" المتعلق بالنظام "الرمزي"، وهو "الروح الموضوعية" التي تشتمل على كل البنى الاجتماعية-اللغوية المتجاوزة للفرد حيث تشكل الفضاء الذي به تتفاعل الذوات فيما بينهما.  كما يُشير الآخر الكبير "الرمزي" أيضًا إلى أفكار (غالباً متخيلة أو خيالية) عن قوة السلطة و/أو معرفة الأشياء المجهولة (سواء كانت من الله أو الطبيعة أو التاريخ أو المجتمع أو الدولة أو الحزب أو العلوم أو المحلِل النفسي.

[2]: شخصية شريرة في رواية جي آر. آر. تولكين سيد الخواتم، تمتلك عينًا مكونة من اللهب تستطيع مراقبة الأرض لمسافات كبيرة.

[تُرجمت المقالة عن الإنجليزية، ونُشر الأصل على موقع روسيا اليوم]. 

ندوة: الزراعة البيئية من فلسطين إلى الشتات

بمشاركة: سعد داغر، محمد خويرة، مهاب العلمي، أدهم كراجة، عرفات البرغوثي، رامي مسعد، قيس حماد. 

إعداد: نادين فتالة وآدم البرغوثي

أمام مركز الفن الشعبي في رام الله، تقوم التعاونيات الزراعية بعرض منتجاتها على بسطات منصوبة على الرصيف. يأتي عدد من التعاونيات من البلدات المجاورة لبيع منتجاتها العضوية للزبائن العابرين والمتضامنين. معظم هذه التعاونيات تابعة لمزارع شبابية مهتمة بالنماذج الجديدة للزراعة البيئية المدعومة مجتمعياً.

تسمى المبادرة "حسبة التعاونيات"، وهي ليست مجرد مكان لشراء المنتجات العضوية، بل إنها بمثابة انطلاقة لفكر تعاوني زراعي. يمهد الشباب في فلسطين اليوم الطريق نحو ترسيخ السيادة على الغذاء وتقليل الاعتماد على منتجات ووظائف الاحتلال. إنهم يدعمون قيمهم ومبادئهم من خلال نموذج تنظيمي تعاوني يرتكز على مفهوم التبادل بين المزارعين ومجتمعاتهم.

نشارك معكم أدناه توثيقاً لندوة عُقدت افتراضياً، والتي جمعت عدة مبادرات فردية وجماعية فاعلة في الزراعة البديلة من أنحاء عديدة في فلسطين والشتات.

سعد داغر: أنا مهندس زراعي، وأعمل في مجال الزراعة الإيكولوجية منذ عام ١٩٩٦. في عام ٢٠٠٧، بدأت بإنشاء "المزرعة الإنسانية"، والتي مرت بمراحل مختلفة أثرت على تجربتي. أعمل بشكل أساسي على متابعة هذه المزرعة الخاصة، بالإضافة إلى عقد تدريبات مع مزارعين ومهندسين زراعيين في فلسطين وحول العالم. عملت خارجياً في بلدان مختلفة منها اليمن والأردن عام ٢٠٠٣، ثم انتقلت للعمل في المغرب ولبنان والبرتغال. قبل ثلاث سنوات، أنشأت مع مجموعة أصدقاء "الملتقى الفلسطيني للزراعة البيئية"، وأطلقنا بعدها اليوم الفلسطيني للزراعة البيئية المدعومة مجتمعياً أو شعبياً، ويُعقد سنوياً بتاريخ ٢٣ شباط.

من خلال عملي مع اتحاد المهندسين الزراعيين العرب، نسّقت عدة مؤتمرات تتعلق بالزراعة البيئية. في الوقت ذاته، بدأت العمل على جمع البذور البلدية وتحسينها والاحتفاظ عليها وتطويرها. أما حالياً، أقوم بإنشاء مشروع في قريتي أسميته "خابية"، يهدف لمشاركة وتوسيع البذور البلدية مع مجتمعات المزارعين. أنا عضو في عدة حركات عالمية معنية بالزراعة والحفاظ على البيئة.

محمد خويرة: خبرة والدتي في مجال الزراعة وبالإضافة إلى مجموعة دورات وتدريبات كانت من أهم الركائز كي أستطيع أن أبدأ رحلتي في الزراعة. وهذا الشيء دفعني بشغف كي أشارك كعضو وجزء من مبادرات عديدة منها: مزرعة "أرض الفلاح" وهي مزرعتي العائلية الخاصة أعمل فيها أنا وأخي عبدالله. علاوة على ذلك أنا عضو في تعاونية "أرض الفلاحين" في كفر نعمة، حيث أعمل بشكل أساسي في جوانب فنية مختلفة منها إنتاج السماد العضوي. وقبل عدة أشهر علمت بمزرعة "أم سليمان"، التي تدير برنامجاً زراعياً مدعوماً شعبياً.

بشكل عام، نسعى لإنتاج كمية كبيرة من الفواكه والخضرة بأقل التكاليف، مما يعني تقليل اعتمادنا على الموارد الخارجية. نتعلم تدريجياً في العمل في غرب رام الله، ونضجت تجربتنا في مجالات عديدة مثل تسويق المنتجات. وفي هذا المجال، كانت بداياتنا عفوية: أمهاتنا يخبرن صديقاتهن ويشجعون المجتمع المحلي والدوائر الصغيرة على شراء منتجاتنا. مؤخراً بدأنا نقول إننا نريد فتح بسطات، وكانت الأمور صادمة بشكل إيجابي عندما بعنا بقيمة ٩٠٠ شيكل (٢٨٠ دولارًا أمريكيًا) في يوم واحد، ويعتبر هذا المبلغ ليس بالزهيد. شخصياً، شغفي الأساسي كمزارع أن أسوّق لقريتي التي يبلغ عدد سكانها من ٥ إلى ٦ آلاف نسمة. نسعى مؤخراً إلى السيطرة على مواردنا المحلية، ليس بالاحتكار بل بالشراكة مع المزارعين في منطقة غرب رام الله.

مهاب العلمي: مزرعة "أم سليمان". كنت سعيد الحظ في تأسيس المزرعة مع شاب اسمه محمد أبو جياب، وهو لاجئ من قطاع غزة، استطاع أن يأتي إلى الضفة الغربية بالصدفة. تعرفت إليه في تلك الفترة، خطرت لنا فكرة إنشاء مزرعة ولكن لم يكن لدينا أي رأس مال حينذاك. كان محمد مطّلعاً على تجربة الزراعة المدعومة مجتمعياً، فكان ذلك هو المبدأ الرئيسي الذي عملنا به، فبدأنا بقطعة أرض وبدعم من المجتمع. في أول موسم أنتجنا لثمانية عائلات، ثم عشرة عائلات، واليوم نخدم نحو ستين عائلة. المزرعة قائمة في غرب رام الله في قرية اسمها بلعين، مباشرة قرب جدار الفصل العنصري. أنا متحمس لمشاركة تجربتنا والتعلم من الآخرين في التغلب على تحدياتنا في الإنتاج والتسويق، وربما المجتمع هو الذي يربط التحديين.

أدهم كراجة: أنا من قرية صفا وعضو في تعاونية "أرض اليأس". بدأت تعاونيتنا في أواخر عام ٢٠١٧ بأربعة أشخاص، والآن نحن ١٦ عضواً. بدأت مسيرتنا بالزراعة البعلية، وتطورت إلى الزراعة المروية المكشوفة، واليوم نزرع داخل البيوت البلاستيكية. نراهن على هذه التطورات لتكملة مسيرتنا، من ناحية أسلوب الزراعة ومن ناحية أخرى الخبرات التي نكتسبها من خلال التدريبات وزيارة التعاونيات والمزارع الأخرى.

اسم "أرض اليأس" شيء عفوي يشبه حياتنا كشباب فلسطينيين وفكرتنا عن المستقبل. المصطلح مأخوذ من مقولة فريدريك نيتشه لليأس باعتباره الثمن المدفوع لاكتساب الوعي الذاتي. في هذا العالم، يبدو أنه كلما عرفنا أكثر، زاد شعورنا باليأس، لكن في نفس الوقت، نعلم أن هذا اليأس هو المحرك لتكملة المسيرة والسعي نحو المستقبل. الموضوع فلسفي إلى حدٍ ما، وقد يكون مهماً وقد لا يكون، لكنه أصبح اسم التعاونية وجزءاً من هويتنا. لكن أهم شيء بالنسبة لنا هي أهدافنا المجتمعية وتحقيقها، والقيم التي نأخذها من الفكر التعاوني ومن التعامل مع الطبيعة بشكل متبادل.

عرفات البرغوثي: أنا من قرية دير غسانة في رام الله وعضو في تعاونية "أرض كنعان"، وهي مبادرة بسيطة بدأت منذ عامين. نحن مجموعة من الشباب معظمنا أسرى محررون، كنا نحاول البحث على وظائف في البلد، لتوفير مصدر دخل وأمن اقتصادي وفي نفس الوقت نقوم بتقديم رسالة قومية. ما هو الشيء الذي يعتمد على عملنا وجهدنا في الأرض، وبنفس الوقت يتيح لنا فضاء خارج قطاع الخدمات وثقافة الاستهلاك التي تُعمّم في فلسطين. وصل التفكير بنا إلى تربية الدجاج البلدي، وإنتاج البيض ولحم الدجاج الذي يدفع المستهلكين بعيداً عن الاعتماد على الاستيراد من الاحتلال. على قطعة أرض تبلغ مساحتها ٩ دونمات بدأنا بزراعة أعلاف لدجاجنا وتطويرها، فهدفنا تسويقها للمزارعين الفلسطينيين تحت مظلة الاعتماد على الأغذية الطبيعية الخالية من الكيماويات. لقد ركزنا على خمسة أنواع من النباتات للعلف فيها قيم غذائية عالية، ونعمل على استيراد ماكينة تصنيع الأعلاف.

رامي مسعد: أنا أمثل "ملتقى الشراكة الشبابي"، وهي مظلة لمجموعة من المراكز والنوادي الشبابية الفاعلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وبالتواصل مع الداخل المحتل والشتات. نقود لجنة تم تشكيلها من نشطاء شباب فاعلين، يعملوا على بناء قائمة قضايا وتصورات وأولويات العمل. أحد هذه القضايا هي التعاونيات. برؤيتنا، التي تم الاتفاق عليها بالإجماع، التعاونيات بديل اقتصادي واجتماعي مهم في سياقنا الفلسطيني، بأبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما أننا نؤكد على مسألة الحاضنة الشعبية لاستدامة هذه التجربة.

عملنا يشمل توفير مساحة للتعاونيات والتجارب الشبابية للانتقاء والتعلم والاستفادة والنضوج من خلال التجربة. فمثلاً، نسعى إلى نشر الفكر التعاوني من خلال جلسات وندوات جماعية تسعى إلى زيادة الوعي وإلى توفير التدريب الإداري وبناء النظم الداخلية وتوزيع الأدوار للتعاونيات الناشئة من خلال مجموعة من التدريبات حول الزراعة البيئية، وتربية النحل وتدريبات تقنية مختلفة. إضافة إلى ذلك، نهتم بمسألة تسويق المنتجات، حيث يتم تنسيق أيام تسويقية مختلفة في المحافظات بناءً على احتياجات صغار المزارعين والتعاونيات. تطورت تجربة التسويق إلى حسبة التعاونيات التي تُنظم مرة كل أسبوعين في رام الله، وتعرض التعاونيات منتجاتها وتشتري الناس الخضار والفاكهة العضوية بسعر عادل.

التدخل الأخير يتعلق بالحشد الشعبي لمساندة التعاونيات الشبابية حرصاً على ديمومتها واستمراريتها. نعمل الآن على تشكيل دائرة أصدقاء التعاونيات وهم ناشطين وفاعلين يساهمون بتبرعات فردية لإسناد التعاونيات في حالات طارئة تحتاج لتدخل سريع. هذا يضمن الحاضنة الشعبية للتعاونيات وحفظ استقلاليتها بعيداً عن مسألة التمويل الخارجي، ونختبر الآن إمكانية توسيع وترسيخ التجربة لتشمل صندوقاً تعاونياً يوفر التأمين والحماية للتعاونيات.

الزراعة هي مهنة بينما الفلاحة منهج حياة. نحن بحاجة لمنهجية حياة مختلفة تكون فيها قضايا إنتاج الغذاء جوهرية.

قيس حمد: أنا فلسطيني من طبريا، هُجّرت مرتين، منذ عام ١٩٤٨ وحالياً مقيم في الشتات في اليونان، حيث أعمل مع تعاونية تأسست قبل عام ونصف اسمها "حاكورة"، قد توجهنا للزراعة لأننا نشعر دائماً أننا كفلسطينيين نتمتع بعلاقة حميمية وثرية مع الأرض.

في مواجهة الوضع الاقتصادي الخانق في اليونان وفي ظل غياب برنامج دمج للاجئين، جعلنا الأمر نفكّر في ماهية البدائل التي يمكن أن تشق لنا طريق العمل في الشتات. تعلمنا من أصدقائنا اليونانيين، الذين لجأوا أيضاً إلى الزراعة بعد الانهيار الاقتصادي وعثرنا من خلال شبكاتنا على مناطق زراعية خصبة تشبه التربة في فلسطين. قبل عام ونصف، استأجرنا قطعة أرض وزرعنا الخضار والفاكهة للموسم الأول، لكن تجربتنا توقفت لأن سعر الإنتاج، وخاصة تكلفة السيارة ونقل المنتجات من الريف إلى المدينة كانت مرتفعة. حاولنا تقييم المخاطر والاحتياجات، وبدأنا من جديد على قطعة أرض بمساحة ١٠ دونمات فيها بئر ماء وزرعنا نصفها لحد الآن. ونهدف إلى تأسيس بنك بذور في المستقبل. حجم التضامن من الذي رأيناه في الفترات التأسيسية ضخم جداً، إذ ساندنا المجتمع بحملة التمويل الجماعي التي أطلقناها على أسس التضامن الشعبي وليس التبرع أو التمويل المشروط من المؤسسات. بينما نحاول الوقوف على أقدامنا، نشعر بالحيوية والطاقة من خلال علاقتنا وتعاوننا مع المزارعين الشباب الآخرين والتعاونيات في فلسطين. يجب أن نستمر في الحفاظ على ارتباطنا بالوطن، والزراعة في اليونان هي عودتنا الخاصة لأرض قرانا، من خلال زراعة البذور المحلية للاستمتاع برائحة وطعم فلسطين.

سؤال: لماذا الزراعة البيئية، ولماذا التعاونيات؟ هل يمكن أن تكون ذات جدوى اقتصادية؟

قيس: لماذا التعاونيات؟ عموماً، عضويتي بالتعاونية تشرفني وأفضلها على الوظيفة الرسمية. من الناحية النفسية أشعر أن أي عضو في التعاونية يتحكم بالجهد والإنتاج، بعيداً عن سلطة رب العمل أو الإقطاعي أو الرأسمالي. التعاون يرسخ مبادئ الكرامة والوجود، ويزيد من الإنتاج أيضاً.

محمد: الزراعة البيئية أو العضوية، قد تختلف بمسمياتها، ولكن من المُتفق عليه أنها في الفترة الحالية لا تحتوي على المواد الكيماوية ونأمل ألا تكون هناك مدخلات خارجية في المستقبل. بالدرجة الأولى، طعم خضار وفاكهة الفلاح البيئي أثبت جدارته. زبائننا من سكان القرى استطاعوا التفريق بين منتجات السوق ومنتجاتنا البلدية. أنا على إيمان أن لب الزراعة الطبيعية يتكون من نظام بيئي متكامل لا ينقصه أي مدخلات خارجية. يوجد أشجار ونباتات موسمية وحيوانات، والمطلوب تشكيل رابط بينهم لتحقيق الاكتفاء الذاتي. نحن مزارعون، لسنا صناعيين ولا نعيش في مختبر علمي، ونؤمن بالطبيعة وليس لدينا إلا الأدوات المتوفرة من حولنا. هذه هي الزراعة البيئية، ولذلك نربي الدجاج البلدي، ولا نرمي أي شيء يأتي من الأرض بل نحاول إعادة استخدامه.

مهاب: مزرعة "أم سليمان" ليست تعاونية، مع كل احترامي للتعاونيات، فإنني أقدر عملهم. كنا في طريقنا للعمل كتعاونية رسمية، لكننا قررنا أننا لا نثق بالأمور الإدارية والمصاريف المطلوبة والتسجيل الذي يجلب مراقبة. بينما نؤمن بجوهر التعاونيات، في العمل مع بعض والاستفادة من الخبرات الجماعية بعيداً عن النظام الرأسمالي.

بالنسبة للزراعة البيئية، فإنها تقلل من مصاريفنا لأنها تستثني الكيماويات وتقلل من الأسمدة وتتكل على تقليب البيئة الموجودة. ومن ناحية إنتاجية، أعتقد أن الفكرة القائلة بأن الزراعة البيئية تنتج أقل مقارنة بغيرها هي مجرد مغالطة، بل على العكس، فهي تنتج أكثر. الشيء السلبي الوحيد الذي وجدته من خلال خبرتي هو انخفاض فترة تخزين الخضار والفاكهة، أو ما يسمى بالـ"shelf life". على سبيل المثال، معظم البندورة في السوق اليوم التي نأكلها هي مهجنة أو معدلة جينياً "GMO"، تطورت لتسهيل شحن وتوزيع المنتجات. الزراعة البيئية بالنسبة لصغار المزارعين مثلنا، هي الأنسب والأكثر استقلالية وتشكل المستقبل للأمان الزراعي والغذائي.

سعد: أميل حالياً للتفكير بالفلاحة البيئية وليس الزراعة البيئية. الزراعة هي مهنة بينما الفلاحة منهج حياة. نحن بحاجة لمنهجية حياة مختلفة تكون فيها قضايا إنتاج الغذاء جوهرية. على مسألة التعاونيات: معنى التعاون هو "كيف نعمل معاً". ما أبعدنا عن مسألة التعاونيات الرسمية هو التشويه الذي سببته المؤسسات ولاحقاً السلطة. أنا أتحدث من منطلق تجربة شخصية خضتها من خلال عملي مع العديد من المؤسسات، ورأيت الدور السلبي الذي تلعبه بتخريب المفهوم التعاوني عند التعاونيات. التعاونيات التي نتكلم عنها، مثل أرض اليأس وكفر نعمة وغيرها، تختلف عن الجمعيات التعاونية المسجلة رسمياً؛ الفكر، والمنهج، والعلاقات مختلفة.

لماذا الزراعة أو الفلاحة البيئية؟ يوجد أبعاد مختلفة، وأولها البعد الوطني. أسأل نفسي دائماً عما أستطيع تقديمه لوطني. فربما يمكنني العمل على تطوير نموذج لإنتاج غذائي مستقل، بعيداً عن الاتكال على المحتل، فإن كل المدخلات الزراعية الكيماوية يتحكم فيها المحتل. إذا استمر المحتل بالسيطرة على مسألة إنتاج الغذاء، فهو يسيطر عليّ. لا يمكن أن أتحرر وهو قابض على لقمة العيش. بالتالي، وجدت أن الزراعة البيئية يمكن أن توصلنا للتحرر بمسألة الغذاء. وإذا تحررنا غذائياً، يمكننا التكلم بالتحرر السياسي لاحقاً.

رامي: التعاونيات في فلسطين ليست جديدة، نشأت أول تعاونية عام ١٩٢٤، ولعبت التعاونيات دوراً اقتصادياً ووطنياً مهماً، فنحن نعرف كم وضع الاحتلال من عراقيل أمام هذه المسألة. أتفق أنه تم تشويه التعاونيات المسجلة والرسمية بعد دخول التمويل الخارجي، وقدوم السلطة واتفاق أوسلو.

لماذا التعاونيات؟ لأن الأرض هي جوهر معركتنا مع الاحتلال، وحماية الأرض واجب لإثبات الحقيقة على الأرض وليس بالشعارات والخطابات. البعد الاقتصادي مهم إثر الهيمنة الاقتصادية الاستهلاكية التي تحدث عنها الشباب. كيف بإمكاننا أن نتكلم عن اقتصاد مقاوم أو اقتصاد صمود ونحن لا نملك قدرة الإنتاج؟ كيف بإمكاننا أن نتكلم عن مقاطعة بضائع الاحتلال من غير أن نملك بديلاً؟ أما بالنسبة للبعد المجتمعي، قامت السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتّبعة للسلطة الفلسطينية والمؤسسات بتعزيز مفهوم الفردانية وجعلت كل شخص يفكر في ذاته، وهذا انعكس على نمط حياتنا. لذلك العودة الجماعية تلعب دوراً مهماً في تعزيز مفاهيم التضامن والتكافل، وتبرز أهمية التعاونيات في سعيها للخلاص الجماعي وليس الفردي.

بالنسبة للتسويق، فإنها قصة طويلة. اقتصادنا تحت احتلال والمزارع يواجه مشكلة في بيع البضائع لأن السوق في الضفة الغربية غارق ببضائع الاحتلال الرخيصة إثر سياسات السلطة الفلسطينية وتهريب البضائع من الداخل الفلسطيني. هناك ضرورة فرض مسألة الحاضنة الشعبية والتسويق الذاتي لمساعدة المزارعين والتعاونيات.

لنفحص مثلاً قصة البطيخ: تم التخلي عن البطيخ قبل عامين في وادي الأردن على أرضه لأن السعر كان متدنياً لدرجة أن المزارعين لم يبذلوا جهد أخذه إلى السوق. وفي النهاية تم تنظيم مبادرات من ملتقى الشراكة الشبابي أو مبادرة شراكة، عقد من خلالها أيام تسويقية بالمحافظات المختلفة وتم بيع طن من البطيخ. أثبتت هذه التجربة أن البطيخ إذا وصل للناس وعلمت بأنه بطيخ فلسطيني، فإن له حاضنة. لا تحتوي المنتجات الزراعية في السوق بشكل عام على علامة تسمح للمستهلك التفرقة بين المنتج الفلسطيني والمنتج الإسرائيلي. يذهب الناس لشراء الخيار والبندورة دون معرفة أصلها. مسألة الوعي بهذا الجانب مفصلية وجوهرية. علينا الحثّ من خلال المؤسسات القاعدية والرسمية على منع تهريب البضائع الإسرائيلية من الداخل وتسويقها، ولكننا مكبلون باتفاقيات، ولذلك نقترح مسألة التسويق الشعبي. من خلال تجربتنا رأينا في حسبة التعاونيات أن الناس تتفاعل وتدعم تجارب شبابية وتشتري منتجات خالية من الكيماويات. هذه الدوائر تتوسع وتنتشر، وهي تشكل نواة أو جزءاً من الحل. يتطلب المستقبل جهداً جماعياً لتستطيع التعاونيات تشكيل حالة بديلة لنظام الاستهلاك بأكمله.

عرفات: نحن في المجتمع الفلسطيني ملزمون بالتحدث في السياسة حتى عندما نعمل في الزراعة وعلى الأرض، لأن أزمتنا سياسية في الأساس. من بعد أوسلو، وحتى اللحظة الحالية، تم تدمير القيم الأساسية للمجتمع تحت الاحتلال. كنا نجد قيم التعاون والعمل التطوعي، كان يُضرب فيها المثل على مستوى المنطقة. لماذا التعاونيات؟ لأنها أحد الخيارات البديلة للمنظومة السائدة من بعد أوسلو، تُعطينا المجال للعودة إلى الأرض والاهتمام بها، وإنتاج غذائنا وعيشنا، كما أنها تعزز قيم التضامن والتعاون، والتي تُعتبر ركيزة أساسية في النسيج التراكمي للعلاقات الاجتماعية. في تعاونية "أرض كنعان"، المزرعة عندنا مثل المضافة، يأتي الناس من جميع الطبقات والتوجهات السياسية والفكرية للاطلاع على التجربة والتعلم منها.

قيس: نحن في اليونان وفي الشتات لاحظنا شيئاً؛ اعتدنا أن نعتقد أنه عندما نريد بيع المنتجات، نحتاج إلى التفكير بأنماط التسويق السائدة التي تبنتها الشركات الأخرى، لأننا في سوق أوروبي ضخم. ولكن عندما بدأنا العمل في التعاونيات وبدأنا الإنتاج، أطلق أحمد، شاب معنا في "حاكورة"، رابطاً بسيطاً على صفحتنا للتسجيل في برنامج صندوق الخضرة الأسبوعي أو السنوي. حجم التضامن الذي رأيناه كان هائلاً، خاصة من اليونانيين الذين لا نعرفهم ولا تجمعنا بهم علاقات اجتماعية. حتى عندما وصلنا إلى المنازل لتوصيل المنتجات، كان الناس يدفعون أكثر من السعر المطلوب حتى يشعروننا بالتضامن. يجب أن تفكر كل تعاونية في مسألة التسويق وفقاً لسياق المنطقة التي تعمل بها.

سعد: قد أشارك معكم المخاوف التي أراها والمتعلقة بدور المؤسسات والتشويه الذي قد يحدث في المستقبل. بالنسبة لقضية الزراعة، فهناك تحدٍ أمام بقاء الفلاحة البيئية حاضرة بكامل طاقتها، وبالفكر الإنتاجي، التعاوني، التحرري الذي نؤمن به. واليوم، بدأت المؤسسات بتبنّي نهج الزراعة البيئية في قشرته وبعيداً عن الجوهر الحقيقي. على سبيل المثال، اقترحت بعض الأطراف المانحة دمج الزراعة البيئية مع البذور المعدلة وراثياً، طالما أنها تؤدي لإنتاج أعلى. الحل هو مواجهة المؤسسات الغربية، وتمويلها الذي يفرض سياساتها، وكذلك الحث على الحاضنة الشعبية.

 

[نُشر هذا الحوار أيضًا في مجلة "العلم للشعب" ٢٥، ١ (ربيع ٢٠٢٢)].